مهرجان الجونة 2019: عندما يطغى الهامش على المتن
أنيس أفندي
المهرجانات والتظاهرات السينمائية المختلفة هي قبل كل شيء
فرصة للاحتفاء بأفضل الأعمال الفنية على مستوى العالم. بوتقة ضخمة تجمع
صناع السينما، المخضرمين منهم والمبتدئين، وأفلام ناطقة بمختلف اللغات ما
بين الروائي والتسجيلي والقصير والتحريك، تقدم تصورًا فنيًا عن العالم كما
يراه صناعها.
منذ انطلاق مهرجان الجونة السينمائي، وعلى مدار السنوات
الثلاث الماضية، تكونت صورة ذهنية عن المهرجان أنه ﻻ يزيد على كونه حفلًا
صاخبًا للنجوم العرب، ومنصة للتباهي والتقاط الصور المثيرة بالأزياء
الأنيقة والإكسسوارات الباهظة، وهو أمر ﻻ يختلف في طبيعته كثيرًا عن كل
المهرجانات العالمية، لكن هذه الصورة الجمعية تتجاهل، بقصد أو بغير قصد،
الجوهر الحقيقي لهذه التظاهرة الفنية.
وإذا ما تجاوزنا هذه الصورة، سنجد أن المهرجان عمد في
دوراته الثلاث إلى استقطاب أهم الأعمال الفنية على مستوى العالم، وبشكل خاص
الأعمال الفائزة بجوائز أهم المهرجانات السينمائية العالمية مثل مهرجانات:
كان الفرنسي، وبرلين الألماني، وفينيسيا الإيطالي.
وبعيدًا عن الجدل المتجدد كل عام على هامش المهرجان، ما
الذي يمكننا قراءته في المتن؟
هل أصبح العالم غير صالح للحياة؟
يمكن للمتتبع للسينما العالمية على مدار السنوات القليلة
الماضية، أن يلمس بشكل جلي كيف يرى صناع السينما عالمنا اليوم، والحضور
الكبير لأثر السياسات اليمينية التي سيطرت على الساحة السياسية العالمية،
وخاصة في شقها الاقتصادي، على حياة المواطنين في مختلف الدول على مستوى
العالم. يتساوى في ذلك دول العالم الأول والثالث، فالعالم في هذه الأفلام
هو مكان غير صالح للحياة.
كان انتصار المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة،
على المعسكر الشرقي في الحرب الباردة بداية التسعينيات من القرن الماضي،
بمثابة ضوء أخضر لتوغل الرأسمالية، والذي تزامن مع تفجر الثورة التكنولوجية
التي ساهمت في توحش الكيانات الرأسمالية. وكما حلت الآلة محل البشر بعد
النهضة الصناعية، كانت الروبوتات وأجهزة الحاسب الذكية هي المعادل الموضوعي
للآلة بعد الثورة التكنولوجية، ولم يبق للإنسان سوى بذل المزيد من الجهد
السيزيفي في معركة يومية فقط من أجل كسب العيش والقدرة على مواصلة الحياة.
كما عمقت هذه السياسات اليمينية من الفجوة بين الطبقات، ليزداد الأثرياء
ثراء، ويزداد الفقراء فقرًا.
يمكننا أن نتتبع هذه الرؤية في العديد من الأفلام المعروضة
بالدورة الثالثة من مهرجان الجونة السينمائي، فنرى ذلك في الفيلم الفرنسي
البؤساء
Les Misérables
الحائز على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان
(بالمناصفة
مع الفيلم البرازيلي باكوراو
Bacurau)،
والمرشح للسعفة الذهبية. يتناول الفيلم مجموعة من الأقليات العرقية
والدينية التي تعيش في قلب العاصمة الفرنسية باريس، وبالتحديد في ضواحي
المهاجرين، ويركز على واقع الأطفال المنتمين لهذه الأقليات في عالم يعج
بالفقر، وتضيق فيه مساحة الحقوق والحريات الإنسانية في بيئة محفزة للجريمة
والعنف.
إذا ما عبرنا بحر المانش من فرنسا إلى بريطانيا، سنجد صورة
أخرى للعالم في مجتمع حداثي آخر، ﻻ تقل بؤسًا وتشاؤمًا في فيلم عفوًا لم
نجدكم
Sorry We Missed You،
والمرشح أيضًا للسعفة الذهبية هذا العام. على خلاف (البؤساء) الذي يمثل
العمل الأول لمخرجه الفرنسي ﻻدج لي، فإن «عفوًا لم نجدكم» هو أحدث أفلام
المخرج البريطاني المخضرم، وصاحبي جائزتي سفعة ذهبية، كين لوتش.
تدور أحداث الفيلم في مدينة نيوكاسيل البريطانية، حيث يحاول
ريك أن يجد منفذًا للخروج من الأزمة المالية التي أطاحت بأسرته عدة درجات
أسفل السلم الاجتماعي، وعلى أمل أن يستطيع شراء منزله الخاص. يتخيل روك أن
رضوخه للنظام الاقتصادي الجديد حيث يعمل بشكل مستقل مع شركة توصيل الطرود،
هو السبيل لحلمه البسيط. يقوم ببيع سيارة زوجته للحصول على قرض لشراء سيارة
شحن، لكنه ﻻ يلبث أن يدرك أن هذا النظام أبعد ما يكون عن الاستقلالية، فهو
يعمل لأكثر من 12 ساعة يوميًا فقط لتوفير نفقات المعيشة الأساسية ودفع
أقساط القرض.
على الجانب الآخر، تدور زوجته في ساقية مماثلة، إذ تعمل
كمساعدة للعجائز، وتغيب عن المنزل لساعات طويلة طوال اليوم. في أحد المشاهد
تسألها إحدى العجائز التي تقوم على رعايتهم: (ماذا حدث لنظام العمل 8
ساعات؟). ﻻ تحر الزوجة جوابًا على السؤال، فالنظام الاقتصادي الجديد في ظل
السياسات اليمينية هو المنوط بهذا السؤال.
الدولة، أسطورة إلى زوال
ﻻ
يمكننا أن نصف هذه الأفلام بالأيديولوجية، فقد ولى زمن الأيديولوجيات على
كل حال، ولكنها ﻻ تنفك تساءل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية
الحديثة، وتشترك في رؤيتها لتراجع الدولة كاختراع اجتماعي وسياسي ساد
المجتمعات البشرية لآلاف السنين.
واحد من أبرز عروض مهرجان الجونة في دورته الثالثة هو
الفيلم الكوري الجنوبي
(طفيلي
Parasite)،
والذي حصل على سعفة كان الذهبية لهذا العام. يدور الفيلم حول أسرة كورية
يدفعها الفقر إلى تطوير سلوك طفيلي لمراوغة الحياة القاسية، ومن هنا جاء
اسم الفيلم. يعتمد الفيلم بشكل واضح على مجاز بصري يشير إلى الفقراء
بالكائنات الطفيلية سواء من خلال الأقبية التي يعيش فيها الفقراء، أو من
خلال الإشارة لهم بالحشرات المتطفلة من خلال الحوار تارة، ومن خلال الصورة
تارة أخرى، وهي الصورة التي تحيلنا على الفور إلى ثنائية المتن والهامش.
إن الدولة، على اختلاف المشارب الفكرية وتنوعها، هي اختراع
إنساني يهدف بالأساس إلى تنظيم المجتمع البشري على النحو الذي يحقق العدالة
بين جميع أفراده، ويكفل لهم حياة كريمة. ومن ثم فإن خضوع الأفراد الطوعي
لسلطة الدولة يكون في مقابل ضمان الدولة لهذه العدالة.
استنادًا لهذا التصور البسيط لمفهوم الدولة، اقتصر حضور
الفقر على الهامش وليس المتن، فأينما امتدت يد الدولة وسلطتها، حضرت معها
خدماتها الأساسية وتراجع الفقر بتوسع المتن.
في فيلم (طفيلي) نرى أن الفقر في العالم الحديث حاضر في قلب
المدينة/المتن، وإزاء تراجع الدولة عن ضمان العدالة الاجتماعية، طور
الأفراد سلوكًا طفيليًا يقتات على الطبقات الأغنى، ولكن أخطر ما يطرحه هذا
السلوك أن الأفراد كفروا بالدولة.
يسود هذا التصور بشكل واضح في عدد غير قليل من أفلام هذا
العام، نرى ذلك في الفيلم الإيطالي
(أسماك
البيرانا
Piranhas)
الحائز على جائزة الدب الفضي في السيناريو من مهرجان برلين، والمرشح لجائزة
الدب الذهبي، إذ تتراجع سلطة الدولة وتحل محلها مجموعة من العصابات التي
تحكم سيطرتها على أحياء متفرقة في مدينة نابولي الإيطالية، تمارس العنف ضد
سكان هذه الأحياء، وتفرض الإتاوات الجبرية على كل البائعين وأصحاب المحال
التجارية. يتتبع الفيلم مجموعة من المراهقين يقومون بالتخلص من عصابة حيهم،
ويحلون محلهم.
في الفيلم البرازيلي
(باكوراو
Bacurau)
الفائز بجائزة لجنة التحكيم من مهرجان كان (مناصفة مع فيلم «البؤساء»)
والمرشح للسعفة الذهبية، نشاهد معالجة مختلفة للأفكار نفسها ولكن في قصة
خيالية وليست واقعية. تدور الأحداث في مدينة خيالية تدعى (باكوراو) تقع في
منطقة نائية وتفتقر إلى أبسط الخدمات الأساسية وعلى رأسها المياه. يكتشف
أحد سكان المدينة، وهو مدرس يقوم بتعليم الأطفال فيما يبدو عملًا تطوعيًا
وليس نظاميًا، أن اسم مدينة (باكوراو) قد تم حذفه من خرائط جوجل.
على الرغم من مظاهر الحداثة البادية في المدينة، من استخدام
للهواتف الذكية، واتصال بالإنترنت، فإن سكانها قاموا بتطوير نظام اجتماعي
أقرب إلى الشكل القبلي، واستغنوا تمامًا عن الدولة التي ﻻ تهتم سوى
بأصواتهم الانتخابية. وفي فيلم (البؤساء) نرى رمزية مباشرة في إطلاق اسم
(العمدة
Mayor)
على زعماء إحدى العصابات للتدليل على استبدال سلطة الدولة بسلطة الكيانات
الاجتماعية الأقوى والأقدر على استخدام العنف ضد الضعفاء.
الحاضر بعيون المستقبل
هذه الرؤية المتشائمة للواقع والعالم الذي نعيشه في حاضرنا،
لم تغفل تنبؤاتها الخاصة للمستقبل، إذ ﻻ يخلو أي من هذه الأفلام من حضور
قوي للأطفال والمراهقين، ﻻ كطرف سائب أو مفعول به فقط، ولكن كطرف فاعل واع
يرى الواقع من حوله، ويقوم بتقييمه والتعامل معه وفق فلسفته ورؤيته الخاصة
لما سيكون عليه مستقبله.
في فيلم (البؤساء) يبدأ الفيلم وينتهي بالطفل عيسى. طفل
متمرد ﻻ يدير وجهه لصفعات الحياة، بل يرد الصفعة بأمثالها، يواجه الفقر
والجوع بالسرقة والاحتيال، ويواجه العنف بعنف مضاعف ليتحول في النهاية إلى
وحش مخيف غير مأمون الجانب.
ﻻ
يختلف الأمر كثيرًا في فيلم (أسماك البيرانا)، يبدو العنف اختيارًا طبيعيًا
للغاية في ظل واقع يتوحش يومًا بعد يوم، ويبدو قرار البطل بالتخلص من
العصابة الحاكمة كما لو كان نبوءة بإحدى الأساطير الإغريقية، ﻻ يملك منها
فكاكًا. منذ المشاهد الأولى في الفيلم، يتعلم نيكوﻻ ذو الخمسة عشر عامًا أن
الافتراس هو سمة الحياة على الهامش، لتتحول المطاردات الساذجة بين الأطفال
في أحياء نابولي، إلى مواجهات دامية بين عصابات مسلحة من المراهقين.
أما في فيلم (عفوًا لم نجدكم) نرى الابن الذي يشفق من مصير
أبويه فيرفض استكمال تعليمه، ويواجه أباه برؤيته لمدى العبثية في بذل الجهد
في تعليم لن يغير من واقعه، ولكن سيدفع به إلى شكل من أشكال العبودية
المقنعة، حيث ينفق في حياته في العمل المضني من أجل حياة كريمة لن يبلغها.
كل هذه الأفلام على تنوعها واختلافها، وتفاوتها في الطرح
والتناول، تحمل الكثير من القواسم المشتركة بين أفكارها، وفي نظرتها للعالم
الذي نعيشه، وتحاول بدرجات متفاوتة إعادة طرح مفاهيم راسخة والتشكيك في مدى
دلالتها المصطلح عليها، فما تعريف العدالة الاجتماعية، وما الحقوق
الإنسانية، وما الدولة، وما المواطنة؟
تفترض ثنائية المتن والهامش تسيّد الأول ومحدودية الثاني.
أما في عالمنا اليوم، يطغى الهامش على المتن ويكاد يطيح به ويحل محله. هذه
الأفلام وغيرها من عروض مهرجان الجونة هي المتن الحقيقي لمثل هذه التظاهرة
الفنية، غير أن الهامش المتمثل في حفلات الأفلام واستعراضات السجاجيد
الحمراء، هو المتصدر والمسيطر على الاهتمام الإعلامي والجماهيري. |