حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

مدام بوفاري في المكسيك

"أسباب القلب" لأرتورو ريبستين

هوفيك حبشيان

جديد أرتورو ريبستين، الذي أنجز 47 فيلماً منذ العام 1966، اقتباس حرّ جداً لرواية "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير. أي أن الحكبة مرتكزة على امرأة، ما تعيشه يشبه إلى حدّ معين ما عاشته من عذابات وقهر الشخصية النسائية الأشهر في الأدب الفرنسي. "أسباب القلب"، أو "دوافع القلب" (مسابقة الأفلام الروائية) فيلم قاتم يسدّ الآفاق. مُصوَّر بالأسود والأبيض. منطو على مزاج خاص، قريب جداً من مزاج الأفلام السابقة التي أنجزها، في العقود الأربعة الماضية، هذا المخرج المكسيكي الشهير، تلميذ لويس بونويل والمعجب بجون فورد. لكن، عندما يُقال "مزاج خاص"، فهذا يعني أن على المشاهد أن يكون جاهزاً لتلقّي إشعاعات ضوئية سلبية، قد تثير الإحباط واليأس فيه. ذلك أن ريبستين لا يزال مُخلصاً لعوالم لا تشي لا بالطمأنينة ولا بالراحة.

إميليا (أرسيليا راميريز في أداء هستيري يستحقّ التحية، ما جعل بعضهم يُشبهها بجينا رولاندز)، ربّة منزل تبحث عن الشغف هرباً من الحياة الرتيبة التي تعيشها، شأنها في ذلك شأن مدام بوفاري. ريبستين، المعروف بأفلامه التي تستفزّ المفاهيم العامة، يصحّ إطلاق تسمية "لارس فون ترير المكسيكي" عليه، نظراً للنحو الذي يُدخل فيه تيماته إلى أفلامه. تيمات مرتبطة، في معظم الأحيان، بالجانب المظلم للإنسان، معالَجة بطريقة تسمح له بإطلاق العنان لمخيّلة غاضبة. طبعاً، هذا كلهّ من دون أن يُقدّم تسويات. إنها سينما راديكالية، تشقّ طريقها إلى حيث الهدف من دون تنازلات، لا شكلاً ولا مضموناً.

في "أسباب القلب"، يتحوّل خيار التقاط المشاهد بالأسود والأبيض (كاميرا أليخاندرو كانتو) إلى نوع من اعتراض على السينما الاستهلاكية، التي تعجّ بها الصالات راهناً. مع بعض التطرّف الخفيف، يُمكن اعتباره عودة إلى جذور السينما التي تربّى ريبستين عليها، وشرب من ينبوعها. أما عنوان الفيلم فهو لمّاح، إذ استعان بجملة الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال القائلة: "للقلب أسباب يجهلها العقل". إذا أُضيف إلى ذلك المرجع الذي يشكّله فلوبير في رسم ملامح إميليا، والغمزة إلى جان كوكتو في مشهد الافتتاح، يُمكن القول إن ريبستين فرنسي الهوى ومكسيكي العقل في مشروعه هذا.

في بيئة ضاغطة تنعدم فيها المخارج، صوّر ريبستين حتى الهلاك مصير امرأة عالقة بين زوج (بلوتاركو هازا) لا يهتم بحاجتها إلى الحنان، ولاعب ساكسوفون (فلاديمير كروز) لا يبادلها مشاعر الحبّ، والاثنان في النهاية وجهان لعملة واحدة. أما الإبنة القاصرة (باولا أرويو)، ذات التربية التقليدية المحافظة، فلن تمدّ يد العون إلى والدتها. هذا الجوّ المشحون كلّه من حولها، جعلها تُقدم على الانتحار، كما فعلت مدام بوفاري سابقاً، وآنا كارنينا أيضاً في الرواية الشهيرة لتولستوي. هكذا، مراجع كثيرة تطفو على سطح الفيلم، أبرزها المرجعان المذكوران، وتجعل إمكان النظر إلى إميليا من دون إحاطتها بهالة أدبية من سابع المستحيلات، فهي تحمل في داخلها الشخصية الرومنطيقية التي تجعل كل كلمة تصدر من فمها مسماراً إضافياً في نعشها. لا خلاص أمامها سوى الخلاص الأكبر والأنقى والأعظم.

هذه ليست المرّة الأولى التي ينقل فيها ريبستين حكايات من أزمنة غابرة. ما صوّره هنا واقع ممسرح، فيه الكثير من اللغة الأدبية، ما منعه من رفع الكلفة مع الحياة، في فيلم قضيته الحياة، يعبره سؤال على شكل هاجس: كيف نربح الحياة، وكيف نراهن عليها، وكيف نخسرها. بيد أن المخرج يدرك الفخّ هذا، ويُمازحه من حين إلى آخر، كما الحال عند الاستماع إلى الجملة الآتية على لسان إميليا، والموجّهة إلى ابنتها: "احملي هذه الدراما، وارحلي بها إلى مكان آخر". في المقابل، يبدو خيال ريبستين مضعضعاً، ما يعود بالضرر على ماهية الفيلم الذي يبقى عالقاً بين زمنين سينمائيين: الأول يريد التبرير، والثاني لا يريد السماع. والنتيجة: نسخة أخرى لحكاية حبّ لا نعرف ماذا تريد. 

من أجل تصوير يأس امرأة وقدرها اللعين، لجأ ريبستين إلى صيغة جمالية، بدت بسيطة جداً للوهلة الأولى، قبل أن تظهر ثمرة رؤية سينمائية معقّدة. فالموارد الموضوعة في تصرّف المخرج ليست كثيرة. الموسيقى لا تأتي إلاّ عند الحاجة، والصورة المعتمة التي تُنزلنا إلى جحيم المعضلات العاطفية، لا تفعّل دائماً عملية تماهي المشاهد مع ما هو مطروح أمامه، لأنها تقتصد في الإمكانات، وتحدّ من الغلامور الخاص بأفلام الحبّ الهوليوودية. الحبّ هنا مأساة وانهيار أخلاقي وعدم وفاء، بكل ما في هذه الكلمات من قسوة وذلّ. ريبستين يجيد كيفية ترتيب هذا كلّه في إطارين زمني ومكاني محدَّدين. أما تصويره هذه القصة في مكان لا تظهر فيه أشعة الشمس ولا النور ولا وجه الطبيعة المضيء، فيقول الكثير عن حال القناعات الراهنة عند المخرج البالغ من العمر 68 عاماً. فلا المكان يليق بالحبّ، ولا الشخصيات تلمس على وجوهها النعمة التي تنام على وجوه العشاق.

من داخل المهرجان في

18/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)