مَن هو قريب من الصورة يدرك جيدًا أن مهرجان القاهرة
السينمائى كان قبل نحو ثلاث سنوات قد اقترب من أنياب عدد من المتربصين
الذين أرادوه (سبوبة) لهم، لتحقيق أهدافهم الصغيرة على حساب اسم مصر، إلا
أن د. إيناس عبدالدايم بعد مضى أسابيع قليلة على توليها كرسى الوزارة أحبطت
تلك المحاولة، رغم تشعب عناصرها خارج وداخل الوزارة.
راهنت الوزيرة على الكاتب والمنتج محمد حفظى، بتزكية من
الإعلامى الكبير يوسف شريف رزق الله، رغم أنه كان خارج الحساب تماما..
تحمّل حفظى المسؤولية، وحقق بجدارة قفزات، واستطاع أن يجلب دعمًا ماديًا من
الرعاة يتجاوز 60% من الميزانية، كما أنه من خلال فريق العمل الذى يعمل تحت
قيادته تمكن من اختيار مجموعة من أهم وأفضل الأفلام، رغم شراسة المنافسة مع
(الجونة).. هذا الصراع أصبح حافزًا لـ«القاهرة» يدفعه للتفوق.. استحدث حفظى
أكثر من قسم، وتعددت ملامح الوهج فى الفعاليات، وبات النجاح هو العنوان
المرافق للمهرجان على الساحتين العربية والدولية، ولهذا ظل حزب (السبوبة)
كامنًا ينتظر ساعة الصفر لكى تنهش أنيابه فى المهرجان.
«حفظى» لديه خطوط متعددة كمنتج مع كيانات مصرية وعربية
وعالمية تؤهله لكى يحصل على الأفضل، ويسخّر تلك العلاقات من أجل تقديم وجه
مشرف لمهرجان (القاهرة)، وهى نقطة إيجابية فى حقه، إلا أن أصحاب (السبوبة)-
بعد هزيمتهم الساحقة- يريدون أن يحيلوا عوامل القوة إلى ثغرة ينفذون منها
بأحقادهم السوداء، إلا أننى موقن أن الكثير من العيون فى الدولة تدرك
القفزات التى حققها المهرجان فى ثلاث دورات وضعت مصر فى تلك المكانة
العالمية، وليس من صالح الدولة أن يتراجع المهرجان خطوات للخلف.
تمكّن المهرجان فى الافتتاح من الوصول إلى ذروة النجاح بهذا
البيان الثلاثى الموقّع بالصوت والصورة من قيادات المهرجانات الكبرى فى
العالم: (كان) و(برلين) و(فينيسيا)، أشادوا بالقاهرة وبإصرار القائمين على
إقامته واقعيًا لتصل الرسالة لكل العالم أننا نعيش الحياة.. نعم، كل
الإجراءات الاحترازية نطبقها، ولكن مصر تقيم أفراحها وتدعو أيضا ضيوفها.
جاء تكريم اثنين من كبار الكتاب بجائزة (الهرم الذهبى): البريطانى كريستوفر
هامبتون (البريطانى)، ووحيد حامد حفيد (الفلاح الفصيح) ليؤكد أن هناك عقلًا
وراء الاختيار يتوجه للقامة والقيمة والعمق، يتمثل فى الفكر الذى هو بمثابة
البنية التحتية للفيلم.. وحيد صار هو الناطق السينمائى بأحلام وآمال رجل
الشارع.
لى ملاحظات على الافتتاح: الأولى أن أشرف عبدالباقى لا يملك
مواصفات مقدم (استاند أب كوميدى) مثلما رأينا مثلا فى السنوات الماضية أحمد
حلمى وشريف منير وخالد الصاوى، والثانية هى الاستعانة بالمذيعة مها الصغير،
فلم تكن اختيارًا موفقًا، فهى لا تستطيع الارتجال وبحاجة إلى (اسكريبت)
تفصيلى، إلا أن أصداء البيان الثلاثى للمهرجانات الكبرى قلل من الإحساس
بتلك الأخطاء.. ويبقى تحفة فيلم الافتتاح (الأب) إخراج فلوريان زيلر وتأليف
كريستوفر هامبتون، بطولة الرائع أنتونى هوبكنز والفنانة أوليفيا كولمان
التى أدت دور ابنته.
كلنا نعيش مع المخرج ومع المأساة التى يكتبها بقلبه وعقله
على الشاشة.. هوبكنز تجاوز الثمانين وأصبح خارج الزمن، يعيش فى عالم من
الهلاوس، الشريط السينمائى يقفز برشاقة فوق المأساة التى يعيشها البطل،
ليطل وميض ساحر فى التفاصيل لتخفيف حالة الإشفاق التى تلعب دورًا عكسيًا
هذه المرة، لأنها تفقدنا روح الفيلم، هناك بين الحين والآخر بسمة فى الحوار
وأداء هوبكنز تمنح اللقطات قدرًا من التوازن لنعيش الأحداث، ليست باعتبارها
مأساة للبطل والأسرة، ولكن هناك مسافة ضبطها المخرج، سواء بتوظيف الحوار أو
تقطيع اللقطات، تحول دون كسر حالة الفيلم.. المخرج تعامل بحرفية شديدة مع
سيناريو يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى التكوين المسرحى لضآلة عدد أماكن
مشاهده، إلا أن السينما فى عمقها لا تقاس أبدا على هذا النحو.. كم من أفلام
حصدت أهم الجوائز، وبينها (الأوسكار)، رغم أنها تجرى فى مكان واحد مثل (12
رجلا غاضبا).. ولكن المخرج سيدنى لوميت قدم سينما، فحصد الأوسكار عام 49 عن
الإخراج وأيضا السيناريو، لأن الفيلم يملك فيضًا من روح السينما بثها لوميت
فى لقطاته. وهو ما أراه أقرب للتكرار مع (الأب)، يبدو لى مرض (الخرف) رغم
عدم تطابقه التام مع (ألزهايمر) إلا أنه ينتقل بالإنسان إلى مسار عكسى من
الشيخوخة للطفولة، الشريط يستند إلى رؤية علمية تتكئ على العلم وليس مجرد
تهيؤات عشوائية، ليست حكاية (الأب) ولكنها حكايتنا، عندما يتقدم بنا العمر
سنصل إلى نفس الشاطئ، نعيش حياة بيضاء لا تشكل فيها الذاكرة أى عائق،
تجاربنا وعلاقتنا وخبرتنا هى سدود تحول بيننا وبين بلوغ تلك النقطة السحرية
التى وصل إليها أنتونى هوبكنز على الشريط السينمائى، فأصبح يعيش فى جنة هو
رضوانها وصاحب مفتاحها.
تأجل الأوسكار هذا العام إلى نهاية شهر إبريل، لن تخلو
الجوائز من (الأب).. فإذا لم يحصل على جائزة أفضل فيلم، فلاشك أن هوبكنز
سينتزع جائزة أفضل ممثل، وليست المرة الأولى التى تختار إدارة المهرجان
فيلم الافتتاح لنجده بعدها ينافس بقوة فى الأوسكار.
مسيرة حفظى مع المهرجان تؤكد ذلك فى العامين الأخيرين
(الكتاب الأخضر) ثم (الإيرلندى).. وهذه المرة (الأب) مهرجان يدرك كيف يختار
ضربة البداية، فرغم ذلك يزداد المتربصون تربصًا.
tarekelshinnawi@yahoo.com |