حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

دراما أسرية بسيطة تصنع فيلماً تشويقياً

"إيلينا" لأندره زفاغينتسييف

هوفيك حبشيان

بعد "العودة" (جائزة "الأسد الذهبي" في مهرجان البندقية في العام 2003) و"الاستبعاد"، انتظر أندره زفاغينتسييف على أحرّ من الجمر. وبعد أن كُشف النقاب عن فيلمه "إيلينا" (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة) في الدورة الأخيرة من مهرجان "كانّ" (قسم "نظرة ما"، حيث نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة)، يُمكن القول إنه لم يُخيّب الآمال المعقودة عليه. فالمخرج السيبيري لا يزال يعرف، في جديده، كيف يكون روسياً قلباً وقالباً، وذلك إلى أبعد حدّ ممكن. إنه ابن تلك السينما التي تأثّر بها كبار المخرجين في العالم، وغدت نموذجاً إيديولوجياً وثقافياً لأكثر من جيل. "إيلينا" لا يختلف كثيراً عن غيره من الأفلام التي تبني جدراناً عالية بين السينما الروسية والسينمات الأخرى. على الرغم من ذلك، هناك حتماً ما يميّزه عن أسلافه.

الصراع الطبقي يجلبه زفاغينتسييف إلى قلب الفيلم، ولو ليس بشكل مباشر. إيلينا وفلاديمير متزوجان، ويعيشان بسلام في ريف بعيد عن موسكو. كل واحد منهما منتم إلى طبقة اجتماعية مختلفة عن تلك التي ينتمي إليها الآخر. فلاديمير رجل ميسور، لكنه ذو أعصاب باردة وقلب جاف. إيلينا ممرضة سابقة من أصول متواضعة، تحمل في داخلها دفئاً وحناناً كثيرين. التقيا في مرحلة عمرية متقدّمة. لكل واحد منهما ولدٌ من ارتباط سابق. ابن إيلينا عاطل عن العمل، وعاجز عن تأمين حياة كريمة لعائلته، لذلك يستدين المال من والدته باستمرار. أما ابنة فلاديمير، ففتاة لامبالية، غير مقرّبة من والدها.

ذات يوم، أصيب فلاديمير بأزمة قلبية، نُقل على أثرها إلى المستشفى، حيث أدرك أنه قد لا يعيش طويلاً. جلسة قصيرة مع ابنته أقنعته أن عليه أن يكتب ثروته كلّها لها. طبعاً، هذا يثير استياء إيلينا، التي لا يُعد بمقدورها مساعدة ابنها، إذ لن يصل إليها، بعد موت الزوج، إلاّ راتب شهري يكفي لإعالتها. كيف تُساعد ابنها بعد الآن؟ كيف يلتحق حفيدها بالجامعة، الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامه لإنقاذه من التجنيد العسكري الإجباري؟ لكن إيلينا سيّدة قوية، تعرف كيف تتأقلم وخيبات الأمل، وتتجاوز المشكلات المستعصية. بيد أنه قد لا تكون الحلول كلّها أخلاقية، فالغاية لا تُبرّر الوسيلة دائماً.
هذه التقلّبات كلّها، لا تعثر عند المخرج على مسوّغات كافية للخروج عن طوره. إذ أنه يُخاطب المشاهد ببراعة شكلية لافتة للانتباه، وتسلسل نموذجي في صوغ الأفكار، مع إقحامات غريبة على النصّ، كاللازمة الموسيقية التي تمنح الفيلم نبرة معينة، نتيجة كثير من التوتر والانتظار والقلق. من دراما أسرية بسيطة، استلهم زفاغينتسييف فيلماً تشويقياً تناقض في أحيان كثيرة مع ما تطمح إليه سينماه: السلام والطمأنينة. لكن، سرعان ما تجد غرابة الشكل أصداء لها في عمق الموضوع، فيذوب الشكل في المضمون. بالإضافة إلى أن زفاغينتسييف قَطَع قليلاً مع الغنائية الباردة لأفلامه السابقة، مُقترباً أكثر فأكثر من أسلوب واقعي جدّاً في تناول الأحداث، والنظر إلى محيطه.

سلكت الأحداث دربها الطبيعي، واضعة بطلتها أمام المعضلة الأخلاقية الآتية: هل يجوز التعرّض للزوج، لمساندة الابن ومساعدته مادياً؟ هذا السؤال، ومثله أسئلة أخرى، ألغى إلى حدّ ما تعاطفاً مع إيلينا، وجرّد المشاهدين من النظرة الذاتية تجاهها، علماً أن المخرج لا يضعهم أبداً في موقع الاختيار بين هذا وذاك، بل طرح الحياة بتناقضاتها وتعقيداتها كلّها، التي تحول دون اختيار المرء معسكره. خلال مرحلة سرده الحكاية هذه، استعان زفاغينتسييف بالسخرية واللؤم، مُوضحاً أن ما رواه ليس سوى إستعارة للأمة الروسية، وحالها الاقتصادية، وأسطورة المساواة بين الطبقات التي روّجت لها أعواماً طويلة. طبعاً، لا يوجد لؤم من دون لبس، ومن دون القفز المستمر من المأساة إلى الملهاة. في هذا المجال، اضطلعت الممثلة ناديجدا ماركينا بدور كبير، على النحو الذي ارتسم اللبس فيه على وجهها.

مرّة أخرى، أكّد زفاغينتسييف خطّه: عدم الإذعان للتيارات الموسمية التي تعصف بالسينما. تمسّكه بالحكاية كحجة لاستحضار مصائر البعض، ووضعها في مجابهة مصائر البعض الآخر. أيضاً: لا نلمس عند هذا المراقب الفذّ أي رغبة في استدرار العواطف، لكونه يرفض، انطلاقاً من المبدأ ذاته، أن تركب أفلامه موجة الابتكار والدهشة، ما يجعلها أكثر إثارة للاهتمام. زفاغينتسييف من طينة مختلفة من السينمائيين: لم يلتحق بمعهد سينما، بل شكّل حالة خاصة من خلال إصراره على تعزيز جوانب يهملها الآخرون، كالسيناريو وإدارة الممثلين. الأهمّ أنه لم يُنجز إلى الآن ما نتوقّعه عادة من الأفلام الروسية: التركيز على الجانب المظلم للطبيعة البشرية، حقارة وحكمة وبيان عن صعوبة أن يحمل المرء هذا الإرث الروسي الضخم. إنه يصوّر فقط الإنسان الذي يراه مناسباً لكادره.

من داخل المهرجان في

19/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)