حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

مهرجان برلين السينمائي التاسع والخمسون

Berlinale

2009

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

مهرجان برلين السينمائي في دورته التاسعة والخمسين بواقع مضطرب وأفلام جيدة

برلين ـــ من هوفيك حبشيان

الجرح الإيراني ينزف على شاطئ قزوين والإسلاموفوبيا في فيلم قوي لبوشارب

طبعة تقول كيفما تكن الحياة تكن السينما وتُري العالم مكاناً لا يحلو فيه العيش

تحفل الدورة الحالية من مهرجان برلين السينمائي (5 - 15 شباط) بما يسمّى في السينما الحديثة بـ"الأنتي هيرو" (بطل مضاد) وجبابرة من ورق تتأكلهم خشونة الزمن والإحباط المستديم والعيش على تخوم الموت. كيفما يكن العالم يكن الفن. وها إن السينما تقرر أن تستجيب الواقع، في طبعة هذه السنة، بمجموعة أفلام أمست لسان حال المآسي الخاصة والعامة والحروب والإخفاقات الإجتماعية والزوجية وجرائم الحرب من العراق الى البوسنة والهرسك، بالإضافة الى المصائب الصغرى في دائرة الفرد، والتي لا تقل أهمية عن القضايا المصيرية الكبرى، كمثل الموت البطيء على نار خفيفة في البلدان النائية والبعيدة، الى ما هنالك من الأشياء التي تجعل من كوكب الأرض مكاناً لا يحلو فيه العيش.

أمام هذا الواقع المضطرب، الذي يضرب البيرو وايران وبريطانيا العظمى وسردينيا ومانيلا وباريس، تضيق مساحة الأمل في الأفلام ويتحول الأبطال الى زومبيين او الى ظلال أو حتى أشباح. برتران تافيرنييه يكسر مع "في الضباب الكهربائي" صورة طومي لي جونز، الرجل الغاضب والدائم الحركة، جاعلاً منه شرطياً صغيراً لا يقوى حتى على قوّاد صغير في منطقته. هانز كريستيان شميت يجرجر محامية فيلمه "عاصفة" في متاهات الفساد القضائي حيث لا نصر الاّ نصر الفساد. في "المُرسل" يجعل أورن موفرمان الجنود الأميركيين العائدين من العراق يخفضون رؤوسهم حين يمشون في الشارع، وهي حالة مشابهة لحالة غاييل غارثيا بيرنال في "ماموث" للوكاس موديسون. أما جارا "جيغانتي" لأدريان بينييز، الموظف المتواضع في سوبرماركت، فلا يجد ما يفرغ فيه كبته الاّ المعلبات الغذائية، في المشهد الجميل حيث ينهال على الرفوف الممتلئة بالمنتوجات لحظة خروجه على طوره.

الدورة التاسعة والخمسون هي أيضاً دورة البحث المستمر: مجموعة ايرانيين يبحثون عن ايلي التي أخذتها أمواج بحر قزوين الغدار ولم تعد. محامية دفاع تبحث عن حقيقة ما جرى في جريمة حرب قذرة. أم وأب يبحثان عن ولديهما. تحرٍّ يبحث عن قاتل بالتسلسل. ثنائي يبحث عن معنى لوجوده. انها أيضاً طبعة العائلة والعلاقات المكلومة وأشياء كثيرة لا تزال رهن الإكتشاف. هنا قراءة في تسعة من أصل ثمانية عشر فيلماً (الترتيب بحسب الأفضلية) تتسابق لنيل جائزة "الدب الذهبي"، على أن نعود الى النصف الآخر، في مقالة نقدية مقبلة، فور الإنتهاء من مشاهدة ما تبقّى من البرنامج.

1 - "في خصوص ايلي"، لأصغر فرهادي.

من الأعمال التي نالت أعلى النقاط في تصنيفات نقّاد مجلة "سكرين انترناشيونال" في أعدادها الخاصة بالمهرجان. انه رابع الأفلام الروائية الطويلة للإيراني أصغر فرهادي والذي عُرض يوم السبت الفائت. وكان الشريط قد تعرض لحصار الحكومة الإيرانية، قبل ان يتدخل الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بنفسه لفك الحجز عنه، الأمر الذي يُعتبر سابقة في ايران. أما سبب امتعاض السلطة من الفيلم فهو أن غولشيفته فرهاني تمثل فيه. ومن تكون غولشيفته فرهاني هذه؟ هي بكل بساطة ممثلة ايرانية رائعة الجمال، وموهوبة كذلك، تجرأت على الاضطلاع بدور الممرضة التي يغرم بها العميل ليوناردو دي كابريو في آخر أفلام ريدلي سكوت، "أكاذيب سلطة" أو "كتلة أكاذيب"، من دون إذن، ومن دون أن تستشير أصحاب القرار في بلادها وتحظى بموافقتهم. نتيجة "تمردها" اللعين هذا كان من البديهيّ، في نظام مثل النظام الإيراني، أن تُتخذ في حقها أشد الإجراءات.

أياً يكن، يأتي الفيلم الى الـ"برليناليه" مسبوقاً بصيت كبير يساهم في ان يشق طريقه الى قلوب الغربيين. لكن عرض الساعة التاسعة صباحاً نسف كل الأفكار الجاهزة التي أحيطت بالفيلم. بضع دقائق كانت كافية ليصحو الصحافيون من نعاسهم الصباحي، أمام صورة لإيران التقطها فرهادي من زاوية عريضة، وهي تبدو "حديثة" جداً مقارنة بمجمل ما شاهدناه من أفلام ايرانية في السنوات الأخيرة. هذه الحداثة تشمل النصّ والمعالجة ونمط التصوير على حدّ سواء، والفيلم هو، في المحصلة النهائية، اقرب الى جعفر بناهي منه الى كيارستمي.

ماذا يحصل تحديداً في فيلم هذا المخرج المولود في اصفهان؟ مجموعة شخصيات تقدَّم الينا في البداية. تدخل الى الكادر وتخرج منه، من دون أن تتوضح العلاقة بينها الاّ رويداً رويداً وضمن كتابة سينمائية تتشكل جزئياتها الصغيرة أمام أعيننا. لنحو من ساعة تقريباً، نتعرف الى نساء وأولاد يشكلون نماذج مما هو عليه اليوم المجتمع الإيراني المنفتح على الكثير من المسائل الحياتية، مع المحافظة الغريزية على القيم "الكبيرة" لشعب عريق ذي ارث ثقافي ثقيل. وسنكون، نحن المشاهدين، شهود عيان في طبيعة الحال، على لحظات من الإنجذاب والتماهي مع هذه المجموعة التي تذهب لتمضية عطلة الويك اند، في منزل مهجور على احد شواطئ بحر قزوين. المناقشات ستأخذ مداها بوتيرة عالية، والضحك والرقص والأغاني ستتعالى، لنكتشف الرابط بين الشخصيات المختلفة...

من بين هؤلاء هناك أحمد، العائد الى إيران من ألمانيا، والى عزوبيته المريرة بعد ارتباط فاشل بألمانية. سيبيديه (فرهاني)، التي تولت تنظيم الإقامة، طلبت من مدرّسة ابنتها الصغيرة، المدعوة ايلي، أن تنضم الى الرحلة، من دون ان تخبر أحداً، في رغبة منها لتقريبها من أحمد، الذي يريد الإقتران من ايرانية هذه المرة. لكن هذا الفردوس الإيراني سينزل الى الجحيم، ما إن تتيه ايلي في امواج البحر الغدار، وهي تحاول اسعاف طفل من الغرق. الحادثة هذه ستأخذ الفيلم الى مكان لا عودة منه، ليتبين أن كل ما سبق الحادثة من مظاهر بهجة وودّ بين الشخصيات، ليس الاّ "مسرحية" تخفي الكثير من المرارة الدكناء. وهذا، في طبيعة الحال، سيشرع الباب على نزاعات بين الأزواج، وبين أطراف آخرين، وتُلقى مسؤولية غرق أو اختفاء ايلي على سيبيديه، وينهال زوجها عليها بالإهانات والضرب، وستنهار هالتها أمام الجميع.

وسيكتشف هؤلاء علاقة ايلي المتأزمة بعائلتها واخفاءها عنهم واقع انها مخطوبة من شاب آخر، الخ، وأكاذيب أخرى لا تعدّ ولا تحصى. هذا الخطيب يطل فجأة على المشهد، ويستدعى الى مسرح الحوادث المأسوية، لتضاف الى حلقة المصائب مصيبة جديدة. بنصّ بليغ في رصانته وكاميرا نشيطة في لملمة حركة الممثلين، يأتينا فرهادي بفيلم محكوم البناء منذ اللقطة الأولى. طوال أكثر من 45 دقيقة، يهيئنا لخطاب سينمائي غير مباشر عن المجتمع الإيراني الحديث، قبل أن يقلب الطاولة على رؤوسنا في الجزء الثاني الذي يعتمل إشارات واستعارات لا تُقرأ الاّ ما بين السطور.

2 - "نهر لندن"، لرشيد بوشارب.

من بين الأعمال التي تتسابق لجائزة "الدب الذهبي"، والتي عرضت على الصحافة حتى تاريخ كتابة هذه السطور، لا شك أن "في خصوص ايلي" هو الأقوى والأكثر تكاملاً، مع شريط آخر، "نهر لندن"، أنجزه المخرج الفرنسي من أصل جزائري رشيد بوشارب. بعد شريطه ذي الإنتاج الكبير وبالسينماسكوب، لا يُحرج بوشارب أن يجد موطئ قدم في عمل مصور بالـ16 ملم. اذاً، بعد "بلديون" الذي أضاء على دور الجنود الأفارقة المنسيين في تحرير فرنسا، ضمن إعادة احياء مشهدية للحرب مع ما يتضمن ذلك من معارك وإمكانات تجسيدية ضخمة، ها انه يأتينا بشيء حميمي الى درجة كبيرة: مأساة أمّ مسيحية وأب مسلم تفقد الأولى ابنتها والثاني ابنه في حادثة تفجير الباص الإرهابية التي استهدفت مدنيين في السابع من تموز 2005، في العاصمة البريطانية.

هنا، لا إعادة إحياء للعمل الإرهابي الذي قام به أربعة باكستانيين ـــ بحيث يكتفي النصّ باطلاعنا على المعلومات من خلال الشاشة الصغيرة وصور الأرشيف ـــ انما ثمة محاولة لتقريب الوجهات النظر بين عالمين، الأول إسلامي، متدين وغير متحضر في نظر الغرب، ومتهم بالعنف والإرهاب منذ الحادي عشر من أيلول، والثاني عنصري حيناً، وتافه أحياناً، ومتملق في كثير من الأحيان، لا عن سابق تصور وتصميم، إنما عن قلة معرفة بما هو بعيد عن ثقافته.

الفيلم دعوة الى ان يجلس الطرفان أحدهما مع الآخر، ذلك أن ما يجمعهما هو أكثر مما يفرقهما. على رغم ذلك، تبدو بدايات الإقتناع بهذا الواقع من سابع المستحيلات بالنسبة الى السيدة سامرز (أداء بارع لبريندا بليثين) التي ما إن تقع الحادثة حتى يلهمها قلبها بأن ابنتها جاين قد تكون من الضحايا. فتبدأ بحثها حتى تلتقي في طريقها ذات يوم السيد عثمان، وهو أفريقي جاء بدوره للبحث عن ابنه الشاب الذي لم يره منذ كان في السادسة. عنيف سيكون رد فعلها عندما تعلم أن جاين كانت تعيش مع ابن عثمان وتتعلم العربية وترتاد الجامع. "لماذا تحتاج الى العربية؟ من يتكلم هذه اللغة؟"، تصرخ السيدة سامرز في وجه المدرّسة التي تعلّم ابنتها اللغة العربية. وتقول في مكان آخر من الفيلم وهي تتحدث مع شقيقها عبر الهاتف: "لا يمكنك أن تتصور هذا المكان الذي أنا فيه الآن، وسط كل هؤلاء المسلمين". كلامها هذا لا ينم ربما عن تعصب أو خشية أو اسلاموفوبيا، إنما عن عدم احتكاك بهذا الطرف.

يميل الفيلم الى الأحاسيس والأفكار أكثر من الإتهامات والشعارات، ويجد ترابطاً بسيكولوجياً بين الدافع والنتيجة. برباطة جأش يحسد عليها، يخاطب بوشارب الغرب على قدم المساواة رافعاً الكلفة. يقتصد في استخدام الموارد السينمائية، ويخلص الى نتيجة سوية لكل من القاضي والمتهم، مانحاً عقدة الإسلاموفوبيا في المدن الأوروبية الكبيرة المزدحمة بالعرب فيلماً يحسم هذه المسألة، من دون تنازل او اذلال. وفي تقديري الخاص، فإن الفيلم هو الأقرب الى "الدب الذهبي" حتى الآن، وان تكن الأسباب التي قد تدفع ربما تيلدا سوينتون وأعضاء اللجنة التي تترأسها الى تتويج الفيلم تختلف عن أسبابنا نحن.

3 - "جيغانتي" لأدريان بينييز.

ضمن قائمة أفلامنا المفضلة في المسابقة الرسمية، يحتل "جيغانتي" للبيروفي ادريان بينييز المرتبة الثالثة، وهو أولى تجاربه السينمائية الطويلة. شريط مفعم بالحنان والرقة تجاه شخصيته الرئيسية: رجل أمن يحرس أحد متاجر المأكولات ليلاً ويراقب عمال التنظيفات على الشاشة التي امامه وهو يحلّ كلمات متقاطعة. حياة في منتهى البساطة والرتابة والملل لولا انجذاب رجلنا الى خادمة شابة فيتحول الإحساس الغريب الى هوس. هذه الشاشات التي تجسد لعنة وجوده، وهو مجبر على عدم صرف النظر عنها ما دام في الخدمة، هي التي ستهبه ربما الحب الذي كان في انتظاره دائماً. سيقتفي جارا خطى الفتاة عند خروجها من العمل، ويلاحقها بصمت اينما ذهبت، من دون التجرؤ يوماً على التقرب منها والكشف عن حقيقة شعوره ازاءها. الفيلم في جزئه الكبير هو عن هذين الملاحقة والهوس. عن التضاد بين رجل صاحب جثة ثقيلة وضخمة وقلب رقيق يريد أن يفلت مما هو فيه، أي من السيستيم الإستهلاكي المتوحش الذي حوّله منتوجاً بارداً، وينبغي له أن ينفذ الأوامر ولا يعترض. الجميل أنه لا يعرف أنه يريد الخروج على هذا السيستيم. لكن كل شيء يفعله، بدءاً من الشعور، هو ضد هذا السيستيم. كان يمكن جارا أن يقترب من جوليا (هكذا تدعى الخادمة)، وتحل العقدة، لكن المخرج يفضل أن ينهي حيث يبدأ معظم الأفلام.

4 -  "ماموث" للوكاس موديسون.

ببضع هيصات استهجان، استقبل الفيلم الجديد للمخرج الأسوجي لوكاس موديسون ("فاكينغ أمال"، 1998 - "ثغرة في قلبي"، 2004) في عرضه الصحافي يوم الأحد الفائت. فما من شيء أكثر ازعاجاً للشعوب المرتاحة والميسورة من أن يكونوا شهوداً لما يحصل في الجانب الآخر من العالم "المتحضر".  مشكلة "ماموث" الوحيدة انه يأتي من بعد "بابل" لايناريتو، اذ عقد كثيرون مقارنات بين الفيلمين. صحيح ان الفيلم يتشارك مع "بابل" في أشياء كثيرة، منها الطابع المعولم والوجع الذي يقع البعض في مخالبه، لكن "ماموث" فيلم قائم بذاته. وموديسون مخرج يعرف كيف يمسك بالوجع الإنساني، من نيويورك أولاً حيث طفل في الغيبوبة ومربية تركت أطفالها في بلادها في الشرق الاقصى لتؤمّن لهم ما يحول دون أن يبحثوا في النفايات عما يأكلون، الى الفيليبين ثانياً حيث فتيات صغيرات تجبرهن الظروف على بيع أجسادهن للسياح. شريط قوي، مليء باللحظات الوجدانية الكبيرة، يرينا في أي حال ينتهي قلم الماموث (المصنوع من انياب الفيلة) والذي يباع في الغرب بثلاثة آلاف دولار، في يد تاجر يشتريه من عاهرة فيليبينية بـ30 دولاراً! هذا فيلم ذو تركيبة معقدة جداً، يحيّر المشاهد في نصفه الأول، اذ لا نعلم في أي اتجاه يريد المخرج أخذنا، وعندما نصل لا نعرف كيف نعود.

5 - "المرسل" لأورن موفرمان.

ثمة شيء واحد أسوأ من الذهاب الى الحرب، هو أن تكون عسكرياً ومهماتك أن تأتي بأخبار الموت والوفاة من الجبهة لترسلها الى أهالي الضحايا، طارقاً بابهم وساحقاً قلوبهم بالجزمة العسكرية! هذه هي مهمة كلٍّ من الجنديين ويل وطوني اللذين يعودان الى الوطن بعدما حاربا في معارك طاحنة في الشرق الأوسط، ليبلغا، ببرودة وبروتوكول، خبر موت رفاق السلاح. واذا لم يجابها يوماً عدوهما وجهاً لوجه، لبقائهما في الخنادق، فها هما مضطران اليوم الى أن يطلا بلحمهما ودمهما أمام "أعدائهما" الجدد: الشعب الأميركي. هذا فيلم لمخرج اسرائيلي في الأربعين يحكي عن تداعيات حرب العراق على الداخل الأميركي من منظار آخر، يستحق أن يشاهد لصراحته في قول ما كان يخفى في عهد بوش على الشعب الأميركي. سينمائياً، يتفكك الفيلم تحت وطأة ثرثرة بعض المقاطع، لكنه يحمل في داخله وجعاً وتهكماً لا مثيل لهما.

6 - "شيري" لستيفن فريرز.

ما الذي يدفع بمخرج من طراز ستيفن فريرز، وبعد فيلم مثل "الملكة"، الى ان يعود الى حقبات قديمة ويقتبس كوليت؟ اذا كانت الأزمنة الحديثة لا تلهمه، فالحق أن بدايات القرن الفائت لا تحمل ايضاً اليه حظاً سعيداً، علماً أن "السيدة هاندرسون تقدم" (2005) و"علاقات خطرة" (1988) كانا جوهرتين صغيرتين، من توقيع سينمائي في أقصى درجات الإستلهام. تجري حوادث "شيري" في باريس زمن الـbelle époque: أزياء فاخرة، ديكورات مدهشة، حركات عظيمة للكاميرا، وممثلون، في مقدمهم ميشيل بفايفر، اختيار فريرز لهم موفق جداً، ولكن الكيمياء لا تمر بين كل العناصر، ولا بين الفيلم والمشاهد. الفيلم تجربة شفهية، والإخراج الذي يأتي به فريرز، على رغم عظمته، يبدو مقحماً، فلا يخدم رؤية سينمائية بقدر ما يوظف في سبيل المناظر الخلابة لفرنسا سابحة رومنطيقية كثيرة الحضور. على رغم ان فريرز لا يحتاج الى شهادة في هذا المجال، فأفلمة حقبة كالتي صوّرها، تجعلنا نرفع له القبعة، كمخرج يعرف أسرار الإخراج عن ظهر قلب.

7 - "عاصفة" لهانز كريستيان شميت.

خلافاً لعنوانه، لم يحدث فيلم كريستيان شميت الجديد عاصفة أو زوبعة في برلين، ولا نبالغ اذا قلنا انه مرّ من دون أن ينتبه اليه كثر. من موضوع مهم هو محاكمة مجرمي الحرب، حوّل شميت بورتريهاً لمحامية تسعى الى إدانة غوران دوريك، قائد سابق في الجيش اليوغوسلافي الوطني اعطى اوامر بقتل مدنيين. الفيلم برمته تجميع معلومات وقرائن وشهود لتركيب قطع البازل الناقصة. بعض المشاهد تفعل فعلتها في المتلقي، لكن المجمل يغرق في تعقيدات سيناريستية ومحاكمات طويلة، مما يثقل كاهل المضمون. طيف المؤامرة يخيم على الفيلم منذ اللحظة الأولى. اذا كان الثوب لا يصنع الراهب، فالقصة الجيدة لا تصنع فيلماً كبيراً.

8 - "في الضباب الكهربائي" لبرتران تافيرنييه.

هذه أيضاً حال فيلم "في الضباب الكهربائي" الذي يؤفلم بست سيللر جيمس لي بركس اعتماداً على سيناريو لجرزي وماري - أولسن كرومولوفسكي. وهل تخفى على أحد حقيقة ان الروايات الكبيرة لا تصنع في الضرورة افلاماً كبيرة. بيد أنه لا ينبغي الإعتقاد أن تافيرنييه أتم شريطاً سيئاً. المشكلة كلها أنه أنجز فيلماً بليداً وناقصاً عن تحرٍّ (طومي لي جونز) يطارد قاتلاً بالتسلسل، ويتعرض خلال التحقيق الى إهانات على أيدي رجال نفوذ (مشهد وقوعه على العشب ومكوثه عليه جراء ضربة يتلقاها على رأسه)، وتطوف ذكريات أليمة على سطح ذاكرته. في الرواية، تجري الحوادث في منطقة نيو أيبيريا (لويزيانا)، بداية التسعينات من القرن الفائت، لكن الفيلم يموضع الحوادث بعد كارثة كاترينا الحديثة العهد. بواقعية كبيرة يتعاطى تافيرنييه مع البيئة، ولا سيما لجهة التزامه لكنة المنطقة، لكنه لا يستغل الاّ جزئياً فكرة الضباب والمياه التي توقع الفيلم في فخ الفانتازيات العقيمة. يبقى طومي لي جونز، كهارب من فيلم أكشن، بملامحه القاسية ودور الـ"أنتي هيرو" الذي يلبسه مثل القفازات الجلدية.

9 - "كل الآخرين"، لمارن أديه.

ها نحن نصل أمام جسد غريب. ماذا يمكن القول عن هذه الدعابة الزوجية السمجة؟ بين رومير وبرغمان، لم تحسم مارن أديه أياً منهما تريد أن تقلّد. لهذا السبب قررت ربما أن تقلّد الاثنين معاً. النتيجة ساعتان ابديتان من "أي كلام" كما يقول المصريون، وذلك على خلفية صراع بين ثنائي يبحث عن ذاته ورغباته. توقعوا طوال مدة الفيلم صبيانيات حيناً على العشب وحيناً على الأريكة وحيناً حول مائدة. لا فرق عند أديه بين السينما والمسرح. ومن ساردينيا حيث تجري فصول من هذه "المسرحية"، تقرر الاّ ترينا الاّ شجيرات غارقة في الظلام او طريقا ترابيا. الأنكى أن يكون مثل هذا الفيلم في المسابقة.

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

لمحة

بادر ماينهوف، دوبارديو وميللر خارج المسابقة

بعد نصف قرن، بالتمام والكمال، على "الدبّ الذهبي" الذي ناله في برلين عن فيلمه "أولاد العمّ"، يعود المخرج الفرنسي كلود شابرول الى العاصمة الألمانية بفيلم "بيلامي" (برليناليه سبيسيال) حيث يلقي تحيتين مباشرتين، أو بالأحرى غمزتين، على اثنين يدعيان جورج: جورج سيمنون وجورج براسينس. يرتكز الفيلم على شخصية شرطي (جيرار دوبارديو)، ينتظر منه الجميع أن يفكّ ألغاز جريمة قتل، فيها الكثير من الخيوط المعقدة او الضائعة. في الواقع، يتعلق الأمر بجريمة متنكرة على شكل حادث سير، والهدف منها هو غش احدى شركات التأمين والحصول على تعويض مالي يتيح للمستفيد منه الهرب مع صاحبته حيث الشمس والقمر في سماء واحدة. لكن الخيانات في انتظار الجميع.

يحمل دوبارديو الفيلم على كتفيه، بتمثيل يعتمد في معظم الأحيان، على كاريزماتيته. سواء داعب زوجته وهمس في اذنها كلمات ناعمة، أم تعارك مع شقيقه مدمن الكحول، وشتمه، فنحن أمام كتلة جسدية مهيبة، تستمد شرعيتها وطرافتها من نصّ مكتوب على قياس ممثل جبار يردّ الصاع صاعين ولا يكتفي بما يملكه. أما "أستذة" شابرول فتتجلى في كتابة سينمائية سلسة وأنيقة لا تزال شابة ونشيطة في تعاطيها مع مختلف المسائل، ولو كان صاحبها قارب الثمانين.

دائماً من فرنسا، لكن في قسم "بانوراما"، هناك كاترين بريا التي قدّمت فيلماً ساحراً عن احدى الاساطير الشعبية. "الذقن الزرقاء" هو اسم الفيلم وأيضاً اسم احدى الشخصيات لحكاية خرافية درجت في فرنسا في منتصف الخمسينات من القرن الفائت. بريا يعريها من طابعها الطفولي، ويقدمها كقاتل بالتسلسل (وما المانع ما دام يقتل الفتيات دائماً)، مشيرة الى أقاصيص شارل بيرو، ومتسائلة عن الدوافع خلف الخوف!! أمّا من ألمانيا، فعُرض ضمن النظرة الملقاة على أهم الأفلام التي أنتجت طوال العام الماضي في السينما الألمانية، "عقدة بادر ماينهوف" لأولي أيدل، المرشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي. حظي الفيلم بالكثير من السجال لدى عرضه، اذ انه يخلط الأوراق في رأس المشاهد الغربي، ويعيد تركيب مفهوم الإرهاب. الفيلم، كما يشير اليه العنوان، هو عن ألوية الجيش الأحمر اليساري المتطرف الذي أرعب ألمانيا في سبعينات القرن الفائت. حقبة دامية من تاريخ هذا البلد ينقلها أيدل بأمانة عالية غير مسبوقة، اذ يقال إن عدد الرصاصات التي انهالت على احدى الضحايا في الفيلم يوازي عدد الرصاصات التي أطلقت عليه آنذاك. حوارات الممثلين التي صيغت اعتماداً على أبحاث رئيس التحرير السابق لـ"دير شبيغل"، شتيفان أوست، تتخلى عن أي تصورات وتهيؤات. تختصر "ملحمة" ايدل عشر سنين من التاريخ في ساعتين من الحركة المستديمة، معتمداً في كل حركة من الحركات، على مواد موثقة. بعد هذا الفيلم، لا يبقى شيء من أسطورة الوية الجيش الأحمر.

وأخيراً، من الولايات المتحدة، تجيئنا الممثلة والمخرجة ريبيكا ميللر، ابنة ارثور وزوجة دانيال داي لويس، بفيلم رومنطيقي طريف، "الحيوات الشخصية لبيبا لي"، عن إمرأة اربعينية (روبن رايت بنّ) متزوجة من رجل يكبرها سناً، فتأخذها ظروف حياتها الجديدة (الإنتقال الى بيت جديد والمرض والعلاقة مع الأولاد) الى التمرد على واقعها. الفيلم مقطع بين فترات زمنية مختلفة ترينا بيبا لي، مذ كانت طفلة حتى وقوعها في غرام الشاب الثلاثيني الغريب (كيانو ريفز)، مروراً بمراهقتها الصعبة... 

 

خارج الكادر

نبوءات تاتي بالـ 70 ملم

مساء الإثنين الفائت، انتقم مهرجان برلين السينمائي لجاك تاتي. كان ذلك في إحدى الصالات حيث تستعاد أفلام كبيرة صوِّرت بقياس 65 أو 70 ملم. كنا، وزمرة مشاهدين، من المحظوظين. لأن الأعمال المصورة بهذا القياس والتي تُري العالم بطريقة اخرى، قليلة جداً، ومشاهدتها بقياسها الأصلي في داخل صالة، غير متاحة، الاّ في مناسبات نادرة كهذه. لكن، لماذا نقول إن مهرجان برلين، بعرضه "بلايتايم" لتاتي (1907 ــ 1982) انتقم له؟ لسبب بسيط أن هذا الفيلم قضى آنذاك، أثر عرضه في الصالات قبل أشهر قليلة من حوادث أيار 68، على مسار واحد من أكثر السينمائيين الإنقلابيين في تاريخ السينما، لعدم قدرته على إقناع جمهور كان منهمكاً بقضايا الأمة ومناهضة الإمبريالية، من بين أشياء أخرى. فكان الإفلاس الذي أجهض أحلام أكبر مبدع فرنسي في حقبة ما بعد الحرب الثانية. وها إن التدافع الذي جرى على باب صالة "سينستار" البرلينية التي تحوي أكثر من ألف كرسي، يؤكد أن النجاح أو الفشل الجماهيريين، لا يعنيان شيئاً في حينهما.

كل فيلم لتاتي كان مغامرة لا حدّ لها ولا زمن، و"بلايتايم" هذا اعتبره كثيرون انتحاراً فنياً عندما باشر تاتي التصوير الذي استغرق ثلاث سنوات. ولعدم قدرته على التقاط المشاهد في الأماكن التي كان يريدها (وطبعاً كان ذلك من المستحيلات!)، منها مطار أورلي مثلاً ومبنى الـ"أيسّو" في الديفانس، بنى مدينة من مجسمات في جنوب شرق باريس على مساحة 15 ألف متر مربع. تخيّل تاتي كل تفاصيل المدينة، وأوجين رومان نفذ. خمسة أشهر وأكثر من 100 عامل جسدوا الرؤية المستقبلية لتاتي. بالنسبة اليه، كان على الهندسة المعمارية أن تسحق الإنسان. ان تظهره فأراً يهرب من مخبأ الى مخبأ. لذا نراه، هو تاتي، في دور موسيو هولو الذي يجسده على الدوام، لا يجد موطئ قدم في مدينة مضيئة وذات بريق، شفافة وكل شيء فيها يبعث على التلصص. وعلى رغم ذلك، تطرده منها في كل لحظة. نبوءات كثيرة جاءت في الفيلم: العولمة، فوبيا التدخين، التكنولوجيا والاحتيال، طغيان اللغة الإنكليزية... جراء هذا كله أراد تاتي القول إننا لم نعد نرى الشيء بل صورته المعكوسة إما على واجهة متجر وإما في مرآة. واعتبر تاتي ان منطقة ديفانس وطراز العمار فيها من وحي فيلمه. لكن، لسوء الحظ، لم يبق شيء من هذا الديكور الذي دمِّر ما إن انتهى التصوير.

هذا كله، للقول إن تأتي كان سابقاً لزمنه، فلم يُفهم، وكان ينظر البعض الى استخدامه الـ70 ملم، المخصص لأفلام الوسترن او ذات الضخامة التجسيدية ("كليوباترا" مانكيفيتس او "بن هر" وايلر)، ترفاً، لكن الواقع أنه كان يريد أن يرى، من خلاله، أوسع مما تراه العين. لا لقطة بريئة في "بلايتايم". لا لون هو ثمرة مصادفة، سواء أكان رمادياً، أسود، ازرق، أم مولتيكولوراً كما في الصباح الفوضوي. كأن تاتي كان يشعر أن المجتمع الإستهلاكي آتٍ ليحتل البيت ويسكن المعدة ويتقتحم العقل، ويخلق انساناً جديداً يهرب لكن لا يعرف الى أين. أمام هذه النبوءات كلها، لا نملك الاّ أن نركع ونصلّي!

هـ. ح.  

النهار اللبنانية في 12 يناير 2009

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)