كان الفيلم المكسيكي “المطبخ”
La Cosina
للمخرج ألونسو ررويزبلاثيوس، هو الفيلم الأكثر طموحا- في رأيي الشخصي- من
بين غالبية أفلام مسابقة الدورة الـ74 من مهرجان برلين السينمائي. ولا
ينتقص من ذلك عدم حصوله على أي جائزة من جوائز لجنة التحكيم التي تخضع
لاعتبارات كثيرة ليس من بينها دائما الفن الرفيع!
إنه الفيلم الذي لا يكتفي برواية قصة مثيرة، تحمل من
التراجيديا كما تحمل من الكوميديا، بل يحاول مخرجه التلاعب بالشكل
السينمائي، لكي يعكس المزاج النفسي العبثي السائد، وأجواء الإحباط التي
تحيط بالشخصيات المتعددة التي نراها، والانهيار الفادح لفكرة “الحلم
الأمريكي”.
لدينا هنا كاميرا تتحرك حركات دائرية طويلة ممتدة داخل فضاء
محدود، هو عبارة عن مطبخ كبير لأحد مطاعم نيويورك، وهذا المكان بتفاصيله
الكثيرة المعقدة، يفترض أن يحد من حرية الحركة، لكن الكاميرا تتحدى المكان،
كما يتمكن المخرج الموهوب، من التحكم في حركة وإيقاع العدد الكبير من
الممثلين داخل هذا المكان المحدود بحيث لا يستطيع المشاهد أن يدير بصره
لثانية واحدة بعيدا عن الصورة.
سيناريو الفيلم الذي كتبه المخرج نفسه، قائم على مسرحية
“المطبخ” (1957) للكاتب البريطاني أرنولد ويسكر. ولكن المخرج وكاتب
السيناريو المكسيكي، نقل أحداثها من لندن- الخمسينات إلى نيويورك الزمن
الحالي، كما أضاف الكثير من واقع تجربته الشخصية الحقيقية في العمل في
شبابه “نادلا” في أحد مطاعم لندن عندما كان يدرس الدراما هناك، وقد خبر
الحركة داخل المطبخ، واقترب كثيرا من الشخصيات التي تمارس العمل في أدوارها
المختلفة، وعرف كيفية التحكم في إدارة المكان، واختزن في ذاكرته الكثير من
التفاصيل، واستدعاها وهو يكتب فيلمه الرابع وأول أفلامه الناطقة باللغة
الإنجليزية.
ورغم
الأصل المسرحي، ورغم محدودية المكان، إلا أن الفيلم يتخلص تماما من الطابع
المسرحي، ويتمتع بالكثير من الحيوية من الناحية السينمائية، وخصوصا
استخدامه الكاميرا، والانتقال المدهش من خلال المونتاج، بين اللقطات
الكبيرة للوجوه إلى اللقطات الأكثر عمومية داخل المكان، مع الكثير من
اللحظات الرومانسية التي تقطع أجواء التوتر داخل ما يبدو كأجواء المصانع
التي يعمل فيها العمال بطريقة الإنتاج بالقطعة.
الفيلم مصور بالأبيض والأسود لتكثيف الإيهام بالواقع، ولكن
مع لقطات محدودة قصيرة بالألوان لإعطاء تأثير عاطفي معين، وكثيرا ما يتخذ
الإخراج أسلوب الفيلم التسجيلي في متابعة التسجيل الحرفي لعمل الطهاة
والسقاة وغيرهم داخل المطعم، وكيف يتحركون ويتحدثون ويحملون الصواني
والأطباق ويتعاملون مع الزبائن ويتحملون ضغوطهم وإهاناتهم أيضا، كما
يتحملون ما يمارس عليهم من قهر من قبل المشرف عليهم الذي يعتبر سوط صاحب
المطعم.
تنقلب أجواء المرح والسخرية في ساعة الراحة وما يدور بين
العمال من مزاح ومقالب ومشاجرات خفيفة مرحة أيضا، إلى الصرامة والصدام
والغضب. أبطال الفيلم هم خدم المطعم الذي يطلق عليه
The Grill
أي “الشواء”، وهو قابع في أحد أركان شوارع “تايمز سكواير” في نيويورك.
في البداية نرى فتاة يافعة مكسيكية تدعى “إستيلا” (آنا
دياز)، من الواضح أنها وصلت لتوها من المكسيك، لا تعرف اللغة الإنجليزية،
وهي تحمل رسالة توصية أعطتها إياها امرأة من بلدتها لابنها بيدرو الذي يعمل
في المطعم، لكي يساعدها في الحصول على عمل. وهي تسأل كل من تقابله عن
المطعم، وعن “بيدرو” وهو الطباخ الذي سيصبح في قلب الفيلم، وأخيرا تقابل
مدير العاملين “لويس” الذي يمنحها عملا رغم أنها تحت السن القانوني.
سنشاهد الأحداث من خلال عيني “إستيلا” لبعض الوقت، قبل أن
يتعقد السرد أكثر فأكثر، وتتداخل المصائر والحكايات الفرعية، وتتراجع
إستيلا إلى الخلفية. وسيبدأ التوتر بعد اكتشاف صاحب المطعم اختفاء مبلغ
مالي من خزانة المطعم. ويتجه الشك نحو بيدرو نفسه، وهو مهاجر مكسيكي، وعده
صاحب المطعم (رشيد) كما وعد زملاءه، بتسوية وضعه القانوني، وهو ما لم يحدث،
فمن الأفضل عنده الإبقاء على هؤلاء المهاجرين القادمين من أفريقيا السوداء
والمغرب والمكسيك وغيرها، في حالة انتظار وقلق لكي يسهل السيطرة عليهم.
فعند أي خطأ أو مخالفة للتعليمات، يمكن الاستغناء عنهم وبالتالي يتم
ترحيلهم إلى بلادهم فغالبيتهم يعملون من دون إقامة أو تصريح عمل.
لا ينطبق هذا بالطبع على “جوليا” الفتاة الأمريكية البيضاء
التي تقوم بتقديم الطعام (تقوم بدورها روني مارا)، وهي ترتبط بعلاقة مع
بيدرو، بل وقد أصبحت أيضا حاملا منه، ولكنها لا تريد الاحتفاظ بالجنين فهي
لا تشعر بإمكانية استمرار العلاقة نتيجة التعقيدات والفواصل التي تفصل
بينهما، إلا أنها لا تعبر عن هذا صراحة، بل تظل العلاقة بينهما تتأرجح بين
الإقبال والابتعاد، أما بيدرو فيكاد يجن جنونه بالطبع. وسوف يتسبب توتره
وما يقع عليه من ضغوط نفسية بالإضافة إلى اتهامه بسرقة المال، في نوع من
الانفجار العنيف الذي يطيح بـ”المطبخ” ويدمره تدميرا في النهاية.
إننا أمام فيلم عن المهاجرين الذين جاءوا إلى أمريكا بشكل
غير قانوني، مدفوعين بالحلم الأمريكي، ليجدوا أنهم أمام آلة رأسمالية
مفترسة، تستغلهم، أسوأ استغلال وتقسو عليهم، وفي المشهد الأخير عندما يقف
رشيد صاحب المطعم، يسألهم جميعا لماذا هم غير راضين، رغم أنه يوفر لهم
العمل والطعام والحماية؟ يتطلعون إليه ويصمتون جميعا. إنه صادق فيما يقوله،
فهو لا يفهم ماذا يريدون أكثر من هذا، لكنهم صامتون لأنهم فقدوا حلمهم
بالتحقق وظلوا يعملون في “القاع” حرفيا.
يجسد الفيلم “الفوارق”، بين العمال وأصحاب العمل، وبين
العمال الأجانب المهاجرين الملونين، والعمال الأمريكيين البيض، وفي أجواء
كهذه تبرز فيها الفوارق، ليس من الممكن أن تستمر العلاقة بين بيدرو وجوليا،
أو تكلل بالنجاح. ولكن “المطبخ” ليس كأي فيلم آخر عن المهاجرين، فمخرجه لا
يتعامل مع موضوعه بالشكل المباشر المألوف في الأفلام المماثلة لأفلام
الواقعية الجديدة. ويترك المجال لكثير من التلقائية بل وبعض الارتجال في
الحوار.
مذهبيا يمكن القول إن الفيلم ينتمي إلى الواقعية
الاجتماعية، مع استخدام الرمز، والكثير من الشعر في صياغة المشاهد الغرامية
بين بيدرو وجوليا، واستخدام المرايا والموسيقى وخصوصا موسيقى الجاز.
هناك الكثير من المشاهد التي تعكس حالة هؤلاء العاملين في
المطعم واغترابهم عن واقعهم بفعل الاستلاب الواقع عليهم. بل وحتى الطعام
الذي يصنعونه في ذلك المطبخ الهائل، ثم تصعد الفتيات لتقديمه بسرعة خصوصا
في ساعة الذروة، يبدو مقرفا مقززا، ومقصود أن يكون كذلك، فهذه هي العجلة
التجارية التي تمارس الإنتاج بالجملة، والتي لا تهتم بالتجويد بل بجني
الأرباح بأقل التكاليف، وفي أقصر وقت ممكن.
هناك أيضا الانقسام بين العاملين، فالطباخون يعتبرون أنفسهم
أكثر رقيا من الجميع، فهم القوة المنتجة التي تملك “التركيبة”، والنادلات
أقل أهمية، أما عمال النظافة فهم في أدنى السلم. ويشرف على الجميع رجل يدعى
“نونزو”، يساعده شخص آخر شرس، ثم هناك رشيد صاحب المطعم وهذه هي طبقة
السادة التي تتحكم في “العبيد”. وليس معروفا بالضبط من هو رشيد، وهل هو
عربي أو هندي بحكم اسمه، فالفيلم لا يهتم بهذا الجانب بل يتغاضى عن الأصل
اكتفاء بتحديد موقعه الطبقي.
يقول المخرج إن “التراتب الطبقي لا يمكن التساهل معه. إنه
مكان يمكن أن يصبح الجميع فيه أصدقاء، يضحكون ويتكلمون معا، ولكن عندما تحل
ساعة الذروة، يصبح كل إنسان لنفسه. لن يساعد أحد أحدا، وستبرز المنافسة
والفردية، وبالتالي فالمطبخ هو عبارة عن صورة رمزية للرأسمالية في مرحلتها
المتأخرة”.
أحداث الفيلم كلها تدور في يوم واحد، منذ وصول “إستيلا” في
الصباح الباكر إلى المطعم، إلى أن يتفرق الجميع وينتهي المأزق الجمعي
بالانفجار. ولكن أهم ما يميز الفيلم تلك الدينامية الهائلة في الحركة، في
التقاط التفاصيل مما تقوم به الشخصيات في أدوارها المختلفة، والاهتمام
بالتكوينات التي تساهم في تكثيف المأزق، أو حالة العزلة التي يعيشها
العاملون تحت الأرض، منتجو الطعام، آلة الإنتاج التي تشبه ماكينات الإنتاج
بالجملة لإرضاء، الزبون، وصاحب البيزنس. والحصول على مباركته ورضاه.
ما يفسد الأجواء هو موضوع اختفاء مبلغ مالي، حوالي 800
دولار، هل اختلسها بيدرو لكي يدفع لآنا حتى تجري عملية الإجهاض رغم أنه
يشعر بالحزن الشديد لأنها لا ترغب في الاحتفاظ بالجنين، ويظل يضغط عليها
ويغريها، أن يتركا العمل في هذا المستنقع ويذهبان معا الى المكسيك، حيث
يقدمها لأمه ويعيشان معا في هناء وسرور (لا نعرف كيف لكنه تعبير عن فقدان
حلمه الأمريكي). ويظل الفيلم يشوقنا خلال السرد واستعراض آلية العمل في
المطبخ، بالعودة إلى فكرة (من السارق؟) بين آونة وأخرى، وسيكشف في النهاية
عن مفاجأة بهذا الخصوص.
زملاء بيدرو- وهو شاب صعب المراس، حالم لكنه غاضب، وقوي
الشكيمة لكنه رقيق للغاية وصادق في حبه لجوليا، يسخرون مما يعتبرونه نزقا
ومراهقة وجريا وراء السراب، في حلمه بالاندماج والارتباط بفتاة أمريكية
“بيضاء”!
في الفيلم مشاهد طويلة، لكنها مليئة بالحركة التعبيرية
بالكاميرا، منها المشهد الافتتاحي الذي نتابع فيه “آنا” وهي تغادر محطة
قطارات الأنفاق ثم تسير قرب الشارع 49 وتبحث عن المطعم، تسأل هذا وذاك، ثم
تدلف في ممرات طويلة إلى أن تجد نفسها أمام “لويس” المسؤول عن الموظفين وهو
مكسيكي – أمريكي. هكذا في لقطة واحدة بالحركة البطيئة، داخل ديكورات ضيقة
مع أسقف منخفضة، مما يمنح المشهد طابعا كابوسيا، وخلال ذلك تتسلط الكاميرا
على أحد الأركان، حيث نشاهد بعض الفئران تهجم على بقايا الطعام الملقاة.
هناك اهتمام شديد بتصميم الحركة، ولاشك أن كل مشهد خضع
لدراسة دقيقة وتحديدا لما يعرف بالـ “كوريوغرافي” أي تصميم الحركة، فكل
ممثل يعرف بالضبط ما يفعله، وإلى أين يسير، وهل يصطدم مع ميل له، والمخرج
يعرف كيف يحرك ويتحكم في أكثر من عشرين شخصية، وعندما تنفجر ماكينة لمشروب
الصودا في المطبخ، تغرق الأرض ويرتفع منسوب السائل كثيرا حتى يغطي سيقان
العاملين لكنهم يستمرون جميعا في التحرك بوتيرة سريعة، فهذا هو وقت الغداء،
ساعة الذروة، حيث يصبح الزبائن نافذي الصبر، وتزداد الضغوط على الساقيات
والنادلات في الأعلى، بينما يصارع الطهاة الزمن في الطابق الأسفل.
ويفقد بيدرو أعصابه أكثر من مرة بسبب ما يعتبره اعتداء على
وظيفته من قبل إحدى الساقيات عندما تضطر تحت ضغط الوقت إلى انتزاع قطعة من
الدجاج مما يشويه ووضعها في الصحن، وتارة أخرى يتعرض بيدرو للضرب المبرح
والتهديد بالقتل من قبل طاه أمريكي عنصري.
يبرع كثيرا في أداء دور بيدرو الممثل المكسيكي راوول
بيرونيس، الذي يؤدي بكل انسجام مع الشخصية، يصعد ويهبط معها في انفعالاتها،
منتقلا من البراءة إلى المرح، ومن الرومانسية الناعمة والحب والمشاهد
الحميمية مع جوليا، إلى الغضب والعنف الذي يصل إلى الذروة في النهاية. إنه
ممثل ذو وجه لا ينسى.
أما روني مارا فقد يكون هذا أفضل أداء لها حتى الآن، لدرجة
أنك لن تستطيع أن تتعرف عليها بسهولة في البداية في دور مختلف تماما عن
أدوارها السابقة الأمريكية، يعتمد على سرعة حركتها داخل المكان. جمال ورقة
وسحر وجاذبية، ولكن أيضا سرعة بديهة وحركة وألم خفي في داخلها، وتمزق بين
ما تريده وما تشعر أنه سيضع عبئا لا تقدر عليه.
في البيان الي أصدره عن فيلمه، يقول المخرج: “لقد أردت أن
أظهر ما يحدث بالفعل في هذا النوع من الأماكن التي تخدم 3000 شخص في أي يوم
جمعة عادي؛ حيث لا يوجد ما يكفي من الوقت للجودة؛ حيث يتم تتبيل كل طبق
بقطرات عرق عمال المطعم؛ حيث يتم غمر الحساء في بيكربونات الصوديوم لجعل
الحساء يدوم ثلاثة أيام أكثر مما هو ممكن كيميائيا؛ حيث أن دم شريحة اللحم
المتوسطة النادرة التي تذهب إلى الطاولة الثامنة هو في الواقع دم الطباخ
الذي ارتكب خطأ شبه مميت- كل ذلك بسبب الضغط.. الضغط هو ما يكسر بيدرو
ويجعله يدمر مطبخ رشيد في الفصل الأخير، والضغط هو ما يجعل رشيد غير قادر
على فهم دوافع بيدرو”. |