لجنة التحكيم ستختار الأفضل من بين مجموعة متنوعة ومتميزة
الساعات الأخيرة قبل إعلان نتائج الدورة الـ77 (التي حُدد
موعدها السبت في الساعة السابعة عشيّة كتابة هذا التقرير) تفتح ملف التحدي
القائم بين نوعين من الأفلام: نوع يقتبس من الحاضر همومه المتعددة، ونوع
يقتبس من الماضي موضوعاته المختلفة. وكل نوع يحتوي على أفلام تبلغ ذروة
النجاح وأخرى تتوقف عند نقاط الوسط أو ما دون. الفارق له علاقة بالموهبة
والقدرة على الخروج من الصندوق.
طبعاً يفترض المرء أن لجنة التحكيم ستنتخب الفيلم الأفضل
سواء أكان يحمل قضية حاضرة (كما الحال مثلاً في الفيلم الإيطالي «الشقيقات
ماكالوزو» لإيما دانتي أو الفيلم المكسيكي «نظام جديد» لميشيل فرانس) أو
موضوعاً غابراً وجده صانعوه يستحق مهام العودة إليه أو إلى عهده وزمانه
(كحال الفيلم الياباني «زوجة جاسوس» لكيوشي كوروساوا و«أعزائي الرفاق»
للروسي أندريه كونتشالوفسكي).
ومن المثير أن ميزان لجان التحكيم في المهرجانات الأولى حول
العالم يميل تارة إلى هذا النوع وتارة أخرى إلى النوع المقابل وقلّما يخرج
صوب استكشاف مواقع وأنواع أخرى. ومن غير المتوقع أن تحيد لجنة التحكيم عن
هذا الوضع لسبب مهم، وهو خلو الدورة من أي فيلم من خارج هذين النوعين، لا
أفلام مستقبلية ولا أفلام وجدانية (كحال أفلام ترنس مالك مثلاً) ولا أفلام
يطغى عليها الانتماء الفني الخالص بصرف النظر عن تموضعه بين الأزمنة.
-
نساء ورجال
لكن بما أن نصف الأفلام تقريباً من إخراج نساء، ورئيس لجنة
التحكيم، الممثلة كيت بلانشِت، من المؤمنات بحركات التحرر الحالية في مجال
السينما، فإنه من المتوقع كثيراً أن يتم إهداء جائزة الأسد الذهبي إلى فيلم
من إخراج أُنثى. السؤال حتى صباح يوم السبت هو: أي فيلم يكون ذلك؟
فيلم الإيطالية إيما دانتي المُشار إليه أعلاه؟ أو فيلم
«العالم الآتي» لمونا فاستفولد (الولايات المتحدة) أو فيلم «عشاق» للفرنسية
نيكول غارسيا؟ هل يحمل فيلم الألمانية جوليا فون هاينز «غداً العالم بأسره»
حسنات تكفي لنجاحه؟ وكيف سيكون الحكم على فيلم سوزانا نكياريللي «مس
ماركس»؟ أو فيلم ياسمينا بزبانيتش «كيو فاديس، عايدة»؟ أو فيلم كليو زاو
«نومادلاند؟ … ثم هل يهم كل ذلك؟
الجواب على السؤال الأخير وحده، طبعاً يهم وعلى أكثر من
صعيد. الفائز، أيما كان (أو كانت) سيخرج بتقدير فني مُجسد بجائزة خالدة.
الفيلم سيرتفع سعره في أسواق العالم. الأوسكار قد يكون بانتظاره. المخرج
سيرد عن نفسه سيل المشاريع. المهرجان سيكمل دائرته التي تبنّاها هذا العام
المتمثلة بالتحدي الكبير بأن عليه إطلاق هذه الدورة رغم كل المحاذير.
-
البحث عن الحرية
محاولة لرصف التوقعات المحتملة سيلج بنا إلى موضوع يأخذ على
كاهله مهمّة التصنيف الشكلي والضمني. شكلياً من حيث نجاح الفيلم في معالجته
وتنفيذه وبصرياته والتعبير عن أسلوب مخرجه، وضمنياً يعني ما يشكل حكايته
ومواقفه ورسالاته الواضحة منها والمبطّنة. لكن هنا، وفي هذه الحالة، تقترب
المستويات بحيث يتحول الحديث عن التوقعات إلى تكرار الصفات، ذلك أن القليل
من الأفلام المعروضة، بصرف النظر عمن حققها، يرتفع عالياً عن أترابه من
الأعمال. لا يعني ذلك أن هذا القليل هو الجيد الوحيد، لكنه يعني أن فيلمين
أو ثلاثة ستعيش حالة التألق في البال لكن فوز أي منها قد لا يكون ما في بال
لجنة التحكيم على أي حال. هنا، ما زال التفضيل الذي يتراءى من محاولة
المهرجان إضافة هذا العدد من الاشتراكات النسائية من جهة، وتعيين ممثلة
مؤمنة بهذا الاتجاه، من جهة أخرى، هو منح مخرجة نسائية ذلك الأسد الذهبي
حتى وإن كان هناك فيلم «رجّالي» أفضل.
«نومادلاند»
هو أحد هذه الأفلام النسائية الإخراج. حققته الصينية التي تعيش اليوم في
الولايات المتحدة كليو زاو من بطولة فرنسيس مكدورمند مأخوذاً عن كتاب وضعته
جسيكا برودر عن تجربتها الخاصة سنة 2017. مثل بطلتها (أو العكس صحيح) قررت
أن تترك راحة البيت وفروض العمل وتنطلق في استكشاف معالم الحياة مزوّدة
نفسها بسيارة ووقود والشعور بالحرية التي تتوقعها خلال السفر من دون
ارتباطات جوهرية.
مكدورمند، التي تحتفظ بالتعابير ذاتها من فيلم لآخر، تؤدي
شخصية امرأة في مطلع الستينات من عمرها، توقفت عن العمل بسبب إغلاق أحد
المناجم التي كانت تعمل فيه منذ بضع سنوات. زوجها مات ونظرتها إلى حياتها
لا تمنحها الثقة بمستقبلها إلا إذا خرجت من صندوق عزلتها وهذا ما تفعله. في
هذا الإطار هناك تشابه في الدوافع التي حدث بجاك نيكولسُن لترك عمله ومنزله
(مباشرة بعد وفاة زوجته) والانطلاق بسيارته للتواصل مع ابنته وعبر ذلك
اكتشاف ما يستطيع من أميركا في فيلم ألكسندر باين «عن شميد»
(2002).
في سفرها تلتقط بعض الأعمال التي تلجأ إليها لكي تعتاش،
لكنها تصر على أنها ليست المرأة المشردة ولا هي مهددة بالجوع والعزلة بل
امرأة تريد إعادة توجيه حياتها للسفر والتنقل. ما تعمل عليه المخرجة هو
الإيحاء (الذي يتحقق فعلياً هنا) على أن بطلتها تعرف تماماً ما تريد وتحققه
رغم الصعوبات. الكاميرا مفتوحة على الرحاب الأميركية في ذلك الغرب الشاسع.
تريد القول إن بطلتها والطبيعة صنوان. كل يعيش في الأخرى الطبيعة الحرّة هي
من خصائص الحاجة التي تنطلق منها بطلتها والجمال الروحي لبطلتها يتلاءم
والجمال الآسر للطبيعة.
ما يتحاشى الفيلم ذكره هو إذا ما كانت هذه الخصال البديعة
في ذات البطلة لمَ انتظرت طويلاً لتحقيقها؟ ربما هناك واقع اقتصادي (يبتعد
الفيلم عن الزج بنفسه في طروحات كهذه) وبالتأكيد زواجها منعها من تحقيق ذلك
منفردة (لكن زوجها مات منذ سنوات). الجواب لا نجده ماثلاً في الفيلم القائم
على الانشغال بوضع بطلتها طوال الوقت. وضع غير مثير كفاية كحكاية لكنه مثير
جداً كاستعراض بصري لفيلم من نوع أفلام «الطرق»
(Road Movies)
التي عادة ما تتيح الحديث في الماورائيات المختلفة، خصوصاً حين يكون ارتباط
المخرج بالطبيعة الأميركية الجميلة كما برهنت المخرج زاو في أفلامها
السابقة أيضاً.
لا يمكن التغاضي عن إيمان الممثلة بالمشروع لدرجة قيامها
بشراء حقوقه وإنتاجه، وهي من اختار المخرجة لتحقيقه. فرصة رائعة لزاو لكي
تنتقل من صرح الأفلام المستقلة الصغيرة إلى صرح الأفلام المستقلة الكبيرة
التي غالباً ما ستجد طريقها إلى سباقات الأوسكار المختلفة.
-
خلطة إيطالية
يتبدّل الحال تماماً في فيلم المخرج الإيطالي جيانفرانكو
روزي الجديد «نوتورنو» («ليلي» بالعربية). هو ذاته المخرج الذي قطف ذهبية
مهرجان برلين قبل أربع سنوات عن فيلمه «نار في البحر». كل من هذين الفيلمين
تسجيلي وكلاهما يتعاملان مع مناطق سياسية، هي أكثر وضوحاً في فيلمه السابق
مما هي عليه هنا.
في «نار في البحر» عرض لشخصيات تعيش في جزيرة إيطالية صغيرة
اسمها لمبيدوسا تحوّلت إلى محطة استقبال أفواج المهاجرين الآتين عبر البحر.
ليس لدى هذه الشخصيات ما تفعله سوى الخروج إلى البرية لصيد الطيور، لكن
أحدها يبدأ بتخيل ممارسته إطلاق النار وليكن على أفواح المهاجرين.
هذا كان جزءاً من الفيلم، الجزء الثاني الممتزج به من دون
منهج فعلي فهو عن إسهام القوات البحرية الإيطالية إنقاذ التائهين في البحر
والاعتناء بهم، مع الأجهزة الطبية، حين وصولهم إلى الجزيرة.
فيلمه الجديد لا يزال يتحدّث عن مهاجرين وأحوال صعبة إنما
من دون تناول مشاعر الإيطاليين المدنيين من ناحية أو المساهمات الإنسانية
الإيطالية الكبيرة من ناحية ثانية. ما هو مشترك حقيقة أن ذلك الأسلوب
النطناط بين أكثر من موقع ما زال خليطاً أكثر منه منهجاً.
ما ينصرف إليه غالباً هو أحوال الليبيين والسوريين
واللبنانيين والأكراد الصعبة في دولهم. الليبيون والحرب المنصبّة عليهم
والسوريون العالقون بين المعارضة والموالاة منذ تسع سنوات، اللبنانيون
الباحثون عن مستقبل بين شراذم الحياة السياسية والاجتماعية والأكراد
العالقون في وطن ما زال يحاول أن يعني أكثر مما يفي. في النطاق الأخير،
تحاشى جيانفرانكو روزي (ليس على قرب مع المخرج الإيطالي الراحل فرانشسكو
روزي) ذكر العراقيين غير الأكراد وما يعانونه من شظف العيش أيضاً.
يمكن تبرير ذلك أو تمريره، لكن لا يمكن لا تبرير ولا تمرير
حقيقة أن ما يعرضه لافت في الصورة وباهت في المفادات. عبثية الانتقال من
مكان لمكان، كونها غير منظّمة، لا تدفع بالمشاهد إلى استشفاف الحقائق. إنه
مجرد عرض عام يستغل تلك الأوضاع البائسة ويعرضها (معظم اللقطات مأخوذة من
مسافات بعيدة) من دون تعليق.
ليس أن كل الفيلم قائم على تلك اللقطات الخارجية البعيدة،
لكن ما هو قريب يحتفظ ببعده الناتج عن النأي بالنفس والاكتفاء بالتسجيل ما
يُحيل المُشاهد إلى نأي مماثل أو بالانكفاء عن رغبته في متابعة فيلم لا
يكترث بالأسباب بل يكتفي باستعراض النتائج.
-
ثورتان متباعدتان
أفضل منه فيلم لا يدّعي الواقع ولا الواقعية لكنه يستوحي
منهما هو «نظام جديد»، حيث يقوم المخرج ميشيل فرانكو بتقديم قراءة لما قد
يقع في المستقبل القريب نتيجة الاحتقان السائد بين الذين لا يملكون وهم
يرون الفريق الآخر وقد أتيح له امتلاك كل ما يريد.
تقع الأحداث في مدينة مكسيكو لكن المخرج لا يخصّها وحده في
إيماءاته السياسية ولا توقعاته المستقبلية. ولا يبتعد الفيلم عن الواقع
الراهن حتى حين يسوده ذلك الإيحاء بأن مكان الأحداث المكسيكي قد يكون هو
نفسه مكان الأحداث في أي بلد حول العالم. وهو يبدأ فيلمه بالنبرة الحادة
التي لاحقاً ما تسود عمله: مستشفيات تجهز نفسها لاستقبال حالات طارئة وفي
غضون هذا التجهيز إخلاء المرضى قبل وصول المصابين الجدد الذين أصيبوا في
المظاهرات الحاشدة التي تقع في المدينة.
بعد ذلك ينتقل إلى مرابع العائلة الثرية التي تحضر لحفلة
زفاف ابنتها (نايان غونزاليز نورفيند) التي سيتم تزويجها ممن يناسبها
مقاماً مادياً (ثري مقاولات ومهندس معماري اسمه آلان ويقوم به اللبناني
الأصل داريو يزبك). إلى هذا المكان يصل العامل السابق في خدمة الأسرة
رولاندو (إليجيو مالنديز) طالباً مساعدة مالية لأن زوجته (إحدى المرضى
الذين تم إخراجهم من المستشفى الذي كانت فيه حسب مشهد سابق) تتطلب عناية
طبية لا يملك ثمنها. أم العروس تعطيه نتفاً مما طلب وابنها دانيال طرده.
لكن ابنتها التي تحتفي بعرسها تحن عليه وتمنحه ما يطلبه.
شخصيات أخرى تدخل وتخرج من أمام الكاميرا حسب الحاجة إليها
وكل ذلك من باب التمهيد لما سيأتي بعد قليل مع وصول المظاهرات إلى المنزل
الكبير ببوابته المغلقة هذا تمهيداً لاقتحامه. مع اقتراب المواجهة نقطة
العودة ترتفع لدى المخرج نبرة الحدّة والرغبة في تزويد مشاهده بالعنف الذي
يعتبره طبيعياً في مثل هذه الظروف. وهو طبيعي لكن ذلك لا يبرر استخدامه على
هذا النحو.
جيد في تنفيذه وتوليف ما يعرضه، وأقل من ذلك حين يأتي الأمر
إلى معالجة ما ينتاب الموضوع من مظاهر الغضب والعنف. نعم، يجيد المخرج
تصوير تلك المشاهد العارمة ورفع التوتر الناتج عن المحن المختلفة، لكن هناك
مشاهد متفاوتة المستويات وممثلين يؤدون المطلوب من دون عمق ملحوظ. على كل
ذلك، الفيلم يأتي في وقتنا العصيب وما يعرضه قد يؤول للحدوث.
هذه الأفلام السابقة لها حظوظها في النتائج الأخيرة (خصوصاً
فيلم «نومادلاند» (الذي نال الكثير من مديح النقاد وتصفيق الجمهور)، وهذا
ما لا يمكن قوله عن فيلم جيّد آخر لمجرد أنه ليس عصري الأسلوب ولا الموضوع
كحال باقي الأفلام.
هو فيلم الروسي أندريه كونتشالوفسكي «الرفاق الأعزاء».
صوّره قصداً بالأبيض والأسود ووضع أحداثه (المستقاة من وقائع حقيقية) في
سنة 1962 وألزم فنييه وفنانيه البقاء في سياق العمل وليس خارجاً عنه. بذلك
لا التصوير ولا التمثيل ولا الموسيقى أو عنصر آخر يتحلّى وحده بالتميّز عن
سواه. كل شيء عليه أن يمر تحت مستوى منخفض للدراما. مسألة تنجح على الشاشة
لكنها ستفشل تجارياً رغم أهميتها.
هو عن ثورة جياع أخرى. لا تقع أحداثها اليوم كما بات
واضحاً، لكن في حين تنتقد السلطات الشيوعية تقول في خبايا الصورة إن ما حدث
بالأمس يحدث اليوم في أنظمة أخرى. كل شيء متوقف هنا أو هناك على الرغبة في
استحواذ النفوذ تحت راية المواطنية. هذا يتضح عندما ينبري أعضاء الحزب
الشيوعي بإطلاق الشعارات معتبرين الإضراب الذي قام به عمّال إحدى المصانع
السوفياتية خيانة للوطن.
تقوده الممثلة جوليا فيوستوسكايا التي تلعب دور عضوة في
الحزب لديها رادع وضمير وليست راضية عن تصرّف المسؤولين مع إضراب عمّالي
يطالب بخفض الأسعار ورفع الأجور. وفي حين يرمي لهم المسؤولون خطباً في
الوطنية، يبادر هؤلاء إلى رمي المسؤولين بالحجارة تعبيراً عن رفضهم. بعينين
ملاتعتين ومذعورتين من هول ما يقع، تراقب بطلة الفيلم كيف تم سحق
المتظاهرين وقتل العديد منهم بالرصاص. كونتشالوفسكي لا يريد التفنن في
لقطاته ولا في تأطير مشاهده لتبدو مهمّة. هو واثق من نفسه لدرجة أن ما
يعرضه، بما في ذلك مشاهد المظاهرات، كاف بدلالاته. لا عليه سوى إتقان
إخراجها.
تحقيق هذه المشاهد يتم بأسلوب كان يحتاج «نظام جديد» له، أو
لما يوازيه. هدف كونتشالوفسكي الدائم الإحاطة بكل الظروف التي أدّت إلى تلك
الأحداث وإدانة السُلطة الشيوعية. لكنه إذ يفعل ذلك ينأى عن الخطاب
الإرشادي. نقده واضح لكنه ليس من النوع الإنشائي الذي عليه فيه تجيير
الواقع ومأساته إلى أداة استغلال تعود عليه بنفع إعلامي كما فعل الكثير
سواه ممن تصدّوا لمواضيع شبيهة. |