مهرجان القاهرة السينمائي بين «القصة والمناظر»
ينشر بالاتفاق مع مجلة الفيلم
لقد أصبحت حفلات الجوائز ظاهرة عصرية واسعة الانتشار تظهر
في مختلف الصناعات في شكل معارض تجارية ومؤتمرات مهنية ومسابقات تقنية وما
إلى ذلك.
وتحولت هذه التظاهرات التي يتم الترويج لها على نطاق واسع،
إلى أيقونات ثقافية عالمية، بما في ذلك على سبيل المثال جوائز الأوسكار
الأمريكية، والبافتا البريطانية (في السينما)، وجوائز غرامي (في الموسيقى)،
وجوائز توني (في المسرح)، وجوائز إيمي (في التلفزيون).
هذه الأحداث ومراسم توزيع الجوائز هي مناسبات لرواد الصناعة
للقاء والاحتفال بأنفسهم ومنتجاتهم، وبناء الهويات الثقافية، وخلق الفروق
والتصنيفات من خلال الترشيحات ومنح الجوائز.
ينظر إلى المهرجانات السينمائية على أنها نوع محدد من
التظاهرات الفنية واحتفالات الجوائز، والتي تعمل كأحداث رائدة لتأسيس سمعة
المهنيين السينمائيين وأيضًا اجتماع لصناعة السينما، وساحة للوساطة بين
الفن والأعمال التجارية، بحيث أصبحت المهرجانات السينمائية تشكل مجالًا
راسخًا في حد ذاته مع هيكل تبلور بشكل كامل على مدار العقود الماضية.
في كل الدول التي لها باع طويل في فن وصناعة السينما، كانت
المدن التي تقام باسمها المهرجانات السينمائية على مدار العقود الستة أو
السبعة الأخيرة مثل البندقية في إيطاليا، وكان في فرنسا، وبرلين في
ألمانيا، وموسكو في روسيا، وبالطبع القاهرة في مصر، تؤسس لخصوصية فنية
وجغرافية. ﻻ أحد يعرف بالضبط عدد المهرجانات السينمائية الموجودة اليوم،
ولكن بعض التقديرات تذهب إلى وجود 3500 مهرجان سينمائي حول العالم، والبعض
الآخر يقدرها بأكثر من 6 آلاف، بينما يشير الاتحاد الدولي للمنتجين
السينمائيين إلى أن عدد المهرجانات التي حصلت على الاعتماد الدولي في عام
2019 هو 46 مهرجانًا.
أما هذه المهرجانات الناشئة فتبني خصوصيتَها على أساس من
التنميط من خلال الأفلام المشاركة، أو المخرجين والممثلين المتنافسين على
جوائزها. وهنا تبرز الحاجة لإعادة طرح السؤال: لمن تقام المهرجانات؟ ولماذا
يتزايد اهتمام المؤسسات الحكومية وغير الحكومية بإقامة مثل هذه التظاهرات
الفنية؟.
*
المدخل التاريخي
على المستوى التاريخي، كانت أوروبا هي المهد الذي شهد مولد
ظاهرة المهرجان السينمائي في سياق الوضع الجيوسياسي الخاص بأوروبا خلال
الثلاثينيات من القرن الماضي والنظام السياسي الجديد في أوروبا في أعقاب
الحرب العالمية الثانية في أواخر الأربعينيات والخمسينيات.
تأسس أول مهرجان سينمائيّ رئيسيّ في العالم في مدينة
البندقية بإيطاليا تحت حكم النظام الفاشي في عام 1932، أي أن الأمر استغرق
ما يقرب من 40 عامًا بعد أول عرض سينمائيّ عام في ديسمبر 1895، إلى ظهور
أول مهرجان سينمائيّ كبير في العالم.
سرعان ما أثارت طريقة إدارة مهرجان البندقية انتقاداتٍ
واسعةً بأن الأفلام الإيطالية والألمانية كانت مفضلة على الرغم من أن
الدورات الأولى استضافت أفلامًا من عدة دول.
كانت روسيا هي إحدى المتبنّين الأوائل للمهرجان السينمائي،
إذ تأسس مهرجان موسكو في عام 1935، ليكون ثاني أقدم مهرجان سينمائي بعد
البندقية، ولكنه توقف هو الآخر بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية واستعاد
نشاطه في عام 1959، واستمر انعقاد المهرجان بشكل دوريّ كل عامين، بالتبادل
مع مهرجان كارلوفي فاري، في الفترة من 1959، وحتى 1995، ومنذ عام 1995 أصبح
المهرجان سنويًا.
في عام 1937، حرم فيلم "الوهم الكبير
La Grande Illusion"
للمخرج الفرنسي "جون رينوا
Jean Renoir"
من الجائزة الكبرى بمهرجان البندقية نظرًا لمواقف مخرجه السياسية، وعليه
قررت فرنسا أن تقيم مهرجانها الخاص، ومن هنا ولد أحد أعرق المهرجانات
السينمائية العالمية حتى اليوم، مهرجان كان.
كان من المقرر أن يقام مهرجان كان في الأسابيع الأولى من
شهر سبتمبر عام 1939، غير أن الغزو الألماني لبولندا في مطلع هذا الشهر أدى
لتأجيل إطلاق المهرجان حتى نهاية الحرب، فكانت دورته الأولى في عام 1946.
وهو ما يعني أنه حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية عرف
العالم 3 مهرجانات فقط، هي على الترتيب: البندقية، وموسكو، وكان، أما باقي
المهرجانات المعتبرة (مثل لوكارنو في سويسرا، وبرلين في ألمانيا، وكارلوفي
فاري في روسيا) فتم تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية بنهاية الأربعينيات
وبداية الخمسينيات.
كانت أوروبا الحاضنة للمتبنّين الأوائل للمهرجانات
السينمائية، ولكن هذه الظاهرة ما لبثت أن انتشرت في مختلف دول العالم فظهرت
مهرجانات في الهند 1952 (آسيا)، وسيدني 1954 (أستراليا)، والأرجنتين 1954
(أمريكا الجنوبية)، وظهرت المهرجانات المتخصصة بدءا من عام 1954 مع مهرجان
أوبرهاوزن للأفلام القصيرة في ألمانيا، ومهرجان بلباو للأفلام القصيرة في
أسبانيا عام 1958. كل هذه المهرجانات العريقة هي التي أسست للنموذج الذي
سار على نهجه كل المهرجانات العالمية اللاحقة.
تكتسب المهرجانات السينمائية الصفة الدولية من خلال
اعتمادها من قبل الاتحاد الدولي لمنتجي الأفلام
(FIAPF)
وهو منظمة عالمية تمثل مصالح مجتمعات منتجي الأفلام السينمائية حول العالم
تم تأسيسها في عام 1933 بعضوية 26 منظمة إنتاج محلية من 23 من الدول
الرائدة في مجال صناعة السينما.
إبان الدورة الأولى من مهرجان برلين السينمائي في عام 1951،
وضع الاتحاد الدولي للمنتجين معايير للاعتراف الدولي منعًا لتضخم ظاهرة
المهرجانات الإقليمية والعالمية.
ووفقًا للاتحاد الدولي للمنتجين، تمنح الصفة الدولية
للمهرجانات بناءً على معيارين رئيسيين هما:
•
الجمع بين أفلام من دول مختلفة على مستوى العالم، يأتي العديد منها من دول
أخرى غير الدولة المنظمة، ويتم عرضها على الجمهور الذي يتضمن عددًا كبيرًا
من رواد صناعة السينما المعتمدين، وممثلي الصحافة ووسائل الإعلام، وعامة
الناس.
•
أن يقام المهرجان لمدة محددة من الزمن، ولمرة واحدة في العام أو كل عامين،
وفي مدينة محددة سلفا.
بدأ الاتحاد الدولي بمنح الاعتماد الدولي للمهرجانات التي
تتضمن مسابقاتٍ دوليةً، فتقرر منح مهرجانَي كان والبندقية الاعتماد الدولي
في هذا العام 1951، ثم لحق بهما مهرجان برلين في عام 1956، ثم تطور نظام
الاعتماد ليشمل مختلف المهرجانات المتخصصة كمهرجانات الأفلام التسجيلية
والقصيرة، والمهرجانات التي ﻻ تتضمن مسابقة دولية.
على مدار العقود السبعة الأخيرة كان الاتحاد الدولي
للمنتجين - وﻻ يزال - هو اللاعب المركزي وصاحب السلطة الوحيد في مجال
المهرجانات السينمائية العالمية، فالاتحاد هو المضطلع بكل القوانين
واللوائح الخاصة بتعريف العلاقات بين المؤسسات المختلفة والمنتجين في كل ما
يتعلق بتوزيع الأفلام وحقوق عرضها في المهرجانات من خلال الاعتماد الدولي
الذي يمنحه لتلك المؤسسات وتظاهراتها الفنية، وكذا التأسيس للتخصصات
المختلفة والتصنيفات التي تندرج تحتها هذه التظاهرات.
ومن ثم فإن الاتحاد يعتبر هو الوكيل الحصري لمنح الاعتراف
الدولي لأي مؤسسة أو مهرجان عالمي حتى يتسنى له أن يدخل ضمن التصنيف الدولي
ويتم الاعتراف به وقبوله بشكل شرعي كسابقيه، ومن ثم يستطيع أن يستقطب
الموارد والأفلام اللازمة للعرض والمشاركة في إحدى مسابقاته، وكذا استقطاب
المخرجين والنجوم العالميين المعتبرين.
في كتابها "ثقافة الفيلم"، ترى جانيت هاربورد، أستاذ دراسات
الأفلام بجامعة لندن، أن المهرجانات الأوروبية الأولى نشأت كمشروع تاريخيّ
واسع النطاق لإعادة بناء أوروبا، وإعادة بناء البنية التحتية الاجتماعية
التي خربتها الحرب العالمية الثانية، وبهدف توطيد وضع أوروبا كلاعب هامّ في
الاقتصاد العالمي.
والأهم من ذلك، أن الثقافة قد أصبحت، بحلول فترة ما بعد
الحرب، وسيلة لتمثيل حالة المكان، وتيسير الاقتصادات المحلية من خلال
التظاهرات الفنية والثقافية، وكخطوة من الجمعيات والنقابات السينمائية
لتوسيع نطاق تعريف الفيلم كشكل فني، بعيدًا عن التعريف التقليديّ المرتبط
بهوليوود ذات الانتشار والشهرة العالمية.
هذان الخطابان - الأول المعني ببناء الهوية فيما يتعلق
بالأمم أو المدن، والثاني المعني بالتعريف النموذجي للفيلم - هما الأساس
الذي قامت عليه المهرجانات السينمائية العالمية وتطورت من خلالهما التاريخ
والممارسات المؤسسية الخاصة بهذه التظاهرة الفنية واكتسبت من خلاله
الاعتراف الدولي، بناءً على النموذج الذي وضعته هذه المهرجانات الأوروبية
الأولى.
بناءً على ما تقدم، يمكننا القول إن جمهور السينما لم يكن
المعني بالأساس بمثل هذه التظاهرات وفقًا لتصورات نشأتها التاريخية، إذ إن
كل الممارسات المؤسسية الخاصة بهذه التظاهرات الفنية معنية بشكل خاص بصنّاع
السينما ودوائرهم المختلفة وبشكل خاص على مستوى الإنتاج والتوزيع.
القاهرة بين القصة والمناظر.
انطلاقًا من هذا الأساس التاريخي، جاءت الدورة الأولى من
مهرجان القاهرة السينمائي في عام 1976، بعد عدة محاولات عربية كان أولها
مهرجان دمشق الذي أقيمت فعاليات دورته الأولى في إطار معرض دمشق الدولي في
عام 1956، ولكن لم يكتب للمهرجان الاستمرار، ثم جاء بعد ذلك مهرجان أيام
قرطاج السينمائية الذي بدأ دورته الأولى في عام 1966، وهو مهرجان دوري يقام
مرة كل سنتين، ليصبح بذلك مهرجان القاهرة السينمائي الدولي هو ثاني أقدم
مهرجان عربي لا يزال مستمرًا حتى اليوم.
اكتسب مهرجان القاهرة أهميةً خاصةً لكونه المهرجان العربيّ
الأبرز والذي يقام بمدينة القاهرة عاصمة الثقافة والفن في الوطن العربي،
ومن ثم أسس المهرجان لهوية قومية خاصة (سواء على مستوى المدينة "القاهرة"،
أو على المستوى القوميّ العروبيّ) على شاكلة المهرجانات الأوروبية الأولى
وفقًا لتصور هاربورد، وهو ما ظهر بشكل خاص في الاحتفاء بالسينما المصرية
والعربية بشكل خاص سواء من خلال العروض المتعددة ضمن البرامج المختلفة، أو
من خلال التكريمات السنوية لأبرز رواد فن وصناعة السينما في الوطن العربي.
وكما أسلفنا، فإن جمهور وعشّاق فن السينما لم يكن المستهدف
الأول من هذه التظاهرات الفنية، سواء على المستوى العالمي أو المحلي،
بالرغم من الأهمية البالغة لمثل هذه التظاهرات في إتاحة المنتج الفني
الأجنبي في زمن شديد الاختلاف عن زمننا المعاصر، إذ تضاءل حجم توزيع
الأفلام الأجنبية إلى حد كبير بالمقارنة بالوقت الحاضر، واقتصر - في مصر-
في جانب كبير منه، على الأفلام التجارية الأمريكية أو تلك الهندية.
بدايةً من عام 1985، حينما تولى رئاسة مهرجان القاهرة
الأديب والكاتب المسرحي سعد الدين وهبة، غلب على المهرجان الطابع التجاريّ،
إذ أنه لم يحمل خصوصية فنيّة معينة ولكنه عمد إلى تخصيص برامج متنوعة يقدم
من خلالها أعمالًا سينمائية من كل دول العالم.
ومن ثم فقد اكتسب المهرجان صفة جماهيرية بناءً على حجم
الإقبال الجماهيري الهائل خلال النصف الثاني من الثمانينيات وحتى نهاية
التسعينيات.
وعن هذه الدورة يقول الناقد الكبير سمير فريد، والذي كان
مديرًا فنيًا للمهرجان حينئذ، أن الدورة نجحت وحققت انتصارين، تمثل الأول
في استعادة الصفة الدولية من الاتحاد الدولي للمنتجين ولكن بدون مسابقة
رسمية (عادت المسابقة الرسمية بدءًا من الدورة الـ15 عام 1991)، أما
الانتصار الثاني فتمثل في تغطية المهرجان تكلفته وتحقيق أرباح حوالي 50 ألف
جنيه، وهو رقم ضخم في ذلك الوقت، ولكن كان لهذا النجاح أثر جانبي آخر كما
يقول سمير فريد، إذ أن سعد لطفي، رئيس الوزراء في حينها، قرر أن يقوم
المهرجان بالجهود الذاتية وبلا أي دعم من الدولة طالما أنه قادر على تحقيق
فائض ربح.
اقترنت هذه الصفة الجماهيرية بشكل كبير بالإقبال على نوعية
من الأفلام أطلق عليها الجمهور ساخرًا "أفلام المناظر"، تعبيرًا عن الأفلام
التي تحتوي على بعض المشاهد الإباحية التي تجيزها الرقابة بشكل حصريّ خلال
مهرجان القاهرة السينمائي، وهى النكتة التي جسدها الكاتب السينمائي الكبير
وحيد حامد في فيلمه "المنسي" من إنتاج عام 1993، في سؤال بطل الفيلم على
شباك التذاكر عن الفيلم المعروض هل هو فيلم "قصة ولا مناظر؟" وهو السؤال
الذي توارد على ألسنة الجماهير لدى شرائهم تذاكر المهرجان في هذه الفترة.
على مدار هذه السنوات مثّل مهرجان القاهرة السينمائي
"احتفاليةً كبيرة في الشارع المصري ينتظرها الجمهور من عام إلى عام، سواء
حضر نجوم عالميون أو لم يحضروا، فالجمهور حاضرٌ وبقوة" كما يقول الناقد
السينمائي طارق الشناوي في مقاله بجريدة المصري اليوم قبل سنوات.
بل إن الأمر تجاوز هذا الحضور الجماهيري إلى النجاح التجاري
اللافت إلى الحد الذي جعل من المهرجان مستقلًا بشكل ماديّ بلا أي حاجة إلى
دعم من الدولة، فكما يقول الشناوي إن المهرجان استطاع في هذه الدورات التي
رأسها سعد الدين وهبة أن يحقق دخلًا يتيح له الإنفاق على كل فعالياته من
خلال إيرادات الأفلام، بل ويتبقى فائضٌ يتجاوز المليون جنيه.
ترتبت على هذه الظاهرة الجماهيرية مجموعة من الهابيتوس
habitus
لدى جماهير مهرجان القاهرة السينمائي.
والهابيتوس، كما يعرّفها عالم الاجتماع الفرنسي بيير
بورديو، هي منظومة الاستعدادات التي يحملها الناس والتي تتيح لهم الحكم في
مدى جودة صورة فوتوغرافية مثلًا أو التجول بدراية ومعرفة داخل المتاحف، أي
أنها جملة متماسكة من القدرات والعادات والمؤثرات الجسدية التي تتكون لدى
الفرد بالتلقين وبالغرس غير الواعي في الذهن واستبطان أساليب الوجود الخاصة
بوسط معين.
تمحورت الهابيتوس أو منظومة الاستعدادات لدى الجمهور المصري
في عدد من السلوكيات المرتبطة بالتمييز بين المعروض من الأفلام في برامج
مهرجان القاهرة السينمائي، وانتقاء ما يتوسم فيه المشاهد أنه "فيلم مناظر"،
سواء من خلال تناقل السمعة باللسان بين الجماهير التي سبق وشاهدت العروض
الأولى لهذه الأفلام، أو من خلال مطبوعات المهرجان نفسه (كتالوج المهرجان)
التي تحتوي على قائمة بأسماء الأفلام، ونبذة مختصرة عن قصة كل فيلم،
بالإضافة لصورة لإحدى لقطات الفيلم، وكذلك من خلال شراء المجلات والمطبوعات
غير الرسمية التي انتشرت على هامش المهرجان والتي كانت بمثابة دليل للمشاهد
الباحث عن أفلام المناظر، إذ أنها عمدت إلى إثارة اهتمام الجمهور واللعب
على غرائزه بنشر الصور العارية من أجل استقطابه إلى قاعات العرض.
في المقابل، سنجد أن الكتالوج (المطبوعة الرئيسية
بالمهرجان) حملت الكثير من العناصر التي مثلت عامل جذب لهذا النوع من
المشاهدين، فسنجد أن الترجمة العربية لعناوين الأفلام حملت إيحاءات واضحة
وجاذبة، منها مثلا أفلام مثل "قانون المتعة"، و"في الفراش مع مادونا"،
و"الحب الصيفي للفتى الخائب"، و"عنبر النساء"، و"رؤى هائجة".
كما أن عددًا من الأفلام التي لم تحمل عناوينها مثل هذه
الإشارة، كانت الصفحة الخاصة بها في الكتالوج تحمل صورة أكثر إيحاءً مثل
أفلام "الجانب الآخر"، و"خذ حذرك"، و"ملف مارتيللو"، و"الرقص في الظلام".
في هذا العدد من مجلة الفيلم نقرأ في شهادة المخرج عماد
إرنست كيف أن عناوين الأفلام التي كانت تعلو مداخل سينمات وسط البلد أثناء
فترة المهرجان كانت عوامل جذب جماهيري رئيسية، بل إنه يؤكد ان بعض هذه
الأسماء كان مرجعها الجمهور نفسه.
كل هذه الشواهد تؤكد أن مهرجان القاهرة السينمائي بنى
جماهيريته وسمعته التجارية - سواء بشكل مقصود أو غير مقصود - اعتمادا على
هذه الظاهرة الاجتماعية بالأساس، واستغلالا لحقيقة صعوبة إتاحة مثل هذا
المحتوى الفني في هذه الفترة، والإجازة الرقابية الحصرية التي تفرضها لوائح
وقوانين الاتحاد الدولي للمنتجين بشأن عرض الأفلام في المهرجانات
السينمائية.
*
إشكالية الفني والتجاري
ربما كان من الضروري أن نؤكد أن تناولنا لهذا الموضوع ليس
بغرض توجيه الاتهامات إلى القائمين على مهرجان القاهرة السينمائي في هذه
الدورات، وإنما بهدف التوثيق لهذه المرحلة من تاريخ المهرجان، ومحاولة
للإجابة على السؤال الذي انطلقنا منه وهو: لمن تقام المهرجانات؟.
كما أسلفنا، فإن النشأة التاريخية لظاهرة المهرجانات
السينمائية ارتبطت بالمحاولات الأوروبية لإعادة تعريف الفيلم كوسيط فني
بشكل مغاير عن التعريف الأمريكيّ الهوليووديّ السائد، وهو الأمر الذي
يحيلنا على الفور لثنائية الفنيّ والتجاريّ.
وعلينا أن نؤكد ابتداءً أن هذه الثنائية لا تفترض أن كل ما
هو أمريكي هو تجاري بالضرورة، أو أن كل ما هو أوروبي هو فني بالضرورة،
وإنما تنطلق هذه الثنائية بالأساس من عملية تصنيف للجمهور بقدر ما هي عملية
تصنيف للمنتَج الفنيّ نفسه، إذ تفترض الأفلام الفنية جمهورًا نخبويًّا على
المستوى الثقافي، بينما في المقابل تفترض الأفلام التجارية جمهورًا عامًا
سائدًا.
ترتبط المهرجانات السينمائية بشكل كبير بإشكالية الفني
والتجاري، إذ أنها تفترض في جمهورها نوعا من النخبوية، وهو ما ارتبط
بمصطلحٍ دارجٍ في الكتابات النقدية المصرية هو "أفلام المهرجانات" في إشارة
إلى أنها أفلام فنية وليست تجارية.
وعلى هذا الأساس، فإن المهرجانات السينمائية مثلت نافذة
هامة - وربما الوحيدة - للوصول إلى أهم الإنتاجات العالمية في فن السينما،
سيّما في سنوات ما قبل الانفجار التكنولوجي، والتي لم تعرف هذا القدر
الكبير من الإتاحة للمنتجات الفنية والثقافية بمختلف أشكالها، وعليه فقد
كان مهرجان القاهرة السينمائي هو قبلة المشاهد النخبويّ الحريص على مشاهدة
أفلامٍ لن يتاح له مشاهدتها في الظروف العادية، ولن تجتذب أصحاب دور العرض
والموزعين لطرحها تجاريًا خارج إطار المهرجان.
أما على المستوى التجاري، فإن المهرجانات - بحكم التعريف -
هي ملتقى لصناع وموزعي الأفلام السينمائية حول العالم، فالمهرجانات هي
بالأساس مساحة للتلاقي ما بين المبدعين والفنانين من جهة، وبين رأس المال
السينمائي من جهة أخرى، أي أنه تلاقٍ بين الشقين الفني والتجاري. فالفنانون
يبحثون عن تمويل لمشاريعهم، والمنتجون والموزعون يبحثون عن مشاريع فنية
جديدة سواء لإنتاجها أو توزيعها محليًا.
وبهذا المعنى تتراجع أولوية الدور التثقيفيّ وموقع الجمهور
من هذه التظاهرات الفنية، إذ إنها تقوم بالأساس للتشبيك بين الفاعلين
الرئيسيين في الصناعة على المستوى العالمي.
كما ترتبط المهرجانات العالمية بشكل كبير بالجانب التجاري
لصناعة السينما، إذ إن سمعة المهرجان و"تراتبيّته" تتحدد بشكل كبير بناء
على المساحة الممنوحة للتبادل التجاري، من خلال أنشطة مثل سوق الفيلم
الأوروبي بمهرجان برلين، وسوق الفيلم بمهرجان كان.
على هذا الأساس، كان مهرجان القاهرة قناة هامة للتشبيك بين
الموزع الأجنبيّ والموزع المحليّ من خلال أنشطة مثل "سوق الفيلم"، سواء
لتوزيع الأفلام الأجنبية محليًا، أو توزيع الأفلام المصرية عالميًا، غير ان
الصفة التجارية التي اكتسبها مهرجان القاهرة توقفت عند حجم الإقبال
الجماهيريّ والقدرة على تحقيق فائض ماديّ في ميزانية المهرجان استنادًا
لسمعة "قصة ولا مناظر"، دون أي تأثير واضح لفعالية "سوق الفيلم" على صناعة
السينما المحلية.
ﻻ
يمكننا القول إن هذه المرحلة التاريخية من عمر مهرجان القاهرة السينمائيّ
لم تكن ذات أثر إيجابي على المشاهد المصري، فعلى الرغم من ارتباط الإقبال
الجماهيري بهذه الظاهرة، إﻻ أن المهرجان لم يعدم وجود الأفلام الفنية
المتميزة لأعلام السينما على مستوى العالم، فقد شهدت هذه الدورات عروضًا
لأفلام مثل "رفاق طيبون
Goodfellas"
لمارتن سكوسيزي، و"كلاب المستودع
Reservoir Dogs"
لكوانتن تارانتينو، و"لقطة قريبة
Close-Up"
لعباس كياروستامي، و"هنري وجون
Henry & June"
لفيليب كوفمان، وغيرها من الأفلام الهامة. كما نظم المهرجان في عدد غير
قليل من دوراته في عقدي الثمانينيات والتسعينيات برنامجًا خاصًّا بالسينما
المستقلة الأمريكية، والتي يقدم من خلالها تجاربَ هامة خارج نطاق السينما
السائدة في هوليوود.
وعلى الرغم من تصدر جمهور "المناظر" للصورة، إﻻ أن المهرجان
لم يعدم أيضًا جانبه التثقيفيّ وأثره على كل فئات الجمهور سواء الباحث عن
"القصة" أو "المناظر"، كما نجد في رسالة أحد القراء إلى جريدة المساء
الأسبوعية التي يقول فيها: "في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير كان
للإقبال الجماهيري الهائل على أفلام المهرجان بمثابة صفعة على وجه مخرجي
ومنتجي الأفلام الهابطة الذين يتحججون بأن الجمهور "عايز كده" .. يا سادة
الجمهور المصري بريء من هذه التهمة، لأنه ذواق للفن بكل أنواعه ويتطلع
دائمًا إلى كل ما هو جادّ وهادف."
بالتأكيد تطورت ظاهرة المهرجانات السينمائية منذ بزوغها في
بداية الثلاثينيات من القرن الـ20 وحتى اليوم، وهي وإن كانت تظاهرات فنية
تستقطب صناع فن السينما بشكل خاص، إﻻ أنها لا تفتقد لموقع الجمهور ومكانه
المحوري من هذا الفن الجماهيري بكل ثملاته، سواء كان سعيه من أجل "القصة"
أو "المناظر". |