عن الأفلام الفائزة في مهرجان الأفلام السعودية
رامي عبد الرازق
من بين 78 فيلما شكلوا ملامح الدورة التاسعة لمهرجان
الأفلام السعودية (4-11مايو) عرضت شاشة مركز الملك عبد العزيز الثقافي
(إثراء) ستة أفلام فقط ضمن مسابقة الأفلام الطويلة التي تمثل واحدة من أربع
مسابقات أساسية للمهرجان الذي انطلقت دورته الأولى عام 2008 ولم ينتظم
سنويا إلا عام 2015.
شاركت
المملكة بأربعة أفلام من أصل الأفلام الستة هما “عبد” للمخرج منصور أسد
و”أغنية الغراب” لمحمد السلمان و”طريق الوادي” لخالد فهد و”المكان المهجور”
لجيجي حزيمة – وهي المخرجة الوحيدة وسط مجموعة المخرجين الذكور- بجانب
فيلمين عراقيين هما رجل الخشب لقتيبة الجنابي وأخر السعاة لسعد الصباغ.
لم يغادر أي من الأفلام الستة ليلة الختام دون ان يصعد
صناعها جميعهم إلى مسرح إثراء لتسلم النخلات الذهبية في مختلف المجالات
التنافسية! وكأن لجنة تحكيم المسابقة التي ضمت كل من المنتج الفرنسي دانيال
زيسكانيد والمنتجة التونسية درة بوشوشة والممثل والمنتج السعودي هشام فقيه
انحازت لفكرة التشجيع او الدعم المعنوي اكثر مما انحازت إلى الأصالة الفنية
التي لم تتسم بها بعض الأفلام المشاركة بالمسابقة.
يكفي أن فيلم خافت البريق مثل المكان المهجور لجيجي حزيمة
والذي يحاول ان يحكي قصة امرأة تعيش في اغتراب وعزلة عاطفية ووجودية بأكبر
قدر من الكليشيهات لم يغادر قبل أن يحصل على جائزة افضل تصميم صوت رغم وجود
فيلم غنائي استعراضي مثل طريق الوادي رغم تواضع حكايته ونمطية صورته- إلا
أن اللجنة أثرت ان تمنحه جائزة افضل ممثلة للشابة أسيل عمران بدلا من منحه
جائزة تقنية في اكثر العناصر التي تفوق فيها بجانب التصوير وتصميم المناظر
والموسيقى.
فيلم “حزيمة” نفسه لولا انه موجود في المسابقة لما ادرك أي
مشاهد أنه فيلم سعودي- المخرجة تبدو امريكية من اصل سعودي وفيلمها مصور في
امريكا بل انه من الطريف ان بطلة الفيلم تظهر شبه عاريه في بعض المشاهد في
حين أن في اللحظات التي تتطلب بوح حميمي للأجساد بينها وبين حبيبها نجدها
تقبله في جبهته مثل أم رؤوم بعد ان يطلب منها هو في بنوة وتواضع جسدي أن
تقبله هي لا ان يتخذ هو المبادرة بشكل طبيعي ودون افتعال.
كذلك تم منح جائزة افضل فيلم خليجي للفيلمين العراقيين أخر
السعاة ورجل الخشب ! ليس مناصفة كما اعلنت لجنة التحكيم! بل ان تُمنح
الجائزة كاملة لكلا الفيلمين! – أي ثلاثون ألف ريال لكل فائز- وهي سابقة
غريبة لم نشهدها من قبل! وتحتوي على قدر كبير من المجاملة غير المفهومة
وغير المطلوبة أيضا، فالمهرجانات تبني جانب مهم من سمعتها التنافسية عبر
قوة لجان التحكيم المكتسبة من تنوع التخصصات وأصالة الذائقة والمنطقية
الفنية للحيثيات التي تؤطر عملية منح الجوائز، كما أن التزام لجنة التحكيم
بلائحة المهرجان هو جزء من مصداقية أي لجنة مع الاحتفاظ بحق الاقتراح
والتوصية- مع العلم اننا لا نعرف الكثير من المعلومات عن اللائحة وهي فرصة
لكي ننبه القائمين على المهرجان عن ضرورة نشرها على موقع المهرجان وتضمنيها
في الكتالوج/الدليل الخاص به- ولكن أن تطلب لجنة التحكيم من الإدارة منح
جائزة كاملة لفيلمين متنافسين على جائزة واحدة هو استثناء يبدو ضرره اكثر
من منفعته، سواء كانت تشجيعية او داعمة، خاصة أن كلا الفيلمين لا يملكان من
الجدارة الشعورية او قوة العاطفة – ناهينا عن خفوت المحتوي البصري- ما
يجعلهما حالة خاصة تستحق الخروج عن النص بهذا الشكل، والذي لا يرجو أي من
المؤمنين بجدوى ومغزى واهميته التظاهرة ان تتكرر.
العبد والغراب
يمكن القول أن المنافسة الحقيقية هذا العام على مستوى
الأفلام الطويلة انحسرت في فيلمي عبد لاسد منصور وأغنية الغراب لمحمد
سلمان، وكلاهما عمل اول لمخرجه الشاب بعد تجارب في الفيلم القصير، وكلاهما
سبق وأن عرض ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر في دورته الثانية، وإن كان
نصيب الغراب من العروض الدولية افضل نسبيا من عبد، حيث نافس مؤخرا ضمن
مسابقة الأفلام الطويلة بمهرجان مالمو في دورته ال 13 (28 ابريل-4 مايو)
وأعتُبر الترشيح الرسمي للسعودية ضمن منافسات أفضل فيلم أجنبي بالأوسكار
من بين انتاجات 2022.
وقد فاز الفيلم بجائزة أفضل ممثل لبطله عصام عواد الذي قدم
اداء مميزا بحق في دور الشاب المصاب بورم في المخ يجعله يدخل في عوالم
سوريالية يتقاطع فيها الواقع مع الوهم، وحاز ايضا على جائزة لجنة التحكيم
الخاصة التي يمكن اعتبارها النخلة الفضية، بينما حاز عبد على جوائز أفضل
مونتاج وأفضل سيناريو منفذ بالإضافة إلى النخلة الذهبية كأفضل فيلم
بالمهرجان في دورته التاسعة.
من الملاحظ أن كلا الفيلمين يلعبان في مساحة التجارب التي
تحاول التحرر من شكل السرد التقليدي، ولكن بينما يتخذ الغراب من العبث
والسوريالية توجه سردي – إلى درجة الغموض احيانا- يصل إلى حد تساقط الامخاخ
من السماء على رأس البطل، يبدو عبد منحازا إلى العبث بشكل اقل ولكن مع
تفتيت واضح للزمن من خلال لعبة العود على بدء، أي العودة بالزمن لنقطة
معينة ثم البدء من جديد في محاولة إصلاح البطل ما يفسده في كل مرة من أجل
أن ينال بركة المجتمع الافتراضي ويتعمد بالماء المقدس لللايكات والقلوب
والمتابعين.
لا يقلل العبث من شأن اغنية الغراب لكن منحاه السوريالي
المتأثر بسينما الأوربي العتيد ويس اندرسون جعله غربيا واغترابي لدرج تحمل
الكثير من التشوش لذهن المتفرج، ما يجعل تلقي الفيلم عملية صعبة، وهو ليس
بالشأن الشعوري ولا الذهني الجيد لأن الفكرة الغامضة تتساوى امام صعوبة
التلقي مع اللا فكرة – ربما يحتاج صانع الفيلم إلى أن يشاهد تجارب المخرج
المصري الراحل رأفت الميهي في التعاطي مع العبث بصورة اكثر محلية وتماسكا-.
في حين يحاول عبد أن يبدو فكريا اقل تعقيدا، وذلك انطلاقا من تجارب
هوليودية اشهرها تجربتي كليك وأثر الفراشة.
لكن كلا الفيلمين لم يتمكنا من القفز فوق الفخ الاعتيادي
للعمل الاول؛ وهو رغبة الصانع في مناقشة وطرح وتصوير الكثير من المعطيات
الفكرية والذهنية في محاولة لأضافة ثقل متخيل إلى فيلمه ليحوز صفات العمق
والتأثير وتعدد مستويات القراءة، في حين ان الاعمال الأولى ربما لا تحتاج
أكثر من البساطة والأصالة والتخفف من الاحمال الفكرية لصالح جماليات
الأسلوب واكتشاف الذات ومحاولة الوصل ما بين قلق الفنان وبين طمأنة الجمهور
انه يشعر به ويستوعبه.
الثابت والمتغير
يقوم عبد على فرضية أن هناك كرات ملونة( بللي) تمكن من
يبتلعها بالعودة لمدة 48 ساعة فقط لكي يصلح من شأن الماضي من أجل تغيير
المستقبل، وهي الموتيفة التي انطلقت منها افلام مثل اثر الفراشة – قدرة
ميتافيزيقية غير مفسرة تمكن البطل من العودة للماضي بمجرد ان يقرأ اليوميات
التي كتبها وهو طفل- او كليك – جهاز يتحكم في العالم فيمكن البطل من
السيطرة على كل معطيات حياته بضغطة زر- وهي الأفلام التي تم اقتباسها مؤخرا
في الفيلم المصري الكوميدي ساعة رضا والمسلسل الرمضاني المصري الصفارة.
في عبد يمزج السيناريو بين فكرة العودة لتصحيح الماضي –
والماضي هنا هو تصوير فيديو لا يحقق المشاهدات والاقبال المطلوب- وبين
عبودية مبدأ الشهرة والتعميد كمؤثر في العالم الافتراضي، وهي تركيبة جيدة
وبها قدر من تطوير الفكرة على مستوى شرائح الجمهور المستهدف من الشباب الذي
تمثلهم الشخصية الرئيسية (سكر) بكسر السين ومعناه باللهجة العامية (أغلق)،
وهو اسم غريب يليق بشاب يدور في حلقة غرائبية مفرغة يحاول فيها تغيير ما
يظن انه ثابت- أي الماضي- لكي يحقق نتائج مختلفة في المتغير الذي هو
المستقبل، فلا تفضي بنا هذه الرحلة سوى إلى اكتشاف أن الماضي هو المتغير
لكن المستقبل ثابت مهما حاول ان يغيره، لان المبدأ خاطئ من الأساس، فصناعة
محتوى لارضاء كل الأذواق هو مسألة مستحيلة خاصة لو انطلقت من فراغ داخلي،
او ايمان بواحدة من اكثر المفاهيم المغلوطة في عصرنا وهو ان الشهرة هي
الموهبة، بمعنى طالما أنت مشهور فهذا يعني بالضرورة انك ناجح وموهوب حتى
ولو لم تكن كذلك.
هذه المعالجة الطريفة ذات العمق المقبول دون ادعاءات تتقاطع
مع خط ميلودرامي يتمثل في محاولة أحدى المحققين من رجالات الحكومة أن يعيد
تغير الماضي مرارا من اجل ان يعيد إنتاج مستقبل ابنه الذي لا يريد أن يعمل
كطبيب بل ممارسة إرادته الحرة في أن يكون طباخا.
يلتقى المحقق بسكر عقب أول فيديو فاشل يصنعه، وبعد ان يتهم
من خلال اهل زوجته بتشويه السمعة – وهي التي تشاركه الفيديوهات كممثلة
ومصورة- ويعرض عليه ان يبتلع واحدة من الحبات من اجل ان يغير الماضي لكي
يصل إلى نتيجة مستقبلية مختلفة.
مع العلم أن متعاطي الحبة هو فقط من يتذكر أو يعرف أنه قادم
من المستقبل لكي يغير ماضيه وماضي من حوله، في حين لا يدرك الأخرون بما
فيهم المحقق نفسه ذلك، ودون الإشإرة بالطبع إلى مصدر هذه الحبات أو سر
تركيبتها التي تمنح هذه القدرة على السفر إلى الماضي ولماذا قبل 48 ساعة
فقط!
لا
يحتاج المتلقي في مثل هذه السياقات إلى فهم سر الحبة او كيفية تفاعلها، بل
يحتاج إلى ان يصيغ له الفيلم البيئة الايهامية التي تقنعه بأن هذا يحدث، ثم
يلتزم بالمنطق الذي يفرضه على نفسه، فلا نجد شخصية تدرك ما يحدث سوى العائد
إلى الماضي او ان تصبح العودة نفسها ضرورية بشكل حتمي، صحيح أن العمل يدور
في إطار هزلي يحتمل بساطة الأسباب او طرافتها، ولكن كلما اجاد صناع الفيلم
تأطير الأسباب التي تدفع إلى العودة بصورة حتمية، وتدفع المحقق بالأساس إلى
أن يمنح سكر الحبة؛ كلما كانت نتائج رحلة سكر اكثر اقناعا وتأثيرا حتى على
مستوى تقبل الطرافة والهزل والضحك من اثر النتيجة الوحيدة للمحاولات
العديدة.
ما يبدو غير مفهوم او منسجم مع تكرار رحلة سكر هو الخط
الخاص بالمحقق وابنه، وهو كما اشرنا خط ميلودرامي باهت يحقق الفرضية من
بدايتها! فلا نعود في حاجة إلى أن نتوحد مع رحلة سكر الطريفة التي تبدأ
هزلية وتنتهي بكوميديا سوداء.
من البداية تقريبا – مشهد ما قبل التيترات- ندرك فشل الأب
في اقناع ابنه أن يتخلى عن فكرة أن يعمل طباخا، ثم عبر علاقته بسكر ندرك كم
المحاولات التي بذلها من أجل ذلك دون جدوى، فلماذا إذن يصر على اعطاء سكر
الحبات كي يغير الماضي! هل هي محاولة لأن يرى احدهم ينجح فيما فشل فيه هو!
ربما! لكنه ليس بالسبب المقنع او القوي لكي يفرط في منح سكر كل هذه الحبات
بصورة مجانية رغم انه يعلم بحكم تجربته مع ابنه انه لا جدوى منها!
وفي النهاية حين يلتقي بالأبن نجد الكاميرا تتعمد ان تصور
حضوره – أي الابن- مخفيا دون أن ندرك سببا لذلك – فلا سبب بصري او درامي-
بل يصل بنا الأمر إلى تصور اننا سوف نرى سكر نفسه يجلس امامه لكننا نعود
لنرى الابن بصورة عادية في المصعد مع اباه بعد ان أعاد له اخر حبة كان قد
احتفظ بها من قبل أن يهجره.
هنا نصل لأكثر نقطة متناقضة مع المنطق الذي الزم به
السيناريو نفسه وهو ان المحقق الذي من المفترض أنه لا يعلم شيء عن سكر
الراقد في المستشفى بعد محاولة انتحاره امام الكاميرا أملا في تحقيق
مشاهدات – وهي ذروة العبودية للشهرة في العالم الافتراضي- نجده يرى سكر في
وجوه كل من حوله يطالبونه بحبة كي يغيرون الماضي، طيب من أين علم المحقق عن
سكر الذي ما إن يعود للماضي فإن علاقته بالمحقق تنقطع ولا يعود يعرف عنه
شيئا ولا يذكره ! وهو نراه في مشاهد اقتحام سكر لسيارته ومطالبته بحبة، في
حين لا يذكر المحقق انه منحه أيا منها من قبل!
ثم إذا بالمحقق يذهب فجأة إلى المستشفى حيث يرقد سكر بين
الحياة والموت فيعطي لزوجته أخر حبة كي تعود إلى قبل يومين وتلحقه قبل
انتحاره، مما يعني أنه يضحي بلقاء ابنه لأنه هو الأخر سيعود قبل يومين من
هذا اللقاء!
الخروج عن منطق السيناريو هو اكثر العناصر الهادمة لتماسك
البناء الدرامي والذي لا يبرره لا هزل ولا قلة خبرة او كون العمل تجربة
اولى! هذه اساسيات هندسية لا يجوز خرقها إلا بعد هضمها، ولا يمكن هضمها إلا
عقب عدة تجارب وتحت ظروف المغامرة المحسوبة لا بحكم التساهل أو الظن بإن
الجمهور لن يتوقف امامها، لأن التلقي بالأساس قائم على عملية تحليل وتفكيك
معقدة يعمل بها الوعي واللاوعي والذاكرة بصورة متشابكة تجعل من السهل
العثور على الثغرات وبالتالي هبوط اسهم المتعة إلى اقل درجاتها في رأس
المشاهد.
تبقى الإشارة إلى أن التجربة رغم تصدع بنائها الدرامي إلا
انها تحتوي على قدر لا بأس به من الالتزام بالنوع الكوميدي فيما عدا
الأغنية الأخيرة التي نسمعها على مشهد انتحار سكر وهي اغنية مباشرة وثقيلة
الظل الشعوري كنا نامل ان يقطعها افيه من نوعية رفض احدى المعلقين لأسلوب
موت سكر من باب (حتى الموته مش عارف تموتها) كما عودنا سياق المحاولات
الفاشلة في الفيلم، لكن المخرج يختار أن يكملها على لقطات للمستشفى وسكر
الراقد على حافة الحياة، بما لا يمنحنا التعاطف بقدر ما يشعرنا بالذنب
لأننا نريد هنا ان نضحك على رفض المجتمع الافتراضي لمحاولة الانتحار
الفاشلة فتتجلى الفرضية بصورة اكثر قوة وتأثيرا دون استدرار لدموع او ادعاء
لانفعال. |