لا توجد صناعة سينمائية حول العالم تشهد حاليًا طفرة كهذه
التي تشهدها السينما السعودية؛ فبعد عقود من تحريم السينما جاء عصر جديد
مرصّع بالآمال، يتزامن مع صعود جيل شاب، تعلم جيدًا وانفتح على العالم
وتأهب لاقتناص الفرصة كي يعبر عن نفسه ويحكي حكاياته، وهي الفرصة التي جاءت
في صورة حراك سينمائي ودعم مؤسسي ومهرجان انطلق كبيرًا تحت عنوان مهرجان
البحر الأحمر السينمائي الدولي.
خلال الدورة الأولى من المهرجان، شاهدنا الأفلام السعودية
المشاركة بترقب كبير ورغبة في الاكتشاف، لاسيما وهي الموجة الأولى من
الأفلام التي صُنعت قبل انطلاق المهرجان، والذي سيؤثر بدوره بالطبع على
الصناعة وآليات استقبالها، بعدما صار من الممكن أن يُقام العرض الأول
للفيلم السعودي وسط حضور دولي، بما في ذلك من مزايا وانتشار، وما فيه أيضًا
من تحدٍ يتمثل في وضع الأفلام في مقارنة مباشرة مع الأعمال الكبيرة التي
يعرضها المهرجان، وما أكثرها!
من بين الأفلام السعودية المشاركة لفت نظرنا ثلاثة أفلام
تنتمي بشكل أو بآخر إلى سينما النوع، وعلى الأخص عوالم الرعب التشويقي التي
تبدو – وفقًا لهذا العدد من الأعمال – مغرية لصناع السينما الشباب في
المملكة. أفلام تباينت في شكلها وحجمها الإنتاجي، لكنها اتفقت في محاولتها
المزج بين الجاذبية الجماهيرية وطرح بعض الأفكار التي تراود صانع الفيلم.
فهل الأمر مجرد مصادفة؟ أم أن التزامن يكشف عن ذائقة ما، أو هموم متقاربة
تطفو في الوجدان الجمعي لصانع الأفلام السعودي؟
"تمزّق"..
الوحش في الداخل والخارج
الرابح الأكبر من تجربة المشاركة في مهرجان البحر الأحمر من
السينما المحلية كان بالتأكيد فيلم "تمزّق" للمخرج حمزة جمجوم، فهو الفيلم
المحلي الذي اختاره المهرجان لتمثيل المملكة في المسابقة الرسمية، وهو
العمل الذي صوّت له الجمهور لينال جائزة أحسن فيلم سعودي، في دلالة على
الجاذبية الجماهيرية التي يحملها الفيلم كبير الطموح.
وصف كبير الطموح هنا ليس مبالغة، فالفيلم بالفعل يمثل حجمًا
إنتاجيًا ليس من السهل تحقيقه وفق الحسابات التقليدية، سواء في الاستعانة
بالنجم بيلي زاين للعب دور البطولة المشاركة، أو في تصوير أغلب مشاهد العمل
في العاصمة البريطانية، أو في طول وتعقيد مشاهد الحركة التي تدور داخل مبنى
"رويال" السكنى في لندن، والذي يديره رجل مختل (زاين)، مهووس بالتسلل إلى
المنازل ومراقبة السكان وعلى رأسهم الزوجة السعودية الشابة ملك التي انتقلت
إلى لندن مع زوجها سعيًا للعلاج من أجل الإنجاب.
يبدأ الفيلم الذي استضاف المهرجان عرضًا أوليًا له (بمعنى
أن ما شاهدناه ليست النسخة الأخيرة للعمل بعد) بشكل استعراضي يحمل قدرًا من
المبالغة من قبل المخرج الذي يبدو لوهلة وكأن إغراء وفرة المواد المصورة قد
أغواه بالإفراط في التنقل بين اللقطات بطريقة إعلانية. قبل أن تمر الدقائق
ليزول هذا الشعور تدريجيًا، ويبدأ الانخراط في أحداث الفيلم وإيقاعها
اللاهث.
يبرز هنا بقوة عنصر الأداء التمثيلي المتميز من بيلي زاين
وسمية رضا، اللذان يقدمان أداءً تكمن قوته في كونه جسديًا وباطنيًافي آن،
فمن جهة الفيلم يمتلك إيقاعًا لاهثًا ويحوي الكثير من مشاهد الحركة
والتشويق التي تطلب انخراطًا بدنيًا كاملًا، ومن جهة أخرى تمتلك كل شخصية
من الاثنين تعقدها الداخلي، فهما على مستو بطلة وشرير، وعلى مستو آخر صراع
بين الأنا والهي
ID & Ego
داخل نفس الشخص ذاته، وهي قراءة مرنة يمكن تفسير الفيلم من خلالها أو
الاكتفاء في متابعة أحداثه الشيقة.
قراءة أخرى تستحق التفكير تتعلق بقيمة وتأثير الزوج (فايز
بن جريس)، فهو الحاضر الغائب، العاشق الذي يترك حبيبته عندما تحتاجه لأسباب
واهية، والذي يؤمن أن تأثيره في حياتها أكبر بكثير من حقيقة هامشية وجوده،
في تعبير درامي عن الذكورة الهشة، التيمة الحاضرة بقوة في عدد من أفلام
المهرجان، وفي إنتاجات السينما العربية الحديثة بشكل عام.
قد نمتلك ملاحظة هنا أو هناك حول تفاصيل السيناريو التي
تتعثر أحيانًا في الإقناع بتصرفات مدير المبنى وردود أفعال ملاك، أو
الموسيقى التي تستخدم أكثر مما ينبغي رغم جودتها، أو حول الدقائق الأولى من
الفيلم التي تحتاج بالتأكيد إلى نظرة إضافية على توليفها، إلا أننا
بالتأكيد أمام عمل كبير وممتع، شاهق الطموح بما يليق بموهوب شاب تمكن من
قيادة دفة هذا المشروع المعقد إلى برّ النجاح.
"جنون"..
قيمة الشكل والمضمون
لا يمكن حصر عدد الأفلام التي حاول صناعها حكي حكايتهم
باستخدام الكاميرات المتاحة في الموقع الطبيعي، على طريقة الفيلم الأشهر
"The Blair Witch Project"،
والذي أسهم في تأسيس مصطلح يصف النوع هو أفلام اللقطات المعثور عليها أوfound-footage،
أي أن الفيلم يمنح مشاهده شعورًا بأن هذه المواد قد صوّرت بالصدفة وتم
العثور عليها بعدما رحل أصحابها في ظروف غامضة، مرعبة في أغلب الأحوال.
صناع السينما العرب حاولوا تطبيق الطريقة في أكثر من مرة،
انتهت في أغلب الحالات إلى نتائج أقل من المأمول، نذكر منها على سبيل
المثال "وردة"، الفيلم الأضعف في مسيرة مخرجه هادي الباجوري ومؤلفه محمد
حفظي. من هنا تأتي قيمة فيلم "جنون" للمخرجين الشابين معن ب. وياسر ب.،
والمعروض ضمن قسم السينما السعودية الجديدة في البحر الأحمر. من كونه
فيلمًا حقيقيًا، متقن الصنع، خاطف للأنفاس، تجيد فيه السينما العربية لأول
مرة توظيف النوع المذكور، وتحكي من خلالها قصة لا تكتفي بالإثارة، بل تحمل
وجهة نظر تستحق التأمل.
خالد (يلعب دوره المخرج معن ب. بنفسه) شاب مهووس بأن يصير
أحد المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، فلوجر
vlogger
حسب المصطلح الذي يشير لمن يصيغون يومياتهم بطريق الفيديو. يصطحب زوجته
المسالمة وصديق عمره الغامض في رحلة إلى الولايات المتحدة، ليجتمع مع فلوجر
أمريكي شهير في عالم الخوارقيات، ويخرجوا جميعًا في رحلة إلى أحد المنازل
الجبلية النائية باحثين عن تسجيل حالة تجسد خارق للطبيعة عبر الكاميرات.
الحبكة التي صاغها الكاتبان مروان مقبل وبيدرو باولو أراوخو
تجعل وجود الكاميرات عضويًا، فلسنا في حاجة لتبرير الحضور الدائم للعدسات
لترصد رحلة الأبطال، لأننا نعلم أن وجودها متعمد من قبل الشخصيات نفسها،
وبالتحديد من قبل خالد الذي تجسد تصرفاته الوجه المشوّه لإنسان العصر
المستسلم كليًا لهوس الشهرة الإلكترونية، والمستعد للإقدام على أي شيء وكل
شيء من أجل حلم الوصول لملايين المتابعين.
خالد هنا يمثل الوجه الآخر للذكورة الهشة مع الزوج في
"تمزّق"، فهو متواجد جسديًا على الشاشة طيلة الوقت، لا يرحل مثل الرجل
الآخر، لكنه مجددًا حضور لا يزيد الأمور إلا سوءًا، بالمزاج الطفولي
والقرارات الخاطئة والتسبب في كارثة تلو الأخرى دون التوقف لوهلة من أجل
التفكير ومراجعة الذات. بما يجعلنا نفكر بعمق في صورة الرجل عمومًا في هذه
الموجة الجديدة من السينما السعودية. الصورة التي قد تعبر عن تمرد يأتي
بشكل غير واع على السلطة الأبوية التي سيطرت على مقاليد المجتمع لعقود بيد
من حديد ودون قدرة على الجدال والنقد.
مع بلوغ الفصل الأخير من الفيلم، وانكشاف اللغز وراء ما
يتعرض له الأبطال من أمور مرعبة، يصل الفيلم نقطة يتكامل فيها الشكل مع
المضمون، ويصير الأسلوب الذي اختاره المخرجان لفيلمهما متماهيًا مع
الاستنتاج النهائي الذي تنتهي الحكاية عنده، وهي علامة نضج كبيرة في ظل
القاعدة الذهبية التي تقول أن الأعمال الفنية الجيدة فقط هي ما يكون الشكل
والمضمون فيها شيئًا واحدًا، لا أمرين منفصلين يمكن عزلهما وتقييم كلًا
منهما على حدة.
"كيان"
... اتقان الصنع وعادية الطموح
فيلم آخر ثالث ينتمي لأفلام النوع، الرعب مجددًا، تم عرضه
في قسم السينما السعودية الجديدة هو فيلم "كيان" للمخرج حكيم جمعة، وهو
الفيلم الذي تصوير أحداثه بالكامل في القاهرة، التي يذهب إليها زوجان شابان
بصحبة رضيعهما، فتضطرهما الظروف لقضاء الليلة في فندق غامض بمكان ناء،
ليواجها أشباح الماضي طيلة الليلة المخيفة.
جهد كبير يرسمه المخرج الشاب في رسم الجو العام لفيلمه، مع
جهد مماثل من بطلي الفيلم سمر ششة وأيمن مطهر، واهتمام كبير بالتفاصيل
الشكلية للفيلم المتأثر كثيرًا بأفلام الرعب الأمريكية، سواء في طريقة
التمهيد لما ستحمله الليلة من مخاوف، أو في كيفية سرد هذه المخاوف والتعبير
عنها دراميًا وبصريًا، أو حتى في الذروة التي يحاول المخرج (الذي كتب
السيناريو بنفسه) أن يفسر فيها كل ما حدث ضمن إطار نفسي.
المخرج يثبت بالفعل قدرته على صياغة فيلم جماهيري متماسك،
لكنه في المقابل لا يتمتع بقدر النجاح الذي حققه الفيلمان سابقا الذكر في
هذا المقال. فلا الظروف الإنتاجية أتاحت له مطاردة طموح شاهق كما في
"تمزّق"، ولا تمكنت القصة من امتلاك وجهة نظر يمكن التفكير فيها كما في
"جنون". مجرد فيلم رعب جيد الصنع، غير مثير للسخرية كأغلب المحاولات
العربية السابقة، وهذا يبقى نجاحًا نسبيًا يجعلنا نتوقع نجاح الفيلم عندما
يتم عرضه على المنصة الإلكترونية التي قامت بتمويله وفق لوحات البداية.
الأحداث تدور في القاهرة، لكنها من الممكن أن تدور في
الرياض أو لوس أنجلوس أو ملبورن، بما يعكس غياب الخصوصية الثقافية، حتى على
مستوى شكل الأحداث التي يمر بها البطلان، والتي تمتلك هي الأخرى مرجعيات
غربية واضحة.
وبالرغم من انطلاق أزمة البطلة من نقطة مقاربة لبطلة
"تمزّق"، إلا أن المساحات الدرامية تتباين ليقتصر حضور الأزمة هنا على دوره
في تفسير الأحداث لاستكمال البناء الدرامي، دون التعمق أكثر داخل نفوس
الشخصيات.
والطريف أن الفيلم الأقل تعمقًا في نفوس شخصياته هو الفيلم الذي يمتلك
الرجل فيه حضورًا مهيمنًا يساوي المرأة إن لم يفوقها، وكأن الحضور الذكوري
قرين الاهتمام بالأحداث بينما الحضور الأنثوي منشغل أكثر بجوهرها، تمامًا
كما في الأفلام السعودية المعروضة في المهرجان، والتي يمكن تلخيصها في أن
الرجال يصنعون أفلام نوع مثيرة، بينما تحاول النساء التعامل مع السينما
باعتباره فنًا أكثر عمقًا! |