في ختام الحلقة الثانية من حوار المبدع داوود عبد السيد مع
المذيعة قصواء الخلالي على قناة
"CBC"،
سألته عن جديده، فأجاب الأستاذ بهدوئه المعتاد وبابتسامة ساخرة على وجهه:
"أنا خلاص اعتزلت الحمد لله".
وأضاف: "ما اقدرش أتعامل مع الجمهور الموجود حاليا.. في
النوع اللي بيفضله يعني، هذا تيار آخر"، ثم استدرك بلطف وقال لها: "في حاجة
ما اتكلمناش فيها، وهي أن عندك تيار الشباب، وعيب المشكلة في الإنتاج ده
إنه إنتاج ممول، مش معنى إنه ممول إنه عيب أو حرام، ولكن من يقدم الدعم
يختار من سيدعمه، يعني لو اللي بيدعم هو التلفزيون المصري، هيختار، ولكن
هيختار على أساس إيه؟، هي دي الأسئلة، أنا بفضل دايمًا أن تمويل الفلم يبقى
من تذكرة السينما".
وتابع داوود: "الجمهور السابق كان جمهور طبقة وسطى بشرائح،
وكان عنده هموم واهتمامات، والسينما التي كانت تقدم كانت تخاطب هذه
الاهتمامات".
جملة داوود عن الاعتزال لم تستوقف المذيعة لتسأله وتناقشه
في الأسباب التي دفعته لقول هذا، رغم أنها طوال الحلقة تؤكد على قيمته
وأهمية سينماه المتفردة، وسعادتها بتقديم تلك الحلقة، وكأن ما قاله ليس
بالأمر المهم وقد تكون عند المذيعة أسبابها، ولكن المفارقة الحقيقية، ما
حدث بعد انتهاء الحلقة، وتداول خبر اعتزال المبدع الكبير داوود عبد السيد
وما شهدته "السوشيال ميديا" من تفاعل واستنكار لمثل هذا الأمر.
أفهم أن يفعل ذلك جمهور الأستاذ الممتد والمتنوع، ولكن
المدهش هم السينمائيون أنفسهم الذين وكالعادة تعاملوا مع الخبر بنفس دهشة
الجمهور العادي، وكأنهم لا يعرفون ولا يدركون أن داوود عبد السيد لديه عدد
من المشروعات الجاهزة ولا يستطيع إنجازها، وتناسوا محاولاته في السنوات
الماضية لإنجاز مشروعه السينمائي "رسائل حب".
وعن نفسي أذكر جيدًا عندما جلس فى ندوة صحفية من ثلاث سنوات
مع نجم له "شنة ورنة"، مهتم بتصوير سياراته الفارهة وإطلاق أغنيات جديدة،
أنه قال لي "مشروعي القادم مع الأستاذ داوود وأنه قرأ السيناريو في جلسة
واحدة وكاد أن يصرخ من فرط جمال النص"، ونجمة شابة موهوبة ومتميزة قالت
أيضا "هموت وأعمل الفيلم بس خايفة من مشهد محدد"، ونجمة ثالثة لم تحظ بقبول
بعض شركات الإنتاج في وقتها.. تلك وقائع يعرفها العاملون في صناعة السينما
فهل حقًا يجهلون الحال الذي وصل إليه المشهد السينمائي المصري؟
في ظني أن ما فعله المبدع داوود عبد السيد هو أنه حاول أن
يضع كل فرد فى الصناعة أمام نفسه، وألقى بحجر في المياة الآسنة لعل وعسى
البعض يتحرك أو يفكر لصالح هذه الصناعة ومستقبلها، خصوصا وأنها صارت بالفعل
صناعة لقيطة لا توجد قوانين فعلية تنظمها، ولا منظومة حقيقية تحكمها تكون
قائمة على التنوع مثلما نشهد في كل الدول التى تعرف صناعة السينما، بمعنى
أن تقدم السينما التجارية إضافة إلى التجارب المختلفة التي لها جمهورها
أيضا، وأن يحارب السينمائيون قليلًا من أجل إنشاء شاشات عرض بعيدًا عن
المولات.
وببساطة شديدة أتساءل كم منتج وموزع في غرفة صناعة السينما
يملكون شاشات العرض؟ الإجابة معظمهم ولكنهم يفضلون افتتاح دور عرض في
المولات الفخمة والضخمة، لم يعد هناك منتج مهموم بالصناعة يفكر أن يحرك ملف
شاشات العرض في الأقاليم والأحياء المختلفة بالقاهرة بل باتوا هم أيضا
يستسهلون المنطق التجاري الحاكم للإنتاجات الحالية، لا يستطيع أحد أن ينكر
أن كل الأطراف استكانت للوضع الحالي، حتى المبادرات الفردية لم يعد نسمع
عنها شيئا.
أذكر أني قرأت في إحدى المرات، أن المخرج الياباني المتفرد
أكيرا كوروساوا، عانى من تعنت شركات الإنتاج تجاه ما ينتجه، وأن السينما
التي يقدمها لم تعد مطلوبة أو مرغوبة، وقتها لم يتردد المخرج الأمريكى
مارتن سكورسيزي ومعه سبيلبرج (صاحب التجارب المهمة والتجارية أيضا) في دعمه
وإنتاج فيلم له، لأنه بمنطق الفاعلين والمهتمين بالسينما لا يجوز ولا يصح
أن يتوقف مخرج بحجم كوروساوا عن العمل السينما التي يقدمها من الضروري
استمرارها مثلها مثل سينما سبيلبرج وسكورسيزي.
بالطبع لا أحمل العاملين في صناعة السينما المصرية
المسؤولية كاملة، فهناك بعض الأمور الخارجة عن إراداتهم، ولكنهم تركوا
مشاكل الصناعة تتراكم وتترهل إلى أن وصل الوضع إلى ما نحن فيه.
ما قاله داوود عبد السيد هو لصالح الصناعة ومستقبلها،
وإقرار بأمر واقع بالفعل هو فقط صرح بأنه سيعتزل ما يؤذيه حيث بات المشهد
السينمائي المصري يحمل الكثير من الأذى للمبدعين الحقيقيين، وحواره يطرح
الكثير من التساؤلات التي تحتاج نقاش جديًا من العاملين في الصناعة أولًا
ومن بعدها المسؤوليين، حول نمط الإنتاج، ودور العرض، وطبيعة الجمهور
واختلافه.
فالسينما فن شعبوي يجب أن تذهب بها إلى الناس وطوال تاريخ
السينما المصرية كانت هناك سينمات درجة أولى وثانية وثالثة، كل سينمات كانت
تعرض ما يلاءم جمهورها هذا جزء مهم من ملف السينما علينا أن نعمل على
استعادته لأنه ببساطه سيتيح تقديم أنواع وألوان سينمائية مختلفة من يبحث عن
التسلية سيجدها، ومن يبحث عن الأفكار سيجدها.
ما قاله المبدع المخضرم داوود عبد السيد يستحق وقفة حقيقية
خصوصًا في ظل ما نشهده من تطورات في دول عربية أخرى تأخذ من تاريخنا
ورصيدنا لتنطلق نحو التطور.