ملفات خاصة

 
 

زين العابدين خيري يحكي:

لماذا فاز “بوابة هوليوود” بجائزة النقاد في “الجونة”؟

الجونة السينمائي

الدورة السادسة

   
 
 
 
 
 
 

عدت قبل أيام قليلة من الجونة بعد حضور فعاليات الدورة السادسة -الاستثنائية- من مهرجان الجونة السينمائي الدولي، وكانت بالفعل استثنائية على مستويات عديدة، فبسبب الظروف المحيطة بها إقليميا نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتوحشة على غزة وحرب الإبادة التي تمارسها هناك، تم تأجيل إقامتها مرتين حتى أقيمت بالفعل بعد موعدها المحدد بحوالي شهرين، وتمت إضافة برنامج للسينما الفلسطينية، وكذلك تم إلغاء كافة المظاهر الاحتفالية والالتزام بكود خاص بملابس الحضور في الافتتاح والختام سيطر عليه اللون الأسود.

صفة الاستثنائية في الدورة لم تكن على المستوى العام فقط بل كانت دورة استثنائية لي أيضا بشكل شخصي جدا، أولا لأنني كنت عضوا -للمرة الأولى- في لجنة تحكيم مسابقة الاتحاد الدولي للنقاد (الفيبريسي)، وثانيا لأنني اضطررت للغياب عن الافتتاح وأول يومين من أيام المهرجان بسبب ظروف مرض والدتي وكدت بسبب ذلك أعتذر تماما عن حضور الدورة وعن لجنة التحكيم، لولا أنها شخصيا وفي عز مرضها الذي أدعو الله أن تتعافى منه تماما قريبا، أذنت لي بالسفر للانتهاء من مهمتي.

اللجنة

قبل الحديث عن الأفلام التي شاهدناها كلجنة تحكيم الفيبريسي في هذه الدورة، أود الحديث عن زميلي في اللجنة وهما الناقدة المتميزة والنشيطة “أولا سالوا” من بولندا، والناقد والإذاعي ستيفن أسبلينج من جنوب أفريقيا. وأود عبر هذا المقال شكرهما للدعم والمساعدة النفسية التي قدماها لي طوال فترة المهرجان، بل ومن قبله وبعده، بسبب الظروف التي أمر بها، وثانيا للطف والتعاون الذي أبدياه في فترة عملنا معا في تحكيم الأفلام، وهو ما ميّز هذه اللجنة بقدرة كبيرة على التفاهم في إطار حقيقي من الود والاحترام.

شاهدنا كلجنة تحكيم سبعة أفلام متنوعة، 6 منها من آسيا وفيلم وحيد من أفريقيا، تنوعت اتجاهاتها بل ونوعيتها فكان من بينها الروائي والوثائقي، وهذه الأفلام كانت الفيلم الروائي “وداعا جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفان، “هوليوودجيت” أو “بوابة هوليوود” وهو فيلم تسجيلي ألماني الإنتاج، للمخرج المصري إبراهيم نشأت، “لو أستطيع فقط السبات”، روائي، للمخرج المنغولي زولجارجال بورفداش، “سعادة عابرة”، وهو فيلم روائي من كردستان العراق للمخرج سينا محمد،  “ق” وهو فيلم وثائقي لبناني للمخرجة جود شهاب، وفيلم “الموت والحلم” من سنغافورة للمخرج زو شنج منج، وأخيرا فيلم “همسات النار والماء”، روائي من الهند للمخرج لوبدهاك تشاترجي.

وعلى الرغم من هذا التنوع الشديد والاختلاف الواضح بين طبيعة ونوعية الأفلام ولكن جمع بينها مشتركات أهمها من وجهة نظري انتصارها للإنسانية والتقاطها لنماذج هامشية بعيدة عن الأضواء لا تظهر في وسائل الإعلام إلا كأرقام ضحايا لن يتوقف عندها الكثيرون.

وربما يتضح من خلال السطور التالية التي سأقدم من خلالها عرضا سريعا للأفلام السبعة ما أقصده بالتشابهات والنقاط المشتركة بينها.

وداعا جوليا

حصل على جائزة “سينما من أجل الإنسانية

على الرغم من أنه العمل الأول للمخرج والمؤلف محمد كوردفاني فإنه استطاع تقديم عمل فني عالي الجودة. يتميز بكل ما يحتاجه الفيلم الجيد من سيناريو متماسك ممتلئ بالصراعات والمشاعر الإنسانية، وهناك سيطرة تامة على كل عناصر اللعبة، من تصوير وتمثيل ومونتاج.. إلخ

فيلم يضعك مباشرة في قلب الصراع ويجعلك تفهم الكثير مما قد لا تعرفه عن ما يحدث في السودان، يوضح الأسباب والظروف التي أدت إلى انفصال جنوب السودان عن السودان، ويشرح الكثير عن أزمات كالعنصرية التي عانى ويعاني منها ذلك المجتمع وأدت إلى ما حدث ويحدث هناك حتى اليوم، وكل ذلك بلغة سينمائية بعيدة عن الخطابية والمباشرة.

وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي تم تصوير الفيلم خلالها في السودان التي كانت ومازالت تعاني من ويلات الانقسامات والحروب الأهلية والثورات فإن كل ذلك لم يؤثر على عزيمة فريق العمل واستكملوا فيلمهم على أكمل وجه وكأنه لم يواجهوا أية مشاكل.

الفيلم يستحق الإشادة على كل المستويات، ولا أبالغ إن قلت إنه واحد من أجمل الأفلام التي رأيتها هذا العام، بل هو الأفضل على مستوى أفلام الشرق الأوسط وأفريقيا

لو كان بإمكاني السُّبات

فاز  بطله باتسوغ أورتسيخ جائزة أفضل ممثل ضمن جوائز مسابقة الأفلام الروائية الطويلة

ما أصعب أن تخلق البهجة والأمل والحب من قلب المعاناة! هذا بالتحديد ما استطاع هذا الفيلم الجميل أن يقدمه، فهو قطعة جميلة من الفن الراقي، نقل لنا ببراعة هذه المأساة التي تعيشها أسرة فقيرة في إحدى المدن الإقليمية في دولة منغوليا، دون أن ينخرط في المأساة إلى النهاية أو أن يجعلها ميلودراما زاعقة، بل حرص الفيلم على أن يكسر الاندماج في المأساة باستمرار عن طريق أغنية أو لعبة أطفال محلية أو مواقف مبهجة كالتزلج على الجليد أو غيرها، كما استمر في التأكيد على أن الأمل موجود في صنع حياة أفضل لهذه الأسرة عن طريق ابنها المراهق الذي يتمتع بكل المواصفات كإنسان طموح دون أن يسقط الفيلم في فخ المبالغة أو تصوير هذا البطل المراهق على أنه ملاك لا يخطئ، بل هو يعيش مراهقته بكل جموحها، كما أنه لا يتخلى أبدا عن مسئوليته التي حملها على عاتقه مرغما أو راضيا.

الفيلم جميل على كل المستويات ونجح في تصوير الطبيعة القاسية في منغوليا من حيث البيئة والطقس الصعب جدا في الشتاء والفقر الشديد الذي تعاني منه كثير من الأسر، وليست الصورة فقط التي كانت جيدة بل كان شريط الصوت كذلك مميزا جدا. أما الأبطال الصغار: المراهق وشقيقته وشقيقه فإنهم كانوا رائعين مما يدل على المجهود الكبير الذي بذله المخرج لإظهارهم بهذا الشكل المتقن.

سعادة عابرة

فازت بطلته رفين رجبي جائزة أفضل ممثلة ضمن جوائز مسابقة الأفلام الروائية الطويلة

إيقاع هادئ، لقطات ثابتة تستمر لثواني بل لدقائق عديدة على الشاشة، وكأنها لوحات تشكيلية مرسومة بعناية تصور الطبيعة الخلابة لتلك المنطقة الريفية النائية في كردستان العراق، تقريبا بلا أي استخدام لمصادر الإضاءة باستثناء المصادر الطبيعية، وبأداء تلقائي عفوي من الممثلين كأنهم غير محترفين.

وعلى الرغم من كل هذا الهدوء وهذا السلام الذي يغلف مشاهد هذا الفيلم الذي يصور الحياة البسيطة غير المعقدة لمربي ماشية وزوجته من كردستان العراق، رغم ذلك فإن الفيلم يورطنا في قلب الأحداث والأحزان التي تواجهها هذه البقعة المسالمة من العالم في كردستان العراق، حيث لا تتوقف الاعتداءات عليها من الدول المجاورة وخصوصا تركيا، حيث نعرف من صوت نشرات الأخبار كيف تصيب القنابل الأبرياء من سكان هذه القرى المسالمة.

فيلم جميل يقول كل شيء بلا صخب، إلا صخب صوت الطائرات المغيرة التي يظهر كل حين ليذكرنا أن الخطر قائم، وأن هؤلاء المسالمين ليسوا بعيدين عن الموت على الرغم من أنهم لم يفعلوا أي شيء إلا العيش في سلام، ولكن حتى هذا لن يرحمهم.

يقول أحدهم: “لقد عشنا، لكن الحياة بصراحة كانت شيئًا آخر، كل يوم نرى موت من أحببناهم، لكننا لم نتوقف عن ري حدائقنا”.

إنهم أناس مسالمون يكفيهم من الحياة لحظات سعادة ولو عابرة.

همسات النار والماء

فيلم همسات النار والماء

فيلم هادئ الإيقاع جدا، يتميز بصورة جميلة لطبيعة خلابة وصعبة في الوقت نفسه. هو فيلم بطولة الصوت بلا شك، اسمه دال جدا على ما نتوقعه منه، ولكنه لا يستمر على الإيقاع أو الطريق الذي يسلكه طوال الوقت، وإنما يتحول ويتغير في المنتصف، بما جعلني أشعر أحيانا بارتباك المخرج وعدم قدرته على تحديد ما يريده تماما من فيلمه، ولا ما الرسالة التي يريد توصيلها، باستثناء الرسالة المباشرة التي تشير إلى كم المعاناة الكبير الذي يعانيه هؤلاء الذين يضطرون للعمل والحياة في هذه الظروف القاسية في المناجم النائية شرق الهند، والتي لا يعلم عنها أغلب العالم شيئا.

في كل الأحوال هو فيلم مبذول فيه مجهود كبير جدا حتى يتم تنفيذه، ويستحق التحية على هذا المجهود والنتيجة النهائية التي خرج بها شريطا الصورة والصوت على حد سواء.

الحلم والموت

فيلم الحلم والموت

في مساحة بين الواقع والأحلام والخيال والأساطير والتجريب تدور أحداث فيلم “dreaming and dying”. هو فيلم عن الحب والماضي الذي نعتقد أنه انتهى ولكنه يظل يطاردنا للأبد ويعيش بداخلنا، بل وربما يحرمنا من الحياة الواقعية نفسها ونعيش بسببه في عالم موازي.

ربنا تبدو الأحداث غريبة بعض الشيء ولكن ما يخفف من حدة ذلك هو أن المشاعر الإنسانية واحدة مهما اختلفت الثقافات. الفيلم غريب أيضا في الأبعاد التي تم تصويره بها، فالصورة مربعة تقريبا على عكس ما اعتدنا على مشاهدته في السنوات الأخيرة. ومن مناطق الغرابة والتجريب في الفيلم أيضا كان أن التترات أو أسماء فريق العمل ظهرت بعد أكثر من 27 دقيقة من بداية الفيلم، ما يجعلها واحدة من أطول فترات ما قبل التترات التي شاهدتها في الأفلام، وربما تكون الأطول على الإطلاق.

بشكل عام الفيلم جيد وإنساني ومتميز جدا على مستوى التمثيل من الممثلين الثلاث الذين لا يظهر غيرهم في الفيلم، كما أبدع المخرج ومدير التصوير في إظهار الطبيعة ولكن بألوان هادئة ومحايدة وليست مشرقة، تتناسب تماما مع الحالة النفسية للأبطال.

“ق

فيلم تسجيلي ذاتي يدور حول شخصية أساسية وهي “هبة” التي انخرطت لسنوات طويلة من عمرها في جماعة دينية شبه سرية تتزعمها امرأة، كانت هبة تعشقها إلى حد الجنون، وعلى الرغم من ذلك نكتشف تدريجيا ولكن بشكل غير مباشر كيف أن هذه “الجماعة” وهذه الزعيمة قد آذوها كثيرا جدا..

الفيلم تصوره الحفيدة، والشخصية الرئيسية هي أمها “هبة”، والشخصية الثالثة في الفيلم هي الجدة التي أحبت وشجعت ابنتها على الانضمام لهذه “الجماعة”..

في رأيي الفيلم جيد في مناطق وضعيف وممل في مناطق أخرى، وكان يفتقد التماسك في هذه الأجزاء. ولكن أجمل ما فيه حقا هو الشخصية الرئيسية المحبة للحياة والتي كانت تمتلك الكثير من المواهب ورغم ذلك ضحت بها من أجل “الجماعة”.

بوابة هوليوود

فاز بجائزتي الاتحاد الدولي للنقاد “فيبريسي”، ونجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم وثائقي

فيلم وثائقي شجاع وذكي يحكي عن الوضع في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية منها، وسر شجاعة الفيلم في الوقت نفسه أن مخرج ومصوره في نفس الوقت لم يكن يملك لا خططا ولا حرية في التصوير كيفما شاء، بل كان يصور طوال الوقت وهو تحت تهديد القتل، ليس مجازا ولا تهديدا بل قتل حقيقي يمارسه رجال طالبان ضد أي معارض لهم أو من يشكون في خيانته. أما الذكاء فهو في كيفية التعامل مع كل هذا الكم من المادة التي تم تصويرها ليخرج في النهاية فيلم متماسك يوصل بشكل واضح حجم المأساة التي تعيشها الدولة الأفغانية حاليا، وحجم الكارثة التي تسبب فيها انسحاب القوات الأمريكية بهذه الطريقة، تاركة معدات وأسلحة وطائرات بمليارات الدولارات سهلت كثيرا مهمة طالبان في التحول من مليشيا إلى جيش نظامي كبير.

أهم عناصر قوة الفيلم بجانب ما سبق المونتاج والتصوير بالطبع. أما أهم سلبيات الفيلم فهي وجود بعض مناطق الملل التي امتدت وتكررت وخصوصا في النصف الأول من الفيلم، كما اختفى بشكل مفاجئ شخصية أساسية -أحد مساعي قائد القوات الجوية- وهو واحد من شخصيتين فقط اهتم الفيلم بتصويرهما على مدار العام، وكان من المهم معرفة مصير هذه الشخصية.

حيثيات الفوز

الفيلم الفائز إذًا بجائزة لجنة تحكيم الاتحاد الدولي للنقاد كان فيلم “بوابة هوليوود” للمخرج المصري إبراهيم نشأت المقيم في ألمانيا، وجاء ذلك بعد منافسة حقيقية مع أفلام “وداعا جوليا” و”لو كنت أستطيع السبات” و”سعادة عابرة”، وكلها حصلت على جوائز أخرى في مسابقات المهرجان المختلفة، دون أن يقلل ذلك من قيمة بقية الأفلام ولكن في رأي اللجنة أن هذه الأفلام كانت الأقوى، أما حيثيات الفوز التي تم إعلانها أثناء تسليم الجائزة وتم نشرها على موقع الاتحاد الدولي للنقاد فكانت:

هذا الفيلم الوثائقي الحربي الجريء والمقلق والمحفز للتفكير يضفي طابعا إنسانيا على أمراء الحرب كمسعى فني لا يعرف الخوف يوضح كيف يمكن استخدام الكاميرا كسلاح في ساحة معركة الحقيقة.”

 

موقع "شهرزاد" المصري في

30.12.2023

 
 
 
 
 

زوايا

ردم الفجوة بين الفن والجماهير

رشا عمران

اختتمت فعاليات مهرجان الجونة السينمائي في دورته السادسة التي تأجّلت من موعده في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بسبب حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الصهيوني علي غزّة؛ ثم افتتحت الدورة في 14 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، لتسلط الضوء على السينما الفلسطينية ضمن برنامج ألحق بالبرنامج الرئيسي، ويضم 16 فيلماً من فلسطين وعنها؛ هذا بالإضافة إلى الإعلان عن التبرع بخمسة ملايين جنيه مصري دعماً لغزّة، في مبادرة تُحسب لصنّاع المهرجان الذي كانت دورته استثنائية حقاً بكل معنى الكلمة، خصوصاً على مستوى التغطية الإعلامية له، والتي يمكن القول إنها، ولأول مرّة منذ تأسيس المهرجان، كانت على مستوى من الجدّية لم نعهدها في الدورات السابقة

ركّز الإعلام في هذه الدورة على النشاط السينمائي والفعاليات المرافقة من ندواتٍ وورشاتٍ عملٍ ولقاءاتٍ متنوّعة، ما أظهر جدّية المهرجان وأهمية ما يقدّمه من عروض وأفلام ودعم لمشاريع سينمائية وليدة تحتاج لتمويل كي تُنجز، أكثر بكثير من تركيزه على أزياء النجوم وفساتين النجمات التي عادة ما تثير ضجّة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، يتم فيها شتم الفنانين واعتبارهم سبب خراب هذه الأمة، وشتم الفن عموماً والتعامل معه بوصفه فجوراً وفسقاً وهادماً للمجتمع.

ربما يجب هنا التنويه بأن دورة هذا العام ألغت السجادة الحمراء، واستعاضت عنها باللون الترابي، وألغت كل المظاهر الاحتفالية، في رمزية تضامنية بالغة الأهمية، خصوصاً بعد فعاليات مهرجان البحر الأحمر التي حفلت بالمظاهر الاحتفالية، لا في فقرة السجادة الحمراء فقط، بل أيضاً في استضافة نجوم غناء أحيوا سهرات وحفلات جرى نقلها على الهواء مباشرة، وتناقلها على وسائل التواصل الاجتماعي. بينما التزم غالبية ضيوف مهرجان الجونة بلباس محتشم يميل إلى الأسود والألوان العاتمة، كان متفقاً عليه من إدارة المهرجان من جهة احتراماً للظرف العام. ومن جهة ثانية، فرضه ربما الطقس المائل للبرودة في منتصف ديسمبر، على عكس الدورات السابقة التي كانت تعقد في سبتمبر وأكتوبر، حيث الطقس حارّ جداً. وقد ظهر هذا حتى في لباس النجمات في الندوات العامة اللواتي ارتديْن الكاجوال وبمكياج خفيف وشعر طبيعي بدون مبالغات في أي شيء. وهو، عموماً، ما يجب اعتمادُه دائماً في مهرجانات السينما خارج حفلتي الافتتاح والاختتام اللتيْن تتطلبان السجادة الحمراء، وما تستلزمه من لباس خاصّ بها

شكّلت السينما الظاهرة الفنية الأكثر أهمية في القرنين، الماضي والحالي، حيث شهدت تطوّراً مذهلاً على كل المستويات، لا سيما التقنية، ما جعل منها فناً بالغ النخبوية وفناً شعبياً وعاماً في الوقت نفسه، هذه المعادلة في الجمع بين المستويين لا يستطيع أن يقدّمها أي نوع آخر من الفنون. لهذا لطالما كانت السينما لسان حال الشعوب، ولطالما كانت الوثيقة الأكثر نبلاً وصدقاً عن الحدث التاريخي الماضي وعن الحاضر، وربما هي الفن الأكثر استشرافاً للمستقبل، والذي يمكنه أن يجمع كل الفنون في ساعاتٍ قليلة، خصوصاً مع دخول السينما في عالم التجريب علي المستويين البصري والتقني، وأيضاً على مستوى الإخراج والسيناريو

تجعل هذه القيمة لفن السينما من المهرجانات السينمائية أمراً مهماً، وليس مجرّد ترفٍ وترفيه، كما يعتقد كثر في عالمنا العربي، ففي هذه المهرجانات يلتقي صنّاع السينما، ويضعون خططاً لتقديم منتج سينمائي رفيع، مهمّته المساعدة في وضع معايير جديدة للفنون وأهميتها ولقيمة الجمال في الحياة؛ الجمال بوصفه قيمة عامة، تشمل العدالة والحرية والإنسانية التي تتصدّى للظلم والقوة والاستبداد والقتل. ولعل في أوضاع مثل أوضاع عالمنا العربي الحالية، وفي العجز العام الذي نعيشه جميعاً أمام آلة القتل الشرسة وأمام حروب الإبادة التي تتعرّض لها شعوبنا، لا نجد منجى سوى الفنون لتوصل صرخات احتجاجنا ووجهات نظرنا وحكاياتنا الحقيقية إلى العالم

لا ترتقي المجتمعات ولا تتطور بدون الفنون، هذا أمرٌ يجب أن يعمّم وأن يكون جزءاً من وعي الشعوب. ولكن ليحدث هذا، يجب أن يكون صنّاع الفنون على قدر أهميتها. ما فعله القائمون على مهرجان الجونة هذا العام يمكن أن يكون المعيار الذي تقام على أساسه المهرجانات اللاحقة لردم الفجوة بين الفن والجمهور العربي الذي يرى فيه ترفاً فاسقاً لا يتناسب مع قيم المجتمع.

 

العربي الجديد اللندنية في

30.12.2023

 
 
 
 
 

بين الأحلام والواقع... صراعات الفوز ومتاهات الخسارة

نور هشام السيف

خلال أيام مهرجان الجونة السينمائي في دورته الاستثنائية الأخيرة، انطلقت قصتان مختلفتان من زاويتين مختلفتين من العالم، تنساب تفاصيلهما على وتيرة الطموح والواقع الاجتماعي.

الفيلمان مترابطان حول فكرة السعي للفوز في مسابقة تؤهل أصحابها للحصول على منحة مالية أو علمية.

الأول يأتينا من السويد بعنوان "التنويم المغناطيسي"، والثاني من منغوليا "لو أمكنني الغرق بسبات".

التنويم المغناطيسي

"أشعر أني أفعل كل شيء للتكيّف، منذ طفولتي أفعل كل القرارات التي يود الآخرون أن يفعلوها"...

هذه كلمات مقتضبة تخرج بحذر من فاه فيرا (تلعب دورها أستا كامي أوغست)، الفتاة الهادئة والمنصاعة أثناء علاجها بالتنويم المغناطيسي.

هدف الزيارة الرئيس هو محاولة الإقلاع عن التدخين، بينما تأخذ الجلسة العلاجية منحى آخر بمجرد أن استخدمت المعالجة دعوة مجازية في المخيلة لشدّ العقل الباطن وتحفيز الخيال لتجسيد تجارب منسية في الطفولة تعزز الرغبة والوعي بها.

فيرا هي شريكة اندريه، والذي يقوم بدوره الممثل الشهير هربرت نوردوم. هما يعملان معاً على مشروع  تطوير تطبيق للهاتف المحمول خاص بصحة المرأة الإنجابية ومساعدة النساء في جميع أنحاء العالم. 

ولكي يؤسسا لدعاية جيدة، اختلق أندريه قصة وهمية عن حكاية فيرا مع دورتها الشهرية، وأنّها تعاني من خلل في الدم. تمرنت فيرا على سردية القصة المؤلمة والتي تعود إلى مراهقتها، فتقول في مقدمتها "كان هناك الكثير من الدم، هل هذا يكفي؟"، وهي تعي تماماً أنّها غير حقيقية، لكنها بحسب قول شريكها هي أكثر وسيلة جذابة لخلفية المشروع.

في سياق التنويم الإيحائي

لا تُعدّ فيرا الكذب خطيئة كبرى، لكنها تقوم بالتركيز في كيفية تلقّي الآخرين لكذبتها، لذلك تسعى تدريجاً الى التخفّف من ثقل تلك الكذبة التي لن تستمرّ مع شريكها في المنافسة. 

أول التحولات الرقص في السيارة ثم التعبير عن الغضب أثناء انتقادها، ومع مرور الوقت تتفاعل مع الأحاديث بدلاً من كونها هادئة مستكينة ولا تتردّد في الهجوم مع ابتسامة متفاعلة.

يتلقّى اندريه أفعالها المستحدثة بقلق كبير بخاصة أنّ هذا التوقيت يتزامن مع عرض مشروعهم الخاص للمستثمرين.

وكلما زاد توتر اندريه وتوجسه من تصرفاتها الغريبة والمحرجة، كلما استشعرت فيرا أنّ عفويتها تلك تثير إعجاب المسؤول عن تدريب الشركات الناشئة قبل تقديمها للمسابقة.

وهذا الإعجاب يكمل نواقصها ويشعرها باستحقاقها الذاتي، تنجرف فيرا إلى تصرفات مروعة سلوكياً دون خط رجعة، فهي تلعب لعبة الإحراج مع الجميع وليس مع شريكها الذي كان يلقنها  باستمرار ما يريد.

ووصل حدّ التمادي إلى صراخها على إحدى الشخصيات المسؤولة في الحدث كونها داست على كلب وهمي اختلقته فيرا في مخيلتها وغير موجود في الحقيقة.

تتعامل فيرا مع هذا الكلب اللامرئي أمام العلن من دون أن يفارقها الشعور بالتحدّي أمام السؤال الكامن: هل يوجد سبب منطقي يجعلنا نشعر بالحرج من الآخرين؟

وماذا لو استخدمنا السخرية بدل الهجوم المباشر؟ لعلّ النتائج واحدة لكنّ السخرية تحمل وطأة أخف وتفتح باباً للضحك وإن كان مصطنعاً، لإنقاذ الموقف.

تتواصل فيرا بعشوائيتها المقصودة فتخلط كأساً من الحليب مع الخمر في البار من دون أن تدفع ثمنه.

الجميع مرتبك ومحرج ومستنكر بينما هي مرتاحة وبشوشة، كما أنّ ارتباك شريكها وشعوره بالحرج يغذي أناها العالية وعيناها تنطقان: "لنستمرّ في اللعبة إذن".

وصل سلوك فيرا إلى منحى غريب جعلت من اندريه المرتبك والمتوجس أن يتخذ خطوة جذرية باستخدام حبوب المنوم في كوب ماء.

تستمرّ التنقلات بين الأحداث ببطء، لكنها لا تسير كما هو مخطط لها، وعلى عكس ما هو متوقع حين يكشف أمرهما، لا يقوم اندريه بإلقاء اللوم على فيرا، لقد وصل إلى مرحلة استنزاف كامل في تعرية روحه الداخلية وفقاعة الزيف الكبرى التي يعيش فيها.

لم يحضر أندريه مع فيرا تلك الجلسة اليتيمة للتنويم التي اكتشفها بعد خسارة كل شيء، لكنّ صمته الطويل جداً كان بمثابة تحضير لجلسة غير موجودة تمّ فيها تهيئة عقله وجسمه لاستقبال الإيحاءات بشكل شفاف وتأمل أعمق، فتحدث نهاية ساخرة وغير متوقعة.

أراد ارنست دي جير في تجربته الإخراجية الأولى استكشاف تأثير الإحراج السلبي المتكرّر في العلاقات الشراكية أو الزوجية، وكيف يمكن أن يكون ذلك مُضيقًا على الطرفين، كما تجسّد ذلك تمامًا في شخصية أندريه "شريك فيرا وصديقها الحميم في الفيلم، الذي وصل به التوتر وانعدام الثقة بالنفس إلى الذروة، عندما رفضت فيرا في الثلث الأخير من الفيلم الاستمرار في القصة المختلقة  للحصول على التمويل".

 يعبّر دي جير بأساليب أكثر غرابة في المشهد النهائي، أنّ عقاب الكذب ليس الإقصاء أو الضرب  أو العنف أو الانفصال، بل يكفي أن يكون سلسلة من الإحراجات الشخصية،  ليس الخجل والخفر الذي يزين الحب والعلاقة الحميمة بل وإثبات حقيقة أن تكون محرجاً على الدوام من نفسك ومن قرينك، إنّها تجربة إنسانية عميقة، ولكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها تصاعداً مدمّرًا.

لو أمكنني الغرق بسبات

لقد حان الوقت لفتح النافذة على السينما المنغولية بعد هذه الدراما الحزينة والشاعرية، والتي سبق عرضها في مهرجان كان السينمائي في دورته الماضية ضمن مسابقة "نظرة ما".

يحمل الفيلم لمخرجته زولجارغال بيوفداش في تجربتها الأولى، مفردة الغرق في دلالة على اليأس والشعور بالهاوية، لكنّه ممتلئ بإرادة صلبة، عن قصة شاب مراهق "أولزي"، يقوم بالدور الممثل باتسوج أورتسيج، يعيش تحت خط الفقر في منطقة يورت في العاصمة المنغولية، أو لان باتار، ومسؤول عن إخوته الصغار بعد انتقال والدتهم إلى الريف، يظهر الفتى العبقري من سياق محيطه بمهاراته الاستثنائية، يتمّ تحفيز اكتشافه من قِبل معلمه الذي يشجعه على متابعة فرصة دراسية قد تغيّر حياته، ويدفعه للقرار في خوض مسابقة الفيزياء للحصول على منحة دراسية، تتقاطع جزئية المعلم الحكيم والتلميذ العبقري في ظروف بائسة مشابهة لفيلمين شهيرين من هوليوود الأول "صيد حسن النية" الذي أُنتج عام 1997، والثاني "البحث عن فوريستر" الذي أُنتج عام 2000، والاثنان من إخراج جوس فان سانت.

لكنّ  الحكاية هنا ليست بثنائية الحكمة والضياع، بل هي أحادية وتزيد الأعباء على المراهق عندما تتغير خططه الدراسية بفعل قرار والدته بترك العاصمة للعمل في الريف، ينفعل أولزي في وجهها بعد مواجهة عتاب قاسٍ "أنتِ أسوأ أم"، غادرت الأم الخيمة المهترئة تاركةً أطفالها الصغار تحت مسؤولية ابنها البكر، غير آبهة بمستقبله الدراسي. يجد نفسه في صراع تبدّل المسار إلى حياة أكثر مأساوية من قبل، مضطرًا لتحمّل المسؤولية عن أخوته والعمل في وظيفة محفوفة بالمخاطر بدلاً من الالتزام بالدوام المدرسي.

تتجلّى هذه القصة المألوفة برغم التحدّيات، دون أن تسمح للمشاهد بالانغماس في التراجيديا. يظهر هؤلاء الأطفال كأفراد عمليين وفكاهيين من أجل الحصول على صندوق كرتون ورقي من فائض المتاجر، كبديل عن الحطب لتدفئة أنفسهم وسعيهم للبقاء.

إنها لعبة عبثية في نهاية الأمر! عندما يحترق الورق في الموقد، فما هو البديل في اليوم التالي إذاً؟

تضع المخرجة زولجار فيلمها ضمن سياق الترقب والتساؤل حتى نهاية الفيلم، حول مصير هؤلاء الأطفال، حيث لا توجد في الطرف الآخر من الحكاية شخصية خارقة أو منقذة، شخصية المعلم تقتصر على اللوم والتحفيز في لقطات محدودة.

الشخصية المنقذة هي البطل المراهق ذاته، هو فقط من يستطيع إنقاذ اشقائه من الجوع والفقر والبرد القارص، ولأجل ذلك كله يضحي بالتمارين من أجل المنحة الدراسية.

تأتي خلفية هذه القصة لظروف مشابهة عاشتها المخرجة في طفولتها، كونها حصلت على منحة دراسية في اليابان، وهذا ما يجعلنا نلاحظ أنّ التجارب الروائية الأولى غالباً ما تروي جزءاً من التجربة الحياتية للمخرج ذاته، عملت زولجار على أن يكون السيناريو مؤثراً بما يكفي لجذب الاهتمام.

وقد عثرت على طرف الخيط عندما برع الأخوة في إثارة الإعجاب، من دون أن يسمحوا للعواطف بالسيطرة، ويظهروا قوتهم وقدرتهم على التكيّف حتى في ظل الظروف الصعبة، وهذا ما يجعل الأمر أقرب للحقيقة، حيث لا وقت للندب في مجتمع مسحوق يفكر في النجاة اليوم ويترك الغد للغد، وفي هذا السياق أيضاً لا يوجد تعاقب سريع في المونتاج، بل في تكرار تفاصيل سبل النجاة أو الغرق بسبات، إنّ هذه السينما تحديداً تعثر على شاعريتها الحقيقية بالتقاط الواقع عندما يستمر الضوء الخافت والظل في تشكيل حركة تبادلية داخل الخيمة الصغيرة التي يتحرك من خلالها الأخوة في أضيق حيز ممكن تخيله.

ثم يحدث الانتقال إلى ضوء الطبيعة وضوء النهار (بدرجة الأبيض الثلجي الناصع) السائد على المشاهد النهارية والتي تعدّ بالنسبة للبطل مغامرة فردية لمحاربة الشتاء، تركّز القصة في المقام الأول على قيمة التضحية، واختبار قدرات الذات التي تتبين لنا أنّها تتفوق على القدرة الجسدية لمراهق وحيد، وأيضاً قيمة الحب غير المشروط، فحين تسير الأمور على ما يرام في ما يخص استمرارية أولزي في المسابقة يتصل بوالدته رغم كل شيء. يقول لوالدته كلمة واحدة أمي، أنا أحبك".

يُذكر أنّ الفيلم إنتاج منغوليا، فرنسا، سويسرا، أما البطل باتسوج أورتسيج فنال جائزة نجمة الجونة عن فئة أفضل ممثل في مسابقة الفيلم الروائي الطويل.

 

النهار اللبنانية في

30.12.2023

 
 
 
 
 

راهول بهات: "مبدئي في التمثيل أن أعمل لمخرج لا لجمهور"

الجونة/ ندى الأزهري

عمل الممثل الهندي راهول بهات مع أنوراج كاشياب، المخرج المتفرّد في السينما الهندية، في 3 أفلام، آخرها "كينيدي" (2023)، المعروض أخيراً في برنامج "الاختيار الرسمي ـ خارج المسابقة"، في الدورة الـ6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي".

عُرف كاشياب دوليّاً بفيلمه المذهل "عصابات واسيبور" (2012)، المعروض في الدورة الـ65 (16 ـ 27 مايو/أيار 2012) لمهرجان "كانّ"، المكوّن من جزئين، يكشفان في 5 ساعات صراع 3 أجيال من رجال العصابات في مدينة واسيبور. هذا الفيلم وضع مخرجه على حدة، في سينما بلده، كمؤلّف سينمائي. أفلامٌ له معروضة أيضاً في دورات سابقة لـ"كانّ"، في أقسامٍ مختلفة.

في أفلامه، لا يخرج كاشياب كثيراً عن سينما النوع، سينما الفيلم الأسود، عن عالم العصابات والشرطة والإجرام، وإنْ بأساليب مجدِّدة. استعان بالممثل الشاب راهول بهات في "بشع" (2013) و"دوبارة" (2022)، قبل "كينيدي"، والعنوان لقبٌ عُرف به قاتلٌ مأجور، شرطيٌّ سابق اعتُبِر ميتاً لأسباب غامضة، لكنّه يواصل العمل بإدارة روؤساء له، سابقين وفاسدين، مُستغلاً مهامّه لإشباع عطشه الشخصي للانتقام. يُستعان به لتصفية حسابات مع شخصيات سياسية واقتصادية وإجرامية في مومباي، الخاضعة للفساد والرشاوى.

زمن الفيلم فترة الحجر في كورونا: عديّ، أو كينيدي، لا يتردّد في تنفيذ المهام المُكلّف بها، من دون أدنى شعور بندم أو رحمة. في سرد مُعقّد، يتنقّل الفيلم من دون تمهيد بين ماضي الشخصية الرئيسية وحاضرها، مع ارتكاب جرائم بدمّ بارد. من خلالها، يُكشَف عن عالمٍ رهيب في وحشيته وفساده، عالم الليل والجريمة والسلطة الفاسدة، المواضيع المفضّلة لكاشياب.

أدّى بهات الشخصية بإتقانٍ لافت للانتباه، وأثار الفضول بخصوص تحضيره الدور المُعقّد هذا، وكيفية عمله مع كاشياب، فكان لقاءٌ معه في "مهرجان الجونة".

(*) لفتَّ الأنظار في "كينيدي" بتأديتك الدور الرئيسي، أي دور قاتل مأجور. هل تُقدّم نفسك إلى القرّاء العرب؟ كيف أتيت إلى السينما؟

أنا من كشمير، في شمال الهند، حيث المشاكل (ضاحكاً). عام 2023، مثّلت في "صُنع في كشمير" لسانجيل كول، وأصوِّر حالياً مسلسلاً. يمكن القول إنّي مهاجر في بلدي. تركت كشمير في فترة الهجرة والإرهاب، عام 1991. نريد العودة إلى أرضنا، وأتمنّى السلام للجميع.

عرفتُ أنّ لـ"مهرجان الجونة" شعار "سينما من أجل الإنسانية". لا شيء، ولا دين أهمّ من الإنسانية. دوافعي كفنان إنسانية، ولو لم تكن هكذا، لا يُمكنني أنْ أتفهّم المشاعر. ليكون المرء ممثلاً جيداً، عليه أن يكون إنساناً قبل كلّ شيء. هذا ما أطالب به في العالم. للمهرجانات دورها. هنا مثلاً، في الجونة، نلتقي صنّاع سينما وفنانين من كلّ أنحاء العالم، ونتبادل الآراء، ونحاول تفهّم ثقافات مختلفة. هذا يدفعنا إلى الآخر، وإلى أن نكون أكثر إنسانية وتفاعلاً وتقبّلاً وحبّاً. الصبر مع الآخرين، والانفتاح والتسامح، ومنحهم الفرصة، تخلٍّ عن الأنانية. هذا مهم، خاصة في هذه المنطقة. أصلّي للعرب كي يحلّ السلام في هذه المنطقة.

(*) كيف استطعت شقّ الطريق في مومباي بعد قدومك من كشمير؟

وصلت إلى مومباي عام 1991، وبدأت العمل "موديل"، ثمّ أصبحت "سوبر موديل". لكنّ التمثيل كان دائماً من آمالي، إلى أنْ جاءتني الفرصة في التلفزيون للعمل في مسلسل اجتماعي عن المسلمين، فبات "رقم واحد" في الهند، لـ5 أعوام. استمرّيت في العمل في التلفزيون مؤدّياً أدواراً أولى. كنتُ، في الوقت نفسه، أشاهد الأفلام بكثرة. ثم عرض عليّ أنوراج كاشياب العمل في "بشع"، الفائز بجائزة أفضل فيلم في "مهرجان بوسان"، في العام نفسه. تابعت في أفلامٍ أخرى، منها "دوبارة" لكاشياب أيضاً.

(*) حين دخلتُ ردهة الفندق، لم أتعرّف على عديّ. تبدو مختلفاً جداً في الواقع، قلباً وقالباً، لولا نظرة العين. كيف تحضّرت لهذا الدور الصعب؟

عملتُ على زيادة وزني 20 كيلوغراماً. أتذكرين المشهد الذي أقشّر فيه التفاحة، بداية الفيلم؟ (القشرة تبقى متّصلة من البداية حتى النهاية ـ المحرّرة). تمرّنت على هذا بتقشير 500 تفاحة، في 6 أشهر. لم أقشّر في حياتي تفاحة قطّ. كنتُ ألتهمها كما هي. أيضاً، كنتُ أرقد والسلاح تحت سريري، لأشعر بمشاعر قاتل مأجور يحيق به الخطر في كلّ لحظة، كما في الفيلم. شخصية كينيدي مُعقّدة. إنّه مُعلّم في القتل، ومفاجئ في أساليبه وتوقيته ووسائله. إنّه شخصية آلية لا مشاعر لها. كان عليّ، بكل بساطة، أنْ أكون آلة.

(*) أيضاً، يتحرّك عديّ ـ كينيدي بأسلوبٍ مُعيّن، ويحكي بصوتٍ خشن، ويتميّز بنظراتٍ حادّة، لا سيما حين يضع الكمامة، ولا تظهر إلاّ عيناه. أبهَرْتَ بأدائك. ما كان تأثير الدور على حياتك؟

عملتُ كثيراً على لغة الجسد والعيون. النظرة كلُّ شيءٍ في التمثيل، لا سيما هنا، فأحداث الفيلم تجري في فترة كورونا، أيّ مع الكمامة أحياناً. كان عليّ التعبير بعينيّ فقط في مشاهد عدّة. كاشياب طلب منّي التدرّب يومياً على الشخصية بمفردي، إلى أنْ أرسلتُ له، ذات ليلة، صورة أبدو فيها مُتقمّصاً شخصية كينيدي. ردّ علي في منتصف الليل: أنتَ كينيدي الذي أريد.

لكنّ هذا الدور حطّمني نفسياً، وأصابني بالاكتئاب. أصدقائي نصحوني بالتخلّص من الشخصية، وإخراجها من داخلي. اكتأبوا لمعاناتي. إنّها شخصية صعبة للغاية. معها، عليّ الدفاع عن نفسي، وعن ذاتي الحقيقية، لكنّي لم أستطع ذلك. إنّها شخصية مجنونة، تقتل من أجل لا شيء. إنّها لا تشبهني إطلاقاً. كينيدي شخص آخر لا أعرفه، ولا أريد أنْ أعرفه. استعنت باستشارات نفسية لبلوغ الحالة، وتدرّبت على التعبير بنظرتي، وعلى تغيير نبرة صوتي. عملتُ على تعلّم فَكّ الأسلحة وتركيبها وأنا مُغمض العينيين. بعد الانتهاء من الدور، كنتُ أودّ رمي كينيدي خارج جسدي، لكنّه كان يقاوم. بل إنّي كنتُ أصوّر فيلماً بعده، وقال لي مخرج الفيلم سوديف مجهرا: "اطردْ كينيدي منك".

(*) تعاملت مع مخرج مشهور، أنوراج كاشياب، في 3 أفلام. كيف كان العمل معه؟

إنّه مُعلّم لامع، وشخص غريزيّ. مُعجبٌ به، وإن كان الشغل معه صعب. لكنّي أعتبر أنّي ممثل تابع لمخرج. بمعنى أنّي أعمل لمخرج، وليس للجمهور. هذا مبدئي. ما يهمّني التأثير في مخرجي، وليس في أي أحد آخر. أن يكون راضياً عنّي مائة بالمائة. أنا "جوكر" له، وليس لشخصٍ آخر. لا أقول للآخرين: "انظروا إليّ، أنا هنا". أعمل من أجل نظراته هو فقط، وأحاول أنْ أفهم ما يريد من الشخصية. أضطلع بمسؤوليتي، وكممثل، أخذ الدور على عاتقي بالكامل، وأقوم بكل أنواع الأدوار.

(*) هل تعمل في السينما المستقلّة فقط؟ ما علاقتك بسينما بوليوود؟

(ابتسامة أكبر) أحبّ العمل في سينما بوليوود أيضاً. إذا قرّروا يوماً أنْ يستيقظوا من أجلي، فأنا جاهز. لكنّهم يغمضون عيونهم. نعم. لديهم عالم أحلام لهم، يغصّ بالسحرة والعظماء الذي يدرّون عليهم أموالاً كثيرة. حين ينتبهون إلى وجودي، سأرغب في العمل مع الجميع.

اليوم، التقيتُ فيليب (المخرج البلجيكي فيليب فان ليو ـ المحرّرة) في "الجونة". تحدّث معي عن فيلمٍ. أيضاً ألفتُ أنظار مخرجين عالميين. شكلي يساعدني، ويُمكن لي أن أكون مكسيكياً أو إيطالياً قريباً من المافيا. (أخذ يُريني صُوراً تُبديه ممثلاً إيطالياً). كوني كشميري، يعني أنّي خليط من مختلف الأعراق. يمكنني أن أغيّر في صوتي وجسدي، وأن أغيّر كلّ شيء، وأن أكون عربياً أيضاً.

(*) هل تعتبر نفسك مشهوراً في الهند؟

حين أؤدّي دوراً بشكلٍ سيئ، أصبح بالتأكيد أشهر (يضحك). لكنّ الهند تتغير. هناك اليوم نوع آخر من المخرجين، الذين يأتون من مدنٍ صغيرة، وهم يغيّرون كلّ شيءٍ، ويصنعون أفلاماً من نوع آخر. أنا أبلغ عمراً يسمح لي بتأدية كلّ الأدوار.

(*) في أدوارك، خاصة آخرها، هل تأثّرت بأحد؟

مُتأثّرٌ أنا بكلّ شيء. آخذ الكثير من عظماء السينما، لكنّي أصنعها بطريقتي، وأبديها بأسلوبي. لا أضيّع شخصيتي أو أصلي. أحبّ أصغر فرهادي مثلاً، وتعجبني أدوار ممثلين عديدين. في الحقيقة، أُعجَبُ بالفيلم والشخصية، لا بالشخص.

 

العربي الجديد اللندنية في

10.01.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004