حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

معبد السينما

"كهف الأحلام المنسية" لفيرنر هرتزوغ

هوفيك حبشيان

يصعب الحديث عن فيرنر هرتزوغ، المغامر في الحياة وعلى الشاشة، لأن سيرته لم تنفصل كثيراً عن نتاجه، وإن لم يكن هناك رابط مباشر بينهما. إنه أحد أكثر المخرجين الذين وضعوا جنونهم في نصوص فيلمية تحوّلت إلى ظواهر، نشأت أحياناً من ظروف التصوير المضنية والمعقّدة، وأحياناً أخرى من الجرأة المتزايدة في الذهاب إلى مجاهل التاريخ والجغرافيا. صحيحٌ أنه من تأهيل أدبي. لكن الصورة خطفته إلى حضنها منذ بلوغه العشرين من العمر، عندما أسّس شركة إنتاج أنجز بفضلها فيلمه القصير الأول. في أواخر الستينيات، كان واحداً من الذين بلوروا السينما الألمانية الرازحة تحت وطأة واحدة من أهم الحركات الجمالية: التعبيرية الألمانية. مع فاسبيندر وفندرز وشروتر، دفع إلى الأمام التيار الذي كان سيحمل ملامح "سينما ألمانية جديدة"، بضعة أعوام بعد "الموجة الفرنسية الجديدة" وثورة أيار 68.

سفن وأقزام ومصّاص دماء وجبابرة هامشيون لهم أحلام رومنطيقية وأوبرالية باكتشاف بقاع الأرض، أو جعل السفن تتسلّق الجبال. هؤلاء جميعهم تزدحم بهم سينما هرتزوغ. كما أنهم لم يتركوا سوى آثار ملهمة حلّقت بسينماه إلى مساحات غامضة وخطرة، شأنها في ذلك شأن الطبيعة الآدمية، التي ظلّت أحد همومه الأساسية. عرف المخرج، المولود في ميونيخ، كيف يزعزع الخوف في القلوب والأرض. هذا الخوف الذي هيمن على سينما ما بعد انفتاح الستينيات على أفكار جديدة. هرتزوغ آخر الناجين من زمن، كان الفيلم الألماني فيه لا يزال يؤمن بالمستحيل.

اليوم، مع عودته بـ"كهف الأحلام المنسية" (الذي افتُتحت عروضه في الدورة الماضية من مهرجان برلين) إلى الواجهة، أكّد هرتزوغ أنه مخلص للخطّ الذي رسمه لنفسه منذ بداية السبعينيات، مع قفز متوقّع إلى مرحلة جديدة (تقنية الأبعاد الثلاثة)، وجد المخرج أنها تخدم فكرة الفيلم. من هذا اللقاء الحميمي بين تقنية الأبعاد الثلاثة وكهف "شوفيه" وُجدت فيه رسومات تعود الى 32 ألف عام، تولد الشاعرية السحرية التي رافقت الفيلم 90 دقيقة.  

في العام 1994، اكتشف فرنسيون كهفاً في منطقة "آرديش". ببراعته المعهودة في الذهاب إلى أعماق التجربة الآدمية،
حمل هرتزوغ كاميراه ونزل إلى جبّ الأرض. هناك وجد ضالته، كون المكان يحتوي على رسومات تُعتبر أولى التعابير الفنية في تاريخ البشرية. أي تلك العائدة إلى حقبة كانت البقعة الجغرافية التي تسمّى اليوم أوروبا تعجّ بالحيونات المفترسة، كالدببة والأسود وغيرها. هذه الرسومات أسقطت بعض المعتقدات القديمة الراسخة في ما يتعلّق بتطوّر الفنّ في مرحلة ما قبل التاريخ. أخذ هرتزوغ ما منحه إياه علماء الأثار ورجال العلم من معلومات، بانياً حولها خطاباً روحياً فلسفياً، فيه تعرّجات إلى مواضيع تُشكّل أكثر من مدخل لفهم عمل هرتزوغ، وما يشغله منذ بداياته الأولى.

السينما كانت لها ولادات متتالية، حصلت أولاها في ذلك الكهف. هذا ما قاله الفيلم، من خلال الدفع إلى تلمّس الرسومات الأربعمئة الموزّعة على جدران الكهف. هذا يحتاج إلى جرأة كبيرة، وهو الشيء الذي ليس هرتزوغ بمنأى عنه.

تقنياً، كان إنجاز "كهف الأحلام المنسية" ("عروض السينما العالمية") قضية معقّدة. بسبب حساسية المكان، وحرصاً على عدم الضرر به، حظي هرتزوغ بستة أيام لالتقاط المشاهد، على أن يقتصر عدد ساعات التصوير على أربع يومياً. هذا كلّه بفريق عمل لا يتجاوز عدد أعضائه ثلاثة أشخاص. لهذا السبب، اللقطات كلّها التي صورها هرتزوغ موجودة في الفيلم، ولم يبق أي منها خارجه، كما جرت العادة في صناعة الأفلام الوثائقية. أما التحضيرات، فيعترف المخرج بأنها لم تكن سهلة، إذ أنه كان عليه حيازة تصريحات من جهات ثلاث: وزارة الثقافة الفرنسية، القائمون على المنطقة، ومجلس العلماء الفرنسيين. وإذا أضفنا إلى هذا كلّه حادثة إصابته بالمرض، يُصبح سهلاً تصوّر الحال الذي كان عليه الدخول إلى هذا الكهف، والخروج منه بفيلم.

أما الشيء الذي يستطيع هرتزوغ "الافتخار" به، استعماله الفذّ تقنية الأبعاد الثلاثة، على الرغم من قوله في حوار أنه غير مقتنع بهذا الاختراع. لكنّ هذا لم يمنعه من الإقرار بأنه لم يكن ممكناً إنجاز الفيلم لولا تقنية الأبعاد الثلاثة هذه، لسبب بسيط هو أن الرسامين استعانوا بالتضاريس لاختلاق دراماتورجية معينة، والتقنية المذكورة كانت الطريقة المثلى لإعادة الاعتبار إلى منجزهم.

من داخل المهرجان في

13/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)