ملفات خاصة

 
 
 

أشياء بائسة” تحفة مهرجان فينيسيا يحصد “الأسد الذهبي” عن جدارة

أمير العمري- فينيسيا

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

كما توقعنا من اليوم الأول أو منذ أن عرض الفيلم- التحفة “أشياء بائسة” Poor Things أو حسب التسمية الفرنسية وهي الأفضل “كائن بائس” للمخرج اليوناني المرموق يورغوس لانتيموس، حصل الفيلم على الجائزة الكبرى للمهرجان أي جائزة “الأسد الذهبي”، التي تمنح لأفضل فيلم في المسابقة التي ضمت هذا العام 23 فيلما.

الفيلم ناطق بالانجليزية وهو من الإنتاج المشترك بين أيرلندا وبريطانيا وأمريكا، لذا ليس من الممكن اعتباره فيلما يونانيا رغم جنسية وأصل مخرجه الذي ينتمي الآن لسينما العالم. والجائزة بالطبع في محلها تماما، فهذا الفيلم يعلو فوق كل الأفلام، ورغم وجود عدد من التحف السينمائية في المسابقة إلا أن هناك مسافة تجعله يرتفع عن سائر الأفلام، بتفرده في الموضوع والإخراج والتمثيل. ولو لم يكن من شروط المسابقة عدم منح أكثر من جائزة للفيلم الذي يفوز بالأسد الذهبي، لكانت جائزة التمثيل النسائي ذهبت إلى بطلته “إيما ستون” التي تحمل الفيلم بكامله على عاتقها. وقد وجه لها لانتيموس الشكر وهو يستلم الجائزة، وقال إنها كانت العامل الأساسي في مساندة هذا الفيلم سواء م الداخل أو من الخارج، فقد ساهمت أيضا في إنتاجه.

يستند الفيلم على رواية للكاتب الأسكتلندي ألسدير جراي Alasdair Gray الصادرة عام 1992، لكن المعادل البصري للرواية يجعل الفيلم تحفة من تحف السينما الخالصة، بمناظره وديكوراته المدهشة وتصويره الذي ينتقل بنا إلى أجواء القرن التاسع عشر، العصر الفيكتوري، لنتابع كيف تتحول فتاة كانت أقرب إلى كائن ضعيف بائس لا حول له ولا قوة، إلى امرأة تتمرد تماما على تقاليد عصرها، وتخوض مغامرات كثيرة تكسر جميع قيود المجتمع. ومن دون شك سيجد هذا الفيلم مكانا له في صدارة ترشيحات الأوسكار القادمة، كما هي العادة منذ سنوات، بالنسبة للأفلام التي تفوز في فينيسيا.

لم تحضر إيما ستون إلى المهرجان، وبالتالي لم تشارك في حفل الختام ومنح الجوائز بسبب التزامها بما تقتضيه قواعد الإضراب الكبير للممثلين في هوليوود الذي حرم دورة هذا العام من وجود عدد كبير من نجوم السينما الأمريكية، رغم عرض غالبية الأفلام التي اختارها البرتو باربيرا المدير الفني للمهرجان.

بعيدا عن “الأسد الذهبي”، فرضت الاهتمام السياسي نفسه على عدد من الجوائز الرئيسية.

جائزة الأسد الفضي مثلا تقاسمها فيلمان عن قضية اللاجئين في أوروبا أو إلى أوروبا، الأول هو الفيلم البولندي “الحدود الخضراء” للمخرجة المخضرمة أنجليشكا هولاند، والثاني هو “القبطان” للمخرج الإيطالي ماتيو جاروني. والفرق في رأيي كبير بين الفيلمين، فبينما يبدو الفيلم الأول عملا ملحميا كبيرا شديد الصدق والواقعية وأقرب إلى أسلوب الفيلم التسجيلي الذي يرصد ويحلل ويتوقف أمام الحقائق الصادمة، يتابع الفيلم الثاني في رتابة وتقليدية محاولة شابين من السنغال العبور إلى أوروبا وكيف يصبح أحدهما بطلا ينقذ عشرات اللاجئين.

الجائزة الكبرى للجنة التحكيم ذهبت إلى الفيلم الياباني “لا وجود للشيطان” الذي يتناول موضوعا محليا تماما، حول التهديد الذي تمثله شركة للإنشاءات تخترق قرية نائية لتقيم مزارا سياحيا على حساب طبيعة المكان مما يهدد بتلوث البيئة وتغيير الطبيعة.

وكان من الصواب أن تذهب هذه الجائزة التي تأتي في أهميتها مباشرة بعد الأسد الذهبي، إلى الفيلم البديع “مربي الكلاب” Dogman للوك بيسون الذي خرج من المسابقة من دون أي جائزة رغم أنه في رأي كاتب هذه السطور، العمل التالي في أهميته ورونقه وتفرده بعد فيلم “أشياء بائسة”. لكن لجنة التحكيم التي رأسها المخرج الأمريكي دانيال شازيل، ربما تكون قد رأت الاكتفاء بالأسد الذهبي لفيلم “أمريكي” أو ناطق بالإنجليزية وتوزيع باقي الجوائز جغرافيا ولغويا!!

جائزة أفضل ممثل ذهبت إلى الممثل بيتر سارسجارد عن دوره في فيلم “ذاكرة” Memory للمخرج المكسيكي- الأمريكي مايكل مان. وهو فيلم باهت المستوى لم يكن من المناسب أصلا ضمه للمسابقة، فأقصاه أن يذهب للعرض في منصة نتفليكس، وكان يستحق الجائزة عن جدارة الممثل الأمريكي “كاليب لاندري جونز” الذي أدى أداء مذهلا في فيلم “Dogman” أو “مربي الكلاب”، أو إلى الممثل الدنماركي مادس ميكلسون الذي أدى أداء عبقريا في فيلم “ابن الزنا” (أو الأرض الموعودة) وهو عمل آخر كبير ظلم في المهرجان تماما كما ظلم فيلم آخر من أفضل ما عرض بالمسابقة وهو “لوبو” Lubo، وكان بالطبع يستحق الجائزة أكثر كثيرا من “ساراجارد” صاحب الأداء النمطي المتكرر في فيلم ممل لا يقدم أي جديد.

ومنحت لجنة التحكيم جائزة أفضل ممثلة إلى الممثلة الأمريكية كالي سبيني Cailee Spaeny  بطلة فيلم “بريسيلا” وهي تستحق الجائزة إلى حد كبير وكانت إيما ستون بالطبع هي صاحبة الأداء الذي لا ينافس أصلا!

جائزة أفضل سيناريو منحت لفيلم “الكونت” لبابلو لارين، وهو من أقل أفلامه من حيث المستوى العام، وكان من الانصاف أن تذهب الجائزة إلى فيلم لوك بييسون المدهش “مربي الكلاب” طالما أنه لم يحصل على أفضل إخراج، لكن مرة أخرى تتغلب النظرة السياسية، فالفيلم يقدم تشريحا كوميديا خياليا لشخصية ديكتاتور شيلي السابق بينوشيه.

ومنحت اللجنة جائزة خاصة إلى الفيلم البولندي “الحدود الخضراء” وهي جائزة زائدة من نوع تحصيل الحاصل ولا معنى لها بعد أن منح الفيلم نفسه الجائزة الكبرى للجنة التحكيم، وهي تكفي وأكثر!

كان من الطبيعي أن يخرج فيلم محمد بن عطية التونسي “وراء الجبال”، فهو عمل مخجل بمعنى الكلمة، وكان من الخطأ أن يشارك في المسابقة، لكن حتى وجوده بالمسابقة لم يجعله يترك أثرا في الذاكرة.

 

موقع "عين على السينما" في

10.09.2023

 
 
 
 
 

مهرجان فينيسيا الـ80:

"الأسد الذهبي" لفيلمٍ أميركي وبولانسكي "يُشتَم" في الصحافة

نديم جرجوره

بعد 10 أيام من العروض والمتابعات النقدية والصحافية لأفلامٍ من دول مختلفة، أنهت لجنتا تحكيم المسابقتين الخاصتين بالدورة الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي" عملهما، وأعلنتا نتائج اجتماعاتهما، التي (النتائج) لم تكن متوافقة كلّياً مع التوقّعات، كالعادة.

الدورة هذه لم تخلُ من لحظات متشنّجة، خاصة أنّ هناك ثلاثة سينمائيين متّهمين بتحرّشات واعتداءات جنسية، رغم أنّ القضاء منحهم براءة بسبب عدم كفاية الأدلّة: الفرنسي لوك بيسّون ("دوغمان" في المسابقة الرسمية)، والأميركي وودي آلن ("ضربة حظّ" خارج المسابقة)، والبولندي الفرنسي رومان بولانسكي، والأخير لم ينجُ فيلمه "القصر"، المعروض بدوره خارج المسابقة الرسمية، من نقدٍ لاذع في بعض الصحافة الأوروبية، بلغ حدّ الشتائم أحياناً. وهذا في مقابل نقدٍ آخر، رأى أنّ الفيلم "باهر" في اشتغالاته السينمائية، و"لاذع" في نقده راهناً وحالاتٍ تُربك اجتماعاً وعلاقاتٍ ونفوساً.

من 23 فيلماً روائياً طويلاً في المسابقة الرسمية، اختارت لجنة التحكيم، برئاسة الأميركي الفرنسي داميان شازيل، 7 أفلام منحتها 8 جوائز، إذْ نال Lo Capitano، للإيطالي ماتّيو غارّوني، جائزتي "الأسد الفضّي لأفضل إخراج"، و"مارتشيلّو ماستروياني لأفضل أمل"، نالها الممثل السنغالي سايدو سار: حكاية شابين سنغاليين في رحلتهما من بلدهما إلى إيطاليا، بكلّ ما يُمكن لرحلةٍ كهذه أنْ تحتمل من مطبّات وتحدّيات ومخاطر. أما "الأسد الذهبي" (الجائزة الأولى) فنالها Poor Things ليورغوس لانتيموس: أول فيلمٍ لليوناني لانتيموس في أميركا، يروي قصّة امرأة تريد الخلاص من زوجها المُعنِّف لها بوحشية، فتزوّر وفاتها غرقاً، وينفتح اللاحق على أسرارٍ وعلاقات مختلفة. "الأسد الفضّي ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم" مُنحت لـ Aku Wa Sonzai Shinai للياباني رويسوكي هاماغوتشي: عن خطر بيئي يُهدّد قرية يابانية هادئة ونظيفة، بعد قرار شركة عملاقة تنفيذ مشروعٍ لها، رغم تهديده سلامة المياه في المنطقة.

هناك أيضاً جائزة أفضل سيناريو، التي فاز بها التشيليان غييرمو كالديروني وبابلو لارين عن El Conde للارين نفسه: الديكتاتور الفاشي أوغوستو بينوشيه مصّاص دماء عابر للأزمنة، يعيش أكثر من قرنين، ويُحلّق في سماء البلد ليختار ضحاياه ممن سيقتلهم ويمصّ دماءهم ويلتهم قلوبهم. وجائزتا "كوبي فولبي": أولى لأفضل ممثلة نالتها الأميركية كايلي سباييني عن دورها في Priscilla، للأميركية صوفيا كوبولا، وثانية لأفضل ممثل نالها الأميركي بيتر سارسْغارد عن دوره في Memory، للمكسيكي ميشال فرانكو. اختارت كوبولا كتاب "إلفيس وأنا"، مذكّرات زوجة إلفيس بريسلي، لتصنع فيلماً عن أرملته بريسيلا؛ بينما الثاني عن سيلفيا، عاملة اجتماعية تعيش حياة بسيطة ومنظّمة، لكنّ أمورها تتبدّل عندما يلحق شاول بها إلى منزلها، بعد أعوام طويلة على لقائهما في المدرسة الثانوية. اللقاء المفاجئ هذا سيؤثر عميقاً عليهما، إذْ يفتح الباب أمام ماضيهما.

آخر جوائز المسابقة الرسمية، "الجائزة الخاصة بلجنة التحكيم"، مُنحت لفيلم Zielona Granica للبولندية آنييشكا هولاند: رحلة عائلة من اللاجئين السوريين، ومُدرّس لغة إنكليزية من أفغانستان، وحارس حدود، يلتقون على الحدود البولندية البيلاروسية، خلال الأزمة الإنسانية الأخيرة في بيلاروسيا.

مسابقة "آفاق"، التي ترأس الإيطالي يوناس كاربينيانو لجنة تحكيمها، شهدت بدورها أفلاماً مُثيرة لنقاشاتٍ مختلفة، في جوانب عدّة من الحياة اليومية والتفاصيل البشرية، بدءاً من Explanation For Everything للمجري غابور ريز، الفائز بجائزة أفضل فيلم: طالبٌ في مدرسة ثانوية في بودابست يستعدّ لامتحانات الصيف، ويعيش ارتباكاً في حبٍّ ميؤوس منه مع صديقته المفضّلة، التي تحبّ مُدرِّس التاريخ، الذي واجه سابقاً والد الطالب المُحافظ. جائزة الإخراج مُنحت للسويدي ميكا غوسْتافْسن، عن Paradise Is Burning: في منطقةٍ للطبقة العاملة في السويد، تعيش الأخوات لورا (16 عاماً) وميرا (12 عاماً) وستيفي (7 أعوام) بمفردهنّ، بعد أنْ تركتهن والدتهنّ وحدهن. قبيل بداية الصيف، ومع غياب الآباء، تُصبح الحياة جامحة وخالية من الهموم، ومُفعمة بالحيوية والفوضى. لكنْ، عندما يدعو "مركز الخدمات الاجتماعية" إلى اجتماع، يتعيّن على لورا أنْ تجد من توافق على انتحال شخصية والدتها. كما فازUna Sterminata Domenica للإيطالي آلن بارّوني بالجائزة الخاصة بلجنة التحكيم: بريندا حامل، وأليكس سيُصبح أبّاً بعد وقتٍ قليل على بلوغه 19 عاماً. أمّا كيفن، فيملأ المدينة باسمه. كلّ واحد يحاول ترك بصمة خاصة به في العالم. تحدث مواقف ومفارقات، وتظهر شخصيات تتعاقب "في بناء سردي يشبه رواية تشكيلية غير تقليدية".

من جهتها، نالت الكولومبية مارغاريتا روزا دي فرنشيسكو جائزة أفضل ممثلة عن دورها في El Paraiso، الفيلم الفائز أيضاً بجائزة أفضل سيناريو، الذي حصل عليها مخرجه الإيطالي إنريكو ماريا آرتال: قصة حب بين أم وابن، ومأساة حيّة تغمر أبطالها في ظلال، تتغيّر باستمرار، وتكشف أعماق حالاتهم الذهنية؛ كما نال ترغل بولد ـ إردان (منغوليا) جائزة أفضل ممثل عن دوره في City Of Wind للمخرجة لْكاغْفادولام بوريف ـ أوشير (منغوليا): "زي" (17 عاماً) يجهد في دراسته لتحقيق النجاح في الحياة، بينما يتواصل مع أرواح أسلافه لمساعدة أفراد مجتمعه في "أولانباتار" (من الـ"شامان"). وعندما يلتقي الشابة مارلا، تتأرجّح قوّته، للمرّة الأولى، ويظهر واقع آخر.

أما آخر جائزة في "آفاق"، فكانت لأفضل فيلم قصير: A Short Tripe للألباني إيرينيك بيكيري: الشابان الألبانيان كلودي وميرا يقرّران تزويج ميرا نفسها من فرنسي لخمسة أعوام فقط، في مقابل المال، وللحصول على الجنسية الفرنسية. يتعيّن عليهما بعد ذلك اختيار زوج مناسب لها، وتعلّم كيفية انفصال أحدهما عن الآخر.

 

####

 

Poor Things يفوز بالأسد الذهبي في مهرجان البندقية

(فرانس برس)

كرم فيلم Poor Things في حفل ختام الدورة الثمانين لمهرجان البندقية السينمائي، حيث جسدت إيما ستون دوراً نسائياً مذهلاً مستلهماً من الوحش الشهير "فرانكنشتاين". وجاء هذا التتويج في أعقاب إضراب هوليوود وتوجيه اتهامات بالاعتداء الجنسي لبعض صناع السينما.

ويشكّل الفوز بهذه الجائزة المرموقة تكريساً انتظره طويلاً المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس، المشارك باستمرار في المهرجانات، والمعروف خصوصاً بفيلميه "ذي لوبستر" و"ذي فيفوريت".

ويقدّم الفيلم ما يشبه النسخة الأنثوية من المسخ فرانكنشتاين، بأسلوب فانتازيا باروكي، بجزء كبير بالأبيض والأسود. ويمزج العمل بين الطابع الترفيهي والمنحى الهادف المشحون بالرسائل الاجتماعية بشأن القواعد المفروضة على النساء.

وتؤدي النجمة الأميركية إيما ستون، وهي أيضاً منتجة الفيلم، دور كائن ساذج يتلقى تربية عاطفية وجنسية. ولم تتمكن ستون من حضور مهرجان البندقية بسبب الإضراب الذي يشلّ هوليوود منذ أشهر.

وقال يورغوس لانثيموس عند تسلمه جائزته إن الفيلم وشخصيته الرئيسية بيلا باكستر، "المخلوقة المذهلة، ما كانا ليريا النور لولا إيما ستون، المخلوقة المذهلة هي الأخرى".

وفي إيطاليا التي يحكمها اليمين المتطرف، أرسلت لجنة التحكيم برئاسة داميان شازيل (مخرج "لا لا لاند" و"فرست مان")، أيضاً رسالة سياسية من خلال منح جوائز عدة لأفلام تدين تعامل أوروبا مع المهاجرين المتدفقين إلى أراضيها.

وحصلت أنييشكا هولاند، وهي من أبرز الأصوات في السينما البولندية، على جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمها "غرين بوردر"، الذي يعرض المصير المأساوي للمهاجرين من سورية وأفغانستان وأفريقيا، الذين تعرّضوا للتقاذف بين بولندا وبيلاروسيا عام 2021، وتحوّلوا أسرى لعبة دبلوماسية تتجاوزهم.

وحصل السنغالي الشاب سيدو سار على جائزة أفضل ممثل واعد، عن دوره كمهاجر شاب يعبر أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، معرضاً حياته للخطر للوصول إلى إيطاليا، في "إيو كابيتانو" للمخرج ماتيو غاروني، الفيلم الذي حصل أيضاً على جائزة الأسد الفضي لأفضل إخراج.

ذكاء اصطناعي 

على صعيد التمثيل، فاز الممثل الأميركي بيتر سارسغارد ومواطنته كايلي سبايني بجائزتي أفضل ممثل وأفضل ممثلة.

ونال سارسغارد البالغ 52 عاماً، جائزة أفضل ممثل عن تأديته شخصية رجل يعاني الخرف، في فيلم "ميموري" لميشال فرانكو من بطولة جيسيكا تشاستين.

كما فازت سبايني البالغة 25 عاماً، بجائزة أفضل ممثلة عن تأديتها شخصية بريسيلا زوجة إلفيس بريسلي في فيلم "بريسيلا" للمخرجة صوفيا كوبولا.

وخلافاً لنجوم كثيرين يؤدون أدواراً في أفلام من إنتاج الاستوديوهات الكبرى، والذين لم يتمكنوا من المجيء إلى البندقية بسبب إضراب هوليوود، صعد الفائزان على خشبة المسرح لاستلام جائزتيهما.

وانتهز بيتر سارسغارد الفرصة للتعبير عن دعمه للإضراب، وشنّ هجوماً لاذعاً ضد استخدام الذكاء الاصطناعي، وهو موضوع يطالب كتّاب السيناريو والممثلون بوضع ضوابط تنظيمية له.

ولفت الممثل الأميركي إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي قد تكون له تبعات "مرعبة"، مشيراً إلى أنه في حال خسر المضربون في هوليوود معركتهم، فإن هذه التقنية ستُستخدم في ميادين أخرى مثل الطب أو الحرب، ما قد "يفتح الباب أمام فظائع".

وأدى هذا الحراك الاجتماعي في الولايات المتحدة إلى شلّ قطاع السينما والمسلسلات، ومنع النجوم من الترويج للأفلام، باستثناء الإنتاجات المستقلة. وكان الموسترا أول مهرجان سينمائي عالمي يدفع ضريبة إضراب هوليوود.

فقد غابت إيما ستون عن الموسترا، وكذلك فعل برادلي كوبر، فيما حضر عدد قليل من النجوم مثل آدم درايفر ومادس ميكلسن وجيسيكا تشاستين، وحرص كل منهم على تقديم دعمه للمضربين.

ولم تكن مطالب النقابات وحدها التي تردد صداها في البندقية.

فالحركات النسوية سعت أيضاً إلى التعبير عن مواقفها من خلال تحركات في المدينة نددت فيها بالمكانة التي خصصها أقدم مهرجان في العالم لسينمائيين تستهدفهم حركة "مي تو" التي تندد بالعنف الجنسي أو التحيّز جنسياً ضد النساء.

 

العربي الجديد اللندنية في

10.09.2023

 
 
 
 
 

الشرق الأوسط في مهرجان فينيسيا

نتائج الدورة الـ80 من مهرجان فينيسيا أعلنت... فما مستقبل السينما المستقلة من دونه؟

بينها فيلمان عن الهجرة غير المشروعة وآخر سوريالي لمن يحب

فينيسيامحمد رُضا

مع إعلان لجنة التحكيم جوائزها في نهاية كل مهرجان كبير، مثل مهرجان فينيسيا الذي أسدل ستاره الرسمي في 9 من الشهر الحالي، يصبح من العبث محاولة فهم كيف تصل لجنة التحكيم لقراراتها. ويشبه ذلك النظر ملياً في جدار عليه كتابة غير مفهومة أو مثل الإمعان في لوحة سريالية تحتاج لصاحبها لكي يكشف عن أسرارها.

ما أثبتته الدورة الـ80 هو أنه من الممكن القيام بدورة كبيرة وناجحة من دون أن تتمتع بنجوم يثبون عليها من كل صوب. النخبة المختارة من الأفلام عوّضت ذلك الجانب، وما بدا أن الدورة ستكون من النوع الذي يترحم فيها الحضور على دورات ماضية - وهذه عادة دائمة لدى البعض بنجوم أو من دونها - فقد انعكس إيجاباً ليس بعدد الحضور فقط، بل على صعيد منح المهرجان فاعلية كبيرة على أساس أنه مهرجان للفن وللمخرجين وليس للممثلين.

هذا الوضع ليس جديداً بل طالما تبلور في السنوات العشرين أو الثلاثين الماضية. الحاصل أن إدارة مهرجان برلين الحالية لا تملك دفتر التليفونات الذي يملكه مهرجانا فينيسيا وكان. و«كان» بدوره منصرف للاحتفاء بنجومه وزبائنه المعتادين من ممثلين ومخرجين. و«فينيسيا»، في المقابل، باب مفتوح على الإبداع بلا شروط مسبقة ولا تقسيم بين ذكور وإناث ولا بين جيل جديد وآخر قديم ولا يهتم بانتماء الأفلام لشركات أوروبية محددة كما الحال في «كان»، الذي يعتمد في الغالب على أفلام، إما منتجة جزئياً أو كلياً من فرنسا أو اشترتها شركات توزيع وتقدّمت للمهرجان الفرنسي بها.

أسماء وجوائز

إعلان مهرجان فينيسيا قائمة الفائزين بجوائز هذه الدورة يواكب حجم الحضور والمشاركة الكبيرة. وبالطبع، لم تكن كل الأفلام متساوية الحسنات، لأن هذا مستحيل ونادر الحدوث، لكن العديد منها كان بديعاً ومتميّزاً. ومن هذا العدد جاءت الجوائز الممنوحة في مكانها الصحيح، باستثناء ما كان يفضله هذا الناقد أو ذاك لأفلام دون أخرى.

تألّفت لجنة التحكيم من مجموعة من الأسماء المهمّة في عالم اليوم، قادها المخرج الأميركي داميان شازيل «لا لا لاند» وشارك فيها الممثل الفلسطيني صالح بكري والمخرجة النيوزيلندية جاين كامبيون «قوّة كلب» والمخرجة التسجيلية لورا بويتراس «سيتيزِن فور» والمخرج الآيرلندي مارتن مكدونا «أشباح إنيشرين» والمخرج الأرجنتيني سانتياغو متري «أرجنتينا 1985» والإيطالي غبريال مانتي «خليج النمور».

وكل هؤلاء المخرجين، باستثناء مانتي، كانت لهم جولات عدّة مع الأوسكار، مما يشي أن الرغبة في هذا المجال هي تشييد سياج حول المناسبة الأميركية مقرها مهرجان فينيسيا من باب تعزيز الصلة بين المناسبتين.

خارج الأوسكارات هناك سجل حافل من النجاحات للبعض: جاين كامبيون خرجت بأول سعفة ذهبية تنالها مخرجة في مهرجان «كان» عن «البيانو» سنة 1993، ورئيس لجنة التحكيم داميان شازيل كان قد نال الأسد الذهبي في فينيسيا عن «لا لا لاند» في 2016، والمخرجة التسجيلية لورا بيوتراس حصدت جائزة أفضل فيلم روائي في العام الماضي عن فيلمها «كل الجمال وسفك الدماء».

كيف يمكن والحال هذه أن تأتي النتائج مخيبة للآمال.

* الأسد الذهبي لأفضل فيلم: «أشياء مسكينة» (Poor Things) للمخرج اليوناني يورغوس لانتيموس.

هذا الفيلم هو تكملة لمشوار المخرج الخارج عن المألوف بالنسبة لاختياراته من التشكيل الفني المعتمد، إلى حدٍ كبير، على غرابة المعالجة وسريالية المواقف.

* جائزة لجنة التحكيم الكبرى، نالها «الشر ليس موجوداً» (Evil Does Not Exist) للياباني ريوسوكي هاماغوتشي. هذا الفيلم دراما تمتاز بتلك العناصر التي تؤلف للأفلام اليابانية جمالياتها. مشروع بناء سيضر بصفاء النهر الذي يمر بالقرية.

* جائزة أفضل مخرج ذهبت إلى الإيطالي ماتيو غاروني عن «أنا كابتن»، أحد فيلمين شوهدا حول موضوع الهجرة غير الشرعية.

* جائزة لجنة التحكيم الخاصة نالتها البولندية أنغييشكا هولاند عن «حدود خضراء» الرائع حول الهجرة غير الشرعية الذي يتعمّق في وضع المهاجرين ووضع شرطة الحدود. وعيّنت المخرجة محاميين لرفع دعوى قضائية ضد وزير العدل البولندي زبنييف جيوبرو، الذي وصف فيلمها بـ «ببروباغاندا (دعاية) نازية».

* جائزة أفضل ممثل حصدها الأميركي بيتر سارسغارد عن الفيلم الجيد «ذاكرة» لمارتن كامبل.

* جائزة أفضل ممثلة نالتها كايلي سبايني عن دورها في «بريسيليا» لصوفيا كوبولا.

* جائزة أفضل ممثل جديد ذهبت إلى السنغالي سيدو سار عن دوره في «أنا كابتن».

بهذه النتيجة، وبنتائج لجوائز أخرى رسمية وغير رسمية، انتهت دورة مشعّة وحافلة أنجزها المدير العام ألبرتو باربيرا، الذي بزّ معظم، إن لم يكن كل، المدراء العامين السابقين للمهرجان، في تفعيل وتنشيط مهرجان دؤوب على عرض الأفضل.

«فينيسيا» يؤكد موقع قدم متساو مع «كان»، وكلاهما جوهر دعم السينما العالمية المستقلّة عن الإنتاج السائد.

يتساءل هذا الناقد وهو يتابع غروب الشمس فوق صفحة مياه جزيرة ليدو حيث يُقام المهرجان، عن أي واقع ستكون السينما المختلفة عن السائد عليه في زمن يرمي بثقله على كل إبداع ومبدع لولا هذين المهرجانين تحديداً.

 

الشرق الأوسط في

10.09.2023

 
 
 
 
 

"كائنات مسكينة" ليورغوس لانثيموس.. ملذّات اكتشاف العالم

محمد صبحي

فاز فيلم "كائنات مسكينة" للمخرج يورغوس لانثيموس بجائزة الأسد الذهبي لمهرجان البندقية السينمائي (31 آب /أغسطس – 9 أيلول/سبتمبر الجاري)، في قرارٍ لم يكن مفاجئاً كثيراً من الناحية الفنّية، نظراً للإشادة النقدية الواسعة التي نالها الفيلم منذ عرضه الأول. عملٌ غريب وجريء وثري ومفتوح على النقاش وتقليب الأسئلة.
هناك شيء مُراهِق في العديد من الأفلام المعروضة في المسابقة الرسمية لهذه الدورة الثمانين لمهرجان البندقية السينمائي. شيء يتضح ويتجلّى في الانجراف الإجرامي لبطل فيلم "دوغمان" للوك بيسون، وفي مقاربة شخصية الديكتاتور بينوشيه من زاوية الرعب والبشاعة في "الكونت" لبابلو لاراين، ولكن أيضاً في أحدث أعاجيب يورغوس لانثيموس، "كائنات مسكينة"، المتوّج لتوّه بالجائزة الكبرى للمهرجان. القول بالمراهقة لا يعني إشارة إلى الأفلام التي يسكنها مراهقون، ولا إلى منظور الشخص المسؤول عن الحبكة. إنما إلى وجود شيء من الحاجة إلى الإعلان والانتماء، ورفع الصوت أقرب إلى نوبة الغضب منه إلى التحليل النقدي. ولا ينبغي أن يؤخذ هذا باعتباره عنصراً سلبياً بالضرورة، فأنا أشير فقط إلى حقيقة ينبغي التفكير فيها بمزيد من الوقت والتفصيل.

في "كائنات مسكينة"، يعود لانثيموس إلى ما صار أسلوبه المميّز وعلامته التجارية: نظرة مركّزة ومن المفترض أنها موضوعية (جليدية أو علمية، كما سيشير آخرون) على كائن معيّن يتم تحليله بمنطق - نظراً لعدم ارتباطه بعناصر أخرى – ينحو صوب التغريب والدسائس. كما في أفلامه السابقة، تكرّر الآلية نفسها: تُطرَح فرضية، وتوضع قواعد معيّنة، ثم يجري الالتزام بها حرفياً. الافتقار المستمرّ والمقصود لسياقٍ واضح أو تاريخي هو ما يولّد هالة العمق الفلسفي التي يعتقد كثيرون وجودها في أعمال المخرج اليوناني. هذا موجود أيضاً في هذا الفيلم الغريب والرائع، ولكن هناك ايضاً روح دعابة، كما لم يحدث من قبل. فكاهة لا تُولد من إقلاق راحة أو هراء درامي أو استفزاز فكري، بل من بحثٍ محدَّد وملموس لتشييد كوميديا بطريقة أو بأخرى.

وبطبيعة الحال، فالشعار السائد، كما هو الحال في جميع أفلام لانثيموس، لا يمكن أن يكون بسيطاً. باستخدام عناصر ومناخات تشير إلى كلّ من فرانكنشتاين وجزيرة الدكتور مورو، يبني المخرج اليوناني حكاية يمكن فيها لبيلا باكستر (إيما ستون المدهشة دائماً) تجربة شيء مشابه للحياة الثانية. شيئاً فشيئاً نعرف المعلومات اللازمة للتورّط في حدوتة الفيلم عندما يطلعنا عليها الدكتور غودوين باكستر (ويليام دافو، الذي يناسبه تماماً دور هذا الطبيب المجنون والعبقري والأبّ المفترض لبيلا، وليس من المصادفة أبداً أن اسمه الأول Godwin يحتوي على كلمة الربّ God)، الذي أنقذ بيلا من موتها وأعادها للحياة مستعيناً بمخّ جنينها الذي صار الآن في دماغها. جسدٌ أنثوي تامّ ومكتمل بدماغ طفل رضيع. عليها أن تتعلم كل شيء من جديد: كيف تتكلم، وكيف تأكل، وكيف تتعامل مع الآخرين. لكن بيلا ذكية للغاية، وفضولها بشأن ما يحيط بها لا يمكن كبته: فالطبيب الذي قام في هذه الأثناء بتعيين مساعدٍ شابّ هو ماكس (رامي يوسف)، الذي يقع في حبّ بيلا في وقت قصير، يرغب في الحفاظ عليها آمنة من أخطار الخارج، ويريد دراستها، أو ربما يحتفظ بها لنفسه. لكن إرادة المرأة/الطفلة عنيدة. وهكذا تودّع بيلا، غودوين (أم نقول الربّ؟) وماكس، للسفر مع محامٍ لعوب (مارك روفالو المضحك والرائع في هذا الدور) أٌعجب بها وانجذبت إليه جنسياً.

 

من دون الدخول أكثر في القصّة، فالجماليات والتصميم الفني، واستخدام الزوايا الواسعة جداً وكاميرا عين السمكة، وإحداث/ تعيين زمن غير محدّد للقصّة تتلاقى فيه عناصر ماضية مع لمسات مستقبلية... كلها عوامل تؤكّد النبرة الرمزية للقصّة، فيما التصميمات الداخلية الغريبة ذات الطابع الفيكتوري مع الأخرى المستقبلية تبدو وكأنها تنتمي لعالمٍ آخر، لكنها في الوقت ذاته تجعل الفيلم، بطريقة ما، واقعياً يمكن تصديقه.

هنا، سينما يورغوس لانثيموس تلعب نفسها أو مع نفسها. يفعل ذلك من خلال جسد إيما ستون المتواجد في مكان ما بين فرانكنشتاين وباربي، والمتجاوز فضاءات زمنية ومجتمعية. ربما يعود هذا لامتلاك المخرج اليوناني رؤية مفادها أن بطلته يمكنها العيش في أي عصرٍ سينمائي بشكل أكثر وضوحاً مما فعلته في الفيلم الموسيقي الراقص "لا لا لاند" للمخرج داميان شازيل (بالمناسبة، هو رئيس لجنة التحكيم التي توّجت فيلم لانثيموس في المهرجان). في البداية كـ"فتاة برّية"، ثم مخلوقاً يبحث عن الجنس ولكن أيضاً عن الرغبة، وفي النهاية سيّدة قرارها ومصيرها. رغم ذلك، لا يزال هناك سياق مجنون لا يمكن تصوّره - وهذا بالضبط سبب إصرارنا عليه - بين بيلا باكستر وباربي. كلتاهما تعيشان في عالمٍ تهيمن عليه مساحة طويلة لا نهاية لها من الديكور السينمائي، والأكثر أنهما أصبحتا من لحمٍ ودمّ، ما يضع خيالهما في أزمة. تتمتع بيلا بحياة مزدوجة، ذات بعدين، تماماً مثل بيلا سوان (كريستين ستيوارت) في ملحمة "الشفق" Twilight. هل يمكن أن تكون بيلا سوان، ذات الأرواح الكثيرة، تناسخت وتجسّدت في بطلة فيلمنا التي تشترك معها في الاسم نفسه؟
"كائنات مسكينة" - المستند إلى رواية بالعنوان ذاته من العام 1992 للكاتب الاسكتلندي غراي ألازدير - قصة اكتشاف وانتقام، سردية نسوية رائعة عن النضوج، فيلم طريق وكوميديا غريبة عن الزواج من جديد، عملٌ مسلٍّ وزاخرٍ بالسخرية، ومطعّمٌٍ بعناصر خرافية وقوطية. المكونات النوعية لا تخفي الإرادة السياسية للفيلم. على العكس من ذلك، فمن الواضح (كما صرّح المخرج في المؤتمر الصحافي بعد العرض العالمي الأول) أن القصد هو إدانة المكانة الممنوحة (أو بالأحرى غير الممنوحة) للمرأة في العصر الفيكتوري، ولكن أيضاً، بشكل عام، في مجتمع القرنين العشرين والحادي والعشرين. تكتسب قسوة المخرج المعتادة هنا نغمة أكثر مرحاً، حيث تسود سخرية وسوداوية محبّبة، مستخدماً (لحسن الحظ) أداة الفكاهة التي لا تخيب. مفهومٌ أن مشكلة "كائنات مسكينة" (كما يحدث، بطريقة ما، مع كل الأفلام المذكورة في الفقرة الأولى) لا علاقة لها بما يُقال أو يُلمح إليه، بل بالحاجة إلى تأكيد الفيلم على ما يقوله، والمبالغة في التأكيد على خطابه.

لكن بعيداً من هذه الإفراطات أو المثالب، يمتدّ "كائنات مسكينة" لأكثر من ساعتين بخفّةٍ غير معتادة في أفلام لانثيموس. طاقم التمثيل، إيما ستون وويليام دافو ومارك روفالو ورامي يوسف وهانا شيغولا، ينسج معاً بعض لحظات الكوميديا العالية. يجب أن نشكر أيضاً الحركة النسوية لمساهمتها في فيلمٍ لطيف يبدو فيه مخرج "المفضّلة" وكأنه يحبّ بعض شخصياته/مخلوقاته، بل ويفاجئنا بشيء يشبه النهاية السعيدة.

 

المدن الإلكترونية في

10.09.2023

 
 
 
 
 

يوميات الموسترا 80: الاختيار الإنساني في زمن الحرب

أمير العمري- فينيسيا

يقام “الموسترا” سنويا في جزيرة الليدو المطلة على “البحر الادرياتيكي” من جهة، وعلى اللاجون الفينيسي الكبير من الجهة الأخرى حيث تتوقف الحافلات المائية التي تحمل الركاب وتنقلهم بين الجزر المختلفة مثل سان ماركو ومورانو وبورانو وغيرها.

وقد استقر مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في جزيرة الليدو منذ تأسيسه عام 1932، باستثناء عامين خلال الحرب، حينما نقل إلى فينيسيا سان ماركو، خشية تعرض الجزيرة للقصف الجوي، وكان المهرجان قد نشأ من البداية، ضمن “البينالي الدولي للفنون” الذي تأسس عام 1895، وأطلق مؤسس المهرجان، الكونت فولبي عليه صفة “الموسترا”، أي المعرض الدولي للسينما، فقد كانت السينما كفن أصبحت تعامل كالفن التشكيلي. وظل اسم الموسترا قائما حتى يومنا هذا.

وصلت إلى جزيرة الليدو حيث أقيم باستمرار في كل الدورات التي أحضرها في المهرجان السينمائي الكبير منذ 37 سنة. لم تتغير الجزيرة الصغيرة كثيرا، فقد بقيت معظم فنادقها على ما كانت عليه، وعددها محدود للغاية ولم يتم التوسع بسبب ضيق مساحة الأرض، مما يجعلهم يبالغون كثيرا في رفع الأسعار خلال فترة المهرجان استغلالا للهجوم الذي يقع سنويا من جانب الصحفيين والعاملين في شركات الإنتاج والتوزيع الترويج وغير ذلك.

لكن الكثير من التحسينات والتوسعات، لحق بمنشآت المهرجان نفسها، فقد زاد عدد القاعات المزودة بشاشات وأنظمة صوت ومقاعد مريحة، ونجح المهرجان في استعادة رونق وبهاء القاعة الكبرى (صالة جراندا) الواقعة في قصر المهرجان، وإعادتها إلى ما كانت عليه عند افتتاحها عام 1937 من حيث الديكورات والألوان والتناسق والمقاعد، وهي القاعة التي تقام فيها العروض الرسمية للمهرجان وحفلا الافتتاح والختام.

وصلت هذا العام كما أفعل دائما، قبل يوم من الافتتاح أي يوم 29 أغسطس، وعادة ومنذ سنوات، يخصص المهرجان عرضا لفيلم من كلاسيكيات السينما، من الأفلام الصامتة التي تعرض مصحوبة بعزف موسيقي حي تؤديه فرقة موسيقية، في استعادة لذلك التقليد القديم الذي صاحب السينما عند نشأتها، وهو ما أعتبره حدثا كبيرا شديد الخصوصية كنت أحرص دائما على حضوره.

إلا أن المهرجان افتقد هذا العام ذلك الفيلم الصامت الكلاسيكي، وبدلا منه عرض المهرجان الفيلم الإيطالي الناطق “الزوجة الضالة” The Wayward Wife الذي قامت ببطولته جينا لولوبريجيدا، وأخرجه الايطالي ماريو سولداتي عام 1953. والعرض الخاص الذي يحضره عادة 1600 من أفراد الجمهور والضيوف، خُصص لتذكر النجمة الإيطالية التي رحلت عن عالمنا في يناير من العام الجاري.

وأتذكر أنني عندما حضرت لأول مرة إلى المهرجان في عام 1986، كان المهرجان يكرم جينا لولو بريجيدا، وكانت حاضرة وشاءت الصدفة أن أجلس وراءها مباشرة في القسم العلوي من “صالة جراندا” عندما كانت الدنيا غير الدنيا، وكان مسموحا للنقاد بحضور حفل الافتتاح والجلوس أينما يشاءون ولم تكن قد فرضت القيود كما هو الآن، فقد كان عدد الصحفيين والنقاد في ذلك الوقت لا يتجاوز 400 شخص، والآن قارب الـ 4 آلاف شخص. وفي تلك المناسبة، أي في حفل افتتاح دورة 1986، عرض المهرجان فيلما تسجيليا قصيرا كان قد تم اكتشافه مؤخرا في أحد أقبية الأفلام في باريس، هو الفيلم الذي صوره وأخرجه المخرج الأمريكي العملاق أورسون ويلز عام 1958 وأطلق عليه “بورتريه لجينا” (26 دقيقة). وقد عاد المهرجان هذا العام فعرض الفيلم نفسه في احتفالية تذكر جينا لولو بريجيدا جنيا إلى جنب مع فيلمها الروائي الطويل “الزوجة الضالة”.

أما فيلم الافتتاح فكان الفيلم الإيطالي “القبطان” Comandante وهو من إخراج إدواردو دو أنجليس، وهو مخرج غير معروف كثيرا، إلا أنه يثبت بهذا الفيلم أنه مخرج كبير، يتمتع بحساسية خاصة، وقدرة على تقديم عمل كبير بكل المقاييس: تصميم المشاهد، الصورة، الأجواء التاريخية، السيطرة على الأداء التمثيلي، الانتقال السلس بين الأزمنة، واتقان مشاهد الحركة والأكشن، لكن فيلمه لا يعتبر من أفلام الأكشن الحربية، بل هو في الحقيقة قصيدة شعر مرئية بديعة عن الاختيار الإنساني في زمن الحرب، فهو يستند إلى وقائع حقيقية أثناء الحرب العالمية الثانية في أوائل الأربعينات، عندما كانت إيطاليا الفاشية منغمسة في الحرب إلى جانب ألمانيا النازية ، ضد الحلفاء.

عنوان الفيلم يحمل معنى مزدوجا، فهو الاسم الأول للغواصة الإيطالية الشهيرة Comandante Cappellini، كما أنه يعني أيضا “القبطان”، أي قائد تلك الغواصة، الضابط البحري سلفاتور تودارو.

يروي الفيلم القصة الحقيقية لسلفاتور تودارو (يقوم بدوره بييرفرانسيسكو فابيانو)، الذي أنقذ حياة عددا من البحارة البلجيكيين بعد أن أغرق سفينتهم التجارية بعد أن أطلقت النار على الغواصة- وأصر على الاحتفاظ بهم رغم احتمال أن تتعرض غواصته التي أصبحت تبحر طافية فوق سطح الماء، لنيران الأسطول الانجليزي، وهو موقف إنساني يعلي من أخلاقيات التضامن البشري فوق مقتضيات البروتوكول العسكري.

ليس هذا فقط، بل تمكن هذا القائد صاحب الشخصية الكاريزمية التي تكتسي بقدر من النبل والغموض، من إتمام مهمته التي كلف بها حتى النهاية ثم فقد بعد ذلك حياته كما كان يعلم عن يقين وقد تنبأ بموته، وبأنه لن يعود من البحر، وهو ما نعرفه من خلال ما يكتب على الشاشة دون أن يصوره الفيلم.

وكما ذكرت، رغم أن الفيلم يدور في معظمه خلال الحرب وداخل الغواصة إلا أنه لا يعتبر فيلما حربيا بالمعنى التقليدي، فهو يركز على شخصية هذا القائد واختياره الإنساني، ويعود إلى حياته الخاصة، مع زوجته الجميلة، التي تنتظر طفلا يعرف عن يقين أنه لن يراه. وهناك لقطات تتداعى في ذاكرته لزوجته التي ترتدي قبعة عسكرية وتتخذ وضعا شبيها بما عرفناه في شخصية شارلوت رامبلنج في فيلم ليليانا كافاني الشهير “الحارس الليلي” Night Porter، ولكن المشابهة هنا ليست واضحة!

الفيلم يمكن اعتباره دراسة لشخصية القبطان “تودارو” فهو يجعله عسكريا شديد الالتزام بتقاليد العسكرية الحقة كما تعلمها، وليس مجرد “فاشي” يتبع بشكل أعمى تقاليد الفاشية وأوامر موسوليني وتعليمات قواده بضرورة إبادة الأعداء. إنه رجل يمارس “اليوجا”، ويلعب الشطرنج، ويخيط الجرح القطعي بنفسه لأحد البحارة، ويمتلك القدرة على التنبؤ عندما يأمر أحد المتطوعين في بداية الفيلم، بالعودة إلى بلدته رافضا ضمه للخدمة، وسنعرف فيما بعد أن هذا الشاب مصاب بمرض كان يمكن أن يؤدي إلى وفاته لولا أن صرفه القبطان فتلقى العلاج في المستشفى ونجا من الموت.

تودارو يمتلك القدرة على التسامي والتأمل، عالمه هو البحر، وليس ميدان السياسة على الأرض. وهو يغضب غضبا شديدا عندما يصفه أحد بحارة السفينة البلجيكية بالفاشي.

كانت السفينة التجارية البلجيكية “كابالو” تحمل شحنة من المواد العسكرية للبريطانيين رغم أن بلجيكا لم تكن قد أعلنت رسميا انضمامها للحلفاء في الحرب، وقد فتحت النيران على الغواصة الإيطالية، مما جعل تودارو يأمر بقصفها بالمدافع وإغراقها ثم يأمر بانتشال 26 بحارا بلجيكيا من الذين نجوا من الموت وكانوا سيغرقون في الماء، ويضمهم إلى غواصته الجبارة التي كانت تعتبر فخرا للبحرية الإيطالية. وقد اتخذ قراراه هذا رغم معارضة نائبه، ويظل على موقفه حتى بعد أن يتآمر اثنان من البحارة البلجيكيين ويحاولان السيطرة على الغواصة.

الموقف الإنساني النبيل للقائد، يجعل البلجيكيين الآخرين يدركون أنهم أمام شخصية غير عادية، كما تتطور العلاقة بينهم وبين أقرانهم البحارة الإيطاليين، وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها تعبيرا عن التآخي الإنساني، يقوم البلجيكيون بتعليم الايطاليين تقطيع وقلي رقائق البطاطس (التشيبس) التي لم تكن معروفة لهم في ذلك الوقت، في حين يحتفل الفيلم بالطبع بالأطعمة الإيطالية، والأغاني وتنوع اللهجات في اللغة الإيطالية، ويصور أيضا بعض النماذج الإنسانية للبحارة باعتبارهم كائنات بشرية تتمتع بالحس الإنساني أبعد ما تكون عن القتل وثقافة العنف، ومن أهم تلك الشخصيات طباخ الغواصة “جيوسيبي” الذي يعزف على آلة الأوكورديون ويغني الأغاني الإيطالية الشعبية، والغواص الذي سيلقى مصيره بعد أن ينقذ الغواصة من مصير مظلم، في أحد أكثر المشاهد شاعرية وتعبيرا عن فكرة القدر الإنساني.. فهو لن يغرق بل سيترك نفسه طواعية خارج الغواصة دون أن يقدر على العودة إليها بعد أن نجح في تخليصها من اللغم الذي كاد أن يدمرها، وترك نفسه لمصيره في أعماق المحيط في صورة تذكرنا كثيرا بصورة مماثلة من فيلم “أوديسا الفضاء” لكوبريك، لكن بدلا من متاهة الفضاء الشاسع المجهول، فالغواص يغرق هنا في أعماق المحيط.

توفرت لهذا الفيلم جميع عناصر النجاح، من التصوير البديع الذي يهتم برصد أدق التفاصيل، خصوصا الديكور الهائل للغواصة الذي صمم لها كما تعاونت البحرية الإيطالية في توفير الكثير من المعدات للفيلم، إلى الموسيقى التي تعتبر جزءا أصيلا من الفيلم، تخلق الأجواء، من الترقب إلى الاسترخاء، من المواجهة، إلى التسامي. ويبرع الممثل العملاق بييرفرانسيسكو فابيانو في أداء دور القبطان، بالتعبير بوجهه وعينيه في اللقطات القريبة، ومحاكاته الدقيقة لشخصية القبطان الممزق بين انتمائه الأرضي، إلى زوجته والتفكير في طفله المنتظر، وعلاقته بالبحارة على متن غواصته، وقدرته على التحكم في مشاعره، وتغليب الشعور الإنساني على الكراهية، فهو أقرب إلى شاعر، بل إنه يقرأ أيضا بعض أبيات الشعر.

قد يرى البعض من خارج إيطاليا، أن الفيلم يسعى لتجميل وجه إيطاليا الفاشية، واستعادة صورة إيطاليا العسكرية وإعادة ضخها في صورة إنسانية، إلا أنني لا أتفق مع هذه النظرة التي تأتي تحديدا من جانب المعسكر الذي كان مناهضا أثناء الحرب، فالفيلم يعلو بالقيم الإنسانية، مصورا مأزق الإنسان الوجودي أثناء الصراع المسلح، وكيف يعلو الحس الإنساني على القسوة والأيديولوجية، وهو جانب مجهول مغمور في الأدب وفي السينما عموما، من تلك الفترة التي شهد خلالها العالم أشرس أنواع الصراعات المسلحة.

إنه فيلم عذب بديع، وقصيدة بصرية مدهشة، عن الحب، عن التضحية، والتسامي، وعمل متكامل من جميع العناصر السينمائية، لذلك اعتبره تحفة من تحف هذه الدورة.

 

موقع "عين على السينما" في

11.09.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004