بدا عنوان الفيلم الجديد للمخرج المغربي فوزي بن السعيدي مدخلاً إلى عالم سفلي مليء بالتناقضات والتحدّيات والصدامات التي تكاد لا تنتهي. فقد تشكّل النسيج الروائي لـ"بيع موت" (مسابقة الأفلام الروائية)، بحسب العنوان الرسمي للفيلم، من حكايات متكاملة في رسمها اللوحة القاسية عن مدينة وناس وحالات مشحونة بالغضب والبؤس والفقدان. عن أشياء منثورة على حافة الجحيم، وتحت خراب اليوميات المثقلة بالفقر والحب المفقود والأحلام المجهضة والأوهام القاتلة بالتباساتها. غير أن العنوان منذور لفصول أخرى من المعاناة، التي يُمكن اختزالها بالقول إن فوزي بن السعيدي أعلن أن الموت أيضاً للبيع، تماماً ككل شيء في الحياة العامة، وفي تطوان المغربية تحديداً.

لا يُمكن التغاضي عن سحر الأمكنة المختارة في أفلام مغربية مُشاركة في الدورة الخامسة لـ"مهرجان أبوظبي السينمائي". فالمكان جزء من الحكاية والبيئة والأصل النابع منه سلوك وتربية وأنساق مختلفة ومتناقضة لمواجهة الدنيا وتحدّياتها. والمكان أساسيّ إلى درجة مذهلة في المقاربة السينمائية الخاصّة بفوزي بن السعيدي، أو المنفلشة على أفلام أخرى، كـ"أياد خشنة" لمحمد عسلي و"على الحافة" لليلى كيلاني مثلاً. لا يعني هذا أن تطوان واضحة المعالم ومُدانة، بقدر ما هي ركنٌ في تحويل مساحتها وبنيانها وأزقّتها وعمرانها وفضاءاتها الإنسانية والجغرافية والثقافية والجمالية، إلى مادة درامية، لقدرتها على أن تكون وهم الحماية لشخصيات واقفة على شفير الانهيار الأخير، ولبراعتها في رفد الحكاية بنبض شارع وأناس. تطوان، في "بيع موت"، مدينة قد تُشبه مدناً مغربية أخرى برزت في أفلام روائية طويلة عديدة. قد تُشبه أيضاً أية مدينة أخرى مُصابة بخلل انفعالي ووجودي، منع عنها استكمال حضورها وامتدادها بشكل لائق والحراك الغاضب لشباب وعجائز.

أميل إلى القول إن "بيع موت" شهادة مفبركة بفضل عين ثاقبة اخترقت قاع المدينة، كي تعيد بلورة معالمها. وبفضل حساسية بصرية فكّكت البناء الجسدي للشخصيات، كي تلتقط شيئاً من غليان الروح وتمزّق الذات. شباب تائهون في شوارع أفقدتهم إحساسهم بالانتماء. وفتيات مولعات بالعيش على حدود الخطر، قبل أن يعثرن على منفذ للخروج من دائرة الموت المحيط بهم. ورجال متوترون وناقمون وغاضبون وضائعون، كأنهم فقدوا القدرة على الإمساك بزمام الأمور، فباتوا أشبه بأسود مأسورة في زنازين منغلقة عليهم. أميل إلى القول إن "بيع موت" مأسور، بدوره، في قلب الحكاية الأصلية: الفرق واه جداً بين الانزلاق إلى جحر الأفعى، والعجز عن الصمود إزاء فقدان الأمان. أستخدم تعبير "حكاية أصلية"، لأنها الأنسب لفهم المسار الدموي العنيف الذي دفع الأصدقاء الثلاثة إلى نهاياتهم المحطّمة: مقتل الأول لا يختلف عن إلقاء القبض على الثاني من قبل السلطة الأمنية. وهذان لا يختلفان عن الصدمة القاتلة التي ضربت الصديق الثالث في صميم قلبه وروحه الهائمة، ما أدّى به إلى ارتكاب الفعل الأخير في نهاية مسار غير مُحتَمل. الانزلاق إلى جحر الأفعى في "بيع موت"، هو المثول أمام حضرة القدر، المتمثّل إما برجل الأمن الانتهازيّ، أو بالعمّ الاستبدادي، أو بالأب المستسلم للعزلة، بينما غالبية النساء مقيمات على الهامش، أو في بقعة الضوء الآخذة إياهنّ إلى أقدار غير متوقّعة، أو إلى أكاذيب قاتلة. أما فقدان الأمان، فحاضرٌ منذ اللحظة الأولى لبداية الفيلم، المرافقة للّحظة الأولى لخروج أحد الأصدقاء الثلاثة من سجنه.

أقام الأصدقاء الثلاثة هؤلاء في الهامش، لأن المدينة نابذة إياهم، أو لأن ضيق العيش أسرف في قتل ذواتهم. الجريمة أداة ظنّوا أنها قادرة على منحهم مفتاح الخلاص. غير أن "بيع موت" لا يُدين ولا يتّهم، لأنه سعيدٌ بالكشف والمواجهة. والموت، المباع بأشكال شتّى، متمثّل بالخراب اللاحق هؤلاء الناس أينما حلّوا، من دون التغاضي عن حالة إسلامية متزمّتة، قائمة على صدامات دائمة مع الآخرين. هذا ما جعل فوزي بن السعيدي يمزج الحالات في حكايات متقاربة: السلطة الذكورية والتسلّط الأمني وطغيان الشعور الديني، في مقابل الانهيارات المدوّية في الذوات المشحونة بالألم والخوف والهذيان.

من داخل المهرجان في

16/10/2011