«عنكبوت
مقدس» للإيراني علي عباسي:
استباحة دماء النساء «لتطهير» المجتمع
نسرين سيد أحمد
كان ـ «القدس العربي»: في فيلمه «عنكبوت مقدس» المتنافس على
السعفة الذهبية في مهرجان كان (17 إلى 28 مايو/أيار الجاري) يقدم المخرج
الإيراني المولد علي عباسي فيلما موجعا مفجعا، عن مجتمع يستبيح دماء النساء
ويرى فيها سبيلا لتطهير المجتمع «المؤمن» الذي يرى في النساء عارا يجب
محوه.
يقدم عباسي فيلما متماسكا قويا بحبكة تخطف الأنفاس بقدر ما
تثير فينا الغضب والألم. أحداث الفيلم مبنية على وقائع حقيقية عن سلسلة من
جرائم قتل النساء في مدينة مشهد الإيرانية عام 2001، ارتكبها قاتل نصّب
نفسه راعيا لقيم الدين والمجتمع. لا يقدم الفيلم مشاهدة سهلة، ولا يتوانى
عن تصوير العنف الذي تشهده الضحايا. يريد لنا المخرج أن نكون شهودا على مدى
التحقير والتعذيب والألم الذي تشهده النساء في مجتمع ذكوري يحقرهن ويستبيح
دماءهن.
هن نساء بيع الهوى، نرى إحداهن تستعد للخروج ليلا من بيتها
الفقير، بعد الاطمئنان على ابنتها الصغيرة. نراها تحاول إخفاء الكدمات التي
تغطي جسدها وتحاول التزين بأدوات زينة رخيصة، قبل أن تحكم عباءتها لتخرج
علها تجد ما تقات به بعد لقاء أحد الرجال. يتصيد القاتل سعيد هنائي (الذي
يلعب دوره بإتقان واقتدار كبيرين الممثل الإيراني مهدي باجستاني). يرى
هنائي في عاملات الهوى عارا على المجتمع، ويرى أنه يرضي الله ويعلي قيم
الدين بقتلهن.
حين نرى هنائي في بيته، يبدو لنا رجلا ورعا تقيا، يتبتل في
صلاته، ويحنو على زوجته وابنته الصغيرة وابنه. لا يبدو لنا أنه يقتل النساء
بدم بارد. كان هنائي جنديا مقاتلا في الحرب الإيرانية العراقية، ونسمعه
يقول لأحد أصدقائه إنه يشعر بغصة وألم أنه لم ينل شرف الشهادة كما نالها
الكثير من زملائه الجنود. يشن هنائي جهاده بقتل عاملات الجنس، اللاتي عذب
وقتل 16 منهن على مدار عام.
يصور الفيلم، الذي شارك عباسي في كتابته مع أفشين قمران
بهرامي، ذلك الخلل الكبير في فكر وقيم المجتمع الذكوري، الذي يجعل كراهية
النساء وتحقيرهن وقتلهن سبيلا لإعلاء قيم المجتمع والحفاظ على «شرفه».
النساء المغدورات لسن مجرد أرقام لعدد ضحايا يرتفع كلما يرتكب الجاني
جرائمه. هن نساء لهن حياتهن التي تسلب منهن على يد قاتل بدم بارد. في
الفيلم نرى لمحات من حياتهن ونتعاطف مع عذاباتهن، قبل أن يفتك بهن القاتل.
نرى سمية، إحدى القتيلات، تقبل ابنتها الصغيرة وتضع بعض المساحيق على وجهها
المجهد قبل أن تخرج لتواجه عنف مجتمع لا يرحم، في شوارع مظلمة مخيفة
تتعقبها فيها أعين الرجال. تنتظر على قارعة الطريق، ليقف سعيد بدراجته
النارية، ويعرض عليها المال، وفور وصولها لمنزله تستشعر الخطر، لكنه يجهز
عليها قبل إن تستطيع الإفلات.
يرتكب سعيد جرائمه في منزله، في الوقت الذي تزور فيه زوجته
بصحبة طفليه منزل والدها. يتصل بصحافي معلنا جريمته الجديدة ومتفاخرا بها
كعمل بطولي لتخليص المجتمع من الأدران، ومعلنا الموقع الذي تخلص فيه من
الجثة.
نرى في الفيلم تقاعسا من السلطات في التحقيق في القضايا،
نرى تكاسلا وتعاميا من الأجهزة الأمنية يخفي تعاطفا مع القاتل، فهو كما
يراه رجال الدين والأمن، يخلص المدينة من أدرانها. ويستمر هذا الحال حتى
قدوم صحافية من طهران، تدعى السيدة رحيمي (زار أمير إبراهيمي) ونشهد لديها
إصرارا على معرفة القاتل وكشف تواطؤ السلطات معه. يتحول الفيلم إلى مطاردة
تحبس الأنفاس بين سعيد ورحمة.
ينقل لنا الفيلم وجهة نظر المجتمع للجرائم، عبر تعليقات
المارة والعابرين على عناوين الصحف التي تحمل أنباء جرائم القتل، وعبر
تعليقات الناس في الأسواق. نرى في تعليقات الناس الكثير من التمجيد للقاتل
ووصف الكثير من الرجال له بأنه بطل يخلص المجتمع من الرذيلة. ووسط مجتمع
ذكوري نجد من النساء أيضا تعاطفا مع القاتل، حيث ترى النساء في الضحايا
نساء منحلات يفسدن المجتمع.
رغم أن الفيلم يقدم جرائم القتل وتعقب القاتل، وسط إطار أعم
وأشمل، وهو تقديم نقد لاذع لقيم مجتمع يحتفي بمثل هذا القاتل ويعتبره بطلا،
إلا أنه يحافظ على العديد من سمات أفلام الإثارة والتشويق التي تتناول
جرائم سفاح.
رغم أن الفيلم يقدم جرائم القتل وتعقب القاتل، وسط إطار أعم
وأشمل، وهو تقديم نقد لاذع لقيم مجتمع يحتفي بمثل هذا القاتل ويعتبره بطلا،
إلا أنه يحافظ على العديد من سمات أفلام الإثارة والتشويق التي تتناول
جرائم سفاح. نرى القاتل يتحسس جسد إحدى ضحاياه بعد قتلها، ما يعطي بعدا
جنسيا لجرائمه، نراه يفاضل وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة شيطانية بين
استخدام مطرقة أو سكين للإجهاز على إحدى ضحاياه. نرى نظراته التي تنذر
بالجنون عندما يغضب من ابنه إثر خلاف بسيط. هي مشاهد قد تكون مجدية بصورة
أكبر في فيلم لا يحمل بعدا اجتماعيا، ولا يهدف إلا إلى تعقب قاتل، لكن مثل
هذه المشاهد تأتي متناقضة مع تقديم المخرج لسعيد كرجل ليس بمجنون، رجل صاحب
رسالة يصورها لنفسه على أنها إنقاذ البلاد من الفساد.
يقول لنا الفيلم إن جرائم سعيد ليست حادثا منفصلا، بل هي
جزء لا يتجزأ من رؤية مجتمع بأسره للمرأة. منذ وصولها لمشهد، تواجه
الصحافية رحيمي قدرا كبيرا من التعنت والعداء والتضييق لمجرد أنها امرأة.
تواجه تعنتا من العاملين في الفندق الذي تود الإقامة فيه، لأنها ليست بصحبة
وصي من الرجال، وتواجه التحرش من رجال الأمن. لكن أقسى مشاهد الفيلم
وأكثرها إدانة للمجتمع هو المشهد الختامي، الذي يمثل فيه الصبي الصغير ابن
سعيد جرائم والده بفخر شديد، مزهوا بتخليص والده للمجتمع من نساء فاجرات،
بينما يحاول خنق أخته الصغيرة على غرار أبيه. |