حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

                          دراما رمضان التلفزيونية لعام 2010

الدولة المصرية والفضائيات الخاصة...صدفة المصالح المشتركة وكولاج الأماني الضائعة (1)

فضاء للبيع...في موسم تعميم الخسائر

هاني درويش

ثلاث مناسبات متزامنة دفعتني لتقديم هذه القراءة العجولة في الإعلام المصري. الأولى إحتفال الإعلام الحكومي بمرور 50 عاما على إنطلاق التلفزيون المصري، والثانية مرور ثماني سنوات على بداية عصر الفضائيات الخاصة المصرية وإحتفال جريدة "المصري اليوم" المستقلة بهذه المناسبة عبر سلسلة حوارات هي الأهم مع مُلاّك ومديري أهم اربع قنوات فضائية مصرية خاصة؛ ثالث المناسبات تقرير معهد دبي للدراسات الصحافية حول الإعلام العربي والذي اختص مصر بقراءة إقتصادية تحليلية إنتاجا وإستهلاكا، مقارنة مع ثلاث دول عربية أخرى هي لبنان والإمارات والسعودية.

بمعنى آخر ثمة إنقشاع ولو موقت لكثير من المعلومات التي تنتمي لسياقات تاريخية آنية مؤثرة بما لايدع مجالا للشك في تكوين صورة مصر عن نفسها أو كما يراها الآخرون، كذلك محاولة فهم العديد من التحولات السياسية الإقتصادية والإجتماعية في علاقتها بسوق ينمو بإضطراد، وعلاقة هذا السوق بشكل تحولات الصراع على المعرفة في مجتمع يمور بأنواء صدام إعادة التموقع في عالم منفتح، عالم يشكك في صدقية الصور النمطية التي تصدرها مصر عن نفسها، في حين يشكك المصريون عموما في حساسية إستقبال الآخرين لإختلافهم أو تمايزهم.

وبعيدا عن ألغاز العوامل الموضوعية ثمة ثابت شخصي آخر يمفصل ويمحور كل تلك المعلومات، كون كاتب المقال كان منتميا في لحظات سابقة من حياته لهذه الميديا المصرية الوليدة، سواء في إطارها الرسمي بالعمل لسنوات في تأسيس القنوات المتخصصة الحكومية، أو في المشاركة البسيطة لاحقا بالعمل في تأسيس قناة "دريم" أولى القنوات الفضائية الخاصة، وأخيرا كمشاهد متأمل للمآلات التي وصلت إليها تلك التجربة بعد أن إنقضت سكرة الأحلام وتحولت الأمال الى واقعية بر أمانية (من بر أمان).

في البداية لابد من تحديد مفتتح إشكالية هذه القراءة، وهي كيف وتحت أي توقع سمحت الدولة المصرية العتيدة والمؤمنة باحتكار المعرفة والوعي، كيف سمحت لقنوات فضائية خاصة بالظهور؟ ثم كيف أدارت سلطة النظام علاقتها برجال أعمال متورطين فعليا في مصالح مشتركة معها وقد إستفردوا لأول مرة بهواء البث؟ هل ثمة إتفاق ضمني غير مكتوب على أسقف بعينها، ومن ثم الإعتقاد بوجود جهاز ناظم رقابي يهندس تلك الأسقف بمعيارية نسبية ورجراجة؟ هل ثمة إتفاق سري مكتوب؟ وما هي شروطه، ثم الى أي حد يصلح الحكم على تلك الفضائيات - التي لم يعدم أصحابها وسيلة لنفي حصولهم منها على مكاسب مادية أو سياسية - كرافعة ملهمة للنظام في تكنيكه بتفريغ الضغوط عليه، وهو التكنيك الذي سبقت فيه الفضائيات الصحف المستقلة منذ إنطلاق مسيرة الإصلاح السياسي قبل ست سنوات.

للأسئلة وجه آخر، أو مرايا منعكسة أخرى. ففي التقرير الإقليمي المشار إليه سلفا تظهر مصر كأكبر دولة في العالم العربي إنتاجا وإستهلاكا للمحتوى التلفزيوني. ففي مصر 19 مليون منزل يشاهد التلفزيون، 5% منها موصولة بالبث الفضائي المفتوح والمشفر، ويمثل التلفزيون 28% من الإنفاق الإعلامي في عام 2009، وإن كانت نسبة المنازل المستخدمة للتلفزيون تغطي مايقارب نسبة 100% من المصريين (بالأخذ في الإعتبار متوسط عدد أفراد الأسرة الذي لابد له من مقاربة أربعة أفراد في المتوسط) إلا أن نسبة المنازل المتصلة بالبث الفضائي لابد من التشكيك فيها. فاقتناء مستقبل ولاقط للبث الفضائي أصبح جزءا من تأسيس أي منزل أيا كانت إنتماءاته الطبقية، خاصة مع إنخفاض أسعار مكونات تأسيس وحدة إستقبال منزلي( وفقا للعروض الشعبية تدور حول 300 جنيه أي ما يقارب 50 دولارا) كذلك بساطة هذا المقابل أمام تراتبية أشكال الإنفاق الترفيهي الأخرى، ثم في النهاية عدم إحتساب نظام "الوصلة الشعبية" الذي يتيح عشرات القنوات لملايين المنازل مقابل 20 جنيها شهريا (نحو 3 دولار).

ما يثبت الشك في نسبة المنازل المتصلة بالبث الفضائي نفسه باقي الإحصاءات التي يقدمها التقرير وفي مقدمها متوسط ساعات المشاهدة اليومية الأعلى في المنطقة. فالمصريون يجلسون ثلاث ساعات ونصف الساعة في المتوسط أمام التلفزيون، تصل الى أربعة ونصف نهاية الأسبوع. وترتفع عموما نسبة المشاهدة لدى الفئات الأكبر والأصغر عمرا. وتؤكد النسب التفضيلية لقنوات الفضائيات كذلك سيادة "البث الفضائي" على غيره. ففضائية "الحياة الخاصة" تحتل النسبة الأعلى 57%، تليها "روتانا أفلام" بـ30%، ثم فضائية "المحور" 29% و"دريم" 2 24% ثم "دريم1" 22%، وأخيرا ميلودي أفلام 20%.

غير بعيد عن هذه الإحصاءات التي تكشف تعاظم ومركزية البث الفضائي هناك إحصائية أخرى تتعلق بالبرامج الأكثر مشاهدة، وهي في الغالب برامج توك سياسي إخباري، يُبثّ معظمها بدءا من الساعة الثامنة مساء وتستمر حتى منتصف الليل، وتتضمن في معظمها برامج تغطية للأحداث الصحافية في صورة متلفزة، تداعب مجتمعا بات لا يتابع الصحف ويستمرئ في الوقت نفسه "جرعة صحفية" مصورة ومبسطة تحتفي بالصراخ بين المتحاورين. ويأتي برنامج "القاهرة اليوم" بنسبة 11% على قناة الأوربت، يليه "العاشرة مساء" على شاشة "دريم" بـ8%، ثم إم بي سي للأفلام العربية 8%، ثم "تسعون دقيقة" على شاشة المحور بـ7% وكذلك "الحياة اليوم" على قناة "الحياة" بـ7%.

تعود قصة الفضائيات المصرية الخاصة الى منتصف التسعينات عندما اتخذت الدولة، ممثلة في وزارة الإعلام، قرارا بالإستثمار في بنية أساسية ضخمة تمثلت في تأسيس الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي، وكانت الرافعة إطلاق القمر الصناعي المصري "نايل سات". كان حلم المخططين تحويل القاهرة الى هوليوود الشرق بالإضافة لأسبقية ضبط صراع الصورة والخبر كما أظهرته تحولات بداية التسعينات، تحولات جعلت من حرب الخليج الأولى نموذجا في تلوينها بالولاءات السياسية على الشاشات الغربية. ويبدو أن طموحات الإستثمار في تلك البنية الأساسية الجبارة من إنشاء إستديوات ثابتة وخدمات تصوير في فضاءات مفتوحة لم تتناسب مع التسعير التعسفي لمقابل تلك الخدمة، فبقي القطاع الخاص المصري إعلاميا وإعلانيا متشككا في جدوى إقتحام هذا السوق دون ضمانات سياسية محددة. فالسياسات الإعلانية الثابتة منذ عشرين عاما على مستوى القنوات الأرضية لم تجد جاذبية ما في الرهان على قنوات لايشاهدها أحد. كذلك تعسف القوانين الإعلامية الرسمية لم يعط مبررا واضحا على سعة صدر النظام الرقابية التي تسمح بإطلاق قنوات خاصة. فالتلفزيون الرسمي منذ إطلاقه هو أداة ضبط سياسي وإجتماعي تنفرد به الدولة، كما كان إطلاق قنوات النيل المتخصصة العشر نموذجا على قابلية إهدار الدولة لميزانيات ضخمة تحت مسمى الريادة. فالقنوات التي جرى الرهان عليها في إجتذاب مشاهدين ومعلنين فشلت منذ تأسيسها عام 1998، وظلت بضعة مليارات من المديونية الداخلية بين القطاع و"مدينة الإنتاج الإعلامي" أهلا للتندر على فشل الدولة حتى في تغطية فضائحها.

هكذا كان الحال في النصف الثاني من التسعينات: إحجام غير مسبوق نتيجة عدم ثقة الكارتيلات الإقتصادية في جدوى تلك القنوات، فيما الدولة تكتفي بإطلاق التصريحات عن ريادة "الطوب والإسمنت" التي خلقتها في صحراء "السادس من أكتوبر" (حيث مقر مدينة الإنتاج الإعلامي) وتكفل تكشير الدولة عن أنيابها للفضائيات العربية بإسم الرقابة المستترة ومبالغة "المدينة" في محاولة تحصيل خسائرها برفع مقابل الخدمة بإفشال نموذج "هوليود الشرق" المحبب.

إعتمد قطاع قنوات النيل المتخصصة الفاشل في تأسيسه ومختتمه على كوادر بشرية من قلب بنية التلفزيون الرسمي، بدءا من مؤسسه وحيد حامد الرئيس السابق لقناة النيل الإنجليزية وإنتهاء بطاقم مساعديه في القناة نفسها العائدة لزمن نهاية الثمانينات، واستفادت القنوات أسفل هذا البناء الهيراركي المنضبط رؤيويا على المزاج السياسي والفني التقليدي. استفادت من جيش كبير من شباب خريجي معهد السينما وكليات الإعلام، من مذيعين ومديري تصوير وسيناريستات ومعدين شباب. ورغم سيادة نمط إنتاجي أكثر إحترافية وتطورا من بيروقراطية التلفزيون التقليدية إلا أن سيطرة الوعي التلفزيوني التقليدي ممثلا في رؤساء القنوات من جيل السبعينات، أضعف من مردود تلك القنوات إجمالا. وكانت سيطرة المعايير الشكلانية للمنتج على محتواه الفني والفكري مدعاة للتندر. محورية المذيع والمذيعة جاءت تكريسا لنمط الوعي التلفزيوني التقليدي، كذلك فساد مرعب وإسراف مرتبط بمجموعة الولاءات الشخصية والمزاجية السلطوية لمديري القنوات. ترتب على كل ذلك أن أصبح القطاع ورشة لا أكثر لقوى العمل التي ستتدفق في السوق لاحقا، وقد إستفادت الفضائيات المصرية الخاصة والعربية بفائض هذا الجيش البشري الذي تعلم داخل "ميغة " القنوات المتخصصة.

في حواره مع جريدة "المصري اليوم" لاينفي رجل الأعمال أحمد بهجت مالك قناتي "دريم1 و2" دوره التأسيسي في إقتحام المجال إنقاذا لمشروع مدينة الإنتاج الإعلامي. ففي عام 2002 عبر الرجل من مكتبه المكيف في مدينته الترفيهية "دريم لاند" شارعا بعرض 40 مترا ليدخل مدينة الإنتاج الإعلامي كأول صاحب قناة فضائية مصرية خاصة. رجل الأعمال هذا، الذي حقق ثروته كوكيل لصناعة الالكترونيات التلفزيونية، أنتظر على ما يبدو إشارة ما. وعندما لم تأت توقع أنها صدرت ضمنيا من تجليات الفشل الفضائي الرسمي وتصاعد مديونية شركة الإنتاج الإعلامي. وقد أسس قناتيه على ذراعين، الذراع الأولى هي المذيعة الشهيرة هالة سرحان القادمة من تجربة "الإيه آر تي" السعودية كمديرة فنية للقناة، وأسامة الشيخ الكادر بنفس القناة ماليا وإداريا. إعتمدت القناة في بداياتها على مركزية إنتاج برنامج توك شو وحيد لهالة سرحان وملء ساعات البث بأغاني الفيديو كليب المجانية التي هطلت لأول مرة على قناة خاصة من دون دفع حقوق إعلانية أو مقابل بث. إنضم كاتب المقال الى القناة في الشهور الأولى لقيامها بعد قطع علاقته بالقنوات المتخصصة أثر مضايقات رقابية ذات طبيعة أمنية كان خلفها نائب رئيس قناة النيل للأخبار الذي سيطل لاحقا - في هذه القراءة - كمؤسس لقنوات "الحياة" الخاصة. إنضممت كما أنضم بعضا من مطاريد المتخصصة الذين ضجروا إما من إنخفاض أسقف القطاع الرقابية أو الإنتاجية أو لخروجهم من عباءة الإستزلام المضجرة لرؤساء القنوات.

كانت دريم تتحسس خطاها حرفيا، الخوف من زلاقة لسان "هالة سرحان" التي تصنع نجوميتها بالخدش الإستعراضي الجهول في القيم المستقرة إجتماعيا وثقافيا. إذاعة الفيديو كليب الأجنبي بعد فلترته وإكسابه طابع القناة الوليدة وتنقيته من مشاهده الخارجة وإعداد ملخصات "للميك أوف الخاصة به" كانت مهمتي كمشرف على المواد الأجنبية بشاشة دريم 2. كان أحمد بهجت يخصص مدير مكتبه لمراجعة القناة لقطة بلقطة. التقارير اليومية للمتابعة من قبل مكتب رئيس القناة كانت تقلب القناة رأسا على عقب، ودارت رحى حرب مستترة بين العقل والعضلات، بين هالة سرحان وأسامة الشيخ، حرب للإنفراد بالقناة عبر كسب ختم بهجت شخصيا وقلبه، وإنقسمت القناة لخنادق حتى طار أسامة الشيخ بعد أن دمر جزءا من الجيش الملتحق بهالة سرحان. جزء من المعركة كان على إدارة المقدرات المالية المحدودة وتضبيطها بين فريقي الولاء. وعند أول عسر مالي تعطلت الرواتب لمدة شهرين ولم أستطع تحمل فكرة أن تتم التضحية براتبي فيما هالة سرحان تقبض الـ30 ألف جنيه من دون نقصان(هكذا واجهتها متبرعا بقيمة الشهرين).

لجأ بهجت في إدارته المالية للقتاة الى تحويل إعلاناته التلفزيونية الى قناته الجديدة. ويتحدث في حوار المصري اليوم عن إعلانات بقيمة 40 مليون جنيه سنويا عام 2002 خرجت من التلفزيون الأرضي المصري الى قنواته. فإذا ما أعتبرنا بهجت واحداً من ضمن أكبر 20 معلنا في التلفزيون المصري، أدركنا حجم السوق الإعلاني الذي تنفرد به الدولة مع الكارتيلات الإقتصادية الكبيرة، وهو سوق لا يخضع إلا لتسعيرة يتحكم بها طرف واحد هو الدولة، وأضفنا الى ذلك كون الدولة كذلك تملك الحق في إشارة البث. بمعنى آخر تستطيع الدولة قطع البث عن أي قناة فضائية في أي لحظة وفقا لقانون فضفاض يعود للعام 1979، وهو الذي يسمح لوزارة الإعلام والتلفزيون المصري عبر شركة "النايل سات" و"مدينة الإنتاج الإعلامي" بالتحكم التام في درجة حرارة الفضائيات، إنطلاقها أو إحجامها، وفقا لـ"مازورة" سياسية متغيرة الأهواء، ظهر بما لايدع مجالا للشك كيف شذبت الدولة وهندست، ومنذ البداية، علاقتها بالفضائيات وفقا لدرجة سماحتها ودرجة إستغلالها لتلك الفضائيات.

كان المفترق - كما يؤكد بهجت في حواره - محاضرة ألقاها هيكل في الجامعة الأميركية عام 2003، أعلنت إدارة القناة عن تغطيتها، ويقول بهجت أنه فكر بعد الأزمة فعليا في إغلاق القناة. مالم يقله أن الجهات الأمنية قطعت بث الإشارة أثناء المحاضرة وأستولت حملة أمنية على الأشرطة الماستر من قلب إدارة بث القناة. وكان ذلك أول سقف قلل من جموح القناة، وألغى بهجت طموحه المبدئي في إقامة قناة إخبارية. وقد تعلل في مقابلته بضعف الإمكانات، مثله في ذلك مثل معظم أصحاب القنوات الخاصة كما أجمعوا في كل الحوارات.

لا ينفي بهجت خسائره المالية عبر السنوات الثماني، كذلك خسائره السياسية التي نتجت عن تمدد مذيعيه في بعض المناطق خارج السقف شبه المعلن، ويقولها بالفم الملآن أنه لو صدرت إشارة من أولي الأمر بإغلاق القناة سيفعل، فهو لن يعادي النظام!

يُظهر الحوار في أكثر من مفصل البعد الأخلاقي المحافظ لرجل الأعمال، لكنه يعلي من عدائه السياسي لجماعة الإخوان المسلمين بل ويعتبرهم المعطل الحقيقي لإقامة حياة ديمقراطية سليمة، ويرجع خوف الحزب الوطني من المعارضة لخشية الأخير من إستخدام الإخوان لهم كحصان طروادة. وهو يؤكد على الفصل بين موقعه الإقتصادي وطموحه السياسي المنعدم، وهو رجل الإقتصاد الذي بنى ثروته بأقل القليل من الإرتباط بفساد السلطة المباشر(اللهم تأسيس مدينته السكنية الضخمة على أراضي دولة مباعة بأحط الأسعار)، لكنه لايخفي درجة من درجات الهوس الوطني. فخطابه يجمع بين "الخوف على مصالح البلد" و"إستعادة الريادة الإعلامية" ويؤمن على كلامه بأن الرئيس وحده هو من سمح لقناته بالإستمرار، مثله في ذلك مثل كثير من المصريين الذين يفصلون بين مؤسسة الرئاسة وباقي منظومة النظام السياسي. هو يقيم الخصومة مع من يراهم "أعداء حكمة النظام من داخل النظام".

لايخفي بهجت كذلك حرصه الخاص والذي لاتشاركه الدولة إياه - على تنمية مايسميه بإعلام مستقل. ينتقد بعنف سيطرة سلطة الإعلام الرسمي على المقدرات الحقيقة لتمويل القنوات مثل حقوق بث المباريات ومغالاة التلفزيون في تحميل القنوات الخاصة مبالغ طائلة في شراء المسلسلات. يرى أن قواعد المنافسة يجب أن تتغير في ظل "خطف" التلفزيون للأفكار والمذيعين الناجحين في الفضائيات المستقلة، ويرى أن معوقات المنافسة في التغطية الإخبارية ستتصاعد خلال الإنتخابات القادمة بعد أن عاين مؤشرات على تقليص حرية الإعلام الخاص في الحركة خلال تلك الفترة. يقدم نفسه بديلا لـ"الجزيرة" التي لا يرضى عنها النظام ولا يتيح للآخرين منافستها، وبين لا جدوى القناة الإقتصادية وظلام مستقبلها السياسي يسرب معلومة عرضها للبيع على مستثمرين أتراك.

المدهش في باقي الحوارات تصريح معظم مالكيها بلا جدواها الإقتصادية المتزامنة مع تنامي إحساسهم بالمسؤلية العامة والدور الوطني، وكأن إنفاق الملايين كان مجال الحركة الوحيد لتنبيه الجماهير والنظام بمثل تلك النوايا الطيبة، أو أن تعويض الخسائر الفادحة أصبح مدعاة لجدولة أهداف جديدة، وهو ماستكشف عنه باقي الحوارات التي نستعرضها في الجزء الثاني من القراءة في الإسبوع المقبل.

المستقبل اللبنانية في

08/08/2010

 

 

الدولة المصرية والفضائيات الخاصة...صدفة المصالح المشتركة وكولاج الأماني الضائعة (2)

كلهم يهدّدون بالإغلاق ...إذا ما انقطعت إشارة الرضا

هاني درويش 

أطلق التلفزيون المصري منذ أسبوعين قناة جديدة بمناسبة مرور 50 عاما على انطلاقته الرسمية، وإمعانا في التأسي على الذات أو بجبروت التكبر الأبله اسماها «التلفزيون العربي» وفقا للتسمية التي انطلقت بها هذه المؤسسة قبل خمسين عاما، حين كان التلفزيون ملحقا على جدول أعمال العروبة الناصرية. المحتفون بمناسبة تلك الاستعادة التي لا تخفي حنينا ببغاويا يمتهن الواقع المتردي لمصر اختاروا لها شعاراً هو «بدأنا كبارا ... ونستمر كبارا».

الحقيقة أن المادة التي تذيعها تلك الشاشة تفعل ذلك السحر المبلسم على وضاعة الواقع. فأن ترى كم هذه الوجوه من نجوم ومثقفي العصر الذهبي يتحدثون ببراءة هكذا أمام كاميرا التلفزيون الجديد، بمجمل هذه الثقة التي كانت تناسب اللحظة الريادية، لهي مناسبة لتأمل فائض القيمة الذي أنقلب فجأة إلى ندرة في القيم. أن تشاهد حلقة مثلا يتحدث فيها طه حسين مع جمهرة من مبدعي تلك اللحظة لمدة ساعة، جمهرة من شباب المبدعين كنجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وأنيس منصور وكامل زهيري يسألونه عن سارتر وكامو وكافكا فيرد بأستاذية ليقول كلاما تافها بمقياس العام 2010. أن لا يتجرأ على محاججة «العميد« إلا المذيعة فيما تلامذته منشدون بالنظر إلى نظارته السوداء ويتابعون بقلق حشرجة وتنحنح صوته الأجش كل دقيقة. ثم بنقلة ريموت لاهية من طفلك الصغير ، مجرد نقلة ريموت كنترول يتوسط بعدها بلال فضل وأحمد المسلماني أو إبراهيم عيسي الشاشة الملونة ، لقادرة على كرّ الزمن للخلف لا للأمام كما يعتقد البعض. ورغم أن كلاهما صورة. ربما لا تعبران بدقة إلا عن تمثيلات لا واقعية لرومانتيكية الأبيض والأسود بزمنه وتهافت زمن الألوان بقبح صوره، إلا أن التأرجح الزمني الريموت كنترولي هذا يضعك على محك بين زمنين مرتبكي الهوية. فجدي الفلاح لم يشاهد عميد الأدب العربي في زمن الريادة ومن ثم يصبح معيار الجودة الجماهيرية وما يترتب عليه من علاقات تترتب على جدوى هذا التلفزيون التاريخي وتأثيره الحقيقي في حياة الناس، ولا متعة وجماهيرية الألوان مع تهافت ومرض الرسالة الإعلامية كما يقدمها التلفزيون الخاص بمنجاة من الشك.

ثم أن شاشة العظماء تلك تبدو سلطوية كاذبة بالمقاييس العابرة للزمن حين تقدم فقرة باسم «أحبار من مصر» تجمع بين مشاهدة الزعيم الراحل لفيالق الخدمة المدنية في طابور عسكري جنبا إلى جنب مع تقارير عن فوز لاعبي الإتحاد السوفيتي بجوائز مسابقات السباحة الأوروبية، خبر عن فلاح مصري يتحدث عن الري تتلوها فقرة عن مكننة زراعة القمح في حقل تعاونيات سوفيتي يعمل به فلاح روسي أسمه جريجوري. يرتدي الفلاح المصري أسمالا فيما يعتمر السوفيتي كاسيت وجاكيت، والكذب على الجانبين تفضحه عيون الزمن التي لا ترحم.

في الحوارات المنشورة حول الفضائيات الخاصة يجمع أصحابها من رجال الأعمال على سياق المقارنة بين الزمن الحالي الذي سمح لهم بإطلاق قنواتهم الخاصة وبين زمن عبد الناصر وتلفزيونه، يجتمع في ذلك رجل الأعمال الليبرالي البعيد عن السلطة كساويرس صاحب قناتي «أو« و«أون تي« في مع أبن السلطة المدلل وصاحب قناة «المحور« حسن راتب، والمقارنة في الغلب لصالح الزمن الحالي، لكن اي دقة تحتويها مثل تلك المقارنات الضد تاريخية؟

حسن راتب مالك قناة المحور هو أحد رجال الأعمال الاستثنائيين الذين سمحت لهم الدولة بالعمل في سيناء. مجال عمله الرئيسي هو صناعة الأسمنت والمقاولات، ويبدو أنه ممن صدقوا المقولة الموسمية حول تنمية سيناء فأنفق دون أي عائد اقتصادي واضح ملايين في قري سياحية خاوية في شماله الراكد وأنشأ جامعة خاصة لا يدخلها أحد في مدينة العريش. هو قبل ذلك وبعده قريب الصلة بعائلة السيدة الأولى ولم يكن له تاريخ رأسمالي واضح قبل الظهور المدوي له في سيناء بحساسيتها الأمنية واللوجستية. الرجل في حواره يقولها بالفم المليان، أنه رجل النظام، ليس لمجرد انتمائه للحزب الوطني أو لمشاركة التلفزيون الرسمي أسهم قناة جاءت تسميتها متزامنة مع سياسية « المحاور» الإعلامية. فبعد ظهور قناة دريم اكتشفت الدولة تأثير القنوات الخاصة على وعي نخب الطبقة الوسطى، خاصة عبر برامج العلك السياسي المسماة بالتوك شو، أسست قناة المحور الخاصة من كوادر كلها من التلفزيون الرسمي بفخفخة إنتاجية محسوبة وباختيارات اعترف مالكها بتدخل الأمن في توظيف كل العاملين فيه (من خلال نفس الحوار المنشور بجريدة المصري اليوم). العمود الفقري للقناة هو برنامجها الأساسي«90 دقيقة« الذي يقدمه الإعلامي معتز الدمرداش. ويشطح هذا غالبا طوال الأسبوع بجملته الشهيرة المولولة» أنت فين يا حكومة» عندما يعرض تقارير المعاناة اليومية لحياة المصريين. يعتدل المقام نهاية الأسبوع عبر أسخف وأحط البرامج الحوارية الذي تقدمه القناة والمعنون بـ48 ساعة الذي تقدمه مذيعة سابقة لرئاسة الجمهورية وصحافي من جريدة الأهرام، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الدفاع عن النظام ورجاله ورجال رجاله. بل وظل ظل رجال رجاله، قامت القناة بنقل وقائع المؤتمر الأخير للحزب الوطني على الهواء، وهي الوحيدة التي لم يجر التضييق عليها في التغطية الإعلامية لانتخابات مجلس الشورى. وفيما عدا هذين البرنامجين اللذين قاما لمواجهة إنفراد مني الشاذلي بملايين المصريين ليلا عبر شاشة دريم، تقدم القناة تنويعا من برامج التخلف العقلي المصري الصميم: برنامج شهير لتفسير الأحلام هو الأعلى مشاهدة في مصر الآن، وآخر اجتماعي نسائي أسمه «صبايا« تقدمه نجمة تلفزيونية مخترعة اختراعا تتحدث عن الجنس والدين بأحط أنواع الوعي السلوكي والنفسي، ثم قائمة من برامج الفتاوى والمطابخ والبرامج الإعلانية والرياضية ، اي بتعبير أدق «كشري إعلامي مصري أصيل».

لا يخفي حسن راتب في حواره كراهيته لا السياسية بل الأخلاقية لكل من يعارض النظام، بل ويتهم كل من يعملون بالمعارضة بأنهم كانوا من مؤيديه لولا رفض النظام تلبية مطامحهم، ولتقديم نموذج من وعيه السياسي سنقتطع من الحوار هذا الجزء الجميل:

« - أليس السبب في ضعف المعارضة سيطرة الحزب الوطني ورجاله على كل المجالات؟

- ده كلام مش صحيح، تابعوا البروموهات اللي في القناة، مفيش مظاهرة لجهة من الجهات إلا وموجودة عندنا، اللي يتهمنا بأننا مع الحكومة غلطان، إحنا مع النظام وفيه فرق بين الحكومة والنظام.. وكثير من الحكومات المتتابعة اللي جت لا تلبي حتى طموح القيادة السياسية اللي معيناها، مش بس لا تلبي طموح الناس ولا الشارع.. صحيح القيادة السياسية هي التي اختارت، لكنها بتختار منين؟ ما هو من مصر، أنا لا أدافع ولا أؤيد ولا أعبر عن أحد ولا أعبر عن حزب بذاته، أنا بتكلم من واقع اهتماماتي بالثقافة والتعليم اللذين عبّرت عنهما بقناة المحور وجامعة سيناء.. من يقول إن المحور قناة الحزب الوطني أقل له إن هذه مغالطة كبيرة، لكن قناة المحور تفسح المجال لكل الآراء في الشارع السياسي، من بينها الحزب الوطني.

- اقترح عليك تغيير العبارة إلى: تفسح المجال لكل الآراء على رأسها الحزب الوطني.

- مش عيب، آه طبعا لأنه أكثر الأحزاب تواجدا وأكثرها في علاقته بالنظام.

- أليس لهذا علاقة بانتمائك الحزبي؟

- لأ.. إزاي؟! أي ميديا تعبر عن أصحابها، أنا رجل ليبرالي من حقي أن أقول رأيي، لكنني أفسح المجال لكل الآراء الأخرى، ولم أحجب رأياً عن أحد.. واحد كان طالع يشتمني في القناة بتاعتي، لما أسيب الآخرين يعبروا لازم برضه يسيبوني أعبر، وأنا أتشرف بأنني أنتمي لهذا النظام، وشاعر إنه مفيش بديل أفضل لهذا النظام الآن، ولو فيه أي بديل أفضل هاروح أنتمي إليه.

- ألهذا تتحامل «المحور« على البرادعي و«الجبهة الوطنية للتغيير«؟

- لأ إحنا ما اتحاملناش على حد، هو أنا لو مأيدتوش أبقى غلطان؟ عمر ما حد اتكلم عليه إلا في سياق الرأي والرأي الآخر، أتحدى حد يثبت أننا تحاملنا عليه، بالعكس نحن نحترم كل التيارات المعارضة ونفسح لها المجال لكي تدلي برأيها، ومع هذا الاحترام لا ينبغي على المعارضة أن تنكر علينا حقنا في إبداء آرائنا.

- إذا رشح د. البرادعي نفسه للرئاسة.. القناة هتتعامل معه سياسيا أم إعلاميا؟

- القناة كمنبر هتفسح للرأي والرأي الآخر، لكنني كـ«حسن راتب« هانتخب الحزب بتاعي والريس، أنا أنشد الاستقرار في البلد وأعلم تماما أن البديل أسوأ بكتير وأن الموجود أفضل بكتير، وإذا ظهر بديل أفضل. هانتخبه بس لحد دلوقتي أنا مش شايف بديل أفضل، كل الناس اللي اتكلمت قدامي تتكلم بفكر نظري عشوائي، ناس منعزلين عن المجتمع ناس فاشلين مش عارفين يلموا تكتلات حواليهم، عايزيني ليه أؤيد الفشلة دول؟ المجموعة اللي بيسموا نفسهم الجبهة الوطنية للتغيير، هذه مجموعة تعتبر كل من يقول عكس آرائها خائناً للوطن.. وكلهم أصحاب مصالح، وكانوا أكتر ناس بتطبل للنظام وأكتر ناس هتمسك رق وتطبل لو النظام إداها مصالحها، كل الأسماء الموجودة على الساحة اللي بتعارض دلوقتي كانت بتطبل للنظام زمان، لما النظام ما حققلهاش مصالحها بقت بتطبل عليه.. للأسف أصبحت معارضة النظام قائمة على المصالح وليس المبادئ «.

بالطبع لا يحتاج الحوار إلى شرح مستفيض، هي نفس اللغة التسويفية التسويقية الشعبية التي قد تسمعها في أي برنامج حواري يكون بطله إما نجم الغرائز الشهير مرتضى منصور أو أي مواطن من طائفة» الفهلوية» الذين يقومون بالبلطجة أمام لجان الانتخابات. ولا يعكس الأمر مجرد رد فعل أحد رجال النظام بل هو مؤشر إلى مخاوف شريحة واسعة من القطاعات التي تربّت في دفء فساد النظام، بعضها يعبر عن فزع حقيقي من ليونة النظام مع معارضيه الافتراضيين ويكادون يؤلبون النظام على هذا « الهامش المعارض» الذي يفسد الضؤ المبهر الذي نحياه تحت سلطة هذا النظام، وبعضهم يخاف بشدة من العري المتوقع لأصول ثرواتهم وعلاقتهم السلطوية في حال انهيار ذلك الغطاء العلوي الكبير.

على العكس تماما من منطلقات الثراء الغامض التي أتى منها حسن راتب، يأتي نجيب ساويرس، ومن مسافة منضبطة مع النظام السياسي يحسده عليها الجميع يتحرك، وهو الأحدث بين رجال الأعمال الكبار الذين انتبهوا لأهمية الفضائيات، لكن اهتمامه جاء متأخرا، تحديدا بعد أن اقتسمت الفضائيات الإعلانات الكبرى والأفكار التسويقية التلفزيونية الكبرى. عبر قناتيه «أوه« و«أون« دخل ساويرس عالم الفضائيات قبل عامين. القناة الأولي خطط لها أن تكون إديو تريتمنت، أي تعليمية ترفيهية. أسلوبها البصري المميز المعتمد على الفواصل الكارتونية والجرافيكية وحرفية تشكيل الصورة واختياره لغة العامية المصرية حتى لفقراتها الإخبارية عرضها لهجوم من الاختصاصيين حماة عرين اللغة والصورة المنضبطة. الأزمة كانت في استهلاك الأفكار البراقة التي قدمتها سريعا، ومع ارتفاع تكلفة الإنتاج وطبيعة الجمهور الاستثنائي الذي تتطلبه تعددت خسائرها أو فقد المشرفون عليها الصبر مبكرا. وبدلا من تطوير رسالتها وصرف المزيد من الأموال واستقدام محترفين في هذا المجال والصبر على تجربة هي الأولى في مصر لتقديم وعي فارق ومختلف لجمهور جديد من الطبقة الوسطى التي لا تحب الخلطة السحرية المتوفرة في باقي القنوات، تم تقليص إنتاج القناة، القناة الوحيدة التي لا تقدم برامج دينية، أو برامج رعاية السحر والشعوذة، القناة الوحيدة التي كانت تفسح المجال للأفلام التسجيلية النادرة، والأفلام الروائية غير التجارية جيدة المضمون، القناة ذات الوعي الليبرالي المنفتحة على كل جديد المهتمة بأشكال الثقافة المعاصرة، هذه القناة تكاد تختفي!

على الجانب الآخر، ومتأخرة نحو خمس سنوات جاءت «أون تي في«، جاءت بنفس مواصفات السوق المضمحل أصلا لفضائيات برامج التوك شو الأوحد. برامج سياسية تعتمد على منجزات الصحف الورقية الصباحية، وكمية من ثرثرة المختصين الباردة غير المدعومة بمادة بصرية جذابة. بجلس مثلا الصحافيان إبراهيم عيسي وجابر القرموطي ليتحدثا لدقائق طويلة بلغة الندب السياسي السادية لجمهور أدمن بمازوخية انفعال المذيعين الآلهة وهم يبكتونه على السلبية ويهللون: وا معتصماه وا مواطناه.

في الحوار الذي عنونته «المصري اليوم« بجملة لساويرس يقول فيه:أنا ماشى جنب الحيط.. ومش عايز أزعّل حد» يحدد رجل الأعمال الذي وصف نفسه عن حق مرات عديدة بالعلماني أو الليبرالي سياسة قناته بالقول:»ركزت على توجهات المساهمين وقلت إننا ليبراليون وعلمانيون ولا نحب خلط الدين بالسياسة، ونؤكد على الديمقراطية وحرية الإنسان وحق الإنسان في التعبير عن رأيه ومع حقوق الإنسان والديمقراطية وضد الاعتداء عليها، ولسنا مع التطرف الديني ولا مع الشيوعية كنظام اقتصادي، واللي مش عجباه المبادئ دي ما يشتغلش في القناة، ودي ثوابت».

وردا على السؤال التالي:هناك اتهام دائم لرجال الأعمال بأنهم لا يقدمون على عمل إلا إذا كانوا واثقين من تحقيق أرباح إما مادية أو سياسية.. وطالما أنه لم يحقق أرباحا مادية.. يبقى له أهداف أخرى؟ أجاب: بالنسبة لي أرى أن بلدي لها فضل عليا، ومش عايز أبقى ناكر للجميل ولا مقصر، وشايف إن قناة زي كده مستقلة سياسية مهمة جدا وشايف إن كل ما ييجوا يكلموا قطر عن الجزيرة يقولولها دي قناة خاصة ومالناش دعوة بيها ومش تابعة لينا. طب ماشي إحنا كمان عندنا قناة خاصة عشان لما يغلطوا فينا نغلط فيهم.. لو النظرة الحكومية لينا إنهم ممكن يستفيدوا مننا وبقاءنا يبقى مفيد يبعدوا عننا شوية ويسيبوا مساحة الحرية اللي عندنا بدون تدخل، ده فيه ميزة وفايدة على المدى البعيد.. ده لو تعاونوا معانا.. لو، ممكن نبقى صوت مصر غير الرسمي، .....عايز مساحة الحرية تزيد، عايز المواطن يحصل على المعلومة الصح لأنها حق من حقوقه، ننمى البلد ونطلع لقدام شوية، جايز السيئات التي تعرضها القنوات الخاصة تساعد في الإصلاح، وعن نفسي طلبت من العاملين في القناة إنهم يعملوا كل يوم ربع ساعة إيجابية».

فيما عدا تلك الملامح المبسطة لوعي رجل الأعمال تبدو تجربة «أون تي» في هي الأخرى أقرب للنهاية. فالحس الاجتماعي الخدمي الفاقد لأي معيار اقتصادي يدفع ساويرس عبر أكثر من مفصل للتأكيد على أنه «لا يحب الصداع»، وإذا ما شعر بأي ضغط سياسي سيغلق قناتيه، وأنه لولا التزكية من أصدقائه في النادي الذين يشيدون ببرامج القناة لأغلقها، خاصة وأن الرجل معروف عنه محبته للمكسب وعدم استعداده لتبني مشاريع خاسرة، فإن حدث وصبر قليلا لا يعني ذلك الصبر للأبد.
ما يؤكد ظلام مستقبل القناتين ما أشيع عن ضجر رجل الأعمال من خسائر لم تكن فقط متوقعة بل أيضا أتت نتيجة لسوء إدارة رأسمال المتاح متزامناً مع ارتفاع تكاليف الإنتاج وانعدام احتمالية وجود إعلانات خاصة في ظل الأزمة المالية المستحكمة. فهل ينفد صبر ساويرس أسرع من نفاد صبر النظام على إبراهيم عيسى الصحافي الذي يعاديه النظام وينفرد الآن بالمشاهدين لنحو ساعتين كاملتين عبر شاشة «أون تي في«؟ أم أن التجربة ستواجه ما هو أقسى من تلك الإعتبارت الشخصية الضيقة؟ المؤكد أن أريحية النظام بقناتي ساويرس قائمة على ضمانة لانهائية في عدم تبني القناتين الليبراليتين لأي من تسريب في المضمون من جماعة الإخوان المسلمين. فعداء ساويرس للإخوان والوعي الديني في باقي القنوات ستكون كلمة السر في صبر الدولة على هذه التجربة إلى النهاية، كما أن الخسارة الارتدادية لرد فعل ساويراس على هذا التضييق قد تهز سمعتها المشكوك فيها بدعمها للرأسمال الوطني غير وثيق الصلة بها. فساويرس، بالمسافة التي يؤكد عليها، يصبغ الحياة الاقتصادية بأكبر مسحة أو رتوش لفصل المال عن السياسية، وهي القيمة التي تحاول الدولة من وقت لآخر التأكيد عليها.

آخر رجال الأعمال المُلاّك للقنوات الفضائية هو السيد البدوي رئيس حزب الوفد ومالك مجموعة قنوات «الحياة«، لم يظهر في الحوار وظهر بدلا منه رئيس القناة محمد عبد المتعال. وتركز قنواته، كما يقول، على بطولة «اللوجو« الخاص بالقناة. والقنوات عموما هي الأقل احتكاكا بالمجال السياسي رغم مركزتها حول برنامج التوك شو «الحياة اليوم». لكن الصبغة الاجتماعية التي تركز على جماهير البيوت من النساء (يمثّلن 60% من المشاهدين وفقا لتقرير معهد دبي للصحافة ) عبر برامج المطبخ وقائمة منوعة من البرامج الخفيفة جعلتها في السنة الأخيرة محط اهتمام كبير في ساعات الصباح والظهير قبل أن يخفت حضورها الليلي أمام وحوش التوك شو السياسي.

يبدو عبد المتعال مخلصا لمدرسة الريادة التي تعلمها في كواليس التلفزيون المصري. لم لا وهو أنتقل بخفة ليكون عنصرا من عناصر تأسيس معظم القنوات الخاص في أعلى كادراتها بعد خراب قنوات «النيل« المتخصصة. فمن قناة «النيل« للأخبار إلى «الإم بي سي« إلى «المحور« إلى «العراق« ثم العودة عبر شبكة قنوات الحياة، وهو يضع كل تلك التنقلات في خدمة تصوره عن العلاقة الوطيدة بين الإعلام العام والخاص. يحيي وزير الإعلام وقائده السابق حسن حامد، ويتأسى على ما أصاب التلفزيون المصري من خراب رغم أنه أحد أهم مكونات خرابه ، يشبه إلى حد كبير في تأرجحه وتنقلاته المفاجئة لاعب كبيراً آخر أسمه أسامة الشيخ. فالأخير بدأ مهندسا للبث في شبكة تلفزيون «العرب«، وعاد ليكون جزءا من تأسيس قناة «دريم« وتأسيس معظم القنوات المصرية الخاصة قبل أن يستنجد به التلفزيون لإعادة صياغة إتحاد الإذاعة والتلفزيون بعد خراب مالطة. تحول أسامة الشيخ (على عكس المدار المتعالي) إلى أكبر عدو للفضائيات الخاصة وما معاركه المدهشة للدفاع عن حقوق البث الرياضي للدوري المصري ضد «الإيه أر تي« وضد «الجزيرة« والفضائيات الخاصة رافعا شعار الوطنية إلا درعاً خفيفاً إستله مؤخرا نتيجة المنصب الذي يضيق أسفله. فالشيخ يعلم أن آخر السلع المؤممة لإعلامه هي كرة القدم وحصته الضعيفة من إنتاج بعض المسلسلات الرمضانية. وهو يبدو ثوريا للغاية وهو يخلط مصالح الدولة المالية بحقه في التهديد الدوري بقطع إشارة البث. المدهش أن عبد المتعال، في حواره عن فضائياته الخاصة كان مهموما بتوجيه رسائل إلى الشيخ شخصيا، بل وينهل من خصوم الأخير بصوت رجل الدولة نفسها. فهو يتهم برامج التوك شو السياسي بصناعة نجوم سياسية من المذيعين ويستغرب كيف «يشوح» مذيع لمسؤول في الدولة أو يكلمه بطريقة سيئة! وبذكاء شديد يشير إلى استغلال الفضائيات لحالة الفراغ السياسي وابتزازها لمشاعر الجمهور بـ»الصوت العالي« ويعترف :»مازلنا روادا على مستوى البنية الأساسية، والدليل أن كل القنوات العربية تخرج من مدينة الإنتاج الإعلامي. أما على مستوى المضمون فيجب أولا أن ندرك أن مفهوم الريادة نفسه اختلف، ربما لأننا مختلفون كعرب فيما بيننا، ويجب أن نعمل على هدف واحد هو استعادة هذه الريادة لتعود مصر وتقود العالم العربي كله من خلال إعلامها، سواء كان إعلاماً خاصاً أو عاماً. زمان كان ممكن ده يبقى دور الحكومة وحدها، الآن الأحداث فرضت على القطاع الخاص دورا، هو أن يكون شريكا للدولة فى صناعة إعلام قوى».

طبعا لن نكرر هنا -في حالة قنوات الحياة- ما كرره السابقون، بأن القنوات لا تحقق مكاسب ضخمة، ولا تؤثر في فاعلية نشاط أصحابها السياسي أو الاقتصادي. ثم هم جميعا لا يتدخلون في السياسات التحريرية أو التنفيذية لقنواتهم، ولكنهم يتدخلون في لحظات بعينها عندما تأتي إشارة من أعلى النظام بتجاوز سقف ما. يستمر السؤال إذا حول الحقيقة وراء كل هذه الظاهرة المسماة بالفضائيات الخاصة المصرية، خاصة اذا ما أضفنا بعضا من الملاحظات:

أولها أن تلك القنوات هي من قامت ورعت وحمت وأنتجت الخطاب الفاشي العنصري خلال أزمة الكرة بين مصر والجزائر، وهي الآن تقوم بتكييس وتشطيب وتضبيط صورة ما يحدث في مصر للمصريين وخارجها.

ثانيها أن معظم تلك الفضائيات تعتمد على كوادر بشرية مهندسة من داخل تجربة النظام الإعلامية أو السياسية والثقافية، حتى بمعارضيها وسقف معارضتهم.

ثالثها أن النظام أعتمد بشكل كبير على هذه القنوات في تفريغ الضغوط المطالبة له بإشاعة حياة ديمقراطية حقيقية، وبعد ان كان صوت الشكوى مغيبا عن الإعلام الرسمي، قام الإعلام الخاص بتعبئته وإعادة بثه ومن ثم حوله إلى سلعة تؤكد ديمقراطية النظام نفسه.

رابعها أن الفضائيات الخاصة مثلت نموذجا فريدا في علاقة تحسس رأس المال لدرجة أريحية السلطة السياسية في مشاركته إنتاج المعرفة، وهي علاقة بدت فيها الفضائيات أقرب إلى الحيوان المدرب والأليف الذي يتشمم الحساسية السياسية المناسبة ودرجة الإزاحة الممكنة لأسقف التعبير المتاحة.

خامسها أن بعضا من اقتصاديات تلك القنوات معرض الآن إلى التقلص نتيجة إعادة اقتسام داخلي بين عدد أكبر للكارتيلات الاقتصادية نفس المقدرات الإعلانية التي تتيح لقناة أن تستمر أو أن تغلق أبوابها.

سادسها أن التعبير الصادق والشفاف عن حجم النفوذ الذي تتيحه تلك القنوات لروافدها الاقتصادية غير معبر عنه بطريقة حسابية واضحة، وأن مبررات الوجاهة أو الدور الوطني أو مواجهة المنافسة العربية لا يمكن أن تخفي حجم البيزنس الضخم والخفي المتبادل بين تلك المؤسسات والدولة كراع أوحد وممسك وحيد بمقاليد إشارة البث .

سابعها أن النظام السياسي قام بترحيل جزء من مسؤولياته «الريادية» في الدفاع عن نفسه وعن صورته وصورة مصر على أكتاف شركائه الحقيقيين، وأن أي تفكير في إعلام ديمقراطي حقيقي وبديل سيصطدم من البداية بأطر تشريعية تجعل من النظام مالكا أوحد لهواء البث، ومروضا قمعيا لأي أفكار غير نمطية تصب في غير صالحه.

ثامنها أن الصور المبثوثة، أيا كانت درجة ارتباطها بالواقع المعبرة عنه، هي في النهاية صور منضبطة لا تخرج عن سياق الأسقف النسبية الرجراجة، وأن النتائج المترتبة على ذلك هي تحويل حياة المصريين إلى صور أقرب إلى حقن المورفين التي تتيح للمريض أكبر قدر من الخمول وقد تحولت مأساته إلى هلوسات سمعية بصرية لا يدرك الفارق بينها وبين حقيقة ما تخبئه الصورة من قيم تكرس الواقع وتعمق المازوخية المترتبة على تكرار المأساة.

المستقبل اللبنانية في

15/08/2010

 

لرمضان هذا العام «حكايات سودانية»:

دراما حقيقية.. بعيداً من الضجيج

بشار إبراهيم 

يمكن للمرء أن ينتبه إلى أن صناعة جديدة للدراما السودانية تجري الآن، بهدوء ودأب!.. وذلك على الرغم من أن المشاهد العربي عامة، وخاصة المشاهد التلفزيوني، تتخاطفه أعمال يتحقق الكثير من شهرتها، بسبب العديد من العوامل التي تبدأ من تاريخية بعض الدرامات العربية، وما حققته وبنته خلال سنوات أو عقود، من نجاحات، ولا تنتهي (تلك الأسباب) عند الإعلام ولعبته، الذي بات جزءاً من عملية صناعة الدراما العربية، وترويجها، ونشرها.

الجديد الذي يمكن الانتباه له، في شهر رمضان هذا العام: 2010، أن ثمة دخول سوداني لعالم الدراما العربية، عبر السلسلة الدرامية: «حكايات سودانية«، التي تتولى إنتاجها قناة «الشروق« الفضائية السودانية، هذا الإنتاج الذي نعلم، بشكل مباشر، أنه يأتي في سياق التخطيط بعيد المدى، الطامح إلى تأسيس مرحلة جديدة من مسيرة الدراما السودانية، مستفيدة مما مضى من عمر هذه الدراما السودانية، وتجاربها، وأعلامها، ونجومها، من جهة أولى.. ومستلهمة المتميز من تجارب الدراما العربية، خاصة في سوريا ومصر، هذه التجارب التي تجلت عن تحولات وطيدة على مستوى الشكل والمضمون.. وانتقلت إلى مرحلة أعلى من الفعل الإبداعي، بالشكل الذي جعل من الدراما سفيراً متمكناً لهذا البلد أو ذاك.

من المؤكد أن الدراما السودانية، التي تتوجه إلى مشاهدها المحلي، في هذا البلد القارّة مساحةً، والمتعدد المتنوع بغنى مدهش بشرياً.. أقول: من المؤكد أن الدراما السودانية، هذه، طيلة قرابة خمسين عاماً، قلما تمكنت من تحقيق حضور فني خارج حدود السودان. بل إن التجربة الفنية السودانية تشير في واحد من جوانبها (وربما مآسيها)، أنها تمكنت من تصدير بعض الأسماء الفنية السودانية، التي حققت حضوراً متفاوتاً سواء في القاهرة، أو دمشق.. بل إن منها أسماء فنية يعتد السوداني بتجربتها، بقيت تدور في فلك الأدوار المساعدة، الثانوية، أو السنيدة، أو العابرة، وفي استفادةٍ من شأن السحنة والملامح، لا أكثر..

وهذه الحقيقة المؤسفة إنما تشير إلى مدى فقر مخيلة الدراما العربية، على غناها، وضيق أفقها، على اتساعها، هذا الذي قاد الدراما العربية إلى احتفائها بمقاييس الجمال الغربي، فقط، متجاهلة حقيقة أن قطاعاً واسعاً من الشعوب العربية هي أميل إلى السمرة والدكنة منها إلى الأشقر الأصفر، والأبيض الحليبي، خاصة وأن ثلثي الشعب العربي، عامة، أفريقيي الأصول، بالانتساب، أو المصاهرة، بتفاوتات لونية تميل إلى الدكنة، بالشكل الذي يمكننا من الإشارة إلى أن الشارع العربي، في أي من المدن العربية، هو الأكثر صدقاً وتأكيداً لهذه الحقيقة، مما تحتفي به الدراما العربية!

قد يصح اليوم القول إن الراحل أحمد زكي كان هو الاختراق الأبرز، في نقض مقاييس النجم الفني في العالم العربي، فانتقل بالفتى الأسمر من «البواب»، أو ابنه، ومن هامش الصورة، إلى واجهتها، ومن الممثل الثانوي أو المساعد أو السنيد، إلى البطل الأول والمطلق، في مسيرة مضنية، ندرك اليوم كم واجهت أحمد زكي فيها صعوبات ومعوّقات عاتية.

نتأمل فيما أمكن لنا مشاهدته من التراث الدرامي العربي، فلا نكاد نعثر على أي من ملامح العناية بقوة اللون، الذي تكتسي بها ملامح غالبية الشعب العربي. بل أن كثيراً من منجز الدراما العربية (والسينما العربية من قبلها، ومعها)، لم تتخل عن تلك النظرة العنصرية المرفوضة، التي لا تجعل من ذوي البشرة السوداء، إلا في مقام البوابين، والسعاة، والسائقين، بل والعبيد، واللصوص، والمجرمين، وقطاع الطرق!
من المؤسف حقاً أن السينما الأمريكية؛ الهوليوودية ذاتها، انتبهت إلى قوة اللون، ومنحته المكانة اللائقة، وبات لديها العديد من كبار النجوم، رجالاً ونساء، من ذوي الأصل الأفريقي، أو الأمريكي اللاتيني، بل وحتى الخلاسيين.. بينما ما زالت الدراما العربية تلهث وراء مقاييس الجمال الغربي، التي تجاوزها الغرب ذاته، من حيث العناية باللون الأبيض، والعيون الملونة، والشعر المسترسل، والقوام الملفوف.. تماماً، وكأنه يعبر عن عقدة نقص تاريخية، دون انتباه.

الآن، بات من المؤكد أن «لا يحكّ جلدك إلا ظفرك«. وهذا ما ينبغي أن يقود إلى أن تتولى جهات عربية أخرى، حكومية أو غير حكومية، خاصة أو مستقلة، قصب المبادرة، وتبدأ تالياً بتقديم دراماها المعبرة عنها، عن هويتها، وحضورها، ووجودها.. وعن ثقافاتها، وعن لهجاتها، وسحناتها.. وعما تختزنه من أصالة تاريخية، في قلب الهوية العربية، بتداخلها وتمازجها مع الأفريقي، والإسلامي، والمسيحي، وحتى بعض الخصوصيات المغرقة في محليتها، لغوياً ودينياً.

مع افتقاد الأمل بأن تبادر الدراما العربية للتقدم، ولو خطوة واحدة، في هذا الاتجاه، ومع تبيان تقاعسها عن أي محاولة اكتشاف لصورة العربي بغناها وتنوعها وتعددها.. ومع عجزها عن الانفلات من الركون إلى ما هو جاهز من مقولات، ومقاييس.. تتبدى الأهمية التي يمكن لدراما مثل «حكايات سودانية» أن تقوم بها، خاصة أن تحصل هذه الدراما السودانية الحقيقية على فرصة العرض على أي من الشاشات العربية، التي يمكن لها أن تتعلق بحبال التركي والمكسيكي والإيراني، دون أن تنتبه إلى السوداني، والجزائري، والمغربي..

من هنا يمكن التوقف أمام الدراما السودانية: «حكايات سودانية« باعتبارها المحاولة الأولى، الصائبة، بعد محاولات أخرى لم تنجح تماماً. الفارق هنا أن العمل على «حكايات سودانية« يأتي في سياق سوداني أصيل. ليس نقلاً لتجربة مصرية، أو سورية.. ولا تصويراً لعمل سوداني في مصر أو سوريا، ولا استخداماً للمال السوداني في إنتاجات تضيع هويتها، مع افتقاد لونها المميز والخاص.

«حكايات سودانية«، دراما سودانية خالصة. لا يؤثر في صفاء هويتها السودانية، الاستعانة بفنيين أو تقنيين سوريين، سواء على مستوى الإخراج (المخرج السوري عروة محمد، بداية)، أو على مستوى إدارة التصوير والإضاءة، وفنيي الكرين والشاريو.. إن الحضور السوري في هذا العمل لا يعدو أن يكون استعانة بخبرات فنية وتقنية، يمكن لها أن تنقل تجربتها وخبرتها إلى الفريق السوداني، المتطلع فعلاً لامتلاك آليات وطرق ووسائل العمل الدرامي الجديد، الذي أسست له الدراما السورية، ومن ثم انتقل إلى الدراما العربية في مصر والخليج والأردن..

«حكايات سودانية« عمل درامي سوداني أصيل. كتبه مجموعة من كتاب السيناريو السودانيين أمثال مصطفى أحمد الخليفة، قصي السماني، أنس عبد المحمود، عبد الناصر الطائف، أسامة أحمد المصطفى.. وآخرون. إنها نصوص درامية تنهمك في معالجة الموضوعات السودانية المعاصرة، بتنوعها وراهنيتها، لنكتشف عبرها كم نحن جاهلون بهذا العالم الواسع القريب البعيد؛ السودان الذي لا نكاد نعرف عنه إلا أنه «سلة غذاء العالم العربي«، وتأتي إلينا أخباره من خلال الفجائع والمواجع والمخاطر التي تتهدده.

هل يجوز اليوم، ونحن في عالم «القرية الكونية الصغيرة«، أن نبقى، حتى على مستوى المثقفين والإعلاميين والفنانين، على هذا القدر من الجهل بالسودان؟ كيف يمكن لنا أن نعرف الكثير عن الدراما التركية والمكسيكية، والسينما اليابانية، والأدب اللاتيني.. مثلا.. أكثر مما نعرفه عن السودان: بلد المليون ميل مربع، وما يزيد على الثلاثين مليون نسمة؟

حسناً.. لتكن الدراما هي الخطوة الأولى على طريق هذا التعارف.. خاصة في الزمن الذي باتت فيه الدراما، وكأنما هي «ديوان العصر«، باتساع مشاهديها، ومتابعيها، وبقدرتها على الوصول إلى أوسع القطاعات، داخل الحدود وخارجها، وتمكنها من تقديم الصورة والصوت، الشكل واللهجة، والهموم والاهتمامات والموضوعات والقضايا، والآلام والآمال والأحلام..

أن يكتب نصوص دراما «حكايات سودانية« مجموعة من كتاب السيناريو السودانيين، المحترفين منهم والهواة، وأن يتم تصوير هذه الدراما في شتى أنحاء السودان، وأن تتعرض هذه الدراما للكثير من تفاصيل السودان البشرية والمكانية، وأن يقوم بأداء الأدوار الفنية مجموعة واسعة من الممثلين والممثلات، السودانيين والسودانيات، من شرق السودان، وغربه، من شماله، وجنوبه.. أن يكون هذا كله.. لعل ذاك مما يجعل هذه الدراما مرآة للسودان اليوم.

«حكايات سودانية«، كما سنراها، هي سلسلة متصلة منفصلة، من ثلاثين ساعة درامية، لكل حلقة منها حكايتها وأحداثها وشخوصها وموضوعها وأمكنة تصويرها.. تعالج كل حلقة تفصيلاً سودانياً معاصراً يمكن له أن يكون موضوعاً درامياً، تتصدره مسألة الاهتمام بواقع السودان اليوم، وهو يقف على بوابة قرار مصيري يمس حياته المستقبلية: الاستفتاء، الذي سيخوضه الجنوبيون، في حق لتقرير المصير، بين أن يبقوا سودانيين، في إطار دولة السودان الواحدة الموحدة (من نمولي إلى حلفا)!.. أو الذهاب إلى الانفصال، وما سيجره هذا القرار من عواقب لا يدري أحد كنهها، وسياقها، وعواقبها.

تنتصر دراما «حكايات سودانية« لخيار الوحدة الجاذبة، التي تلمّ أطراف البلد الواسع الشاسع في دولة واحدة موحدة، ليبقى السودان، كما عرفه السودانيون: «حدادي مدادي«، ويلعنون الشياطين «في القبل الأربع«.. كما تقترب كثيراً من موضوعات غاية في الحذر، وتضعها على مشرحة التناول العميق، والنقاش المتوازن، كالتمييز على أيّ أساس من لون أو عرق أو قبيلة أو دين أو جهة جغرافية.. وتتطرق إلى أسئلة التنمية والتقدم والتطوير، التي يحدث لها، في سودان اليوم، أن تصطدم بأشكال من الفساد، واستغلال المنصب، أو الثروة، وكذلك بالإجراءات البيروقراطية التي تتحول إلى عامل طارد للمستثمرين السودانيين..

ليست دراما «حكايات سودانية«، محاضرات أو مناظرات، أو مجرد طرح شعارات في قضايا مصيرية، بل هي أيضاً، وعلى الرغم من كونها دراما هادفة، لا تفلت عناصر الإمتاع، والعناية بالشكل الفني المتطور، والجودة التقنية اللازمة، والبراعة الفنية والإبداعية، والرؤية الإخراجية، التي ساهم بها المخرج السوداني الشاب أبو بكر الشيخ، مدعوماً بخبرات المنتج المنفذ الفنان جمال عبد الرحمن، وحضور متميز للعديد من النجوم السودانيين، الذين يمكن لعدد منهم أن يكون من برز الاكتشافات الفنية.

رمضان 2010، يمكن له أن يكون فرصة أولى، لمشاهدة الدراما السوادنية «حكايات سودانية«، واكتشاف السودان؛ هذا البلد العربي الشقيق، وهذا العالم القريب البعيد، في آن.

المستقبل اللبنانية في

15/08/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)