حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان برلين السينمائي الدولي الستون

«القاتل في داخلي» المرشح لمسابقة مهرجان برلين

هفوة لمخرج كبير «بخصوص شقيقها» الياباني و«عائلة» الدانماركي..الموت بلغتين مختلفتين

نديم جرجورة

لم تكن الأفلام كلّها، المختارة رسمياً في الدورة الستين (11 ـ 21 شباط 2010) لـ «مهرجان برلين السينمائي (برليناله)»، ذات سوية واحدة. الميل كبير إلى لغة إبداعية آسرة. المواضيع المختارة مهمّة. في السياسة والحياة اليومية والاجتماع والعلاقات. في المشاعر والمواقف أيضاً. في التفاصيل العميقة للذات البشرية وأنماط عيشها وسلوكها. لكن «خروقات» عدّة حصلت. سقوط في العاديّ، أو ارتباك في المعالجة.

أبرز هذه الأفلام «القاتل في داخلي» للبريطاني مايكل وينتربوتوم (المسابقة الرسمية). بدا الفيلم، المقتبس عن رواية الكاتب جيم تومبسون (1906 ـ 1977)، لحظة انحدار في المسار الصدامي لمخرج جعل الشاشة الكبيرة مرآة واقع وأداة انتقادية حادّة له. وينتربوتوم (مواليد بلاكبورن/ لانكشاير، 19 آذار 1961) منتم إلى فئة المخرجين المناضلين. له أفلام سجالية عنيفة. من أفغانستان وتداعيات الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدّة الأميركية في الحادي عشر من أيلول («الطريق إلى غوانتانامو» في العام 2006 و«قلب عظيم» في العام 2007)، إلى تحليل آليات العمل الرأسمالي في المجتمعات الغربية (الفيلم الوثائقي «نظرية الصدمة» في العام الفائت). اشتغل لحساب التلفزيون. اختار السينما ملاذاً. لكن «القاتل في داخلي» أحد هفواته. أو ربما إحدى خطواته الناقصة.

عن الموت ومساراته

في المقابل، التقى فيلمان آخران في الحيّز الإنساني الشاسع للموت. ثقافتان مختلفتان عالجتا الموت وفضاءه الممتد من الحالة البيولوجية (مرض السرطان) إلى المناخ المفتوح على أسئلة معلّقة واحتمالات غير مؤكّدة. الفيلم الياباني من توقيع يوجي يامادا (مواليد تاكارازوكا/ كوبي، 13 أيلول 1931)، حمل عنوان «بخصوص شقيقها» (خارج المسابقة، عُرض في حفلة الختام). الفيلم الدانماركي من توقيع بيرنيلّي فيشر كريستنسن (مواليد كوبنهاغن، 24 كانون الأول 1969)، بعنوان «عائلة» (المسابقة الرسمية). المشترك بينهما كامنٌ في الموت جرّاء الإصابة بالسرطان. وفي أن المُصاب بالسرطان رجلٌ. في الأول، الرجل هو الخال. في الثاني، ربّ العائلة. في الأول، الرجل سكّير ومتشرّد. نزواته أقوى من سكينته. عشقه للتهريج الكوميدي مسيء إلى عائلته. مغرم هو بالحياة. لا يأبه بقيم، أو بتقاليد. منزو ومعزول. لكنه، عند اختراقه الحواجز الفاصلة بينه وبين الناس والأقارب، يُصبح رجلاً آخر. في الثاني، الرجل عاملٌ مجتهد. ورث تقليداً عريقاً في عائلته الممتدّة في التاريخ القديم. شهرته في مجال المخابز جعلت العائلة المالكة تعتمده مصدراً لها. حاد الطباع، لأن الفحوصات الطبية أثبتت إصابته، مجدّداً، بالسرطان. ظنّ، في البداية، أن الشفاء كبيرٌ. تزوّج بمن وقفت إلى جانبه. لم يطل عمر الفرح. الإصابة أشعلت في داخله نار الحقد والغضب. بات عنيفاً. لكن الفيلم ليس عن الإصابة وآثارها فقط، بل عن تداعياتها في أفراد العائلة. المحور الرئيس: ابنته الكبرى. لديها ميل إلى العمل في مجال الفنون والغاليريهات. صديقها فنان هو أيضاً. وافقت على عرض عمل في نيويورك. لكن إصابة الوالد عظيمة. موت الخال، في الفيلم الياباني، استدعى حالة تعاطف. موت الأب، في الفيلم الدانماركي، فتح أفقاً للبحث في معنى العلاقة والتضحية. الموت فظيع. تصوير المسار المؤدّي إليه، بمناخه الإنساني وتفاصيله البيولوجية وحالاته النفسية الخاصّة بالمريض وأفراد عائلته، مؤذ وقاس. لكنه تصوير جميل، سينمائياً.

في العام 1976، اختار المخرج بيرت كينيدي رواية تومبسون هذه، الصادرة في العام 1952، مادة درامية لفيلم أدّى ستايسي كيش دوراً رئيساً فيه. لم أشاهد النسخة السينمائية الأولى. لكن نسخة مايكل وينتربوتوم بدث ثقيلة، درامياً وبصرياً وأدائياً ومعالجة. الثقل هنا سلبي. التفسيرات المعطاة من قبل الشخصية الرئيسة لو فورد (كايسي آفلك) مسيئة للبنى الفنية والحكائية والسردية. الإمعان في الاستعانة بصوت راو، هو في الواقع صوت فورد نفسه، ضرب الفضاء الدرامي العام للحبكة. النصّ الأصلي منتم إلى «الرواية السوداء» (Roman Noir). يُفترض بالفيلم أن يستكمل هذا النوع، سينمائياً. بدا واضحاً أن خللاً فظيعاً حال دون تحقيق هذا الأمر. ضاع الفيلم بين تقنيات الفيلم التشويقي البوليسي والسرد الدرامي المشبع بمزيج التحليل النفسي والجريمة والجنس. الفيلمان الياباني والدانماركي مرتكزان على سيناريوهين أصليين. متعمّقان هما في الحالة النفسية الناشئة من وقوع المرض في منزلة التدمير الداخلي للفرد، وفي تفتيت العائلة أو إعادة توحيدها. بل في التفتيت وإعادة التوحيد في آن واحد. قسوة المرض لا تُحتمَل. الألم الجسدي لا يختلف عن الألم النفسي. الوجع الضارب في أفراد العائلة جرّاء المرض ودرب الموت، لا يقلّ قسوة عن الوجع الفردي للمريض. الدرب عنيفة. اللحظات السابقة للفظ الأنفاس الأخيرة مثقلة بكَمّ هائل من المشاعر، المصوَّرة ببراعة مؤثّرة. المضمون الحكائي الخاصّ بـ«القاتل في داخلي» محمّل بمثل هذا الكَمّ من المشاعر. الارتباك النفسي للو فورد أدّى به إلى ممارسة عنيفة للجنس. أفضت الممارسة هذه إلى القتل. إنه شرطي فاسد. القتل عنده ترجمة لمخاض غير مكتمل في ذاته. مخاض البحث عن خلاص من سطوة الماضي. القصّة عادية. عنف ممارَس على ولد صغير السنّ، مستمرّ في تعذيب الضحية حتى بلوغها سنّ الرشد. الخروج من المأزق صعبٌ. أو ربما مستحيل. التنفيس عنه يتّخذ شكلاً عنفياً. الضحية تصبح جلاّداً. اللعبة عتيقة. الجلاّد المولود من حالة الضحية أعنف من الجلاّد الممارِس عنفه عليه.

إضاءة مشعّة

لم تجد الأرملة بُدّاً من استلام زمام الأمور العائلية والمهنية، إثر وفاة زوجها، في «بخصوص شقيقها». الوفاة المذكورة غير ظاهرة في الفيلم. إنها الخلفية. الأرملة مهتمّة بابنتها الوحيدة وبالعجوز/ الجدّة المقيمة معهما. شقيقها سكّير. حياته هامشية. إطلالاته مثيرة للمتاعب. الابنة تستعدّ للزواج. التحضيرات على قدم وساق. في العرس، يأتي الخال. يعد شقيقته بعدم الشرب. لكنها العادة، أو الإدمان. تخرّبت أمور عدّة. لكن الزواج نفسه لم يدم. والخال معذّب في سريرته. إدمانه قاس. عيشه مؤلم. أصيب بالسرطان. حضنته الأرملة بعد أن طردته من منزلها لمشاغباته التي لا ترحم. الالتفاف العائلي مضن. الكاميرا مشعّة بالتفاصيل الجانبية. مشعّة بإضاءتها الحادّة على مسارات الشخصيات ومصائرها. الموت ثقيل. تماماً كما «عائلة». هنا، سارت الأمور العائلية والمهنية بشكل طبيعي وجميل. حدث الانقلاب عندما ظهر المرض السرطاني في جسد الرجل مجدّداً. الأمور كلّها تبدّلت. طُرحت أسئلة: الحلم أم الواجب؟ الفرد وهواجسه الذاتية أم العائلة ومصالحها؟ القدر أم الواقع؟ الابنة الكبرى راغبة في استقلالية قرارها. وافقت على وظيفة في نيويورك. مغرمة هي بالعمل الفني. بالاشتغال في مجال الغاليريهات. الوراثة أساسية، بالنسبة إلى الأب. مهنة عمرها مئات السنين. يجب على الابنة الرضوخ. نزاع داخلي فيها بين رغباتها والواجب. هناك أسئلة متشابهة طُرحت على فراش الموت، في «بخصوص شقيقها». الواجب فرض على الشقيقة رعاية الذاهب إلى حتفه. سلبياته كلّها غابت عن بالها، لحظة معرفتها بمرضه اللعين. أسئلة مبطّنة عن العلاقات والأخوّة والقدر والتفاصيل وأنماط العيش والسلوك.

هذا كلّه غير مطروح في «القاتل في داخلي» لمايكل وينتربوتوم. أسئلته مختلفة، لكن المعالجة عاديّة للغاية. أكاد أقول سيئة. أسئلته مرتبطة بالنفس البشرية ومتاهاتها القاسية ومنحدراتها المخيفة. لكن السياق الدرامي محتاج إلى تأهيل جذري. إلى معالجة إخراجية أخرى، تتلاءم والمضمون العميق للتحليل المعتمد في الحبكة، المرتكزة على ثلاثية العنف والجنس والفساد.

(برلين(

السفير اللبنانية في

04/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)