حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الدراما والتاريخ.. والرأي الآخر

حلمي النمنم يكتب:

أزمة الكتابة عن حسن البنا.. مذكراته المصدر الوحيد لمعرفة شخصيته!

يعاني كثيراً من يبحث ويدرس حياة وتطور مرشد جماعة الإخوان المسلمين (المؤسس) حسن البنا، وذلك أن المصدر الوحيد أمام الباحث، هو ما كتبه البنا نفسه عن نفسه، خاصة في المراحل الأولي من حياته، فبعد أن أسس جماعته واشتبك في العمل العام باتت هناك أطراف أخري يمكن الاستعانة بها ومراجعتها للمعرفة، لكن ـ قبل ذلك ـ وحين كان حسن البنا طفلاً وشاباً مغموراً يظل هو المصدر الأول، وأكاد أقول الأوحد عن نفسه، وقد دوَّن هو ما أراد في كتابه الذي يحمل عنوان «مذكرات الدعوة والداعية».

والمعروف علمياً أن الكتابة من الذاكرة، تجعل المرء ينسي وربما يتناسي أشياء، وتلعب حالته النفسية والعقلية دوراً في عملية الكتابة، وحين أخذ حسن البنا يكتب مذكرات الدعوة والداعية، كان هو المرشد العام للجماعة وكان يخاطب بها جمهور الجماعة وكذلك الجمهور الذي يود استقطابه نحو الجماعة، لذا نراه يكتبها وكأنه وُلد ليكون مرشداً عاماً للجميع!!!، وربما كانت ملاحظة شقيقه الأصغر جمال البنا مهمة هنا، إذ ذكر أن الدعوة تغلب علي المذكرات وتزاحم الداعية، لنتذكر أن طه حسين حين كتب «الأيام» لم يتردد في أن يقول لنا إنه وهو في الكُتّاب كان «يرشو» العريف ليعفيه من قراءة أجزاء القرآن يومياً، وأنه هو نفسه حين عهد إليه العريف القيام بمهمته تلقي هو الآخر رشاوي، من بعض الصبية، ولم يجد غضاضة في أن يكتب أنه عندما فشل في قراءة بعض سور القرآن حفظاً أمام والده، ذهب وضرب نفسه بالساطور، لكن في مذكرات البنا تشعر بأنه الإنسان الكامل.. لم يكذب مرة واحدة.. لم يخطئ مرة.. لم تصدر عنه هفوة ولو صغيرة في حياته، لم يمر بلحظة ضعف واحدة، وهذا يلقي بعبء ضخم علي الباحث الذي يتناول حياته.

روايتان متناقضتان لواقعة في حياة المرشد المؤسس.. هو من روي فبأيهما نأخذ؟

وزاد الأمر صعوبة بعد النهاية المؤسفة لحياته، فقد أضفت «هذه النهاية» حالة من القداسة عليه في نظر الذين عرفوه وتعاملوا معه.. حتي الذين اختلفوا بعد ذلك مع الجماعة وخرجوا عليها، راحوا يؤكدون إيمانهم بموهبة البنا وأنهم خرجوا علي الجماعة لأنها من بعده وفي ظل مرشدين آخرين خرجت عن خط المرشد العام المؤسس ولم تلتزم بتوجيهه وروحه.. لذا كتبوا عنه أنه الإمام الشهيد.. الملهم الموهوب.. الرجل الرباني.. الرجل النوراني.. وغير ذلك من صفات قد لا يُمنح بعضها إلا للأنبياء وللمرسلين، لقد وجدنا في السيرة النبوية أن المحيطين برسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ كانوا يختلفون معه أحياناً فيما لم يرد فيه وحي.. واعترفوا بأن الرسول لم يكن معصوماً فيما هو خارج الوحي والتكليف الإلهي.. ونموذج ذلك ما جري في غزوة أحد.. ونعرف أنه بعد إحدي الغزوات وقف الرسول يوزع الغنائم فقال له أحدهم: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، ونعرف كذلك من السيرة النبوية أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ مر بلحظات يأس شديدة (ربي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي) وشعر بالإحباط في بعض المواقف، لكن شيئاً من هذا لن نجده في سيرة حسن البنا، هو في نظر نفسه وفي نظر جماعته «الإنسان الكامل» وقد يزيد عن ذلك بكثير وكثير عند بعضهم.

هذا كله يزيد عبء الباحث، خاصة أن الجماعة لا تسامح مع أي انتقاد للمرشد المؤسس وتمارس ضغطاً معنوياً رهيباً علي أن يحاول الاقتراب من الكتابة بغير انبهار، لذا لم نجد تعاملاً علمياً حقاً مع حياة البنا إلي اليوم، مثلاً هو يذكر أنه لم يكن قد أتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن الرابعة عشرة بمدينة المحمودية، وهي سن متأخرة ليتم الطفل حفظ القرآن الكريم فيها، ففي ذلك الوقت كانت السن النموذجية لحفظ القرآن هي التاسعة من العمر، إن كان الطفل متميزاً، وبعد ذلك بعامين للطفل العادي، أما ما دون ذلك فيعني أن الطفل ليس مهتماً بالحفظ أو ليس نابهاً، وبمعني آخر قد يكون «لعبياً»، أي يفضل اللعب عن المداومة علي الحفظ وربما كان «بليداً» بالفعل، وهي درجة من درجات الكسل العقلي.. تري ماذا كان عليه الطفل حسن، وما الذي أخره هكذا في حفظ القرآن الكريم، حتي أنه حفظ ثلاثة أرباع القرآن فقط في تلك السن، ألا ينفي ذلك عنه ما ذكره هو من اهتمامه البالغ بنشر التدين منذ الطفولة وتشكيل جمعية لإكراه الناس علي ذلك؟!

نعرف أن حسن البنا الذي ولد سنة 1906، كان الابن «البكري» لوالديه، ومثل هذا الابن يكون ـ غالباً ـ مدللاً في طفولته، هو مناط بهجة الوالدين والأهل جميعاً، فهل كان حسن مدللاً في طفولته، وهذا ما جعله يتأخر في حفظ القرآن الكريم، عن مناظريه من أبناء جيله. طه حسين، ولد في نوفمبر 1889 وفي سنة 1900 كان قد أتم حفظ القرآن الكريم، رغم أنه كان ضريراً، وكانت ظروفه بالكُتاب تعسة للغاية.. فما بالنا بمن لم يكن كذلك؟! عموماً هو يحدثنا عن تلك التجربة بأنه كان في «كُتاب» الشيخ محمد زهران أو ما يسميه هو «مدرسة الرشاد» وأنه قضي بها أربع سنوات من الثامنة وحتي الثانية عشرة، ثم ترك الشيخ المدرسة وانشغل بأمور أخري، لكنه عهد بها إلي غيره من «العرفاء»، فلم ينسجم معهم، ولذا قرر أن يترك هذه المدرسة، رغم أنه كان قد وصل في الحفظ إلي سورة الإسراء فقط، أي نصف القرآن الكريم تقريباً، مما أثار حزن والده، لكنه تعهد له أن يتم الحفظ مع نفسه وفي المنزل!! والواقع أن أربع سنوات كانت كافية جداً للطفل لكي يتعلم حروف الهجاء نطقاً وكتابة ثم ينطلق إلي كتاب الله حفظاً، وتكون القدرة علي الحفظ كبيرة في السن الصغيرة، نشعر في رواية حسن البنا بأن هناك شيئاً غامضاً أو غير واضح، هو يوجز بشدة ولا يقول كل شيء.. فحتي التحاقه بمدرسة المعلمين بدمنهور لم يكن قد أتم حفظ القرآن الكريم، رغم أنه كان قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره بنصف عام.

يذكر البنا أنه ترك الكتاب والتحق بالمدرسة الإعدادية، كان ذلك وعمره 12 عاماً، أي نحو سنة 1918، ونعرف من تاريخ التعليم أن نظام الإعدادية أدخل في التعليم بعد ثورة 1952، علي عهد الوزير كمال الدين حسين، أما قبلها فكانت هناك المدارس الإلزامية والابتدائية ثم الثانوية وبعدها التوجيهية، صحيح أنه يستدرك ويقول: «والمدرسة الإعدادية ـ حينذاك ـ علي غرار المدرسة الابتدائية اليوم بحذف اللغة الأجنبية وإضافة بعض مواد القوانين العقارية والمالية وطرف من فلاحة البساتين، مع التوسع نوعاً في دراسة علوم اللغة الوطنية والدين»، ويكرر بعد ذلك أن «الغلام» كان طالباً بالمدرسة الإعدادية، هو هنا يتحدث عن نفسه، ونلاحظ أن مواصفات المدرسة التي يتحدث عنها تنطبق علي المدرسة الإلزامية، فلماذا ذكر الإعدادية، ولم يذكر الإلزامية؟ كان المعروف أن المدارس الإلزامية للتلاميذ الفقراء، وكانت ـ علي الأغلب ـ بلا مصاريف، أما المدارس الابتدائية التي كان يتعلم بها الطفل اللغة الإنجليزية والحساب فكانت بالمصاريف، وكان معروفاً أن المدرسة الإلزامية تقدم تعليماً محدوداً، يتيح لمن يتخرج فيها أن يعمل موظفاً بسيطاً أو عاملاً، ومن الناحية الاجتماعية كان التعليم بحق في الأزهر أو في المدارس الابتدائية، وهو كانت لديه عقبة في الذهاب إلي الأزهر وهي أنه لم يتم حفظ القرآن الكريم، أما الابتدائية فتحتاج مصاريف، ونعرف أن والده كان فقيراً وكان كثير الإنجاب، تري هل وجد المرشد العام وهو يكتب سنة 1943 عن نفسه أنه لو ذكر حقيقة المدرسة الإلزامية فإن ذلك يحط من قدره ومن قيمته؟ وهل أراد أن يتهرب من تلك الحقيقة، فاخترع مقولة المدرسة الإعدادية؟! الطريف أنه فيما بعد وهو في «دار العلوم» يتحدث عن أخيه عبدالرحمن الذي أنهي الدراسة بالمدرسة الابتدائية، وكان عليه أن ينتقل إلي القاهرة ليدرس الثانوية، دون ذكر لحكاية الإعدادية.

وهناك واقعة ترد في مذكرات الدعوة والداعية، تفرض علينا التعامل مع المذكرات بحذر علمي، فهي ـ كما ذكرت من قبل ـ مكتوبة لجمهور التابعين والمبهورين ومقصود بها تضخيم الذات، الواقعة تتعلق بزيارة علي بك الكيلاني ـ مراقب التعليم الابتدائي للإسماعيلية ـ وتوجهه إلي المدرسة التي كان يعمل بها حسن البنا مدرساً للخط العربي، طبقاً لما ورد في المذكرات فإن شكوي وصلت إلي إسماعيل صدقي (باشا) رئيس الوزراء من الإسماعيلية ضد حسن أفندي البنا، تتهمه بالشيوعية، وكان صدقي باشا جاداً في محاربة الشيوعية، فأحال الشكوي إلي وزير المعارف العمومية، ومن مسئول إلي آخر بالوزارة حتي انتهت إلي مراقب التعليم الابتدائي الذي كان عليه أن يحقق فيها بنفسه، فذهب إلي المدرسة وقابل البنا وقال له بالحرف الواحد: «جئت لأزورك زيارة شخصية فلا تعتبرها زيارة تفتيشية أو رسميات ولكن جئت لرؤيتك فقط، فشكرت له ذلك، وانتهزتها فرصة وقلت له: ذلك جميل يا سيدي ومن حقي عليك إتماماً للزيارة ورداً للجميل أن تزور بناء المسجد والمدرسة لتري بنفسك أثراً من آثار هذه الدعوة والجماعة فوعد بذلك آخر النهار.. وتمت الزيارة في الليلة نفسها واستمع إلي خطباء الإخوان، وقال كما يروي البنا في المذكرات: «عجيب، هذه أعجب مدرسة رأيتها»، ولم يتمالك نفسه بعد نهاية الخطب أن قام فتناول وساماً من أوسمة الإخوان، وكان شارة الإخوان إذ ذاك وساماً من الجوخ الأخضر كتب عليه الإخوان المسلمون، فلبسه وأعلن انضمامه للجماعة وحيا المجتمعين بكلمات طيبات».

ولدينا رواية أخري لزيارة علي بك الكيلاني، يرويها حسن البنا بنفسه، في رسالة بعث بها إلي والده، وقد نشر هذه الرسالة جمال البنا في كتابه «خطابات من البنا الشاب إلي أبيه»، والرسالة بتاريخ 22 شوال 1349 هجرية = مارس 1931، تبدأ الرسالة هكذا:

«سيدي الوالد المحبوب..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فلعلكم جميعاً بخير ما أحب لكم هناءة وغبطة.. عندي بشرتان أقولهما لكم مشفوعتين بحمد الله وشكره.. الأولي: أننا تسلمنا بقية المبلغ وهو 300 جنيه من الشركة» والمقصود هنا مبلغ التبرع من شركة قناة السويس، ولا نعرف هل هو بقية مبلغ الخمسمائة جنيه التي كانت تبرعاً لبناء المسجد، أم أنها تبرع آخر، خاصة أن مبلغ الخمسمائة جنيه كان المرشد اعتبره «دفعة أولي» أو بداية لتبرعات أخري تمناها، ما يعنينا في هذا السياق، البشري الثانية، لأنها تتعلق بزيارة علي بك الكيلاني، يقول لوالده في الخطاب: «إن سعادة مراقب التعليم الابتدائي علي بك الكيلاني زار الإسماعيلية، وزار المدرسة وكان له بها حفل تكريم حضره الأعيان والموظفون، وكنت خطيب القوم فسر الرجل سروراً جماً تضاعف بزيارته لي في الفصل، بما رأي من نظام ونشاط»، ويقول أيضاً: «ثم إنه زار في الليلة التالية المسجد ومدرسة التهذيب ومعه المأمور والمعاون ووكيل النيابة والناظر والمدرسون، فدهش لما رآه من نظام الجمعية والمسجد والمدرسة ووقع في دفتر الزيارة ثم انتقل هو والمدعوون إلي بوفيه شاي وتناول الشاي في حفل عظيم وخطب الإخوان خطباً وقصائد في الترحيب به فزاده كل ذلك وقام محيياً الجمعية والإخوان».

نحن ـ هنا ـ بإزاء رواية مغايرة تماماً، زيارة «البك» ـ كما في الخطاب، لم تكن للتحقيق ولا للمساءلة ولا لإبداء الإعجاب بالمدرس، الزيارة كانت للإسماعيلية وللمدرسة وكانت هناك حفلة لتكريمه معدة سلفاً وزيارته للفصل كانت بعد أن استمع إلي خطبة ألقاها المدرس أي أنها لم تكن واردة من قبل، ولا أنها زيارة للتحقيق وللمساءلة، ولو كانت للتحقيق لم يكن ليصحبه فيها الأعيان وكبار الموظفين.. ولو كانت زيارة للمساءلة لوقع أوراقاً أو كتب نتيجة التحقيق ولا تتخذ أي قرار أو ترك وصية للناظر، ولنقل تعليمات إليه، لكن كما هو واضح من الخطاب أنها زيارة تكريمية معدة سلفاً، للمراقب العام، وأن البك خطط من قبل لزيارة المدينة والمدرسة ولم تكن «زيارة مفاجئة»، ولم يرد في الخطاب أن البك بادر إلي الانضمام للجماعة، بل إنه تناول شارة الجماعة وارتداها تلقائياً.. كما ذكر البنا في المذكرات.. ويعقب جمال البنا بعد نشر الخطاب بالقول: «وقد أصبح الأستاذ علي الكيلاني بعد ذلك من الإخوان» وبالتأكيد لو أن البك انضم إلي الجماعة وهو في الإسماعيلية لأخبر حسن البنا والده في خطابه، فلم يكن يخفي عنه شيئاً.. وكان يتفاخر في رسائله إليه بما يحققه وينجزه، والآن.. ونحن بإزاء روايتين لواقعة واحدة، بينهما تباين كبير واختلاف شديد، والراوي في الحالتين هو حسن البنا.. فأي الروايتين نأخذ وأيهما نستبعد؟ المعني المهم هو أننا في تاريخنا ودراستنا لحياة ومسيرة حسن البنا، نقع أسري أحادية المصدر ـ غالباً ـ وهذا المصدر هو حسن البنا نفسه.. ومن أسف أن خطابات حسن البنا وأوراقه الخاصة في حوزة نجله إلي الآن، ولم يتح لأحد الاطلاع عليها ولا هو نشرها، هكذا قال جمال البنا في كتابه «خطابات حسن البنا الشاب إلي أبيه».

المذكرات تمتلئ إعجاباً بالذات، بل امتناناً، والغريب أن الجميع أخذوا كل ما بها باعتباره حقيقة لا تقبل أي شك أو حتي مساءلة، مثلاً يحكي البنا حين ذهب إلي الإسماعيلية وأخذ يلقي الدروس بالمقاهي فيقول عن نفسه: «كان المدرس دقيقاً في أسلوبه الفريد الجديد، فهو يتحري الموضوع الذي سيتحدث فيه جيداً (......) وهو كذلك يتحري الأسلوب فيجعله سهلاً جذاباً مشوقاً».. ألم يكن الأجدي أن يترك هو للآخرين أو لجمهوره والمستمعين إليه أو من يتابعونه أن يطلقوا عليه هذه الصفات؟!. وفي سياق آخر، يتحدث عما قام به تجاه أهالي الإسماعيلية أو بعضهم، ولنتذكر أنهم مسلمون موحدون، يقول: «سلك بهم المدرس مسلكاً عملياً بحتاً، إنه لم يعمد إلي العبارات يلقيها أو إلي الأحكام المجردة يرددها، ولكن أخذهم إلي الحنفيات تواً، وصفهم صفاً ووقف فيهم موقف المرشد إلي الأعمال عملاً عملاً، حتي أتموا وضوءهم ثم دعا غيرهم، ثم غيرهم، وهكذا أصبح الجميع يتقنون الوضوء عملاً».

تري هل مطلوب منا أن نصدق ونقتنع بأن مواطنين مسلمين يعيشون في بلد مسلم بحاجة وهم في سن متأخرة إلي من يعلمهم الوضوء أو إتقان الوضوء؟!».

ويحاول أن يمنح نفسه صفات أخري، مثلاً حين كان يتهيأ لامتحان التقدم إلي دار العلوم، وكان قلقاً بشدة من امتحان النحو والصرف، فلم يكن درسه دراسة منتظمة، صحيح أنه حفظ الفقيه ابن مالك، لكنه قلق، فهو لا يجيد قواعد النحو، ولنتأمل كيف تجاوز هذه العقبة يقول في مذكراته، إنه ليلة الامتحان نام، ورأي رؤية خاصة حلت له المشكلة: «رأيت فيما يري النائم أنني أركب زورقاً لطيفاً مع بعض العلماء الفضلاء والأجلاء يسير بنا الهوينا في نسيم ورخاء علي صفحة النيل الجميلة، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء، وكان في زي علماء الصعيد، وقال لي: أين شرح الألفية لابن عقيل؟ فقلت: ها هو ذا، فقال لي: تعال نراجع فيه بعض الموضوعات، هات صفحة كذا، وصفحة كذا، لصفحات عينها، وأخذت أراجع موضوعاتها حتي استيقظت منشرحاً مسروراً، وفي الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات»، ثم ظهرت النتيجة ونجح!!! تري أي معني يصل للقارئ هنا، خاصة إذا كان تلميذاً أو دارساً؟!

في المذكرات نجد ما يمكن أن يعد خفة أو استسهالاً في استعمال الآيات القرآنية الكريمة.. من ذلك ما يرد حول شراء الأرض لبناء مسجد للجماعة بالإسماعيلية، والذي حدث أنه وجد قطعة من الأرض وأعلنت الجماعة أنها سوف تشتريها أو تقبل التبرع، كانت القطعة ملك الحاج علي عبدالكريم ويصفه بأنه «كان صالحاً يحب الخير»، لذا تبرع بقطعة الأرض وكتبوا معه عقداً ابتدائياً بالتنازل عنها، ولكن «أخذت عقارب الحسد والضغينة تدب في نفوس ذوي الأغراض» وما أن علموا بأن الشيخ علي عبدالكريم تنازل عن قطعة الأرض حتي ضيقوا عليه الخناق وملأوا نفسه بالوشايات والدسائس.. (...) فكانت فتنة انتهت بأن سلمته ورقة التنازل عن طيب خاطر ووجدوا قطعة أرض اشتروها ودفعوا ثمنها، نحن إذن بإزاء رجل تبرع ثم قرر التراجع أو لعله طلب ثمناً لها، وهذا وارد وربما كان متوقعاً، ويستعرض البنا ما قيل عنهم إبان تلك الأزمة: «راحوا يصورون الدعوة والداعية للناس بصور شتي: فهم تارة يدعون إلي مذهب خامس وهم أحياناً شباب طائش لا يحسن عملاً ولا يؤمن علي مشروع، وهم أحياناً نفعيون مختلسون يأكلون أموال الناس بالباطل وهكذا..» وإذا كان الأمر كذلك لما وجدوا من يبيعهم قطعة أرض ولوجدوا معارضة في بناء المسجد، المسألة ببساطة ـ كما هو واضح ـ أن المتبرع لم يقتنع وسحب تبرعه، لكن المرشد العام لا يضعها في هذا السياق، فحين راح يرويها في مذكراته بدأ الحديث عنها هكذا «ولكن دعوة الحق في كل زمان ومكان لابد أن تجد لها من المعارضين والمناوئين من يقف في طريقها، ويعمل علي معاكستها وإحباطها، ولكن النصر لها في النهاية، سنة الله (فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً) (فاطر: 43) (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفي بربك هادياً ونصيراً) (الفرقان: 31) (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) (الأنعام: 112) (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمني ألقي الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) (الحج: 52)».

هذه الاستشهادات القرآنية استشهد بها المرشد المؤسس في واقعة سحب المتبرع تبرعه.. ومعني هذا الاستشهاد أنه يضع نفسه في مصاف الأنبياء الذين نزل فيهم قول الله تعالي في الآيات السابقة.. وأن الذين يعترضون علي دعوته وجماعته هم من المجرمين ومن الشياطين.. والواقع أن هذا استسهال بالغ، فلا هو في مكانة الأنبياء ولا خصومه من الشياطين وليسوا مجرمين، والاستشهاد والقياس خاطئ تماماً، لكن خطورة هذا الخطاب أنه انزلق منه إلي أتباعه وإلي غيرهم، فصارت آيات القرآن الكريم تُستعمل في غير سياقها، ويضفي البعض علي نفسه هالة من القداسة ويتم شيطنة المخالفين لهم ومن ثم تكفيرهم، وما بعد ذلك يكون مجرد نتيجة فقط.

هذه الصورة شبه المقدسة التي يرسمها المرشد لنفسه في مذكراته، تفتقد إلي التضاريس الإنسانية البسيطة من غضب وفرح.. حب وكره.. انفعال وفتور وغير ذلك، مما يصاب به البشر أجمعون، كبيرهم وصغيرهم، وهي صورة ليست حقيقية، الصورة الحقيقية نجد شيئاً منها في بعض الرسائل التي بعث بها المرشد المؤسس إلي والده، فور وصوله الإسماعيلية، ونشرها جمال البنا، واحدة من هذه الرسائل كان يتحدث فيها عن مصاريفه الخاصة لمدة ثلاثة أشهر، وضع مفردات الإنفاق، ويبدو أن والده كان غاضباً منه ووالدته كذلك، لأنه كان من المفترض أن يرسل إليهما مبلغاً من راتبه الشهري، ولم يتمكن من الوفاء بذلك، ويتوقع جمال البنا أن تكون الرسالة قد كُتبت في أواخر سنة 1928 أو بداية سنة 1929، يفيدنا هنا منها بعض الجمل مثل «وعلي كل حال الذي يهمني راحتكم مهما كلفني ذلك، وسأفصل لكم في هذا الخطاب حساب ثلاثة أشهر مضت هي نوفمبر وسبتمبر وأكتوبر، أي منذ فارقتكم لتعلموا أنه ليس في تصرفي شيء من الإسراف ولا الخفاء ولا الاستبداد برأيي، وإنما أنا مساق بقوة الظروف التي لا تُغلب، وإذا كانت ظروفي هكذا فما ذنبي أنا».

وكان بين مصاريفه مبلغ خمسين قرشاً كتب أمامه عبارة «لمسجد الراشدين»، ويقول للوالد عنها: «وإن كان يؤلمكم الخمسون قرشاً التي دفعت في المسجد فقدروا الظروف التي تورطت فيها لدفعها وقدروا أجرها»، والواضح أنه كان قد تبرع بها، ويقول له كذلك :«ذلك يا سيدي حساب ثلاثة أشهر أتقدم إليكم أدق من الشعرة، فإن كان لا يروقكم فما ذنبي أنا فلتسألوا الله أن يحور هذه الظروف».

في هذه الرسالة نحن أمام إنسان حي.. من دم ولحم، لديه أزمة اقتصادية خانقة حتي إنه يقول: «واقترضت من مال الجمعية جنيهاً آخر وهي تمام المنصرف»، وسبب هذه الأزمة يعلنه لوالده وهو يقدم له قائمة المصاريف: «لست أغشكم أو أكذب في هذا» ويقول في رسالة أخري لوالده بتاريخ 26 نوفمبر 1928: «أنا الآن لا أسهر في الخارج قطعياً وفقط سأجعل ليلتين في الأسبوع أدرس فيهما بعد العشاء في مسجدين»، والواضح أنه كان كثير السهر وأن والده لم يكن مستريحاً لذلك، أو لعله أنبه علي طول السهر خارج البيت، لكن هذه الصورة الإنسانية جري طمسها، والمرشد نفسه هو من طمسها، فقد قدم صورته الأسطورية أو الربانية التي يريدها في مذكراته، وباتت هي الصورة الوحيدة والأحادية له.. لذا نعيد التساؤل من جديد: هل تصلح هذه المذكرات وحدها لتقديم صورة المرشد المؤسس حسن البنا؟ والإجابة القاطعة هي النفي.. لكن واقع الحال يقول إنه المصدر الوحيد المتاح والمعتمد والمسلَّم به لذلك، وأي محاولة للخروج عليها محفوفة بالمخاطر.. وأمامنا نموذج وحيد حامد، فقد اعتمد علي هذا المصدر الوحيد والأحادي.. ومع ذلك يواجه بدعاوي قضائية واحتجاجات بالغة.

الدستور المصرية في

01/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)