المخرجة الإسبانية بيلين فونيس تقدم في فيلمها "ابنة لص" عملا ينتمي إلى
الواقعية المباشرة من خلال امرأة شابة تعيش على هامش المجتمع.
برز دور الأم في عدد كبير من الأفلام التي عرضت في الدورة الـ41 من مهرجان
القاهرة السينمائي. وفي هذا المقال يتوقف كاتبه أمام فيلمين من تلك التي
لفتت الانتباه.
ابنة لص
في فيلمها الروائي الأول “ابنة لص” A Thief’s Daughter
تقدم المخرجة الإسبانية الشابة بيلين فونيس، عملا ينتمي إلى سينما الأخوين
البلجيكيين درادان، أي ينتمي إلى الواقعية المباشرة من خلال “دراسة حالة”
على المستويين الاجتماعي والنفسي دون مبالغات أو انفعالات. والحالة هي
لامرأة شابة هي سارة تعيش على هامش المجتمع، فهي أم منفردة لطفل من دون
زوج، ترعى طفلها الرضيع مع شقيقها الطفل في السادسة من عمره، يتنكر لها
حبيبها الذي أنجبت منه، ويطاردها والدها بقسوة، ويلقي ماضي الأب الذي هو لص
أدين وسجن وغادر السجن حديثا، ظلاله بقوة وقسوة على حياة تلك المرأة التي
نراها تقريبا في جميع مشاهد الفيلم بتركيز خاص على وجهها في لقطات قريبة.
الممثلة الإسبانية غريتا فرنانديز تحمل هذا الفيلم بأكمله على عاتقها، من
دونها لم يكن الفيلم ليحظى بكل هذا السحر وقوة التأثير. إنها تبدو في دور
سارة كما لو كانت قد خلقت لتؤديه أو كما لو كان الدور قد كتب لها، فهي
تتحرك بسرعة ورشاقة، تقطع الطرق في مدينة برشلونة وضواحيها، تنتقل من عمل
إلى آخر، تحمل طفلها أو تجر عربة الأطفال، تحاول إخراج شقيقها من دار
الأيتام التي وضع بها بدعوى عدم صلاحية سارة لأن تكون حاضنة له.. والدها
الذي لم تره منذ سنوات، منذ أن تخلى عن ذلك الابن الصغير، يظهر فجأة لكن
لكي يعذبها ويبدي لها احتقارا، ولكن هل تستطيع هي أن تقطع تماما الصلة
العضوية التي تربطها به؟
المخرجة بيلين فونيس: فيلم أول بديع بإيقاع مضبوط ينتمي إلى عالم السينما
الواقعية
الشخصية والمكان والمحيط الاجتماعي القاسي، ومتطلبات التعامل بشراسة مع
الواقع اليومي، هذا ما تهتم المخرجة بإبرازه في هذا الفيلم الأنثوي الذي
يعبر ببراعة عن حالة امرأة وحيدة في مجتمع ذكوري. ورغم قدراتها الكبيرة على
التعامل مع الأشغال والأعمال المختلفة، وتحمل مشاق العمل، إلا أنها تواجه
الكثير من المعوقات، تفقد هذا العمل لتبحث عن غيره، وتظل تنتقل من مكان إلى
آخر مثل النحلة، لا تهدأ قط. وعندما تفقد شقيقها الذي تتبناه أسرة أخرى
تكافح لكي تنتشله وتستعيده. وهي تتحدى بصلابة المشرفة الاجتماعية عندما
تخبرها بأنها غير صالحة لتربية شقيقها الصغير بدعوى أنها “لا تملك شيئا”
فتجيبها “بل عندي كل شيء”!
يتميز “ابنة لص” بإيقاع مضبوط بدقة الساعة السويسرية فليست هناك لقطة زائدة
يمكن استبعادها من الفيلم، ولا يوجد مشهد مختل الإيقاع يسبب ارتباكا لنا
كمشاهدين، رغم أن هناك الكثير من الغموض في تفسير هذا الوضع المرهق الذي
تعيشه الشخصية الرئيسية سارة، فنحن لا نعرف شيئا عن ماضيها، ولا من أين
جاءت؟ وما سر تلك النظرة الحزينة الثابتة على وجهها التي تلخص كل بؤس
العالم؟ ولكننا لا نعرف أيضا إلى أين تسير؟ وما الذي سيحدث لها؟ فكل هذا
ليس مهما، لأن كاتبة الفيلم ومخرجته تفضل أن تبقي القوس مفتوحا ولا تغلق
الدائرة.
"مينداناو"
القاعدة الذهبية تقول إن الأفلام لا تصنع بالنوايا الحسنة، فما بالك إن
أراد مخرج مثل الفلبيني بريانتي ميندوزا، أن يصنع فيلما دعائيا دون أن يخفي
هذا الطابع الدعائي، لكي يقول لنا ببساطة إن في الفلبين حرية وتسامحا
وقبولا للآخر المختلف دينيا، وإن الجميع يشتركون معا في مكافحة الإرهاب
الذي تمارسه الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل جماعة أبوسياف المعروفة، وإن
المسلمين الفلبينيين يدفعون ثمنا باهظا أيضا لمثل هذا التطرف.
قبل ثلاث سنوات قدم لنا ميندوزا فيلما بديعا هو “الأم روزا” الذي شارك في
مسابقة مهرجان كان، وكان ينهج فيه نهج الواقعية الجديدة، من خلال قصة امرأة
فقيرة تتحايل من أجل تدبير تكاليف الحياة الشاقة التي تعيشها مع زوجها،
لكنها تجد نفسها في السجن. وكان ما يميز الفيلم لغته السينمائية، صوره
بالأبيض والأسود، الكاميرا المحمولة المتحركة في معظم مشاهده، التصوير في
الزمن الطبيعي للأحداث. وقد اقتنص الفيلم جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان
في تلك السنة.
المرأة - البطلة
وفي فيلمه الجديد الذي يشارك في مسابقة مهرجان القاهرة السينمائي الـ41،
وهو فيلم “مينداناو” Mindanao،
يعود ميندوزا إلى موضوع بطلته أيضا امرأة فقيرة تدعى شيماء، ولكنها أكثر
شبابا من بطلة “الأم روزا”، والأهم أنها مسلمة ترتدي الملابس التقليدية مع
حجاب الرأس، وتؤدي الصلوات أمام الكاميرا، وترعى ابنتها ذات الأربع سنوات،
تأخذها إلى دار الرعاية الاجتماعية حيث تلعب مع الأطفال من المسلمين وغير
المسلمين في ود ووئام. وعندما تريد شراء النوع الذي تحبه ابنتها من الأيس
كريم، لا تجد معها من النقود ما يكفي فتصر البائعة على أن تعطيها السلعة
المطلوبة على أن تتحمل هي ثمنها بعد أن تعلم أن ابنتها مريضة.
المشكلة أن الطفلة مريضة بسرطان الدم أو اللوكيميا، وقد انتشر السرطان ووصل
إلى المخ وأصبحت حالتها حرجة، وربما تكون في الأيام الأخيرة من حياتها،
وهذا ما يقوله الطبيب للأم في المستشفى. أما الأب-الزوج فهو جندي في الجيش
الفلبيني، ضمن وحدة خاصة لمكافحة الإرهابيين الذين يشنون هجمات شرسة ضد
القوات الحكومية. وهو أيضا مسلم ملتزم بالصلاة، لكنه يرتبط برفاقه من غير
المسلمين في الوحدة العسكرية، بصداقة وحب وتعاون مثالي.
إننا إذن، أمام الجنة الموعودة، أي عالم مثالي لا يشوبه شائبة سوى الهجمات
الهمجية التي يشنها أعداء الحضارة الإنسانية، وهو ما سيتسبب في إصابة الأب
الذي رغم حبه الكبير لابنته وزوجته، إلا أن إخلاصه للوطن يجعله يفضل
الالتزام بالمشاركة مع وحدته العسكرية بينما ابنته الصغيرة ترقد في
المستشفى بين الحياة والموت.
ميندوزا يقضي وقتا طويلا في التمهيد للموضوع، ثم وقتا أطول في تصوير ملامح
شخصية الأم وعلاقتها بمحيطها، مركزا على التزامها بشعائر الإسلام، واحترام
الجميع لها. أي يركز على فكرة أن في الفلبين لا توجد تفرقة أوتعصب أو
اضطهاد للمسلمين بل على العكس فالميليشيات الإسلامية المسلحة التي تتردد
نداءاتها على شريط الصوت “الله أكبر” كلما انتقلنا إلى مشاهد المعارك، هي
التي تفسد هذا الجو الودي والمجتمع المسالم.
المخرج بريانتي ميندوزا: فيلم بطلته امرأة مسلمة محجبة وتؤدي الصلوات أمام
الكاميرا
هذه المشاهد تحديدا لدينا منها الكثير في النصف الثاني من الفيلم، ولكن من
خلال أسلوب يتناقض تماما مع الأسلوب السائد في النصف الأول من الفيلم، ففي
هذه المشاهد يبدو ميندوزا وقد جنح إلى اتجاه الفيلم الحربي، وبعد ذلك ينتقل
إلى الميلودراما التي تضغط على الجروح بقسوة، تريد أن تبتز منك الدموع، عن
طريق المبالغة في تصوير تلك" الحالة" من العنف والقتال والاشتباكات، في
تواز مع المصير الذي تنتهي إليه الابنة.
لا أعرف ما الذي يقصده ميندوزا من خلال استعراض تقاليد الموت عند المسلمين
بالتفصيل في مشاهد طويلة: غسل الجثة، لف الجثة بالكفن، الدفن في مقبرة
محفورة في التربة قرب ساحل البحر، سد منافذ المقبرة بالأخشاب والتراب..
إلخ. صحيح أنه يريد أن نشعر بالاحترام للتقاليد الإسلامية، لكن تفريغها
بعيدا عن مسار الفيلم يجعلها مرد مشاهد “إكزوتية” فولكلورية منعزلة عن
السياق العام للفيلم.
في محاولة للتغلب على رتابة الموضوع وجانبه الدعائي الواضح حتى كثيرا ما
بدا كما لو كان تمجيدا لما يقوم به الجيش الفلبيني، يستخدم ميندوزا التحريك
أو الرسوم المتحركة في بداية الفيلم، وفي بعض أجزائه، كما في نهايته. وهي
رسوم تصاحب القصة التي ترويها الأم شيماء لابنتها وهي أسطورة الشقيقين راجح
وسليمان اللذين يقاتلان ضد حيواني التنين: جنتو وبولا. لكن المشكلة أن
الصلة بين الأسطورة وأحداث الفيلم بدت واهنة وغير مقنعة، بل وكان يمكن أن
يروي ميندوزا قصة فيلمه دون العودة إلى تلك الأسطورة ودون استخدام التحريك
أصلا.
براعة الأداء
الجانب المشرق في الفيلم والذي يثير الإعجاب هو أداء الممثلة الجميلة جودي
آن سانتوس في دور الأم، شيماء، التي تحمل الفيلم بأسره وحدها، ومن دونها لم
يكن الفيلم ليوجد. فقد أدت برسوخ في جميع المشاهد التي ظهرت فيها، وصمدت في
لقطات الكلوز أب (القريبة) للوجه، وعبرت برقة وشفافية مدهشتين، بعينيها
الحزينتين عن كل حزن العالم الذي تشعر به كأم تلهث طوال الوقت من أجل إنقاذ
ابنتها الوحيدة.
يبقى أن أذكر أن مينداناو هي جزيرة كبيرة نسبيا تقع في جنوب الفلبين تتميز
بمناظرها الطبيعية الخلابة. ويوجد فيها أكثر من ثلاثين أقلية إثنية أو
عرقية، كما يتمتع المسلمون في قطع منها بالحكم الذاتي. ولا شك أن اختيار
هذه الجزيرة لتصوير الفيلم وإطلاق اسمها عليه هو اختيار مقصود تماما لكي
يمنح للمتفرج داخل الفلبين هذا المعنى أي معنى التسامح وقبول الآخر وضرورة
الاشتراك معا في مقاومة العنف والإرهاب.
وجدير بالذكر أن المخرج بريانتي ميندوزا (59 سنة) كان قد أخرج المؤتمر الذي
أعلن فيه الرئيس الفلبيني رودريغو ديوترت “حالة الأمة”State
of the Nation
وحضره ثلاثة من الرؤساء الفلبينيين السابقين عام 2016، ثم عاد فأخرج
المؤتمر الثاني للرئيس في 2017 وصور الخطاب الذي ألقاه لعرض الخطوط العريضة
لسياسة الدولة على غرار “خطاب سياسات الاتحاد” في الولايات المتحدة.
كاتب وناقد سينمائي مصري |