حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان برلين السينمائي الدولي الحادي والستون

يوميات مهرجان برلين السينمائي الدولي (1)

الدورة الواحدة والستون من مهرجان برلين السينمائي تجمع بين الفن والسياسة.. أرادت أو لم ترد

برلين: محمد رُضا

* العثرة الإيرانية

* كما هي عادة أصحاب القرار في النظام الإيراني، تم ارتكاب خطأ فاحش عندما صدر قرار بمنع المخرج اللامع جعفر بناهي من العمل لعشرين سنة وبسجنه لست سنوات ومنعه، بطبيعة الحال، من السفر إلى أي مكان، وهو الذي كان تم اختياره عضوا في لجنة تحكيم الدورة الحادية والستين من المهرجان الألماني الكبير. هذا كله لأنه كان على أهبة إخراج فيلم، فما البال لو أنه أخرجه فعلا؟ طبعا الخلفية هي مواقفه المعادية للنظام الجائر القائم هناك وتعبيره عن مواقفه هذه من خلال أفلامه السابقة.

حين تم إلقاء القبض على بناهي للتحقيق معه، رفض مبدأ الخضوع للتحقيق أساسا. في الوقت ذاته، أي قبل نحو أربعة أشهر، تم القبض أيضا على مخرج آخر، أقل شهرة، اسمه محمد رسولوف، الذي كان يستعد لإخراج فيلم جديد. وكان البوليس الأمني ورجال المدعي العام الذي أمر باحتجاز بناهي، يعتقد أن المخرجين يعملان معا على مشروع رسولوف. لكن رسولوف أكد للمحققين أن المشروع مشروعه الخاص وليس لبناهي علاقة به. التحقيق رأى أن رسولوف تجاوب مع المحققين فقرر إطلاقه والسماح له بتصوير فيلمه (وهو ما سيقدم عليه المخرج خلال الأسابيع القليلة المقبلة)، أما جعفر بناهي، فإنها لم تستطع أن تعامله بالمثل نظرا لأنه رفض التجاوب معها والإجابة عن أسئلتها، مقررا أنه مخرج يحاكم من دون وجهة نظر وأن لا أحد يستطيع منعه من ممارسة عمله.

الحقيقة هي أنه لو لم تكن أفلامه السابقة، ومنها «الدائرة» و«ذهب قرمزي» و«تسلل»، معمولة بذكاء وإيحاء لكي تكشف ازدواجية نظام قائم على تشجيع القمع وحجر الحريات، ولو لم تشهد تلك الأفلام النجاح الذي استحقته في عروضها العالمية لما كانت التهمة جاهزة والعقاب فادحا.

صحيح أنه لا يزال طليقا والقرار لم يتم تنفيذه بعد، ولو أن الجولة الثانية قادمة لا محالة، إلا أن المسألة ما عادت جعفر بناهي ومحمد رسولوف، بقدر ما هي كل تلك العثرات التي تضعها الدولة ضد نفسها فتبدو، كما الحال في برلين الآن، مدانة بأفعالها حيال مخرجيها ومثقفيها ومبدعيها.

والمثير للإعجاب في شخص هذا المخرج، وللعجب في شخوص محاكميه، أنه كان تلقى عرضا بترك البلاد أسوة بالمخرجين عباس كياروستامي ومحمد مخملباف (وكلاهما أقل منه إجادة ولو أن ذلك موضوع آخر) اللذين يعيشان حاليا في المنفى الفرنسي، لكن المخرج أصر على أنه لا يريد ترك وطنه وأنه يريد أن يستمر في تحقيق أفلامه فيها.

في مهرجان برلين الحالي، جعفر بناهي حاضر رغم غيابه ليس لأن المهرجان قرر عرض «تسلل» وبضعة أفلام أخرى من أعماله فقط، بل لأن العالم كله بات يتحدث عن هذا الثمن الباهظ الذي يصر النظام على فرضه على المثقفين إذا فكروا والمبدعين إذا ما ترجموا أفكارهم إلى نتاجات فنية هي في مصاف ما لا يمكن المس به في العالم المتحضر. هذا على الرغم من أن بناهي حذر في استفزاز الحكومة الإيرانية ولم يشأ الاتصال بالصحافيين الأجانب أو استثمار الاهتمام الإعلامي الكبير حوله حتى لا يزيد الوضع المفروض عليه سوءا.

* السياسة والسينما

* بينما تنطلق الدورة الواحدة والستون من مهرجان برلين السينمائي الدولي في العاشر من هذا الشهر (وحتى العشرين منه) فإن مطرا من الملاحظات والتوقعات يهطل على أولئك الذين يأخذون من الحياة عطلة يقضونها في عتمة الصالات.

وفي مقدمة الملاحظات ما يتعلق بحقيقة كونه يقام في مدينة كاملة وليس منتجعا أو بلدة صغيرة. بين ثلاثة آلاف مهرجان سينمائي ونيف، تقام بلا توقف طوال العام، هناك عشرة يمكن اعتبارها بالغة الضرورة. لا حياة للسينما من دونها. ومن بين العشرة هناك ثلاثة هي أكبر وأهم هذه المهرجانات العشرة وأكبرها عمرا أيضا هي برلين في مطلع العام، كان في مطلع الصيف، وفينيسيا في مطلع الخريف.

وفي حين أن مهرجاني «كان» و«فينيسيا» يؤكدان، مع مجموعة أخرى من المهرجانات المعروفة، مثل سان سابستيان ولوكارنو وكارلوفي فاري وسندانس، أن المهرجانات الناجحة هي تلك التي تقام خارج العواصم الرئيسية حول العالم، فإن برلين من بين اثنين أو ثلاثة (يمكن التفكير بتورنتو ودبي) التي تؤكد العكس. فبرلين هي عاصمة أوروبية كبيرة وكونها تضم واحدا من أكبر مهرجانات العالم وبنجاح متواصل منذ ستين سنة، يكسر تلك القاعدة ويحولها إلى مجرد نظرية.

نجاح برلين عاما بعد عام، ليس بدوره صدفة. أيام ما كانت المدينة منقسمة إلى نصفين، واحد بارد ومنتعش في الجزء الغربي، والآخر بارد ومنقبض في الجزء الشرقي، بلور المهرجان أهمية خاصة على أساس أنه ملتقى سينما الشرق والغرب معا. تلك الأفلام التي عرضت في رحابه، على تلك الشاشة الكبيرة وسط المدينة (وليس بعيدا عن جدارها) جاءت من مختلف البلدان الأوروبية (كما من أرجاء العالم المختلفة). أوروبيا، حفلت بأفلام من المجر وبولندا وألمانيا الشرقية والاتحاد السوفياتي بجانب تلك الألمانية الغربية والفرنسية والإيطالية وباقي البقاع المنتجة في أوروبا المتحررة.

أهمية هذا اللقاء كمنت في الفرصة المتاحة أمام النقاد والجمهور على حد سواء لمشاهدة كيف يفكر السينمائيون في الشرق الأوروبي وكيف يعبرون عن أفكارهم وإذا ما كانوا استطاعوا بث مضامينهم الخاصة والمختلفة عن السائد في بلادهم أم لا. والكثير من تلك الأفلام اختلفت وتميزت وتجرأت بل وخرجت بجوائز، يحضرني منها الآن فيلم الروسية لاريسا شوبتكو «الصعود» وفيلم الألماني (الشرقي) الراحل أيضا كونراد وولف «صولو صني» Solo Sunny.

حين انهار الجدار العازل (1961-1989) بين جزء متحرر وآخر أشبه بالمحتل، تساءل كثيرون عن مستقبل المهرجان وقد بدا أنه فقد دوره ذاك. لكن المهرجان الألماني برهن عاما بعد عام خلال السنوات اللاحقة على أنه كان بنى من المكانة ما لا يمكن معه إلغاء قيمته وأهميته.

أكثر من ذلك، أنه في حين بدا أن العالم مقبل على عصر جديد ستتضاءل فيه السياسة بعدم وجود دواع لمجابهات بين الشرق والغرب بعد ذلك الحين، وجدنا مهرجان برلين خير دليل على أن السياسة، بكل أبعادها واتجاهاتها، ما زالت حيا يرزق (للأسف) وأنها ما زالت المحور الذي يدور العالم من حوله.

في كل مرة عمد مخرج إلى إنجاز فيلم جيد يتعرض لقضية من تلك المعاشة من حولنا، فإن برلين (أكثر من سواه بين المهرجانات التي تحفل بالعروض العالمية الأولى) هو الوجهة الرئيسية التي تفوز بعرض هذا الفيلم. حتى إذا ما كان الأمر يعتمد على صدفة الروزنامات الإنتاجية وموعدها من العام، فإن المرء لا يستطيع إلا أن يرى بوضوح أن نصيب مهرجان برلين من الأفلام التي تناقش الأوضاع السياسية هو أكثر من نصيب المهرجانات الرئيسية الأخرى.

وكما نقلنا في العام الماضي تلك الأفلام التي تعاملت مع مواضيع سياسية واجتماعية متعددة، فإن المنتظر هذا العام هو مزيد من تلك الأفلام الباحثة في هذه المضامين الشائكة، مثل «عفو» لبوجار أليماني (ألبانيا) و«غائب» لماركو برغر (الأرجنتين) و«صنع في بولندا» لبرمجلوف ووجيزيك (بولندا) و«كوريولانوس» لرالف فاينس (بريطانيا)، وهو تطوير لمسرحية وليام شكسبير قام الممثل المعروف (في فيلمه الأول خلف الكاميرا) بنقلها إلى العصر الحالي. وهذا فقط من بين مجموعة المسابقة التي يبلغ عددها ستة عشر فيلما.

في مجمله، سيعرض المهرجان أكثر من 400 فيلم، تم اختيارها من بين ألوف الأفلام التي تقدمت للاشتراك فيه. والرقم المتوقع لعدد الذين سيدخلون الصالات لمشاهدة هذه الأفلام هو 450 ألف مشاهد، أكثر من نصفهم من الجمهور «العادي» الذي يشتري تذاكره. هذا الرقم مبني على مبيعات العام الماضي من التذاكر التي وصلت إلى 274 ألف تذكرة.

* فيلم الافتتاح: «عزم حقيقي»: ذات مرة في عالم فسيح ووحشي

* اختيار مهرجان برلين للفيلم الجديد للأخوين جوول وإيثن كوون، «عزم حقيقي» يحتوي على قدر من التقدير الخاص لسينمائيين استطاعا الاستحواذ على إعجاب النقاد والمثقفين بسلسلة من الأعمال المصنوع غالبها بذكاء وعين على المكان والسلوك الشخصي لأبطالها. ومع إعلان مهرجان «كان» السينمائي عن أن فيلم وودي آلن المقبل «منتصف الليل في باريس» سيفتتح دورته المقبلة، وقيام مهرجان فينيسيا الأخير بافتتاح دورته في سبتمبر (أيلول) بفيلم «البجعة السوداء» لدارون أرونوفسكي، تكون ظاهرة الافتتاح الأميركي للمهرجانات الرائدة الثلاثة قد اكتملت.

«عزم حقيقي» هو فيلم وسترن سبق للمخرج المتمرس هنري هاذاواي أن أخرجه سنة 1969 من بطولة جون واين في دور روبرت روستر كوغبيرن المارشال الذي «لا يدخل الخوف عقله» على حد وصف أحدهم له والذي تطلب منه الفتاة ماتي روس (كيم داربي) القبض على قاتل أبيها توم تشايني (جيف كوري) الذي التحق بعصابة يرأسها ند ببر (روبرت دوول). روستر كوغبيرن يوافق على مضض على أن يقوم بالمهمة وحده، لكن ماتي تصر على أن تصحبه. معهما في المغامرة الشاب لابيف (غلن كامبل) الذي يريد القبض على توم لأسباب أخرى. الفيلم تألف من رحلة الثلاثة في براري الغرب.

في الترجمة السينمائية الجديدة، يقدم الأخوان كوون على النهل من الرواية وليس من الفيلم، لكن كون الأصل أيضا اعتمد الرواية من دون كثير تعديل، فإن النتيجة شبه واحدة سواء استلهم الأخوان الكتاب أو الفيلم (يؤكدان أنهما شاهدا فيلم هاذاواي حين كانا صغيرين فقط).

جف بردجز في شخصية روستر (وبعصبة سوداء أيضا كما حال الشخصية في الرواية والفيلم السابق) وهايلي ستاينفلد في دور الفتاة بينما يؤدي مات دايمون دور لابيف. الملخص أعلاه يصلح تماما لإيجاز أحداث نسخة كوون لأن المتغيرات قليلة. لكن النبرة مختلفة تماما. فيلم هاذاواي كان احتفائيا بالممثل واين وبالوسترن كنوع أدمن واين عليه حتى أصبح هو تعبيرا عنه. فيلم الأخوين كوون بلا احتفاء على الإطلاق. حتى التغني بالغرب الأميركي كنوع سينمائي أمر غير وارد. عالم الأخوين كوون هنا مؤلف من سرد ملتزم بالحكاية من دون نوستالجيا أو تعبير من أي نوع سوى تلك البرودة الساخرة التي تتسرب مثل جدار يشح بالماء، وهذا سيئ لمتلق كان الوسترن بالنسبة له نوعا من المعايشة وجدانيا مع عصر ولّى ولا يزال مثيرا للاهتمام كتاريخ وكبيئة زمنية واجتماعية.

يؤم الشقيقان كوون الوسترن بأقل قدر من المرجعية. إذا كان لا بد، فهو بالتأكيد شبيه بأفلام وسترن السبعينات من حيث التشكيل اللوني للتصوير والتشكيل السلوكي للشخصيات. وهو رصين وملاحظ لكنه ليس ثقيلا ولا تفصيليا. وأسلوب العمل هو غير استعراضي وغير مبهر بحد ذاته وفي وقت واحد. الناحية الأولى جيدة، الثانية عامل آخر مفقود في هذا الفيلم الذي يمر بهدوء نهر صغير و- أحيانا - بملله.

لكن اعتماد المخرجين على الرواية من دون تدخلات من جانبهما لجذب الفيلم في أي اتجاه أمر يساعدهما على إتقان تنفيذ الفصول من حيث التأليف اللغوي لمشاهد كل فصل. خذ مثلا الفصل الذي يستمر لخمس دقائق والذي نتابع فيه دخول الفتاة الباحثة عن روستر كوغبيرن إلى المحكمة حيث تتم محاكمته بتهمة قتله عددا من أفراد أسرة واحدة. لاحظ كيف أن المخرجين في البداية بنيا الفصل عليها في مطلع الأمر. حركتها إلى داخل القاعة وملاحظتها الجميع وأماكن كل منهم وسماعها ما يدور. إذ تتقدم في القاعة بحثا عن مكان تستطيع أن تشاهد منه كل شيء، خصوصا روستر، تتحرك الكاميرا تلقائيا لتكشف عما تراه. بعد ذلك، تنصرف عنها لكي تتابع الحوار بين روستر ومحاميه. لقطات متبادلة بين الشخصين بعد أن ينتقل التنفيذ من اللقطات البعيدة المتوسطة، إلى لقطات متوسطة لكل منهما على انفراد. المنوال نفسه بين روستر والمدعي العام مع اختلاف في زوايا اللقطات من قبل العودة إلى الفتاة قبل انتهاء الجلسة. كل ذلك بيسر شديد وتوظيف صحيح للمكان ولما يرد في المشهد للتغلب على الحوارات الطويلة المصاحبة.

لاحقا، في مكان ما وسط الفيلم، ينتهج الأخوان تقسيما لغويا آخر: روستر وماتي على حصانيهما في منطقة شجرية. الكاميرا تتحرك وراءهما ببطء يماثل بطء تقدمهما إلى منطقة جديدة، ثم تنتقل إلى أمامهما لتتراجع عنهما بذات البطء. هنا ينتبه روستر إلى أن هناك شيئا خطأ في المكان يتوجب الحذر منه. بذلك تكون الكاميرا واكبت الإحساس قبل بدايته حتى تتيح للمشاهد الشعور به. جزء كبير من نجاح المهمة يعود إلى مدير تصوير الأخوين كوون المفضل (والدائم) روجر ديكنز.

بمراجعة الكتاب (الذي أعيد طبعه بمناسبة الفيلم) ندرك كم كان الشقيقان أمينين حيال الحوار الوارد في النص الأصلي خصوصا أن الكاتب بورتيس كان ذكيا في استخدام حواره. ما يخفقان فيه هو شحن الأزمات الواقعة بين الأطراف الثلاثة بقدر من الحرارة. بسبب ذلك، فإن الحوار المتبادل بين شخصية جف بردجز وشخصية مات دامون دائما أقل أهمية مما يبدو عليه الأمر في الوهلة الأولى. المشاهد ذاتها بينهما لا تبدو طبيعية بين رجلين من ذلك العصر كل منهما يدعي أنه مقاتل أفضل من الآخر. النتيجة هي أنهما يبدوان أقرب إلى امرأتين عجوزين تتناوبان الردح كل للأخرى خصوصا في مشهدين ضعيفين للغاية: المشهد الذي يهزأ روستر كوغبيرن من لابيف، وذاك الذي يتنافسان فيه على إصابة أهداف طائرة. وهما مشهدان وردا على بعد ثلث ساعة كان الفيلم خلالها قد غطس في مستنقع راكد لم يخرج منه إلا قبل نحو ثلث ساعة من نهايته.

الشرق الأوسط في

10/02/2011

 

انطلاق مهرجان برلين السينمائي الدولي

أفلام آتية من الماضي.. ووجود عربي مباشر في العروض الرئيسية

برلين: محمد رُضا

مع انطلاق مهرجان برلين السينمائي الدولي مساء اليوم (الخميس) في دورته الستين، يشعر المرء بأن هذا العدد من السنوات التي مرت على المهرجان لم تكن في نهاية الأمر إلا مواكبة لفن أحيط دائما بالتحديات، وأثيرت حوله التساؤلات، وحاول الكثير حول العالم صندقته، فهو أداة آيديولوجية عند البعض، وأداة ترفيه عند بعض آخر، ورسالة ثقافية ومهمة إنسانية عند آخرين. تتعدد التعريفات والسينما تبقى أكبر من أي تعريف واحد.

شيء من التاريخ ستون سنة على عمر مهرجان لم يكن يعرف آنذاك ما هو مستقبل السينما ذاتها. أي عدو متربص بها سينهيها: حربا كونية جديدة؟ التلفزيون المنتشر في البيوت؟ أم أنها ستترهل وستتوقف مثل موديل سيارة ما عاد محببا؟

الوثائق تقول إن المكتب الأميركي للفيلم الذي كان يرأسه في برلين أوسكار مارتاي، أوعز إلى لجنة تضم بريطانيا (جورج تيرنر) وإداريين ألمانيين وأربعة ممثلين عن السينما الألمانية وصحافيا واحدا بالاجتماع بغية تأسيس مهرجان دولي، وأول اجتماع عقد في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1950 وتم فيه اختيار الاسم والتاريخ: السادس من يونيو (حزيران) سنة 1951.

ولم يتم انتخاب إداري أو سياسي أو مقرب أو أحد من أعضاء اللجنة رئيسا، بل جيء بالمؤرخ السينمائي الألماني ألفريد باور الذي كان مسؤولا عن «المكتب السينمائي للرايخ» خلال الفترة النازية والذي كان أبدى تعاونا حُسب له للإدارة العسكرية البريطانية حين كانت مدينة برلين (وحتى انهيار الجدار وتوحيد الألمانيتين الشرقية والغربية سنة 1989) مدارة من قِبل ممثلين للحلفاء الذين ساهموا بدخولها وإنهاء الحقبة الهتلرية والنزعة النازية وبالتالي الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة عشرات الملايين.

في السادس من العام المذكور، افتتح الرئيس الأول لمهرجان برلين الدورة الأولى بفيلم لامع «ربيكا» لألفرد هيتشكوك، وبطولة جوان فونتاين التي حضرت إلى جانب بضعة نجوم من أوروبا وهوليوود ربما جاؤوا مدفوعين بفضول غريب لمعرفة كيف يقام مهرجان بعد ستة أعوام من نهاية حرب شرسة وفي مدينة لا تزال أشلاء ورتلا من الباطون والحديد المكوم في ساحاتها الرئيسية.

أحد تلك الأشلاء تُرك على ما هو: كنيسة كانت الطائرات أصابتها بينما كانت تنوي إصابة موقع آخر في منتصف المدينة. الحكومة الألمانية والدول المحتلة لها حتى بضعة عقود لاحقة وافقت على إبقاء الكنيسة كصرح لحرب بشعة لعله لا يغري أحدا باللجوء إلى هذا الحل الرهيب لفرض تصوراته حول العالم. في الوقت ذاته، نظر المؤسسون لمهرجان برلين في عام 1951 على أنه تعبير عن «العالم الحر»، وأن عليه أن يعكس صورة ثقافية وفنية إيجابية شاملة كما لو أن العالم يولد من جديد، وكان بالفعل كذلك.

ستون عاما من السينما التي عكست، خصوصا خلال الحرب الباردة بين الشرق والغرب، ما مر به العالم من ظروف ومشاكل وتيارات، وتناوبت على إدارته شخصيات تركت بصماتها المختلفة لكنها انضوت تحت مظلته تماما وعملت لإنجاحه هو أولا.

هناك 400 فيلم تعرضها كل أقسام المهرجان من اليوم وحتى الحادي والعشرين من الشهر الحالي، بينها فيلم فريتز لانغ الخيالي العلمي «متروبوليس» الذي كان عرضه مهرجان فينيسيا في إحدى دوراته في الثمانينات. لكن المهرجان الإيطالي عرض نسخة اعتبرت وحيدة آنذاك، بينما النسخة التي يعرضها برلين هذا العام من الفيلم الذي تم إنتاجه سنة 1927 ليست فقط مرممة، بل أضيفت إليها مشاهد تم اكتشافها صورها المخرج الذي رحل إلى هوليوود فيما بعد، ولم تلحق بالنسخة التي توافرت سابقا. نحو نصف ساعة من المشاهد التي ستجعل مشاهدته بالنسبة للناقد والمؤرخ والممعن في فن السينما أمرا واجبا كما لو كان فيلما جديدا تحف به الهالات الفنية والأسماء الكبيرة. «متروبوليس» يبدو من هنا «تايتانيك» عصره وعصر سواه على حد سواء.

لن يكون هذا الفيلم هو العمل الوحيد من بين الأفلام الآتية من الماضي، ولو أنه أبعدها وأكبرها سنا، فهناك عدد آخر من الأفلام المنضوية تحت رايات الاحتفال بالمناسبة، والتي تعكس مراحل مختلفة في أزمنة مختلفة ولفنانين مختلفين. على الرغم من أن هذه العروض مناسبة للوقوف على التاريخ، إلا أن المجتمعين هنا في جلهم سينكبون على مشاهدة الأفلام الجديدة الموزعة، كالعادة، بين العروض الرسمية (عشرون في المسابقة وستة خارجها)، البانوراما والفورام وعروض سينما الأطفال وعروض «السينما الألمانية الجديدة». من بين كل هذه الأفلام ثمانية عشر فيلما تشهد عرضها الدولي الأول من بينها «المطاط» للألماني بنجامين هايزنبرغ و«جزيرة مغلقة» لمارتن سكورسيزي و«الكاتب الشبح» لرومان بولانسكي و«منفصلان معا» للصيني وانغ كوران.

وغني عن القول أن عددا كبيرا من الممثلين سيحضرون عروض أفلامهم، بينهم ليوناردو دي كابريو الذي يقود بطولة «جزيرة مغلقة». ووالدة الممثل ألمانية، مما يوضح الابتسامة المزدوجة التي واجه بها الممثل أحد الذين أجروا معه حوارا حين تطرق الحديث إلى مهرجان برلين. البريطانيان بيرس بروسنان وإيوان مكروغر سيحضران كونهما مشتركين في بطولة فيلم بولانسكي الذي قام بالإشراف على جزء من مونتاجه من بعيد لبعيد على أساس أن المخرج المعروف كان في الزنزانة السويسرية حينما بوشر العمل على مونتاج الفيلم.

فيلمان يعرضان في المسابقة اختيرا رغم مرورهما على شاشة مهرجان سندانس قبل أسابيع قليلة، «عواء» وهو فيلم عن الشاعر الفوضوي ألن غينزبيرغ الذي، مثل هارفي ميلك، كان من دعاة الشذوذ الجنسي الأول في الستينيات في الولايات المتحدة. أخرج روب إبستين وجيري فرايدمان هذا الفيلم من إنتاج غس فان سانت الذي كان أخرج «ميلك» قبل عامين.. الحلقة متصلة.

أيضا في العروض الرئيسية فيلم هندي بعنوان «اسمي خان»، الذي يقود بطولته شاه روح خان وتقع معظم أحداثه في الولايات المتحدة لتتحدث عن هندي مسلم واقع في حب فتاة هندوسية فيتزوج منها رغم معارضة أولياء الأمور. روميو الجديد بعد ذلك سرعان ما يجد نفسه مقبوضا عليه بفعل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 للاشتباه في أنه إرهابي. وإلى أن يتم الإفراج عنه يكون نصف الفيلم قد مضى وأصبح بطله في حالة عاطفية تستدعي حبا جديدا، وهذا ما سنراه يقع مع الطبيبة التي تشرف على معالجته.

هذا الفيلم إنتاج هندي، لكن شركة «إيماجنيشن»، المنبثقة عن «الهيئة العامة للثقافة والتراث» في أبو ظبي هي التي قامت بتمويل جزء منه وتقديمه على شاشة المهرجان الألماني الكبير. خطوة من المفترض بها أن تؤدي إلى دعم وجود السينما العالمية الممولة عربيا.

من المستبعد أن يكون «اسمي خان» عملا فنيا أكثر منه عملا استعراضيا منوعا كما عودتنا السينما البوليوودية، لكن وجوده سوف يكون إمعانا في التنويع وإثراء التجربة البصرية على موزاييك الدورة الحالية. الأمر مختلف بالنسبة لفيلم المخرج الصيني يوجي يامادا، أحد الكلاسيكيين الأخيرين الباقين على قيد الحياة في اليابان. فيلمه الجديد «حول شقيقها» ينهي أعمال المهرجان منسابا إلى جملة الأفلام التي يقوم فرنر هرتزوغ، المخرج الألماني المعروف، برئاستها، وتضم الممثلة الأميركية رنيه زلويغر والمخرجة الإيطالية فرنشيسكا كومنشيني والكاتب الصومالي نور الدين فرح والممثلة الألمانية كونيلا فروبوس، ثم المنتج الإسباني جوزي ماريا موراليس (الذي أنتج في حياته نحو 50 فيلما بينها أعمال أرجنتينية، والذي فاز فيلمه «حليب الأسف» بالدب الذهبي العام الماضي). إلى هذه المجموعة انضمت الممثلة الصينية يو نان التي كان أحد أفلامها الأخيرة («زواج تويا») نال ذهبية المهرجان سنة 2008.

إذ تبدأ الأفلام بالتوالي من الآن وللأيام العشرة التالية، فإن المرء العائد إلى المهرجان الذي تابعه من مطلع الثمانينات لا بد أن يشعر بأن الكثير من الماء مر تحت جسر هذا المكان. كل نقطة منه هي فيلم يحمل في ثناياه مخرجين وممثلين وكتّابا وفنيين لا يحصون مغلفين بتجربة قد تكون نجحت وقد تكون فشلت لكن قدر لها أن تنتج وتعرض ولو على شاشة هذا المهرجان العتيد وحده.

الشرق الأوسط في

10/02/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)