ملفات خاصة

 
 
 

فيلمان قصيران عربيان في "كانّ 2025":

استعادة ماضٍ وكشف خراب جماعة

محمد هاشم عبد السلام

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

أصبح الفلسطيني توفيق برهوم ثالث مخرج عربي يحصل على "السعفة الذهبية" لمهرجان "كانّ" لأفضل فيلم قصير، عن "سعيد لأنك ميت الآن"، في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025). وهذا بعد فوز اللبناني إيلي داغر بها، عن "أمواج 98" (2015)، والمصري سامح علاء عن "ستاشر ـ أخاف أن أنسى وجهك" (2020).

عبر طبقات متعدّدة، نسج برهوم فيلمه. تتكشّف قصته بتأمّلات فلسفية عميقة في أمور شتى، أبرزها الماضي والتذكّر والذكريات، وعمّا إذا يُمكن التخلّص من مآسي الماضي وآلامه، أو التخفّف منها. أمْ أنّ هناك استحالة، أو محض نسيان مؤقّت. فهل الانتقام مُفيدٌ في التخلّص منها؟ أيتخفّف المرء من الألم والذكريات السيئة عبر الموت؟ أيجلب هذا سعادة، كما يحيل عنوان الفيلم؟

أسئلة كثيرة يثيرها برهوم على لسان رضا (برهوم نفسه) وشقيقه الأكبر أبو الرشد (أشرف برهوم). الأول يافع وحاضر الذاكرة، طعم المرارة لا يزال في حلقه. بينما الأكبر يعاني نسياناً مرضياً، وبالكاد يتذكّر اسم شقيقه، ومحطات مؤلمة في حياته، وحياتهما معاً، لا سيّما لذاعة الليمون الذي تجرّعاه غصباً. مع ذلك، يجمع بين الشقيقين تذكّرهما ذكرى وحيدة من ماضيهما الأليم، واستدعاؤها، إذْ يستحيل عليهما نسيانها. تلميحاً، يشير المخرج إليها، وبعيداً عن التحديد القاطع لماهيتها، تظلّ مجرّد استعارة لبطش سلطة أبوية، أو قمع بطريركي.

يفتتح المخرج فيلمه ليلاً. في ظلام الزقاق، بالكاد يُرى رضا وهو يجرّ سجادة ثقيلة لا يُعرف ما فيها، حتى بعد سؤال أبو الرشد عن والدهما، سؤال يتكرّر في مشهد نهاري على الرصيف أمام البحر، قبل استقلالهما الزورق، إذْ يسأله عمّا في الصندوق، وهل أنّ والدهما فيه. هناك يقين، لكنْ ما من إجابة واضحة وصريحة تبيّن حقيقة ما حدث. يأخذان الأب إلى محطّته الأخيرة، كما يذكر رضا. بعد ظلام مشهد الافتتاح والتوتر، يختم توفيق برهوم فيلمه بالأفق الرحب، والبحر المفتوح على اتساعه، ورقص أبو الرشد مُردّداً أغنية شعبية فرحة عن كونهما وشقيقه عريسين، ليعانقه رضا عناقاً حاراً يزيد من وطأة الأسئلة المطروحة، وتبعات الفعل المقترف.

فنياً، مال برهوم أكثر إلى توظيف اللقطات الخلفية والجانبية للشخصيتَين، تأسيساً للقطة العناق في الختام. لكن الخيارات والجماليات التكوينية إجمالاً، على بساطتها، لافتة للانتباه وفنية. هناك جُمل حوارية توضيحية لا بُدّ منها، والأفضل التقشّف في الحوار أكثر، وترك المهمّة للصورة. خاصّة ضبط إيقاع جُمل طارق وإحالاتها. هذا، وإنْ خَلا الفيلم من الثرثرة إجمالاً، ومال إلى التكثيف.

يتقاطع الوثائقي "المينة" للمغربية راندا معروفي، الفائز بجائزة "الاكتشاف الجديد" في تظاهرة "أسبوع النقاد" في "كانّ 2025"، مع "سعيدٌ لأنّك ميت الآن"، بالتصوّر العام، وببنيته المستعرضة طبقات الأرض. يستحضر الفيلم تاريخ سكان مدينة جرادة (شمال شرقي المغرب) وعيشهم ومصائرهم، وطبيعتها القائمة على استخراج الفحم، وكيف أنّه، بعد ربع قرنٍ تقريباً على إغلاق المناجم، لم يبقَ من الماضي، كما تذكر الراوية قبل النهاية، غير الذكرى والذكريات والتذكّر، ومسنّين أحياء عملوا في تلك المناجم.

استعراضاً لأنفاق مناجم الفحم فيها، التي تجاوز عمقها في بعض المناطق 120 متراً، تلقي معروفي الضوء على أوضاع معيشية صعبة جداً لمجتمع تكوّن ونشأ حول هذه الصناعة. ونظراً إلى الأوضاع المعيشية البدائية، وطرق الاستخراج غير الآمنة، وعشوائية العمل، كان طبيعياً حصول حوادث، وسقوط ضحايا. بدلاً من تنظيم الأمور، وضبط اشتراطات السلامة والأمان، وحماية حقوق العمال الذين يبيعون ما يستخرجونه بأثمان بخسة لأباطرة السوق، تُغلق الحكومة المناجم، وتُشرّد نحو 78 ألف عامل. إجراء لا يعكس مدى تردّي الأحوال السياسية والاقتصادية فحسب، بل سوء التخطيط والمعالجة، وزيف الوعود التي منحت للسكان بعد انتفاضتهم ضد الحكومة وأحكام الغلق، والاحتكاك بالشرطة، واعتقال العشرات.

لاستحالة التصوير في أعماق الكهوف الضيقة، وخطورة الأمر من حيث السلامة والحماية، لجأت راندا معروفي وفريق الديكور إلى حيلة بارعة لتوثيق الحدث الرئيسي، تتوفّر على جمالية فنية ذكية للغاية، ساهم في تدعيمها وتعميقها، على نحو مقبض وخانق، شريط الصوت الرائع: تشييد ديكور هيكلي لطبقات طولية وعرضية ضخمة، كأنفاق ضيقة تحت الأرض، وحشر العمال فيها، بحيث نراهم بشكل مقطعي، بينما مسحت الكاميرا الأنفاق الأنبوبية العرضية، مُظهرة انهماك العمال وأصواتهم، بلقطة مصاحبة طويلة زمنياً، من يمين الشاشة إلى يسارها، تنتهي ببلوغ نفق صاعد، فتبدأ رحلة صعود تنتهي بسطح الأرض. بعد استعراض متمهل لما يجري فوق السطح أيضاً، تهبط مُجدّداً إلى باطن الأرض، بالإيقاع البطيء نفسه، والتصوير المتمعّن، إلى حدّ أنّ المُشاهد يكاد يختنق بغبار الانهيار.

طريقة ختام الفيلم بلقطات مُصوّرة بكاميرا سوبر 8 توحي بحياة ماضية، وتحيل إلى صلة الجيل الجديد بالأرض والمناجم، ومواصلة العيش والتطلّع إلى المستقبل، التي تخلّلتها القوائم الختامية، وقطّعتها على نحو مُكرّر، وهذا مزعج، وزائد عن الحاجة، إذْ لم يُضف جديداً.

 

العربي الجديد اللندنية في

16.06.2025

 
 
 
 
 

سينما البرازيلي مندونسا فيلو تختبر الذاكرة والحواس

بدأ ناقداً ثم مبرمجاً لصالة عرض فتنته الهندسة المكانية وجذبه الهامش السياسي

هوفيك حبشيان 

ملخص

لم يهبط المخرج البرازيلي كليبير مندونسا فيلو، 56 سنة، على عالم الإخراج السينمائي فجأة، كما أنه لم يتخرج في معهد فني مكرس، ولا يتحدر من تقاليد عائلة لها تاريخ طويل في الفنون. هو من أولئك الذين قضوا زمناً طويلاً قبالة الشاشة، مراقبين، محللين، كاتبين، قبل أن يتقدموا في اتجاهها، آتين إليها من بابها الخلفي.

هذا الذي نال جائزة الإخراج في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ عن فيلمه "عميل سري"، عاش جزءاً من مراهقته في بريطانيا، ثم عاد للبرازيل ليدرس الصحافة. من هذه الزاوية تحديداً دخل إلى السينما: ناقداً، ومبرمجاً لصالة عرض، ومراسلاً ثقافياً يغطي دورات مهرجان كان، دورة تلو أخرى.

في التسعينيات، لم يكن في وسعه إنجاز الأفلام. التمويل لم يكن متاحاً، والسينما التي أرادها لم تكن من النوع الذي ينتج كثيراً في بلاده. لذلك واظب على النقد السينمائي الذي أصبح البديل الطبيعي والمتنفس الوحيد، لكنه لم يكن مجرد مرحلة عابرة في مسيرته، إنما ممارسة احترفها 13 عاماً. مارسها بكل وعيه، مواصلاً التعليق على الأفلام حتى بعد أن أصبح مخرجاً. يعلق قائلاً: "دائماً ما كنت أتدبر أمري لأجد منبراً إلكترونياً لأكتب فيه عن الأفلام، وأحصل على بادج يتيح لي الدخول إلى الصالات ومشاهدة الأفلام".

هناك شيء صادق عند مندونسا فيلو في هذا الحنين إلى دور المتلقي، إلى تلك العلاقة الخاصة التي تربط الكاتب بالفيلم، علاقة تغذيها المسافة والفضول، قصته الشخصية مع المهرجان تظهر حساسيته للغة النقد وإيمانه بدورها. يروي أنه خلال مقابلة مع أحد المخرجين عام 2002، لاحظ كيف تبنى المخرج آراء النقاد كأنها أفكاره الخاصة. لم يسخر من ذلك، بل وصفه بأمر جميل، لأنه يعكس كيف أن التبادل النقدي يمكن أن يصوغ وعي الفنان حتى بأثر رجعي.

ثاني فيلم روائي طويل له، "أكواريوس" (2016)، كان نقطة تحول. الفيلم، الذي تدور أحداثه في مبنى قديم في مدينة ريسيف (مسقطه)، إذ تواجه امرأة مسنة ضغوطاً لبيع شقتها لشركة تطوير عقاري. عمل عن الذاكرة انطلاقاً من نقد الاقتصاد النيوليبرالي، في لغة خافتة لا تخلو من الغضب المكتوم. البطلة، كلارا (الممثلة الشهيرة صونيا براغا)، لا تملك سوى الذكريات التي تسكن المكان. مقاومة التخلي عن شقتها ليست موقفاً عاطفياً فحسب، بل فعل سياسي مضاد لماكينة لا ترحم، تستبدل كل شيء بالقيمة السوقية.

الرأسمالية اللطيفة

لكن "أكواريوس" ليس فيلماً شعاراتياً، "الرأسمالية اللطيفة"، كما يسميها مندونسا، هي ما يقاومه هنا. هذا النوع من العنف الذي يبتسم ولا يصرخ، ويعرض تعويضاً مالياً مغرياً بدلاً من أن يطردك مباشرة. والمقاومة التي يصورها ليست بطولية، بل إنسانية جداً، معقدة، يومية. يشير المخرج إلى تفاصيل هندسية في الفيلم: علاقة الداخل بالخارج، النوافذ، الأبواب، المساحات التي تتحرك فيها الشخصيات، مستحضراً تأثره بالمخرج الأميركي جون كاربنتر. لكن الرعب هنا ليس قدوم قاتل ملثم كما في أفلام الأخير، بل الخوف من محو المكان الذي شكل هوية ساكنه.

النجاح النقدي لـ"أكواريوس" فسح لمندونسا الطريق لإنجاز "باكوراو" (2019)، بالاشتراك مع جوليانو دورنيليس. الفيلم، الذي حاز جائزة لجنة التحكيم في كان، يذهب بعيداً من المدينة إلى الريف البرازيلي، حيث قرية نائية تدعى باكوراو تعيش على هامش الزمن. تنقطع عنها الإشارة وتمحى من الخرائط، فيبدأ تهديد خارجي بالتسلل إليها. لكن كما الحال في "أكواريوس"، لا يقدم مندونسا صراعاً بسيطاً بين خير وشر، بل يضعنا أمام مجتمع مصغر، أبعد ما يكون من المثاليات، يعيش تناقضاته، لكنه في النهاية يعرف كيف يقاوم.

المخرج نفسه يرفض تصنيف أفلامه على أنها "سياسية" في المعنى المألوف. يقول إنه لا يحب الخطاب المباشر، وإنه يفضل أن ينبع الموقف من الظروف نفسها، من الشخصيات، من الحياة كما تعاش. يقارن الأمر برغبة غير منطوقة بين شخصين في حانة، لا يعترفان بها بالكلمات، لكنها موجودة في لغة الجسد. هذه هي طريقته في قول الشيء من دون أن يقوله، أي في التلميح الذي يحفز التأويل لا التلقين.

يلاحظ في أفلامه حساسية خاصة تجاه العمارة، لا كمجرد خلفية، بل كمكون درامي. في "أكواريوس"، البيت ليس ديكوراً فحسب، إنما كيان يهدد ويقاوم. يرى في المعمار وسيلة لطرح أسئلة الأمن، الخصوصية والانكشاف. وهذا ما يجعله يختار الزوايا العريضة والعدسات الأنافورمية (على رغم كلفتها)، لأنها تمنحه القدرة على قول ما لا يقال. "حصلت على صورة خاصة عند استعمالها"، يقول، مبيناً إلى أي مدى، ليست الجماليات عنده ترفاً بل ضرورة.

لا يتنصل مندونسا من خلفيته الطبقية المعقدة، ولاية برنامبوكو، التي ينتمي إليها، لديها نوع نادر من "اليسار الأريستوقراطي"، بحسب تعبيره، بخلاف مناطق أخرى في البرازيل حيث الأريستوقراطية تميل إلى اليمين. يعلق ساخراً: "هل هذا يعني أنهم لطفاء مع خدمهم؟ إطلاقاً. هم لا يزالون يتعاطون معهم كما كان الأسياد يتعاطون مع عبيدهم، لكنها أريستوقراطية تقرأ، تهتم بالثقافة، وتستوعب قيماً يسارية، حتى لو بقيت ممارساتها متناقضة".

في هذه الخلفية الاجتماعية، نجد تفسيراً للتوتر الطبقي في أفلامه: الحنان المشوب بالانتباه والنقد المغلف بشيء من الحب، لا يخفي إعجابه بأفلام السبعينيات، ولا يخجل من أن قراراته البصرية تأتي أحياناً من متعة المشاهدة القديمة. يقول إنه لا يريد للمشاهد أن يبدأ بقراءة أسماء الطاقم في البداية، بل أن يدخل مباشرة في الصورة. وكأن السينما عنده ليست دعوة إلى المعرفة، إنما دعوة إلى الحظة المشاهدة بوصفها اختباراً للذاكرة، للحواس، ولما يمكن أن تفعله بنا صورة واحدة نشاهدها في الظلام.

مع فيلمه الأحدث، "عميل سري"، بلغ مندونسا فيلو مرتبة من التقدير النقدي. فيلمه هذا يجمع بين الجرأة الفنية والتعقيد السردي، إذ تدور أحداثه في السبعينيات، عائداً بنا لمرحلة الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، لكن من منظور ذاتي وفني يحدث قطيعة مع السرد الكلاسيكي. يقدم شخصية مارسيلو (فاغنر مورا)، الرجل الذي يعود لمسقطه هارباً من ماض ثقيل، في حبكة تتقاطع بين الماضي والراهن، وتغوص في الذاكرة الفردية والجماعية. يمزج العمل بين الواقعية السياسية والغرائبية، مع سرد متعدد الطبقة يتطلب انخراطاً كاملاً، من المشاهد. أسلوب الإخراج البصري الهادئ والمناخ الخانق يعكسان الخوف المستمر من القمع، في مجتمع تبث فيه الريبة في كل زاوية.

الفيلم ليس سهلاً في تلقيه، لكنه يمنح تجربة سينمائية تفاعلية، تؤكد مكانة مندونسا كصوت مهم في سينما أميركا اللاتينية الحديثة.

 

الـ The Independent  في

18.06.2025

 
 
 
 
 

جعفر بناهي .. لم يكن أبدا حادثا بسيطا!

بروين حبيب

«لقد قتلتَه» قالت الفتاة الصغيرة مرعوبة، وحين تحاول والدتها الحامل تهوين ما حدث: «كان مجرد حادث. ما يكون سيكون، لا بد أن الله جعله في طريقنا»، تجيب البنت خائبة «لا علاقة لله بالأمر». هذا الحوار الوجودي المختصر حصل حينما صدم رجل كلبا في طريق مظلمة فقتله. يزيح الرجل ما بقي من الكلب تحت سيارته ويواصل سيره، ولكن السيارة تعطلت أمام مرآب مغلق، وما رآه هذا الرجل صدفة حسنة لتصليح سيارته يتحول جحيما، فالحادث البسيط – كما وصفته الأم – يغدو كارثة حلت على هذه الأسرة التي تبدو عادية. هكذا بدأ المخرج الإيراني جعفر بناهي فيلمه «حادث بسيط» أو «مجرد حادث» (یک تصادف ساده) الحائز السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الثامن والسبعين هذه السنة. وهو ثاني فيلم إيراني يفوز بالجائزة الكبرى في هذا المهرجان الكبير، بعد الفيلم الأيقونة «طعم الكرز» للمخرج عباس كياروستمي قبل ثمانية وعشرين عاما.

بعد هذا المدخل الذي يبدو عاديا يحدث كل يوم، ينقلنا المخرج إلى مستوى من التوتر يعطي الفيلم أبعادا تراجيدية، فحينما يدخل «إقبال» الرجل الذي صدم الكلب بساقه الاصطناعية إلى المرآب بحثا عن ميكانيكي يصلح له سيارته، يثير صوت الساق على الأرضية في نفس وحيد المصلّح أسوأ الذكريات، فهذا الصوت الخشبي كان يسمعه يوميا لأشهر عديدة من جلاده في السجن يوم اعتُقل لتورطه في نزاع عمالي، وخرج من أسره بضرر بالغ في كليتيه وعطب أكبر في روحه، فيقرر وحيد الانتقام من جلاده، لذلك يلاحقه ويختطفه ويضعه في صندوق في شاحنته الصغيرة مقررا دفنه حيا في الصحراء، ولكن.. كيف يتأكد وحيد أن هذا الرجل الأعرج هو جلاده السابق، في الوقت الذي لم ير فيه وجهه أبدا؟ والمخطوف يؤكد له أنه مشتبِه فهو ليس سوى رب عائلة بسيط يدعى رشيد وإصابته في ساقه حديثة، كما يتبين من ندبتها. ولأن وحيد ليس مجرما بطبعه آثر أن يقطع الشك باليقين، قبل الحكم على الرجل المحجوز في الصندوق، فبحث عن ضحايا سابقين لهذا الجلاد ممن تعرضوا للتعذيب على يديه في السجن، آملا في أن يجد من بينهم من يتعرف عليه، فاجتمع بائع الكتب سالار بشيفا مصورة الأعراس، وغولي المقبلة على الزواج مع خطيبها علي، وخامسهم حميد المتهور المستعجل على قتل السجان وإنهاء الموضوع، وفي جولة في طهران وضواحيها يسعى كل شخص للتعرف على الجلاد من خلال أي تفصيل يظهر له كالصوت أو الرائحة أو المشية، دون أن يصلو إلى قرار حاسم في هذا الشخص المقيد أمامهم، وإذا كانت قد وقفتْ في وجه وحيد الميكانيكي معضلة أخلاقية حول قتل شخص ليس متأكدا تماما من هويته، فقد وقفتْ في وجوههم جميعا معضلة أخرى: هل الانتقام وأخذ حقهم بأيديهم هو الحل الأنسب، وهل تُواجه الجريمة (التعذيب) بجريمة أكبر (القتل)، ودارت بين المجموعة حوارات تذكرنا بفيلم «اثنا عشر رجلا غاضبا» حيث يناقش المحلفون حق المجرم في الحصول على دفاع حقيقي رغم كل الأدلة التي تدينه. وفي الحوارات التي تجري أغلبها في أماكن ضيقة توحي بالانغلاق كالشاحنة الصغيرة، تتكشف أسباب سجن كل فرد من المجموعة وهي في غالبها ناتجة عن نزاعات عمل، أو احتجاجات ضد الدولة، وحتى عندما تتأكد مجموعة المعذّبين في الأرض من شخصية جلادهم يجدون أنفسهم في متاهة السؤال عن مفهوم العدالة، وهل يحققه الانتقام الفردي، ناهيك عن المشاكل التي تورطوا فيها. وكعادته لا يقدّم جعفر بناهي أجوبة ولا نهاية واضحة، بل يتركها مفتوحة بعد أن وضعنا أمام قضايا وجودية كبيرة، كالانتقام والعدالة والتسامح.

معتمدا على الإضاءة الخافتة أو التصوير في الليل – خاصة المشهد الأخير حيث يستجوب وحيد وزملاؤه في السجن سجينَهم إقبال على ضوء مصابيح الشاحنة الصغيرة – ومستثمرا المؤثرات الصوتية فطقطقة الساق الخشبية ليست تفصيلا إذ هي عامل مهم في تعرف الضحايا على جلادهم، استطاع جعفر بناهي أن يبقي خيط التوتر ومعه خيط التشويق مشدودا، تراود المتفرج الحيرة نفسها، التي راودت أبطال الفيلم: هل السجان يجب أن يسقى من الكأس المرة نفسها، التي سقى منها ضحاياه، أم على الضحية أن لا تلبس بدورها ثوب الجلاد، وإلا ما الفرق بينها وبينه؟

فيلم «حادث بسيط» غوص في أعماق النفس البشرية، وتصوير واقعي لصراع النفس بين الرغبة في الانتقام، والقدرة على التسامح تعففا، أو خوفا من العقاب، لأن القانون لا يسمح بأخذ الحق باليد، وإلا تحول المجتمع إلى فوضى، وفي هذا الفيلم لم يلجأ جعفر بناهي إلى الرمز، كما في أفلام عديدة له لفضح القمع، بل طالب بما طالب به محمود درويش قاتله «اخرجْ لكي نمشي لمائدة التفاوض واضحينْ كما الحقيقةُ:/ قاتلاً يُدلي بسكَّينٍ/ وقتلى يدلون بالأسماء»، فالمساجين السابقون ليسوا مجرمين، بل هم معارضون سياسيون وجلادهم أداة قمع في يد نظامه، وهم في مواجهة جديدة مع تبدل الأدوار: هم في موقع القوة وهو في موقع الضعف، ومن تفاصيل صغيرة في الفيلم ندرك أن طبيعة السجان لم تتبدل فالقسوة أصبحت طبيعة ثانية له، فمثلا لا يعير اهتماما للكلب الذي قتله، بمرأى من ابنته الصغيرة، بل طبيعة الأنظمة التوتاليتارية نفسها متشابهة، تقوم على القمع والفساد الممنهج والرشوة، التي جعلها بناهي في فيلمه عبر البطاقات الإلكترونية في مفارقة ساخرة، وفي المقابل نجد إصرار الشعب على حريته وتحديه لكل أشكال القمع، وقد طبق المخرج نفسه هذا الإصرار والتحدي من خلال تصوير فيلمه سرا، رغم المنع الرسمي، وكذلك الاستعانة بممثلات من دون حجاب، وإن كنتُ أرى أن نظام بلده قد غضّ النظر عنه قليلا، إلى حد السماح له بالتوجه إلى كان لحضور المهرجان.

فيلم جعفر بناهي له جذور في تجربته الشخصية، فقد تعرض للسجن مرتين أولاهما سنة 2010 بتهمة الدعاية ضد النظام، وحكم عليه فيها بالسجن ست سنوات وأطلق سراحه قبل إتمام محكوميته، والثانية سنة 2022 ويومها أضرب عن الطعام حتى خرج من السجن، وكان في حبسه معصوب العينين لا يتعرف على سجانيه، إلا من خلال أصواتهم، تماما مثل وحيد الميكانيكي، لذلك يمكن أن يعتبر فيلم «حادث بسيط» وثيمته الأساسية الانتقام، انتقاما موازيا يقوم به بناهي ضد النظام الذي منعه من السينما عشرين عاما، ورغم المضايقات الكثيرة التي تعرض لها في بلده لم يتوقف يوما عن شغفه بالسينما، وقد راكم الجوائز السينمائية منذ فيلمه الروائي الأول الطويل «البالون الأبيض» الذي فاز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي قبل ثلاثين عاما. مرورا بفيلمه «الدائرة» الحائز جائزة الأسد الذهبي في البندقية عام 2000، وفيلمه الآخر «تسلل» الذي فاز بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين عام 2006، وفيه تناول موضوع مشجعات كرة القدم وتحديهن لكل العوائق التي تحول دون حضورهن المباريات في بلد شديد التضييق على حرية المرأة.

ويعد فيلم «تاكسي طهران» من أفلامه المميزة، حيث صوره سرا بكاميرا صغيرة، وكان هو نفسه سائق التاكسي يجوب شوارع العاصمة الإيرانية ويحاور الأشخاص العاديين وقد حاز عنه جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 2015، ولما لم يتمكن من الحضور تُرِكَ مقعده فارغا، وهو ما كان متوقعا أيضا أن يغيب عن مهرجان كان الذي حُرِم من حضوره خمسة عشر عاما كاملا، إلا أن العكس حدث فحضر وألقى خطاب فوزه بالجائزة الكبرى.

أثبت لنا جعفر بناهي أحد رواد الموجة الجديدة في السينما الإيرانية أنه بشاحنة صغيرة وبضعة ممثلين وحوار مشغول باحتراف يمكن تقديم فيلم ليس جيدا فقط، بل ينال واحدة من أرقى جوائز السينما في العالم، ففيلمه لم يكن أبدا «حادثا بسيطا» بل قمة جديدة في السينما الإيرانية تتعب من يريد تجاوزها.

شاعرة وإعلامية من البحرين

 

القدس العربي اللندنية في

22.06.2025

 
 
 
 
 

"امرأة وطفل" لسعيد روستائي: تعقيد السرد وإطالته

ندى الأزهري

صَحبتهُ ضجة إلى مهرجان "كانّ" في دورته الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025)، ترافقت مع رسالة طالبت مندوبه العام، تييري فريمو، بعدم عرض الفيلم. لم يُعلَن عن اختيار "امرأة وطفل"، للإيراني سعيد روستائي، في القائمة الأولى للمسابقة. لاحقاً، أضيف إليها. أثيرت شائعات عن تدخّل شركة التوزيع الفرنسية، ثم احتجّت جمعية إيرانية للسينما المستقلة في الخارج، مُتّهمة إياه بالتواطئ مع النظام الإيراني، والانصياع له، لظهور ممثلاته بالحجاب الإلزامي (العربي الجديد، 13 مايو/أيار 2025)، ما يعني خيانة لحركة "امرأة. حياة. حرية"، وجيل الشابات الإيرانيات.

يُعدّ روستائي (1989) من أبرز نجوم الجيل الشاب لمخرجي السينما الإيرانية. فاز بجوائز وطنية وعالمية. في فيلمه الرابع، "امرأة وطفل"، يختتم ثلاثية بدأت مع "الأبد ويوم واحد" (2016) و"إخوة ليلى" (2022)، عن معاناة المرأة الإيرانية، وقدرتها على مواجهة تحدّيات النظام الأبوي. له أيضاً "المتر بستة ونصف، أو قانون طهران" (2019)، ثاني أكثر الأفلام غير الكوميدية مبيعاً في تاريخ سينما بلده.

ما يُعرف عنه، بفضل أفلامه الثلاثة السابقة، يجعل التوقّع كبيراً من جديده. لكنّ هذا خيّب آمالاً، مع تعقيد السرد وإطالته، وتحميل الفكرة الرئيسية ما لا تحتمل. إذا حصل هذا سابقاً، كان يأتي بقدر من دقّة وسلاسة وتحكّم، لا يدع معها مجالاً لتململ، كما حدث مع "امرأة وطفل"، الذي فيه مشاهد مكرّرة لرواح أبطاله ومجيئهم وتنقّلهم، من دون حدوث تطوّرات مهمة، أو تساؤلات عن مدى ضرورة تركيب أحداث على شيء من فذلكة لم تزد عليه، بل أثقلت فكرته البسيطة، ربما لإعطائه أبعاداً أعقد.

اقترب جديده هذا من أسلوب أصغر فرهادي، في بناء قصة أخلاقية، اشتهرت بها السينما الإيرانية، تتعقّد بعد أخطاء صغيرة متتالية، وتتحوّل إلى سلسلة أحداث تبدو تافهة، قبل أنْ تقود إلى حدث رئيسي حاسم. عواقبه، التي تزداد سوءاً، تُجبر الشخصيات على تحدّيها، إنْ لم تتغلّب عليها.

في "امرأة وطفل"، يتجلّى ذلك في حدثَين رئيسيَين حاسمَين. قصة حب بسيطة، تتحوّل بغتة إلى علاقة سامة وكره متبادل. هذا يحصل عادة. لكنْ، هنا، تداخلت مع عناصر كثيرة، وأصبحت كتلة مآسٍ متشابكة على نحوٍ مفتعل. استُهلّ السرد بمشاهد طويلة، حفلت بحوارات مملة في عاديّتها، خلال لقاءات بين مهناز (بريناز إيزديار) وحبيبها حميد (بيمان معادي)، أو بين آخرين في محيطهما، أوحت بشخصيات بسيطة لا تثير اهتماماً، وإنْ جسّد بعضها ممثلان، بحضورهما وأدائهما. تنكشف عقدة أولى عن النظرة إلى المرأة، هي هنا الأرملة، حين تريد الزواج مجدّداً، ولديها أولاد. حميد طلب من مهناز أنْ تخفي ولديها من شقتها عندما يأتي أهله لطلب يدها، خطوة أولى؛ حتى لا يصدمهم وضعها الأسري.

مهناز ممرضة (45 عاماً)، لها ابن مراهق وابنة صغيرة. تعيش مع أمها وأختها الأصغر منها. لا رجل في المنزل النسائي، غير الابن. يُقدّمه روستائي في مشهد أول، تنفيذه (الحركة السريعة والحيوية والمطاردة) يُشبه مشهداً من "قانون طهران". ولد طائش، لكنّه حنون. فائق النشاط، لا يكفّ عن ارتكاب الحماقات وتحدّي الكبار. متمرّد ومخادع، له أنشطة مشبوهة (حلقات مراهنة)، ما يتسبّب بطرده الدائم من مدرسته، وهذا يُسبّب مشاكل وتحدّيات إضافية للأم.

يرسم روستائي، عبر شخصياته، تفكّكاً تدريجياً لعائلة إيرانية، لأسباب تتراكم يومياً. يركّز على بطلته ودورها في التغلّب على كلّ مشكلة تعترضها. صراعها، خاصة مع الرجال (ابنها، مدير المدرسة، حميد، حموها السابق)، وسعيها جاهدة إلى التأقلم مع ما آلت إليه حياتها في كل مرة. وهذا مع قسوة الحياة عليها، فما يبدو في بداياته حدثاً سعيداً، مع زيارة الخطبة، أو حدثاً عادياً مع اصطحاب الولدين إلى جدّهما، استجابة منها لطلب حبيبها، سيكون كمن وضع اللبنات الأساسية لحصول كارثتَين، وإن تفاوتتا في درجة تأثيرهما.

خلافاً لما عُهِد عن مخرجه، يتضمّن جديد روستائي ثرثرة أقلّ، وايحاءات أكثر، فيكون الكشف تدريجياً. يلجأ غالباً إلى النظرات والإخفاء لتفعيل التشويق. أحياناً ينجح، وأحياناً أخرى يخفق. لكنّه قدّم إخراجياً أحد أفضل المشاهد (الزيارة). اتّكأ على ديكور المنزل وتقسيماته، والنوافذ الداخلية الزجاجية الشفّافة (استخدمتها مهناز لوحاً لتدريس طفليها، ما يُبرز أيضاً عنايتها الشديدة بهما)، وجرى تأطير الغرفة من بعيد، لتظهر الشخصيات ولا يُسمع الحوار. بهذا الحاجز الزجاجي، الذي وقفت خلفه وهي في المطبخ، التقطت مهناز تعابير الضيوف وحركاتهم، والأهمّ تلك النظرة التي وجّهها حميد إلى الأخت الصغرى، وبادلته إياها، من دون أي كلام، فنشأت شكوك وتخمينات، وتصاعد توتر الثلاثة عن معنى النظرة. ثم انهار بسببها عالم كان يبدو سعيداً ببساطته في البداية.

اختار الخطيب الأخت الصغرى، الأكثر امتثالاً وطاعة. كأنّ هذه الصدمة لا تكفي، إذْ لحقتها أخرى، ليحصل شبه انهيار للأسرة، التي كانت تقودها امرأة تعتمد على نفسها في تربية ابنيها، والعناية بأمها وأختها. لكنّ الانهيار لم يبقَ إلى النهاية. وفي هذا العالم غير المثالي، إذ المآسي تُصعّد في مواقف العنف والانتقام ومصارعة آلام لا تطاق، تفرض مسيرة الحياة قانونها، ويبزغ فجر جديد مع ولادة طفل جديد.

أغرق سعيد روستائي فيلمه في تفاصيل وحوارات لا طائل منها ولا متعة، وفي مشاهد غير ضرورية أثّرت على إيقاعه. هذا رغم اعتنائه بتصوير الأماكن الداخلية (مراكز العمل والمدرسة والشقّة) والخارجية (شوارع طهران)، ما أضفى حيوية خفّفت قليلاً من تكرار الأحداث والحوارات المملّة. كما لم يكن على حسن إدارته المعهود للممثلين، فبدا بيمان معادي باهتاً، وهو الممثل المبدع، بسبب شخصيته كرجل سطحي يميل إلى المرأة الخانعة.

أخيراً، يُرجى ألّا يكون روستائي منحازاً، في أفكاره وطريقته، لملاءمة جمهور أوروبي، هو الذي، على صغر سنه، نال قبولاً كبيراً وإعجاباً في بلده، قبل أنْ يعرفه الغرب.

 

العربي الجديد اللندنية في

23.06.2025

 
 
 
 
 

"إعادة بعث": استعادة تراث السينما بجماليات درامية ساحرة

محمد هاشم عبد السلام

في "إعادة بعث" (2025)، يؤكّد الصيني بي غان موهبته وثقافته السينمائية العريضة، ومكانته المرموقة بين أعلام السينما الصينية، وفي العالم. وهذا لفرادة ما يُقدّمه، جمالياً وفكرياً، وأسلوباً. ففي عصرٍ يفتقر غالباً إلى الموهبة والأصالة والجرأة على التجديد والتجريب والابتعاد عن المألوف، وللثقافة السينمائية الواسعة، يُثبت غان أنّه معلّم قادم بقوة في السينما الحديثة.

من اكتشاف سرّ كامن في الحياة الأبدية، تبدأ حبكة "إعادة بعث"، الفائز بجائزة خاصة في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ". ببساطة، لا تحلم: هذا سرّ الخلود. لكنّ الأمر ليس سهلاً، فهناك من يختار أنْ يحلم سرّياً. هؤلاء، "محبّو الخيال والأحلام"، يتعرّضون لقمع "الآخرين الكبار"، الذين يطاردونهم ويوقظونهم لمنعهم من الضياع في عالم الأحلام.

هذا الخيط العريض للأحداث الملحمية يمرّ في خمسة فصول وخاتمة (160 دقيقة)، كلّ منها يروي حقبة سينمائية مختلفة، بأسلوب وتنوّع وبناء سردي تنهل كلّها من مدارس الصناعة وتاريخها وأساتذتها في 100 عامٍ. فكرة الحبكة ركيزة فقط لربط السرديات المختلفة بعضها ببعض، من دون مراعاة كبيرة للقواعد المعتادة للسرد الخطي، أو البناء المألوف للأحداث والشخصيات، الخاضعة كثيراً لمنطق الأحلام والأفلام.

ما سبق ليس مُعلّقاً في فراغ، بل يستند إلى أسس وقواعد يُطوّعها بي غان برؤية بصرية خاصة، مُستلهماً أفلاماً ومحطات في تاريخ السينما أكثر من أي شيء آخر، ولا سيما المنطق الدرامي. لم ينبع طموحه من تصوير لغة الأحلام سينمائياً، بل سرد حكاية/رحلة بطله عبر تاريخ السينما نفسها. لذا، لجأ إلى تيمة الحلم والخيال، المتقاطعة وبنية السينما.

يبدأ "إعادة بعث" وينتهي بمشاهد في صالة عرض، تنبض بالحياة، من عصر السينما الصامتة، وأفلام/ألعاب جورج ميلييس وغيره من الروّاد، خاصة الأخوين لوميير، والواقعية الألمانية، تحديداً "نوسفيراتو" (1929) لفريدريش مورناو، والديكورات الشاذة المشهورة في "خزانة الدكتور كاليغاري" (1920) لروبرت وين، وفكرة الوحش/مصّاص الدماء. مع إطارات صناعة الأفلام حينها، وتقنياتها وإيقاعاتها، يُتابَع الحالم المتمرد (جاكسون يي)، ومُطَارِدَته (شو كوي)، المنتقل من عصر إلى آخر بشخصيات مختلفة، ومظاهر جديدة في كلّ منها.

الحالم لا يشيخ، تقريباً. يُسافر زمنياً، ويقفز من حقبة إلى أخرى، بلغة كلاسيكيات عشرينيات القرن الـ20 وأربعينياته وما بعدهما، فتتسع مساحة الشاشة، وتحضر الألوان، وتسود تيمة "فيلم نوار" وأفلام التجسّس والجريمة. ثم يظهر الحالم بعد 30 عاماً عاملاً في معبد بوذي مهجور، في فصل الشتاء، فتُروى حكاية خرافية طريفة، تضرب عميقاً في جذور الفولكلور الصيني.

بعد 20 عاماً، يُصبح الحالم أباً فاسداً لصبية، يُطوِّع قدرتها الخارقة على "شمّ" البطاقات الورقية الرابحة، لممارسة الاحتيال في لعبة الورق. أخيراً، ليلة رأس السنة الجديدة عام 1999، يعود شاباً يافعاً، ويلتقي فتاة ساحرة، في لقطة تستمر 40 دقيقة متواصلة، تعيد إلى الأذهان ختام النصف الأخير من فيلمه السابق "رحلة نهار طويل إلى الليل" (2018)، المُصوّر بالكيفية نفسها، لكنْ بأبعاد ثلاثية تطلّبت ارتداء نظّاراتٍ خاصة. هذا من دون إغفال السمات المميّزة لمراحل التصوير في الأزمنة المختلفة، والخام الفيلمي ثم الرقمي، واللقطات المُصوّرة بالكاميرات المحمولة، وغيرها.

مُجدّداً، يستلهم بي غان مَشاهد معيّنة لمخرجين عالميين. من خلال إصراره هذا، يؤكّد أصالته وهضمه تراث السينما، لا سرقته أو انتحاله، مُعيداً تقديم مشاهد غير خفية على محترفين وخبراء، لكنْ بطريقته، وفي سياق سينمائي خاص، فيبدو التقديم مغايراً ومُدهشاً، أو مُربكاً، ما يستدعي مقارنة الماضي بالحاضر. تجلّى هذا في فيلمه السابق، بتكرار تيمات للروسي أندره تاركوفسكي، كالتفاح والحصان، في "طفولة إيفان" (1962). والمشهد الشهير لتحريك الكوب حتى سقوطه عن الطاولة في "ستالكر" (1979).

في "إعادة بعث"، يحضر تاركوفسكي مُجدّداً في تسلسل المعبد، وروّاد السينما الصينية، بمدارسها المختلفة، كوونغ كار ـ واي، وألفرد هيتشكوك بأطيافه المتعدّدة، وانغمار برغمان وأكيرا كوروساوا وآخرين.

لن يُثير "إعادة بعث" اهتمام من ليس على دراية بتاريخ السينما، لعجزه عن تفسير/استيعاب مشاهد وأنواع سينمائية عدّة، وأساليب يتضمّنها، كاستعارات لتاريخ السينما وتكريم روّادها. ليست سهلة المتابعة، ولا المشاهدة مريحة. ولفيلم غير موجَّه إلى العامة (لن يكون هناك تفاعل سريع)، ولا إلى أصحاب العقليات المتكلّسة والاستهلاكية. لذا، ستُقدّر قلّة ما يقدّمه بي غان من سحر ومتعة فكرية وجمالية، وسينما فنية خالصة.

مع هذا، تُتيح موهبة غان وذكاؤه، وفريق فيلمه الذي أنجز جماليات صُور عنف دموي ومشاهد مبتكرة، ليس فقط انغماساً كاملاً فيه، بل أقلّه استمتاعاً بمشاهد ـ لوحات فنية. عبر رحلة ساحرة، أبدع أوديسة زمنية سينمائية، عابرة للأنواع، لا تخلو من هنات، أعاد فيها إحياء السينما الفنية، والتحذير من احتضارها، وبثّ الأمل في احتمال انبعاثها مُجدّداً.

 

العربي الجديد اللندنية في

25.06.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004