هل تعرف السلطة الإيرانية أن السينما والفن سياسة
محمد ناصر المولهي
المس بالمقدسات حجة جاهزة لكهنة المعابد منذ ما قبل الميلاد.
منذ القدم اشتبك الإبداع البشري بالسياسة، ولم يتوقف في
حدود التفاعل العاطفي أو التأملات الفردية. فما سمي لاحقا الفن لأجل الفن
لم يجد الحضور المؤثر واختنق سريعا بضيق أفقه، وفي النهاية لا يبدع
المبدعون لأجل الإبداع، فهذا اعتباط بشكل أو بآخر، فالإبداع ليس طارئا إنه
مشروع.
يحتم مشروع الإبداع على كل مبدع أن يتشابك مع قضايا فكرية
وجمالية واجتماعية ونفسية، وبالتالي قضايا سياسية، الإبداع سياسة بشكل أو
بآخر، لا بالمعنى الضيق للكلمة التي لم يقصّر السياسيون في تشويهها.
قرن كامل مر منذ ولادة السينما، لم تغفل فيه هذا الفن،
الأكثر انتشارا اليوم، التشابك مع القضايا السياسية. نالت السياسة نصيبا
واسعا من الأعمال السينمائية، إما بشكل مباشر من خلال تفكيك قضايا السياسة
والجوسسة والحروب والصراعات والمؤامرات والثورات وغيرها الكثير من الأحداث
التي لا يتوقف احتدامها منذ القرن الماضي إلى هذه الألفية الثالثة الأكثر
جنونا في تقلباتها وتطوراتها وأحداثها.
تتويج مهرجان كان للإيرانية زهرا أمير إبراهيمي بجائزة أفضل
ممثلة أعاد جدل السينما والسياسة وأغضب سلطات بلادها
السينما والشمولية
تمكنت السينما في عمرها القصير نسبيا مقارنة بالفنون الأخرى
من أن تتسيد المشهد بوصفها فنا وثقافة وأداة اجتماعية ونقدية فعالة،
بالتالي صارت وسيلة السياسة الأولى للترويج للخطابات، ووسيلة المبدعين
الأولى لنقد السياسات، ومساحة هامة تتلاحم فيها كل الفنون الأخرى وتتصادم
بالفعل السياسي.
فتح جيل كامل من السينمائيين الإيرانيين على رأسهم المخرج
عباس كيارستمي أعيننا على شعرية سينمائية فريدة من نوعها، ساهمت في خلق
سينما إيرانية مميزة عالميا، سينما لها بصمتها وهي تحوك رموزها وتتشابك مع
واقع بلد لم ينزل عن “الصفيح الساخن” منذ استحواذ الإسلاميين عليه.
الكثير من الأفلام الإيرانية خيّرت الترميز والبقاء في
مساحة النقد المجتمعي والقصص الصغيرة والهامشية واستنطاق التفاصيل وتحويلها
إلى مواد للتأويل، وهو أسلوب ترسخ في ظل سلطة سياسة لم تتوقف يوما عن
ملاحقة المبدعين والسينمائيين بحجج مختلفة، أخلاقية وسياسية من تخابر
وغيرها من تهم لم تمل الأنظمة الشمولية من استعمالها منذ قرون إلى اليوم.
ملاحقة السينمائيين لم تتوقف يوما، إما بالتحقير والتهميش
أو البطش، وأخيرا استنكر مخرجون وممثلون إيرانيون، بينهم المخرجان جعفر
بناهي ومحمد رسولوف، في كتاب مفتوح اعتقال عدد من زملائهم في الأيام
الأخيرة في إيران.
يعتقل سنويا كتاب وشعراء وفنانون وسينمائيون من معارضي
النظام الملالي في إيران، النظام الذي يفرض نفسه بقوة اللون الواحد وآلات
القمع والتنكيل على شعب لطالما كان أرضا خصبة للإبداع والفنون.
وكان من الغريب أن تنتقد طهران، في بيان أصدرته منظمة
السينما الإيرانية المرتبطة بوزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي، الإثنين منح
مهرجان كان السينمائي في دورته التي اختتمت منذ أيام جائزة أفضل ممثلة
لبطلة فيلم “العنكبوت المقدس” زهرا أمير إبراهيمي، اللاجئة في فرنسا منذ
2008، عن جرائم سفّاح متسلسل قتل بائعات هوى في مدينة مشهد المقدسة، معتبرة
إياه “منحازا ومسيّسا”.
واعتبرت المنظمة الفيلم الذي أخرجه الدنماركي من أصل إيراني
علي عباسي “عملا منحازا ومسيّسا من خلال تقدير الفيلم الخاطئ والسخيف”،
مضيفة بأن الفيلم يقدم صورة “مشوّهة عن المجتمع الإيراني وجَرَح مشاعر
الملايين من المسلمين الشيعة”.
واعتبرت أن العمل الذي جرى تصويره في الأردن بعد عدم منحه
إجازة للتصوير في إيران “يسير على نهج رواية ‘آيات شيطانية‘” للمؤلف
البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، وهو بالمناسبة الكاتب الذي أصدر مؤسس
الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني فتوى بهدر دمه بسبب الرواية
التي اعتبرها مسيئة للإسلام، ما اضطره للعيش سنوات متخفيا باسم وحياة
مستعارين.
السينما، رغم عمرها القصير نسبيا، تمكنت من أن تتسيد المشهد
بوصفها فنا وثقافة وأداة اجتماعية ونقدية فعالة
بعيدا عن مستوى الفيلم أو الممثلة اللاجئة بعيدا عن بلدها،
شأنها شأن الكثير من المبدعين الإيرانيين، يحاول النظام الشمولي عادة تقليم
أظفار أي فن، بمحاولة فصله عن السياسة، وتعليبه في فترينة
“الجماليات”
التي يراها النظام مناسبة أو أخلاقية، بالمعنى الذي يناسبه هو للأخلاق. هي
في حقيقتها أنظمة لا تتوانى عن الاستعمال السطحي الدين أو الأخلاق أو أي
معطى آخر لتعميق جذورها على ظهور “رعاياها”.
الغريب في نقد النظام من خلال مؤسسته السينمائية المسيسة
بطبعها، والتي من المفروض أن تكون في خدمة السينمائيين لا النظام، أن ننقد
فيلما لأنه يمس بمشاعر المتدينين، لا من خلال معايير فنية أو فكرية أو
جمالية، بل المهاجمة تكون فقط من باب الأخلاق، وحجة المس بالمقدسات، ويا
لطول قائمة المقدسات الفضفاضة، وهي فكرة جاهزة لم يتوقف عن استخدامها كل
الحكام باسم كل الأديان، من كهنة المعابد القديمة ما قبل ميلاد المسيح إلى
كهنة المعابد الجديدة. مشاعر المؤمنين في خطر دائما، هذا ما ترسخه الأنظمة
المنغلقة في وجدان شعوبها بأي شكل كان ولو الافتراء، المهم أن تخلق لهم
العدو الوهمي والخطر الذي لا يحاصرهم كطاحونة دونكيشوت.
واستعملت هوليوود السينما لبث رسائل سياسية عديدة، جانب
كثير منها الحقائق، ولنا أن نتأمل مثلا صورة العربي المسلم كإرهابي بأنف
معقوف وشهوة لا تخمد، أو صورة الروسي المنتقم والبارد، أو صورة الهنود
الحمر المتوحشين أو اللاتينيين المجرمين وتجار المخدرات، أو حتى تصوراتها
لأحداث تاريخية حقيقية ترسخ النصر الأميركي والبطل الأميركي، أو تخيلها
لمعارك وأحداث في نفس التوجه.
السياسة قضية الجميع، ولا يمكن لسينمائي أو أي مبدع كان، أن
يتخاذل عن دوره السياسي الأساسي
الفن سياسة
السينما لا تخلو من تسييس، قد يسقط في المغالطات والانحياز
بشكل مباشر، لكن هل يبرر ذلك التنكيل بالأفلام ومنجزيها؟ هل يبرر الرقابة
القطع والملاحقة التي تنتهجها كثير من بلدان العالم الثالث لا إيران وحدها؟
ربما يكون في التركيز على فيلم “العنكبوت المقدس” رهان
سياسي ما، لكن هل الإجابة تكون بهكذا طريقة، بالحط من شأن الفيلم بحجج
بالية؟ ألم تتعلم الأنظمة الشمولية من التاريخ الحديث أن “قبضة الحديد”
التي تحاول إحكامها على رقاب المبدعين مصيرها إلى الصدأ والتآكل أمام قوة
الفن؟
الفن حر ولا يُجاب على الفن إلا بالفن أو النقد الفني
والثقافي والتحليل الفكري إن لزم الأمر، لكن أن ينعت فيلم ما بـ”السخيف”
بكل ذلك التحقير لمجرد أنه تناول قضية ما برؤية مخرجه السياسية، فهذا يخفي
ما هو أعظم. فلنسأل مثلا ماذا لو كانت الممثلة المتوجة في إيران اليوم؟
ربما ستولد لها تهمة ما، وتفتح أمامها ظلمات السجن الطويلة.
السياسة قضية الجميع، ولا يمكن لسينمائي أو أي مبدع كان، أن
يتخاذل عن دوره السياسي الأساسي في اعتقادي، فدوره إيقاظ البصائر والتحفيز
على التفكير والنقد والتساؤل والمساهمة في تكريس التنوع الرؤيوي والفكري
والثقافي. الفن في النهاية فعل حضاري يفتح الذاتي على الجماعي ويذوب
الجماعي في الذاتي، لأجل رهان الإنسان فكرة وجسدا وشعورا وتاريخا.
السياسة قضية المبدع الأولى والأهم إذن، وإلا انتهى إلى
تهويمات فردية في عتمة ذاته، لكن دخول المبدع إلى السياسة وتقاطعاته معها
لا يجب في أي حال من الأحوال أن تكون بأقدام السياسي، أو يسقط في خطاب أجوف.
ويبقى أن نشير إلى أن السينما العربية تبشر بدورها من خلال
أعمال كثيرة مبتكرة في العشرية الأخيرة بولادة بصمة مختلفة، وربما كان ذلك
بسبب الانفتاح التحرري والتشابك بشكل أجرأ مع الشأن السياسي والمجتمعي.
كاتب تونسي |