حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ملف خاص عن فيلم داود عبدالسيد الجديد "رسائل البحر"

رسائل السينما المصرية ..

الرقابة أكثر انفتاحاً لكن العيون المتربّصة تزداد تشدّداً

القاهرة ـ حمدي رزق

نعم انقرضت الرسائل الورقية او كادت مع الانتصار النهائي للبريد الالكتروني، غير ان الوسائط الالكترونية وحدها لا تغني عن الاحتياج الى رسائل انسانية كبيرة، يجب أن يحملها جناح الطائر الحر، لتصل الى وجدان الناس وتجد مكانا مقدرا من عقولهم.

هكذا تسير السينما المصرية هذه الأيام. سينما يبدو أنها تتعافى، فإن كان مقياس النهوض السينمائي في مصر دوما هو مدى جودة الأشرطة المقدمة، من حيث كونها تعبر عن آلام الواقع وهمومه وأحلامه والمسكوت عنه فيها، فان عددا ليس بقليل من أشرطة الموسم الراهن والذي قبله، تحمل قيمة سينمائية أنعشت قلوب النقاد ومحبي السينما الذين طالما أُحبطوا بأشرطة تافهة واحيانا مسفة متدنية انتشرت في السنوات الماضية.

أشرطة بالغة الأهمية طرحت في دور العرض المصرية مؤخرا هي «رسائل البحر» لداود عبد السيد و«كلمني شكرا» لخالد يوسف و« ولد وبنت» للمخرج الشاب كريم العدل، وسبقها الى العرض شريط «أحاسيس « الذي يضم حشدا نسائيا غير مسبوق (علا غانم وراندا البحيري وعبير صبري واللبنانيتين مروى وماريا) والذي كتبه و أخرجه هاني جرجس فوزي.

أشرطة تتنوع في الرسائل التي تبثها للجمهور عامة ومثقفين بين الحديث في مصير الانسان وفكرة وجوده وبين الحديث في المسكوت عنه من أمر الجنس وبين العشوائيات وما يحصل بها والحب وكيف صار المجتمع ينظر اليه هذه الايام.

رسائل البحر

وسط كم هائل من الاشرطة المبتذلة،عاد المخرج والكاتب المبدع داوود عبد السيد برائعة جديدة اسمها «رسائل البحر»، بعد غياب 7 سنوات منذ رائعته الأخيرة «أرض الخوف» مع الراحل أحمد زكي، ليحمل بعودته آخر ما تبقى من رائحة العملاق الأسمر الذي كان من المفترض أن يجسد دور «يحيى - آسر ياسين» في الشريط، بينما كان من المفترض أن تجسد هيفاء وهبي دور «نورا - بسمة» ليضعنا الشريط أمام مباراة متعددة الأطراف.. بين أسطورة رحلت، وموهبة فذة وُلدت للتو.. بين أشرطة تحمل ألفاظاً خادشة للحياء ومتاجرة بآلام الفقراء، وأخرى تحمل معاني راقية وفكرا عميقا ورسالة لكل الجمهور، مهما اختلفت عقلياتهم وثقافاتهم.. !

أجمل ما في «رسائل البحر» أنه يختلف في بنائه الدرامي عن كل القوالب السينمائية المتعارف عليها، فلا تجد في بدايته «الخطفة الأولى» التي غالباً ما تكون جريمة قتل، أو مطاردة سيارات، وغيرها من التفاصيل التي يستعين بها المخرجون لتشحذ الأذهان وتسرق الألباب منذ أول دقيقة في الشريط؛ لضمان السيطرة على المُشاهد، ولا تجد بعدها النداء الذي يأتي للبطل حتى يصل من خلاله لعقدة السيناريو، قبل أن تحدث المواجهة التي يعاني فيها وينهزم ثم ينهض مجددا ليقف على قدميه وينتصر، أو على الأقل يحل العقدة. بل إن رسائل البحر كله عبارة عن عقدة كبيرة لا تعرف من أين بدأت ولا كيف ستنتهي، ونداء خفي تستشعره في كل مشهد وكل كلمة، ورسالة مطاطة تحمل بين طياتها كل الكلام بكل اللغات، لتصلح لكافة العقول والقلوب، حتى أنك تجد نفسك تشعر أن الرسالة موجهة إليك أنت بالذات.. فالفيلم لا هو رومانسي، ولا أكشن، ولا تراجيدي، ولا حتى ميلودراما، بل ملحمة فلسفية تحمل بصمات داود عبد السيد المميزة، لتغوص في أعماقك وتعيد إلى عقلك الباطن تساؤلات عديدة لطالما سألناها لأنفسنا دون أن نجد لها إجابة.

لماذا يُخلَق أحدنا مريضاً والآخر سليما؟ لماذا يحسد الضعيف القوي على قوته، بينما يحسد القوي الضعيف على عقليته؟ ما هو المعيار الذي يوزّع به الله الأرزاق على البشر؟ وغيرها من الأسئلة الكونية التي طرحها عقل آدم منذ بدء الخليقة، وسيظل البشر يرددونها طوال الوقت، حتى آخر نفس يخرج من آخر شخص على وجه الكرة الأرضية،من دون أن يصل أحدهم للإجابة الحاسمة. من هنا تأتي عبقرية الشريط الذي يجتهد معك دون أن يعدك بالوصول لحل نهائي، فتتفق مع آرائه في بعض المشاهد، وتختلف معها في بعضها الاخر، بينما تجد نفسك حائراً لا تملك حق القبول أو الرفض في البعض الثالث!

أروع ما في هذه الاجتهادات أنها قُدّمت من خلال نماذج حية في شخصيات تقسم وأنت تشاهدها أنها ليست مجرد «كاركترات»، بل بشر حقيقيون من لحم ودم مثلك تماماً، لتنسى تماماً تلك الشاشة التي تفصلك عنهم، وتظن أنك تطل عليهم من خلف لوح زجاجي يعيشون خلفه. بل تشعر أنك لو كسرت هذا الحاجز الزجاجي لوجدتهم خلفه بنفس ضحكاتهم، ودموعهم، وصراعهم مع الحياة..

فـ«يحيى - آسر ياسين» ذلك الطبيب الذي ترك الطب بسبب سخرية المجتمع من مرضه بتأخر الكلام و«التأتأة» قبل أن يعمل صياداً يصطاد من البحر ما رفض الآخرون أن يمنحوه إياه، و«نورا - بسمة» تلك الزوجة الثانية التي يعيش معها زوجها كأنها عشيقته التي يقابلها في السر وممنوع أن تحمل منه، أو يعرف أحد بأمر زواجهما، فتتنكر في دور العاهرة لتتسوّل الحب من الشخص الشريف البريء الوحيد الذي قابلته، و«قابيل - محمد لطفي» ذلك الملاكم القديم الذي يعمل «بودي جارد» رغم أنه أقسم ألا يضرب أحداً مهما كان، فيكتشف أنه مصاب بصرع يستدعي إجراء جراحة عاجلة حتى يشفى، لكن هناك احتمال أن يفقد ذاكرته بالكامل بعد انتهاء العملية، و«بيسة - مي كساب» تلك الراقصة الشعبية البسيطة التي لا تعرف ماذا تريد من الحياة، و«الحاج هاشم - صلاح عبد الله» صاحب البيت الذي يدَّعي التدين والإيمان بالله، لكنه مثل القطار الذي لا يتورع عن دهس أقرب المقربين إليه إذا كان في «فرمهم» مصلحته والوصول لمحطته التي يود الوصول إليها، وغيرها من الشخصيات التي لا يمكنك أن تحكم عليها حكماً نهائياً بالصلاح أو الفساد.. هم نحن بكل التناقضات التي نعيشها، وأراهنكم القول أننا دائماً ما نسأل أنفسنا: هل نحن صالحون أم فاسدون؟

الشريط غنيّ بالجمل الحوارية العميقة التي تستوقفك كل جملة منها لتتمنى لو أنك أوقفت الشريط لتفكر فيها بعد أن قرعت جرساً قوياً في عقلك. وقبل أن تصل للتحليل والفهم الكامل تباغتك جملة أخرى بتأثير أقوى وأعمق ليتقاذفك الحوار بين ثناياه، وتتلاعب بك الجمل البصرية ذات الدلالات السهلة الممتنعة التي تستخدم أبسط الأدوات لتحقيق أعمق الإيحاءات والمعاني، ويبهرك الأداء التمثيلي العالمي لكل الفنانين سواء من قام بالبطولة، أو الأدوار الثانية، أو حتى الثالثة، لتذوب ذوباناً في كوكتيل إنساني فني غني بما هو أرقى وأكبر من الكلام، ليأخذك الشريط على مدار ما يقرب من ساعتين وربع إلى عالم آخر لا تعرفه، رغم أنك تدرك أنه يدور في مدينة الإسكندرية التي يعرفها كل سكان مصر. لكنها أبداً لم تكن الإسكندرية التي عرفناها من قبل! هؤلاء هم البشر الذين يفقدون أشياء كانوا يظنون أنها أغلى ما يملكون، فيتمردون على القدر، فإذا بالأيام تخبرهم أن فقدهم لما كانوا يظنون أنه أعز ما يملكون، هو السبيل للوصول إلى السعادة الحقيقية التي كانت غائبة عنهم !

وبين هذه السطور الفلسفية في شريط داود عبد السيد تخرج قضايا كبرى: كوزموبوليتية الاسكندرية التي تغيرت الى محلية ممزوجة بالسلفية في بعض الاحيان، وقضية نظرة الرجل الى المرأة في المجتمع الشرقي وغيرها من القضايا التي فتحت النار على داود وشريطه هذا من قبل التيارات المتشددة التي استخدمت الانترنت ولاسيما موقع فيس بوك منصة لاطلاق صواريخها ضد هذا الشريط..!

ولد وبنت

هل الحب عورة يجب سترها؟

هذا هو سؤال الشريط الجديد « ولد وبنت « الذي غامر منتجوه من آل العدل بإنتاجه معتمدين على وجوه لم تظهر على الشاشة الكبيرة من قبل ابطالا لشريطهم هم آية محمود حميدة ابنة الممثل الشهير محمود حميدة مع مريم حسن وأحمد داود.

تدور أحداث الشريط في قالب رومانسي حول ولد وبنت نشأت بينهما قصة حب منذ الطفولة وحتى سن النضج، وعندما يتقابلان بعد عدة سنوات يتذكران الماضى والظروف التي مرت بهما.

تعرض الشريط لهجوم عنيف قبل عرضه حيث تم تدشين غروب على الفيس بوك بعنوان «ضد أفيش ولد وبنت .... لا للإباحية»، داعيا لمقاطعة الشريط الذي يدعو من وجهة نظرهم إلى الإباحية، وسرعان ما صارت 12 غروبا مضادا لهذا الشريط.

اندهش صناع الشريط الشبان من الهجوم على الشريط بسبب الأفيش، فلا يمكن الحكم أبدا على شريط من الأفيش، فالشريط لا يحتوي مشاهد مثيرة أو ساخنة أو إباحية حتى تتم مهاجمته قبل عرضه، وعقدوا مؤتمرا صحافيا بالقاهرة يطالبون فيه من تسرعوا بالحكم على الشريط مشاهدته اولا..!

ولا حياة لمن تنادي، فولد وبنت أصابته حالة من التربص تطال عادة أشرطة السينما الجادة والمتميزة فقط. والغريب انها برغم كونها تتحدث باسم الفضيلة والاخلاق الا انها عادة لا تطال اية اشرطة تافهة او مسفة او حتى عارية وخادشة للحياء، وكأن الهدف ليس الا اسكات اي صوت حقيقي ومستنير للسينما المصرية. ولعل هذه هي اخطر رسالة يرسلها الينا شريط ولد وبنت !

أحاسيس وعشوائيات

من المؤكد ان فتح ملف الجنس وخصوصا لدى المرأة أمر ليس ميسورا في مجتمع شرقي، وخصوصا في سينما يتربص بها قطاع من المجتمع ..لكن هاني جرجس فوزي دأب على كتابة واخراج سلسلة من الاشرطة الجريئة التي تتناول أدق قضايا الانسان الشخصية.

شريط احاسيس الذي اضطلعت ببطولته نساء كثيرات من مصر ولبنان (علا غانم وراندا البحيري وعبير صبري واللبنانيتان مروى وماريا نالبنديان) أراد عامدا ان يقول ان النساء الشرقيات كلهن في الهم واحد!

تسرع كثيرون وحكموا على الشريط بالاباحية من دون مشاهدته ايضا، غير ان الشريط في مجمله لا يعدو ان يكون دعوة لمناقشة أدق مشاعر المرأة وأحاسيسها الجسدية والنفسية بصورة علمية. حتى ان فوزي امعانا في ايضاح هذا المقصد استحضر شخصية عبير صبري (الطبيبة النفسانية المختصة بعلاج الاشكاليات الجسدية ) في احداث الشريط ليؤكد للجمهور انه لا يروّج للاباحية، وهي شخصية شبيهة جدا بشخصية واقعية للطبيبة هبة قطب ذائعة الصيت فضائيا!

أغرب من الهجوم على أحاسيس الهجوم على شريط « كلمني شكرا «لخالد يوسف (بطولة غادة عبد الرازق وعمرو عبد الجليل )، والذي بادر البعض الى تقطيع اوصاله قبل ان يعرض، ربما لمجرد مشاهدتهم اعلان الشريط، او لمجرد ان رأوا اسم خالد يوسف على الافيش وهو الاسم الذي صار يثير جدلا كبيرا!

الشريط يتطرق الى رسالة مهمة حقا: من يستمع لهؤلاء الذين في قاع المجتمع، تحديدا في المناطق العشوائية؟ من يعطيهم « الميكروفون»، وإن أخذوه فماذا سيقولون؟

الحق ان اشرطة الموسم الاخير تبث رسالة جماعية بالغة الاهمية هي ان السينما المصرية استيقظت بالفعل من سبات عميق، وانها آخذة بفتح ملفات اجتماعية بالغة الأهمية، وان انفتاحا رقابيا غير مسبوق يفتح الباب على مصراعيه أمام هذه السينما لكي تضطلع بهذا الدور المستنير، الذي كان الأدب وحده يضطلع به في الفترة الماضية، غير ان القوى المضادة لهذا التوجه هي الأخرى يقظة وجاهزة لإسكات صوت السينما..وتلك هي المسألة!

المستقبل اللبنانية في

21/02/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)