كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

هل كان حسن البنا يخدع الناس؟!

محمد توفيق

دراما رمضان التلفزيونية لعام 2010

   
 
 
 
 

لا تعرف قدر «حسن البنا» وقدراته وصدقه إلا إذا نظرت إلي مريديه!

اثنان فقط من مريدي الشيخ يكشفان لك حقيقته، الأول: هو سيد قطب الرجل الذي دفع حياته ثمنا لأفكاره التي ما كان يصل إليها لولا حسن البنا - الذي لا يكبره سوي بخمسة أيام فقط - والثاني: هو الشيخ محمد الغزالي الذي كان يردد دائما «الشيخ حسن البنا أغنانا أن نسأل عن أي شيء بعده».

سيد قطب نموذج منفرد، فقد كان أديبا مميزا لكنه قرر الانتقال من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين فلا أحد يتخيل أن هذا الشخص هو نفسه الأديب الذي دعا البنات في يوم من الأيام أن يسيرن عرايا! هو نفسه الذي تنتهي حياته علي حبل المشنقة وهو يقول: «لن أعتذر عن العمل مع الله .. إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغية». فقالوا له إن لم تعتذر فاطلب الرحمة من الرئيس. فقال: «لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوما بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل»، فرحل بطريقة ستجعله خالدا في قلوب محبيه، والأهم أن هذه الطريقة الدرامية كانت سببا مباشرا في زيادة شعبية الإخوان المسلمين الذين استثمروا هذه الواقعة لصالحهم، وجعلت منه قدوة لكل أفراد الجماعة علي مدار تاريخها الذي يمتد علي مدار 82 عاما بل إن إعدام سيد قطب جعل عدداً كبيراً يتعاطف معه من خارج الجماعة ويري فيه نموذجا للرجل الذي لم يتراجع عن مبادئه.

والغريب أن سيد قطب حصل علي بعثة للولايات المتحدة في عام 1948 لدراسة التربية وأصول المناهج، وكان سيد يكتب مقالات عن الحياة في أمريكا وينشرها في الجرائد المصرية، وفي أحد الأيام رأي عدداً من الأمريكان سعداء ويشربون الخمر ابتهاجا وفرحا وعندما سأل عن سبب سعادتهم علم أن السبب هو اغتيال حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين مما أثر في نفسية سيد قطب وأراد أن يتعرف علي هذه الحركة عندما يعود إلي بلده.

فوجد «قطب» ضالته في الدراسات الاجتماعية والقرآنية التي اتجه إليها بعد فترة من التشتت بين التيارات الثقافية المختلفة، ويصف قطب هذه الحالة بأنها اعترت معظم أبناء الوطن نتيجة للغزو الأوروبي المطلق. ولكن المرور بها مكنه من رفض النظريات الاجتماعية الغربية، بل إنه رفض أن يستمد التصور الإسلامي المتكامل عن الألوهية والكون والحياة والإنسان من ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم لأن فلسفتهم - في رأيه - ظلال للفلسفة الإغريقية.

أما الشيخ الغزالي فلم يكن شخصا عاديا يتأثر بما حوله وبمن حوله، لكنه كان نموذجا للشيخ الذي يجمع بين علم العلماء وذكاء الساسة وقدرة الخطباء وقلم الكتاب وبالتالي فعندما يتحدث يجب أن ننصت، فما بالك إذا كان يتحدث عن شيخه ومعلمه ومثله الأعلي وهو يقول عنه: حسن البنا كان موفقًا في اصطياد الرجال، وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلي عقولهم فتأسرها، وذلك أمر يرجع إلي المهارة الخاصة، ولاقتياد الكلمة من فم القائل إلي شغاف قلب السامع يمكن أن يقال فيه: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي» وكان - حيث حل- يترك وراءه أثرًا صالحًا، وما لقيه امرؤ في نفسه استعداد لقبول الخير إلا وأفاد منه، ما يزيده صلة بربه، وفقهًا في دينه، وشعورًا يتبعه نحو الإسلام والمسلمين، والرجل الذي يشتغل بتعليم الناس لا يستطيع في أحيانه كلها أن يرسل النفع فيضًا غدقًا، فله ساعات يخمد فيها، وساعات يتألق وينير.

ويعود الغزالي ليروي تفاصيل لقائه الأول بـ«البنا» قائلا: التقيت بالإمام الشهيد لأول مرة وأنا طالب في معهد الإسكندرية، وكنت شابًا تجتذبني دواعي التقي والعفاف، وتناوشني مفاتن الحضارة الوافدة من وراء البحار، فكانت الغرائز المستثارة تدخل في مضطرب مائج مع إيحاء الإيمان الموروث، واتجاهات الدراسة التي نتلقاها في علوم الدين... ونحن جيل مخضرم تلتقي في حياتنا تيارات متعارضة، وما كان يعلم إلا الله ما يجول في قلوبنا وألبابنا من أسي وتعقيد.

وقد أورثتني معاناتي السابقة لهذه الأحوال تقديرًا لمشاكل الشباب، ورقة شديدة لما يمرون به من أطوار، ثم أدركت أن الوعظ المجرد والتعليم العابر لا يجديان كثيرًا، وعندما استمعت إلي حسن البنا لأول لقاء تكشفت لي أمور كثيرة لا بد منها في صحة إبلاغ الرسالة وإمكان النفع الكامل بها.

ليس الداعية إلي الله، أداة ناقلة، كالآلة التي تحمل سلعةً ما من مكان إلي مكان، وليست وظيفته أن ينقل النصوص من الكتاب والسنة إلي آذان الناس، ثم تنتهي بعد ذلك مهمته ، فما أكثر الخطباء الذين يرسلون من أفواههم حكمًا بالغة تنطلق هنا وهناك، كما ينطلق الرصاص الطائش، لا يصيب هدفًا ولا يدرك غرضًا،وكانت لدي حسن البنا ثروة طائلة من علم النفس، وفن التربية، وقواعد الاجتماع، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد، وميزان المواهب، وهذه بعض الوسائل التي تعين علي العودة وليست كلها.

وينتقل الشيخ الغزالي إلي سر وصول «البنا» إلي ما وصل إليه بقوله: حسن البنا يعلم أن المسلمين هزموا في مواقع شتي، كسرت شوكتهم في القرن الأخير، ومكنت الغرب الكافر من ملاحقتهم في عقر دارهم بالإهانة والتسخير، وعرف الرجل أسباب الهزيمة معرفةً دقيقةً، إن النفوس قد تحللت بالمعاصي، والجماعة قد انحلت بالإسراف، والدولة قد تهدمت بحب الدنيا وكراهية الموت... ومن ثم انتصر الكافرون، فيجب أن تقوم النفوس بالطاعة، وأن يحارب الإسراف والترف بالاقتصاد والاجتهاد... وأن تعلم الأمة الإقبال علي المخاطر لتسلم لها الحياة، وأن يتم ذلك كله علي دعامة موطدة من قوة الصلة بالله تشق الحناجر بهذا الدعاء «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» ومن ثم ينتصر المؤمنون.

وقد حار أصدقاء12 حسن البنا وأعداؤه في فهم هذه السياسة الجديدة ، وتضاحك أهل الدين وأهل الدنيا ممن يبني الانتصار علي الاستغفار.. وحق لهم أن يضحكوا ساخرين، فقد كان الإمام يربي الجيل الجديد للإسلام علي الأساس الذي وضعه للنهوض به، إنه يريد تكوين دولة إسلامية، وإقامة حكم شرعي رشيد، فسلك إلي هذه الغاية الطريق الوحيد الذي ينتهي بها وإن طال المدي، وتراخت الأيام، وكثرت تكاليف طريق التربية الإسلامية.

ويضيف الغزالي قوله: «الأستاذ الإمام حسن البنا، الذي أصفه ويصفه معي كثيرون بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة، فقد وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلي كتاب ربهم، وسنة نبيهم وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء، بيدٍ آسيةٍ، وعين لماحة فلا تدع سببًا لضعف أو خمول.

ومن الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع راية المقاومة في هذا القرن الذليل، لقد سبقه في الشرق العربي، والمغرب العربي، وأعماق الهند وإندونيسيا،وغيرها، رجال اشتبكوا مع الأعداء في ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية، وأبلوا بلاءً حسنًا في خدمة دينهم وأمتهم، وليس يضيرهم أبدًا أنهم انهزموا آخر الأمر، فقد أدوا واجبهم لله، وأتم من بعدهم بقية الشوط الذي هلكوا دونه.

لكن حسن البنا استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه، وجمع الله في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين، فقد كان مدمنًا لتلاوة القرآن يتلوه بصوت رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله قدرة ملحوظة علي فهم أصعب المعاني ثم عرضها علي الجماهير بأسلوب سهل قريب، وقد درس السنة المطهرة علي والده الذي أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب، فأفاده ذلك بصرًا سديدًا بمنهج السلف والخلف.

ووقف حسن البنا علي منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبي التورط فيما تورط فيه. «يقصد: تصديه بعنف للحملة علي الأزهر وعلمائه المقلدين للمذاهب، وعلي الطرق الصوفية وغيرهم فوافق الشيخ البنا الشيخ رشيد في فكره وخالفه في أسلوبه وطريقته، ولعله كان أقدر الناس علي رفع المستوي الفكري للجماهير مع لبقة من أسباب الخلاف ومظاهر التعصب.وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، وتعمق تعمقًا شديدًا في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده. ثم في صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل في مدن مصر وقراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف من القري الأربعة آلاف التي تكون القطر كله.وخلال عشرين عامًا تقريبًا صنع الجماهير التي صدعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد».

الدستور المصرية في

01/09/2010

 
 

حسن البنا رأي أن المصريين بحاجة إلي«مرشد»

يدلهم لطريق الخير فنجح في أن يكون المرشد

محمد توفيق

اليوم: الأحد 14 من أكتوبر 1906

مصر ثائرة، والناس تغلي وكأنه خريف الغضب!

حادثة دنشواي ما زالت تلقي بظلالها رغم مرور أربعة شهور علي الحكم بإعدام أربعة من الأبرياء هم: علي حسن محفوظ ويوسف حسن سليم والسيد عيسي ومحمد درويش، والحكم علي اثنين بالأشغال الشقة المؤبدة وعلي خمسة رجال بالجلد 50 جلدة، وكانت كل هذه الأحكام الظالمة بسبب ضابط إنجليزي ثبت في تقرير الطبيب الإنجليزي أنه مات متأثرا بضربة شمس! بعدما أصاب سيدة مصرية وفر هارباً.

والزعيم مصطفي كامل يصل إلي الإسكندرية والجماهير تخرج لاستقباله بعد تنديده بجرائم الاحتلال البريطاني في أغلب دول أوروبا.

والزعيم سعد زغلول يعلن البيان التأسيسي للجامعة المصرية في منزله، وتم انتخاب اللجنة التحضيرية التي كانت تضم سعد باشا وقاسم أمين وعضوية ثمانية آخرين.

في هذا اليوم، وفي بؤرة هذه الأحداث، وقبل خمسة أيام فقط من بداية شهر «رمضان» عام 1324 هـ، في مركز المحمودية بمحافظة البحيرة، أنجبت زوجة الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا - المأذون وإمام المسجد - ولدًا يدعي «حسن» هو الابن البكر لأبيه لكنه لن يكون ابنا عاديا.

إنه «حسن البنا» الرجل الذي رحل في 12 فبراير 1949م لكنه ما زال حيا - بعد رحيله بأكثر من 60 عاماً - وحاضرًا ومؤثراً وبقوة وله مؤيدوه الذين يعشقونه ويرون أنه أعظم رجل في القرن العشرين، وله أعداء يظنون أنه سبب كل الكوارث التي حدثت لمصر في المائة عام الأخيرة.

«حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا» هو الاسم الكامل المسجل في شهادة ميلاد الإمام حسن البنا - مؤسس جماعة الإخوان المسلمين - الذي ولد في مركز المحمودية التابع لمحافظة البحيرة في 14 أكتوبر عام 1906م، لأسرة بسيطة، فوالده هو الشيخ أحمد عبد الرحمن ولد ونشأ في أسرة ريفية، تحترف الزراعة بقرية «شمشيرة»، مركز «فوه»، بالقرب من «رشيد» بدلتا النيل محافظة «كفر الشيخ» حاليا، لكنه سلك طريق التعليم الديني بناء علي رغبة والدته، بدلاً من فلاحة الأرض، فحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بجامع إبراهيم باشا بالإسكندرية فدرس فيه منهاج التعليم الأزهري، ثم امتهن مهنة إصلاح الساعات، في محل الحاج محمد سلطان، الذي كان عضواً «بجمعية العروة الوثقي» التي كان جمال الدين الأفغاني رئيساً لها، والشيخ محمد عبده نائب رئيسها، ولذلك كان محل إصلاح الساعات ملتقي عدد كبير من العلماء والوجهاء، الذين عايشهم وسمع منهم، وتأثر بهم.

وبعد تحصيل العلم، وإتقان صنعة إصلاح الساعات عاد الشيخ أحمد إلي قريته «شمشيرة» فتزوج، ثم انتقل بزوجته إلي مدينة المحمودية «بمحافظة البحيرة» مشتغلاً بصنعة إصلاح الساعات.. ومواصلاً الاشتغال بالعلم، وخاصة علم الحديث النبوي الشريف.. كما عمل مأذوناً شرعياً، ومارس الخطابة في مساجد المحمودية، وفي عام انتقال الشيخ أحمد إلي مدينة المحمودية، ولد له ابنه البكر حسن الذي حرص علي أن يذهب إلي «كتاب القرية»، حيث تتلمذ علي يد أزهري شديد التدين هو محمد زهران.

ومن الكتاب إلي المدرسة الابتدائية في سن الثانية عشرة وهناك التقي بمدرس متدين آخر ضمه إلي جماعة بالمدرسة اسمها «جماعة السلوك الاجتماعي» وهي جماعة هدفها ترويض نفوس أعضائها من التلاميذ بالتحلي بالأخلاق الحميدة في سلوكهم اليومي والتعفف عن الشتائم أو مخالفة تعاليم الدين وكانت الغرامات المالية هي العقاب للمخالفين، وسرعان ما أصبح الفتي المتدين رئيسا للجماعة بل إنها لم تلب طموحاته، فاتجه إلي تأسيس جماعة أخري هي «جماعة النهي عن المنكر» وكان هدفها فرض الالتزام بتعليم الدين من خلال إرسال خطابات تهديد إلي من تري أنهم لا يلتزمون بهذه التعاليم من بين سكان «المحمودية».

لكنه لم يلبث طويلاً فقدراته وطموحاته كانت دائماً أكبر مما يصل إليه، ففي مدرسة الرشاد الإعدادية كان متميزًا بين زملائه، ومرشحًا لمناصب القيادة بينهم، حتي أنه عندما تألفت «جمعية الأخلاق الأدبية» وقع اختيار زملائه عليه ليكون رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية، ثم تطورت الفكرة في رأسه بعد أن التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور، فألف «الجمعية الحصافية الخيرية» التي زاولت عملها في حقلين مهمين هما: الأول: نشر الدعوة إلي الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات والمحرمات المنتشرة. الثاني: مقاومة الحملات التبشيرية التي اتخذت من مصر موطناً لها.

بعد انتهائه من الدراسة في مدرسة «المعلمين»، انتقل إلي القاهرة، وانتسب إلي مدرسة دار العلوم العليا، ولا ملاذ لريفي شديد التدين يشعر بالغربة القاتلة في القاهرة سوي «الصوفية»، ومن جديد يعود «حسن» للاتصال بجمعية الحصافية وإلي جوارها ينضم إلي جمعية أخري تنظم المحاضرات الإسلامية وهي جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وكانت الجمعية الوحيدة الموجودة بالقاهرة في ذلك الوقت، وكان يواظب علي سماع محاضراتها، كما كان يتتبع المواعظ الدينية التي كان يلقيها في المساجد «حينذاك» نخبة من العلماء.

هنا تكونت القناعة الأساسية التي حركت وجدان البنا طوال ما بقي له من حياته «المسجد وحده لا يكفي» فلابد من رجال يهبون حياتهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه ومن عدد من أصدقائه الطلاب في دار العلوم والأزهر تكونت مجموعات للوعظ والإرشاد في المساجد والمقاهي وغيرها من التجمعات الشعبية، وكان هدف البنا هو سد الهوة بين الحياة الفعلية للإنسان المسلم وبين التعاليم الإسلامية لجعل الإسلام منهج حياة، ومن القاهرة إلي الريف انطلق الشبان الذين أصبح من الممكن اعتبارهم النواة الأولي لجماعة الإخوان المسلمين.

في هذه الأثناء كان البنا حائراً يبحث عن مشورة لدي الجيل الأكبر سنا من رجال الدين، فتعرف في المكتبة السلفية علي مديرها محيي الدين الخطيب ثم تعرف علي الشيخ رشيد رضا وأحمد تيمور باشا وفريد وجدي حتي يستلهم من خبرات هؤلاء طريقا جديداً للعمل من أجل الإسلام.

وفي السنة النهائية بدار العلوم طلب منه كتابة موضوع تعبير يتحدث عن «الآمال الكبيرة التي تراوده بعد إتمام دراسته وكيف سيستطيع تحقيقها» وعبر الشاب حسن البنا عن طموحه ومشاعره بقوله: «إن أفضل الناس هم أولئك الذين يحققون سعادتهم بتوفير سبل السعادة للآخرين وبإعطاء المشورة لهم وتحقيق ذلك يكون بأحد طريقين» طريقة الصوفية الحق والتفاني بالعمل الصادق في خدمة الإنسانية أو طريق التعليم وإعطاء النصح ويكمل الشاب «الذي يعرف طريقه جيدا» كلامه قائلا: أنني اعتقد أن شعبي قد ابتعد عن أهداف إيمانه نتيجة للمراحل السياسية التي مر بها والتأثيرات الاجتماعية التي تعرض لها تحت تأثير الحضارة الغربية والفلسفة المادية والتقاليد الإفرنجية، وهكذا فقد أصبح إيمان الشباب إيماناً فاسداً وسادت بينهم مشاعر الشك والحيرة وبدلا من الإيمان تفشي الإلحاد بهذه المشاعر ويتخرج الشيخ حسن البنا في كلية دار العلوم عام 1927 بعد أن حدد خطواته ورتب أفكاره وقرأ المجتمع جيدا وعرف أن التغيير لن يأتي إلا بالتنظيم والنزول إلي البسطاء والاقتراب من آمالهم وأحلامهم وإعطاء النصح لهم، فأغلب المصريين بحاجة إلي «مرشد» يدلهم علي طريق الخير ويأخذ بأيديهم ويكون رمزاً لهم يسيرون خلفه!

كانت الصورة أمام حسن البنا مدرس اللغة العربية -والأول علي دفعته- كاملة قبل أن يتجه إلي مدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية، ليضع أولي خطواته علي الطريق الذي بدأت تظهر معالمه طوال السنوات الماضية من خلال من عرفوه عن قرب ورأوا فيه علامات النبوغ المبكر واستشعروا في طريقته سمات القائد والمعلم الذي يمكن أن يطمئنوا له.

في 19 سبتمبر 1927 بدأ العام الدراسي، وكان علي المدرس الشاب أن يرحل إلي مدينة جديدة تماما لا يعرف عنها شيئا سوي أنها ترتبط بقناة السويس وأن فيها معسكرات للمحتلين الإنجليز.

في هذا المكان وجد الإمام حسن البنا التربة الخصبة لتنفيذ فكرته التي آمن بها، فقد كان يعلم الأطفال نهارا وآباءهم ليلا ومعظم الآباء عمال وموظفون صغار وتجار بسطاء، وكان يذهب من المدرسة إلي المسجد ليلقي خطبا ومواعظ ومن المسجد للمقهي يتحدث ويخطب ويناقش، ومن خلال ذلك كله كان ينتقي أكثر الناس اهتماما ليكون منهم مجموعات خاصة يمنحها المزيد من وقته، وقد فعل ما أراد.

ويصف الدكتور محمد عمارة هذه المرحلة في حياة حسن البنا قائلا: مدينة الإسماعيلية كانت تعاني السيطرة الأجنبية الكاملة عليها، كل شيء للاحتلال ولشركة قناة السويس حتي لافتات الشوارع مكتوبة بالإنجليزية، أما المصريون فلا يخصهم في هذه المدينة سوي البؤس لذلك كانت دعوة حسن البنا موجهة إلي الفقراء من العمال والفلاحين الذين عاشوا الحرمان في مواجهة الامتيازات الصارخة للمجتمع الأوروبي في المدينة، وبالتالي كانوا علي أتم استعداد لقبول أفكار المدرس الشاب المتدين.

استمر الشيخ حسن البنا يطبق أفكاره علي أرض الواقع من خلال مجتمع يبحث عن قدوة ورمز فاتي له مرشدا! يدرك ما يفكرون فيه ولديه إجابات صادقة عن أسئلتهم بل إنه سعي للاقتراب منهم وساهم في حل مشاكلهم ليثبت أن الإسلام دين عملي يمكن تطبيق أفكاره بين الناس علي المقاهي وفي المنازل وفي الدواوين الحكومية و وداخل المدارس التي كان يعرف البنا قدرها وأهميتها كخطوة أولي لتنفيذ ما يريده من خلال عقول التلاميذ الذين لا يحتاجون إلي مجهود كبير لإقناعهم حتي اقتربت ساعة الصفر والتي رأي فيها أن فكرته الأساسية انتشرت والناس أصبحت جاهزة للمرحلة التالية.

فقرر تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين».. وتوجه بدعوته إلي مختلف شرائح المجتمع: إلي العلماء وشيوخ الطرق، والأعيان، والأندية، وكان أول المستجيبين لدعوته ستة رجال جميعهم من العمال والحرفيين.. فأسس بهم الجماعة في مايو 1928م. ويتطرق الدكتور عمارة إلي الحديث عن الثقافة التي صنعت عقل حسن البنا.. وصاغت هذا المشروع الإصلاحي بقوله: إنها كانت مزيجاً من فقه القرآن الكريم وفقه الهدي النبوي الشريف حديثاً وسيرة وخلقاً..وفقه الواقع المعاصر والمعيش مصرياً.. وعربياً وإسلامياً.. وعالمياً...والتصوف الشرعي، البريء من البدع والخرافات.. والذي أخذه عن الطريقة الحصافية التي تأثر بشيخها السيد حسنين الحصافي، وقال عنه: وكان أعظم ما أخذ بمجامع قلبي وملك عليَّ لبي من سيرة الشيخ الحصافي - رضي الله عنه - شدته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه كان لا يخشي في الله لومة لائم، ولا يدع الأمر والنهي مهما كان في حضرة كبير أو عظيم .. والسلفية التجديدية الواعية التي أخذها عن الأستاذ محب الدين الخطيب.. والعقلانية المؤمنة التي تشبع بها من المدرسة الإحيائية الإصلاحية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.. ورشيد رضا.. والمعارف العامة والإنسانية التي رآها «حكمة»، هي ضالة المؤمن، أني وجدها فهو أحق الناس بها..

ولكن قبل أن يبدأ حسن البنا رحلته في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين كان قد استفاد من كل ما مر به في حياته، ويتضح ذلك مما قاله أخيه الأصغر جمال البنا في كتابه «تجديد الإسلام» بقوله: آل تراث الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا إلي حسن البنا الذي ألم به إلماما حسنا، أخذ عن الأفغاني «القسمة الجهادية» إن لم تكن الثورية في الإسلام وهي أنسيت طوال سنوات الإصلاح والاضطرار للمهادنة التي أملتها الظروف علي محمد عبده ورشيد رضا فأعادها حسن البنا إلي الفكر الإسلامي وجعل الجهاد في سبيل الله أسمي أمانينا كما استفاد من عقلانية محمد عبده، وإن لم يصل علي مداه، وكان مهيئا لتقبل قدر كبير من العقلانية والليبرالية بحكم نشأته المدنية، فحسن البنا لم يتعلم في الأزهر ولم يضع علي رأسه العمامة الأزهرية، وقد كان في الحقيقة ابناً لثورة 19، وغني أناشيدها مراهقا ثم دخل دار العلوم التي أراد الذين أنشأوها أان يخلصوا الثقافة الإسلامية من تحكمات المذهبيين وكان واسع الاطلاع علي الثقافة العربية والإسلامية، وأذكر أنني قرأت في مكتبته في مستهل شبابي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ورسائل «إخوان الصفا» و«تلبيس إبليس» و«العقد الفريد» لإبن عبد ربه و«الأغاني للأصفهاني» و«الفهرست» لابن النديم. وكان من حسن حظه أن مهد له السيد رشيد رضا بتقديمه «السلفية الميسرة» فوفر عليه ثلاثين عاماً، وبدأ منها وسار بها إلي درجة التبسيط وابتعد عن كل المسائل الجدلية الشائكة، واستفاد حسن البنا من التجربة الصوفية التي مارسها بعمق في مراهقته لكنه خلصها من أوزارها.إن العمل العظيم لحسن البنا هو محاولته أن يقدم الإسلام كمنهج حياة وأنه دون غيره من قادة الفكر الإسلامي استطاع بعبقريته في التنظيم تأسيس «الهيئة الإسلامية الأم» الهيئة القياسية التي استلهمتها ونسجت علي منوالها كل الهيئات الأخري، وبهذا نقل الفكر الإسلامي من ميدان الكتابة - التي لا تمارس إلا بين الأكاديميين والفقهاء - إلي مجال الجماهير العريضة، وإلي المجتمع بحيث يصبح الإسلام قوة فاعلة بين قوي المجتمع ولم يقتصر هذا علي مصر بل انتقل إلي بقية دول العالم ولا ينقص من قدرها أن انشقت منها بعض الفئات، وليس أدل علي عبقرية التنظيم أنه خلال عشرين عاما فحسب نقل الإخوان المسلمين من جماعة صوفية صغيرة في إحدي مدن القنال إلي هيئة عالمية تقدم الإسلام كمنهج حياة ولو قدر له البقاء لأجري من التجديد فيها مثلما أجراه في العشرين سنة الأولي.

الدستور المصرية في

01/09/2010

 
 

ماذا كان يريد حسن البنا؟

محمد توفيق

سئل الشيخ حسن البنا أن يعرف نفسه للناس فأجاب بقوله: أنا سائح يطلب الحقيقة وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة في ظل الإسلام الحنيف، وأنا متجرد أدرك سر وجوده فنادي: «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين».. هذا هو حسن البنا «الشيخ» الذي استطاع أن يصل إلي الإسلام بصورته الواسعة وبعمقه الكبير، واستطاع أن يصنع تنظيما عاش معه21 عاما وعاش بعد 61 عاما ومازال يعيش بيننا بفضل نظام وضعه البنا وإن لم يدركه أصحابه ومريدوه بالشكل الذي كان يريده.

فقد كان حسن البنا دائما يستنكر سؤال لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وكان يري أنه ينبغي أن نطرح سؤالا آخر هو: لماذا نهض المسلمون وازدهرت حضارتهم وسادت الدنيا أول مرة؟ والجواب من وجهة نظره «المسلمون يوم تمسكوا بتعاليم الإسلام سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا الإنسانية وأسعدوا الدنيا بحضارة لم تزل وستظل بهجة الحياة وعنوان الفضيلة، وعندما تنكروا لدينهم وجهلوه وأهملوه ولبسوه كما يلبس الفرو مقلوبا فوصلوا إلي ما هم فيه وسيظلون كذلك حتي يعودوا إلي دينهم».

إن القضية في نظر البنا لا تخرج عن كونها سنة من سنن الله في حياة الأمم، فهو يري أن كل أمة بين طورين لا ثالث لهما يخلف كل منهما الآخر متي توافرت دواعيه وأسبابه، هذان الطوران هما طور القوة وطور الضعف فالأمة تقوي إذا حددت غايتها وعرفت مثلها الأعلي ورسمت منهاجا وصممت علي الوصول إلي الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل الأعلي مهما كلفها ذلك من تضحيات وعندما تنسي الغاية وتجهل المثل وتؤثر المنفعة والمتعة علي الجهاد وتنحل الأخلاق ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن الواجب حينئذ تأخذ الأمة في الضعف.

ونذهب للسؤال الأهم هو: ماذا كان يريد حسن البنا؟

المفكر جمال البنا يجيب عنه قائلا: كان حسن البنا رجلا تربويا بفطرته وطبيعته وقد أراد الله له أن يدخل دار العلوم ليكون معلما وعبر عن أمله عندما طلب إليه مع بقية الطلبة أن يكتب موضوعا عن أمله بعد التخرج فقال إن أمله أن يكون مرشدا معلما يقضي سحابة اليوم في تعليم الأبناء ويقضي الليل في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم، وكان هدفه أن يكون الإسلام منهج حياة وكان عليه لكي يحقق هذا أن يقدم الإسلام مبلورا مبسطا مركزا وهو ما فعله في عدد من الرسائل الصغيرة أو المقالات، وأضرب مثلا برسالة التعاليم التي أعتبره قائما علي الفهم وعرض الفهم في صورة للسلفية المبسطة مع استبعاد ما أقحم علي هذه الأصول من غشاوات: فقال إنما أريد بالفهم أن نوقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة وأن تفهم الإسلام كما نفهمه في حدود الأصول العشرين الموجزة:

1-الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعها فهو دولة ووطن أو حكومة أو أمة وهو خلق وقوة ورحمة وعدالة وهو ثقافة وعلم وقضاء.

2- القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف.

3- الإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفهما الله في قلب من يشاء من عباده.

4-الرقي والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب منكر يجب محاربته إلا إذا كان آية من قرآن كريم أو رقية مأثورة.

5-رأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية.

6-كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم «صلي الله عليه وسلم» وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة.

7-لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته.

8- الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين.

9- كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا.

10- معرفة الله تبارك وتعالي وتوحيده وتنزيهه أسمي عقائد الإسلام وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة.

11- كل بدعة في دين الله لا أصل لها وضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلي ما هو شر منها.

12- محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلي الله تعالي.

13- زيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ولكن الاستعانة بالموتي أيا كانوا وطلب قضاء الحاجات منهم كبائر تجب محاربتها.

14- البدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي لكل فيه رأيه.

15-الدعاء إذا قورن بالتوسل إلي الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة.

16- العرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها والوقوف عندها.

17-العقيدة أساس العمل وعمل القلب أهم من عمل الجارحة.

18- الإسلام يحرر العقل ويحث علي النظر في الكون ويرفع العلم والعلماء ويرحب بالصلح والنافع من كل شئ.

19- قد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر.

20- لا تكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاها وأدي الفرائض إلا إن أقر بكلمة الكفر.

الإمام حسن البنا احتفظ بالسلفية بكل معالمها تقريبا وإن استبعد منها الشوائب والغشاوات وهو أمر إن كان يحمد له في قضية الالتزام فلا جدال أنه كان قيدا علي حرية التجديد كما نراها اليوم وأن مقارنة رسالة التعاليم بأصول الإسلام كما قدمها الإمام محمد عبده تمثل مدي التزام حسن البنا ومدي تحرر محمد عبده وإذا كان هناك تبرير فهو أن محمد عبده كان مفكرا حرا ولكن حسن البنا كان زعيما جماهيريا، والزعيم الجماهيري ملزم باتباع مستوي فهم جماهيره، فالإمام محمد عبده كان يطلق آراءه وحسن البنا كان يطبق أحكامه وهناك فرق كبير بين الفكر والتطبيق.

وفي رسالته المهمة عن «مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي» نظام الحكم يتحدث إلينا كأنه ليبرالي من أبناء ثورة 19 ومن أنصار دستور23.

فهو يشير إلي مسئولية الحكم ووحدة الأمة واحترام إرادة الأمة وهو يتحدث عن نظام الانتخاب وعيوبه في مصر ويستشهد بكلام لميريت غالي والدكتور سيد صبري كما ينتقد سياسة الأحزاب وأنه ليس لها مبادئ متميزة وأن رسالتها الوحيدة هي الحكم، وفي كل ما كتبه البنا ورغم أن هو الذي صك تعبير «دين ودولة» فلم ترد أبدا كلمة الحاكمية الألهية، وكان أقصي ما وصل إليه الإخوان - في عهده - هو الترشيح مرتان للمجلس التشريعي، فقد كان حسن البنا بالدرجة الأولي منظما وهذه هي ميزته بقدر ما كانت هي السبب في ضبط فكرته بما يسمح به الواقع ومستوي الجماهير العريضة، فإذا كان البنا لم ينجح فيما هدف إليه من جعل الإسلام منهج حياة فإنه قدم لنا الهيئة الإسلامية القياسية وما تتعرض له الهيئة من مأزق، وهذا في حد ذاته درس يثري ويعلم الهيئات الإسلامية. لذلك ليس غريبا أن يكون أول من ذهب إلي اليمن وشارك في ثورتها وساهم في حرب فلسطين مساهمة لا ينكرها حتي ألد أعدائه.

رؤية حسن البنا كانت أكبر كثيرا مما ظهر منها فلم تكن مصر فقط هي شغله الشاغل - وإن كانت المنطقة الأهم - لكن العالم الإسلامي كله كان يشغله ويشغل تفكيره لذلك كان سباقا لفكرة الوحدة العربية بل كان شديد الحماسة لها فقال في عام 1938: نحن نعلم أن لكل شعب مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق ونعلم أن الشعوب تتفاوت وتتفاضل ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب الأوفر والأوفي ولكن ليس معني هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلي العدوان بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلة إلي النهوض بالإنسانية وأضاف قائلا: الإسلام نشأ عربيا ووصل إلي الأمم عن طريق العرب وجاء كتابه بلسان عربي مبين وتوحدت الأمم باسمه علي هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين بحق، وقد جاء في الأثر إذا ذل العربي ذل الإسلامي وقد تحقق هذا المعني السياسي وانتقل الأمر من أيديهم إلي غيرهم ثم جاء وأكد في خطاب له عام 1941: أن العروبة لها في دعوتنا مكانها البارز وحظها الوافر فالعرب هم أمة الإسلام الأولي ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية، فهذه التقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبدا معني الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب علي أمل واحد ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للسلام ولخير العالم كله.

الدستور المصرية في

01/09/2010

####

مَنْ قتل حسن البنا؟

محمد توفيق

كان لابد أن يموت!

كل المؤشرات كانت تقول ذلك وهو نفسه كان يعرف أن رأسه أصبحت مطلباً ملكياً، وأن الملك بنفسه بالتعاون مع الحكومة أرادوا التخلص منه بعد أن أصبح مؤثراً أكثر من اللازم، وقوياً أكثر مما ينبغي، وقادراً علي إثارة الجماهير وتعبئة النفوس ومسيطراً علي قلوب مريديه الذين أصبحوا كثيرين ووصلت أعدادهم قبيل وفاته إلي مليون شخص سواء ممن انضموا إلي الجماعة بالفعل أو ممن يحبونها ويتضمنون معها ويرون فيها الحل.

ففي مساء الأربعاء 8 ديسمبر 1948م أصدر النقراشي - رئيس الوزراء - قراره بحل جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها، وفي اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات. ولما همّ الأستاذ حسن البنا أن يركب سيارة وُضع فيها بعض المعتقلين اعترضه رجال الشرطة قائلين: «لدينا أمر بعدم القبض علي الشيخ البنا».

هنا أصبح الستار جاهزاً لكي يسدل علي رجل عاش بعد موته مدة أطول من حياته بكثير، فقد صادَرت الحكومةُ سيارته الخاصّة، واعتقلت سائقه، وسحبت سلاحه المُرخص به، وقبضت علي شقيقيه اللذين كانا يرافقانه في تحركاته، وقد كتب إلي المسئولين يطلب إعادة سلاحه إليه، ويُطالب بحارس مسلح يدفع هو راتبه، وإذا لم يستجيبوا فإنه يُحَمّلهم مسئولية أيّ عدوان عليه.

وفي الساعة الثامنة من مساء السبت 12 فبراير 1949 م كان الأستاذ البنا يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين ويرافقه رئيس الجمعية لوداعه ودقّ جرس الهاتف داخل الجمعية، فعاد رئيسها ليجيب الهاتف، فسمع إطلاق الرصاص، فخرج ليري صديقه الأستاذ البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التي ركبها القاتل، ويأخذ رقمها وهو رقم «9979» والتي عرفت فيما بعد بأنها السيارة الرسمية «للأميرالاي» محمود عبد المجيد - المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية - كما هو ثابت في مفكرة النيابة العمومية عام 1952.

لم تكن الإصابة خطيرة- لكن الأوامر كانت قد صدرت بتصفيته -، بل بقي البنا بعدها متماسك القوي كامل الوعي، وقد أبلغ كل من شهدوا الحادث رقم السيارة، ثم نقل إلي مستشفي قصر العيني فخلع ملابسه بنفسه. لفظ البنا أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، أي بعد أربع ساعات ونصف الساعة من محاولة الاغتيال، ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلا بعد ساعتين أخريين، وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفي حتي تخرج إلي الدفن مباشرة، ولكن ثورة والده جعلتها تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلي البيت، مشترطة أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحاً، وألا يقام عزاء!.

اعتقلت السلطة كل رجل حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن فخرجت الجنازة تحملها النساء، إذ لم يكن هناك رجل غير والده ومكرم عبيد باشا والذي لم تعتقله السلطة لكونه مسيحيا، وكانت تربطه علاقة صداقة بحسن البنا.

في الأيام الأولي من قيام ثورة 23 يوليو أعادت سلطات الثورة التحقيق في ملابسات مصرع حسن البنا وتم القبض علي المتهمين باغتياله وتم تقديمهم أمام محكمة جنايات القاهرة حيث صدرت ضدهم «أحكام ثقيلة» في أغسطس 1954 حيث قال القاضي في حيثيات الحكم: «إن قرار الاغتيال قد اتخذته الحكومة السعدية بهدف الانتقام ولم يثبت تواطؤ القصر في ذلك لكن القاضي أشار إلي أن العملية تمت بمباركة البلاط الملكي، وحكم علي المتهم الأول أحمد حسين جاد بالأشغال الشاقة المؤبدة والمتهم السابع محمد محفوظ بالأشغال الشاقة خمسة عشر عاماً والمتهم الثامن الأميرالاي محمود عبد المجيد بالأشغال الشاقة خمسة عشر عاماً والبكباشي محمد الجزار بسنة مع الشغل قضاها في الحبس الاحتياطي فأفرج عنه»، إضافة لتعويض مادي كبير تمثل في دفع عشرة آلاف جنيه مصري كتعويض لأسرة البنا، وبعد حادثة المنشية في ديسمبر 1954 صدرت قرارات بالعفو عن كل المتهمين في قضية اغتيال حسن البنا، وأُفْرِجَ عن القتلة بعد أشهر قليلة قضوها داخل السجون.

لكن الحقيقة تؤكد أن حسن البنا لم يمت، فأفكاره عاشت وظلت مؤثرة بعد وفاته أكثر مما كانت عليه في حياته ومريدوه صاروا أكثر وتعاطف معه البسطاء من كثرة الهجوم عليه!

الدستور المصرية في

01/09/2010

 
 

«السادات» يروي دور «حسن البنا» في ثورة يوليو

في كتاب قدمه «جمال عبد الناصر»

محمد توفيق

الحقائق لا تظهر دفعة واحدة، وربما لا تظهر أبدا!

لكن عندما تنكشف الحقيقة تكتشف أن لها وجوها كثيرة، وإنه ربما ينتهي العمر قبل أن نلم بها.. هذا هو الشعور الذي سيصل إليك عندما تنتهي من قراءة كتاب «صفحات مجهولة» الذي كتبه الرئيس الراحل أنور السادات -بعد ثورة يوليو مباشرة - فالكتاب يعد وثيقة تاريخية، وشاهدا علي علاقة رجال الثورة بالإخوان ودليل علي أن السياسة تجمع كل المتناقضات وأن صديق الأمس عدو اليوم، فالسادات يتحدث عن حسن البنا كما نتحدث عن أولياء الله الصالحين ويصفه ببشاشة الوجه ورقة الحديث والتواضع الشديد!

قبل أن في حق السادات وتتهمه بأنه كتب هذا الكلام «من دماغه» دون علم الزعيم جمال عبد الناصر لابد أن تعرف أن عبد الناصر كتب مقدمة الكتاب بنفسه! بل إنه أثني علي الكتاب واعتبره نموذجًا لما يجب أن تكون عليه الكتب، ووصف مؤلفه بالعبقرية والشجاعة لكن تغيرت الأحوال سريعا وبعد عام واحد من كتابته تم منعه من التداول ليظل مجرد صفحات مجهولة، شاء القدر أن تخرج للنور لتصبح معلومة وتشهد بأن حسن البنا كان بطلا من أبطال حرب فلسطين وأن عبد الناصر كان يقوم بتدريب شباب الإخوان و السادات كان حلقة الوصل بين الاثنين، بل إنه دليل علي دور الشهيد حسن البنا في ثورة يوليو وأن عددًا كبيرًا من الضباط الأحرار كان عضوا بالجماعة التي صارت «المحظورة»!

روعة هذا الكتاب أنه لا يكشف فقط عن علاقة الإخوان المسلمين بالثورة ورجالها لكنه يكشف عن حلقة جديدة في تاريخ مصر فقد بدأ بمقدمة للزعيم «جمال عبد الناصر» يقول فيها: فرغت من تصفح كتاب القائمقام أنور السادات وساءلت نفسي عما دفعني لهذا الإعجاب به فجاءني الرد المنطقي فورًا، أنه مضمونه المتحلي بسلامة الأسلوب وقوة التعبير وطابع البساطة في سرد الحوادث وعرض المواقف في الوقت الذي أري فيه المؤلف قد تجنب الحديث عن نفسه فنجده لم يعمد لكتابة قصة حياته ولم يقم بتحقيقات صحفية كبري، بل قدم سلسلة رائعة متصلة من المشاهدات التي مرت تحت بصره وسمعه، فجاء كتابه مجموعة لصور حية جمعتها ريشة رسام ماهر وصورتها في صورة واحدة أبرزت من مجموعها حقائق وأسانيد تتيح لنا دراسة أحوال مصر المعاصرة عن كثب.

ويضيف: إن شخصية أنور السادات جديرة بالاحترام خليقة بالإعجاب خليقة بالإطراء فعبقريته العسكرية الممتازة وشجاعته ورباطة جأشه وإخلاصه وتفانيه في خدمة المثل العليا إلي جانب إرادته وتنزهه عن الغرض ورقة عواطفه وميله الغريزي للعدالة والإنصاف، كل هذه الصفات جعلته أهلا للقيام بدور مهم في التمهيد لثورة 23 يوليو والسير بها قدما في سبيل النجاح.

لقد حلل المؤلف في كتابه الشخصيات والأحداث تحليلاً دقيقًا مما جعل الكتاب مرجعًا يعتد به حاولت جاهدا أن أوضح مضمونه وأن ألخص فصوله المتعددة فلم أجد خيرًا من الجملة القصيرة المختصرة «إنه ولا شك لمن خلاصة البواعث الخفية والأسباب السيكولوجية لثورتنا السلمية».

ويختم المقدمة بقوله: شكرا للمؤلف فقد أتاح لنا أن نري في الحاضر المزدهر الخصيب ما يبشر بالمستقبل الباسم الزاهر.

ويبدأ الكتاب بالسؤال الأهم والأخطر، وهو: ما قصة الثورة مع الإخوان المسلمين؟

ويجيب السادات قائلا: سؤال واحد يعود بالذاكرة إلي اثني عشر عاما قبل ظهور الثورة إلي عام 1940 عندما بدأت قصتنا مع الإخوان وهذه القصة لا يعرفها المصريون ولا يعرفها العدد الأكبر من رجال قيادة الإخوان وكل ما يعرفه المصريون هو ما ذاع من إشاعات بعد ذلك بأيام.

القصة بدأت ليلة الاحتفال بمولد الرسول - صلي الله عليه وسلم - من عام 1940، كنت آنذاك ضابطا برتبة ملازم في هذا السلاح، ومولد الرسول في مصر موسم من مواسمها يعرف الأطفال فيه عرائس الحلوي وتعرف فيها البيوت والمجالس النيابية ودوائر السياسة وقصور الأغنياء الحلوي الحمصية والسمسمية وعلي هذا الوجه مرت بمصر هذه الليلة كما مرت بها دائما ولكنها لم تمر بي كذلك فقد كنت من حيث لا أدري ليلة البدء لأحداث كثيرة متتابعة سمع المصريون أطرافا منها بعضها خافت كالهمس وبعضها مدو.. كالقنابل والمتفجرات!

كنا جلوسا في إحدي غرف السلاح نتناول العشاء ونتكلم وكان جنود هذا السلاح وأغلبهم بطبيعة عملهم في سلاح الإشارة فنيين متطوعين قد اعتادوا مني كثيرا أن أحاضرهم واعتادوا مني دائما أن أتناول طعامي معهم وأثناء استراحتنا وطعامنا دخل علينا جندي من جنود السلاح الفنيين وقدم إلينا صديقا له يلتحف بعباءة حمراء لا تكاد تظهر منه شيئا كثيرا، لم أعرف عن الضيف شيئا إلا بشاشة وجهه ورقة في حديثه وتواضعا في مظهره.

ولكني عرفت بعد ذلك عنه شيئا كثيرًا!

كان في سمات هذا الرجل كثيرًا مما يتسم به رجال الدين: عباءة لحيته وتناوله شيئا من الدين بالحديث، فليس حديثه وعظ المتدينين، ليس الكلام المرتب والعبارات المنمقة ولا الحشو الكثير ولا الاستشهاد المطروق ولا التزمت في الفكرة ولا ادعاء العمق ولا ضحالة الهدف ولا إحالة إلي التواريخ والسير والأخبار.

كان حديثه شيئا جديدا، كان حديث رجل يدخل إلي موضوعه من زوايا بسيطة ويتجه إلي هدفه من طريق واضح ويصل إليه بسهولة أخاذة، وكان هذا الرجل هو المرحوم الشيخ حسن البنا مرشد الإخوان المسلمين، وانتحي الرجل بي ناحية وتجاذب معي حديثا قصيرا أنهاه بدعوتي إلي زيارته في دار جمعية الإخوان المسلمين قبل حديث الثلاثاء.

وذهبت يوم الثلاثاء، ولم أكد أضع قدمي في مدخل الدار حتي شعرت بكثير من الرهبة، وجلست مع الرجل وتحدثنا كثيرًا لكنه لم يخرج عن دائرة الدين أبدا رغم كل المحاولات التي بذلتها معه فقد فشلت، ورغم كل ما تطرق إليه الحديث عن شئون الجيش فقد ظل الرجل ملتزما ناحية الدين، وتركته وتكررت زياراتي بعد ذلك كثيرا وبدأنا نتحدث في الشئون العامة وبدأت أوقن أن الرجل يطوي صدره علي مشاريع كبيرة لا يريد الإفصاح عنها كما أيقن الرجل أني لا أنتوي الانضمام إلي جمعيته ولم يعرض علي الانضمام إلي جمعيته.

ويستكمل السادات في سرد الأحداث قائلا: في يوم تقابلت معه وكنت ثائرا تملأني المرارة والألم، فقد صدرت الأوامر في ذلك اليوم بإعطاء الفريق عزيز المصري إجازة إجبارية من رئاسة أركان حرب الجيش وكان معلوما لنا أن وراء هذه الفعلة أيدي الإنجليز، وكنت أتمني أن أقابله، وطال الحديث - مع البنا - في تلك الليلة عن عزيز المصري إلي أن قدم إلي المرحوم حسن البنا وريقة فعرفت أن المقابلة قد أذنت علي الانتهاء، فأخذت الوريقة أقرؤها بشغف شديد بينما قال لي حسن البنا والابتسامة علي شفتيه: وأقطع تذكرة عند الدخول كما يفعل الداخلون!

وخرجت من دار الإخوان المسلمين واتجهت في اليوم التالي إلي العنوان الذي كتبه حسن البنا ونظرت إلي فوق، فقرأت اللافتة الموضوعة علي عيادة الطبيب «الدكتور إبراهيم حسن» وصعدت السلم بخطي ثابتة ثم تذكرت أنني مريض! أو لابد أن أكون مريضا فربما كان البيت مراقبا بل المؤكد أنه مراقب إذا كانت المخابرات البريطانية قد علمت بوجود عزيز المصري بداخله! ولأول مرة قمت بمشهد تمثيلي صغير باعتباري مريضًا ودخلت لمقابلة عزيز المصري الرجل الذي آمنت بوطنيته وكنت أريد أن أكسب ثقته وعرفته بنفسي وتحدثنا طويلا.

وفي اليوم التالي التقيت المرحوم حسن البنا وسألني عن أثر زيارتي وأثرها علي نفسي وكأنه كان يعلم ما دار فيها.. ولاحظت أنه يريد أن يزداد علما بالمجموعة التي شعر أنني واحد من أفرادها.

فقد سألني حينئذ: هل لديك زملاء في الجيش يشتركون معك في هدف معين؟.. ولم أخف عنه الحقيقة، ولكني لم أبح بأسماء إخواني، وبدأ المرحوم حسن البنا يتحدث عن تشكيلات الإخوان المسلمين وأهدافه منها وكان واضحا في حديثه أنه كان يريد أن يعرض علي الانضمام إلي جماعة الإخوان المسلمين أنا والضباط في تشكيلنا حتي تتوحد جهودنا العسكرية والشعبية في هذه المعركة وكنت مستعدًا للإجابة علي هذا الطلب إذا وجهه إلي بطريق مباشرة فما أكتفي بالتلميح أوضحت له من جانبي أنه ليس من وسائلنا أبدا أن ندخل كجماعة ولا أفراد في أي تشكيل خارج نطاق الجيش فقال وعلي وجهه ابتسامه تغطي تفكيرًا عميقًا: من الخير لنا أن نتشاور وأن نتكلم معا في أي شيء كما أننا علي استعداد لكي نعاونكم عندما تطلبون منا ذلك.

وعرفت أن حسن البنا وحده يعد العدة لحركة الإخوان ويرسم سياستها ثم يحتفظ بها لنفسه حتي أنه كان يجمع السلاح ويشتريه ويجزئه وقد أدركت هذا في يوم من الأيام كنت جالسا معه عندما جاء إلينا الجندي المتطوع يحمل في يديه صندوقين مغلقين ورآني الجندي جالسا، فأجفل، ولكن حسن البنا قال له افتح الصناديق ولا تخف ونظر الجندي إلي بابتسامة الأخ في الجهاد ثم فتح صندوقيه وكل ما فيهما عينات من أنواع المسدسات وتأكدت في ذلك اليوم أنه يشتري السلاح ويخفيه حتي عن كبار الأخوان.. ففرحت في نفسي وقلت سيأتي اليوم الذي نضرب فيه ضربتنا كرجال عسكريين وسيكون أهم ما نستعين به أن نجد قوة شعبية تقف في الصف الثاني مسلحة مدربة ( (سبحان مغير الأحوال قد أصبحت هذه القوة وهي غير مسلحة محظورة وخطرا علي النظام).

كنت حلقة الاتصال الوحيدة بين تشكيل الضباط وبين الإخوان المسلمين، وكان اتصالي بحسن البنا فلم تكن لي صلة عملية بغيره وقلت له احرص علي أن يظل ما بيننا سرًا خافيًا علي الجميع حتي علي كبار الإخوان أنفسهم، فعندما بدأت الاتصال بالمرحوم حسن البنا للقيام بالعمل الفعلي ذهبت إليه في دار الإخوان وطلبت مقابلته لأمر مهم وكان الأستاذ السكري وكيل الإخوان موجودا معه، فإذا به يشير إلي أن أدخل إلي غرفة في مدخل الدار وأغلق البنا غرفته وأوصد الشبابيك ثم مال علي برأسه لكي يسمع ما أردت أن أنهيه معه، وفي تلك الليلة بسطت للمرحوم البنا كل التفاصيل وتوسعت معه في شرح دقائق الخطة العسكرية لموضوعة وأفهمته حقيقة الدور الذي نريد أن يقوم به الإخوان به وحدود هذا الدور.

وصمت طويلا وهو يستمع لي وعندما تكلم أجهش بالبكاء!

كنت أنا كالمسحور، قال كلامًا كثيرًا، كلاما مثيرا امتزج بالإيمان الشديد وكان واضحا جدا من كلامه أنه يؤثر مصلحة البلاد ولكني عندما خرجت سألت نفسي: هل وعد الرجل بشيء؟

هل احتضن الرجل خطتنا.

هل هو سيقوم بتنفيذ نصيب الإخوان منها؟

وحرت في الإجابة علي كل سؤال، فالواقع أن الرجل تكلم كثيرا وأثر في نفسي كثيرا وبكي من أجل مصر كثيرا ولكنه لم يعد بشيء ولا احتضن خطتنا، ولا أفهمني أنه مقبل علي تنفيذ نصيب الإخوان من الخطة، لكن تأثيره الشديد علي أبعد عن ذهني كل شك بل إنه أقنعني بأنه أعد جماعته للكفاح وأن لديه قوة كبيرة ولكني لم أعرف شيئا عنها وكان هذا آخر اتصال لي بحسن البنا قبل اعتقالي.. ولكن اتصالات جديدة بدأت عقب ذلك.

وينتقل السادات إلي حلقة أخري في علاقة بحسن البنا بقوله: عاودت الاتصال بالبنا وأنا هارب من المعتقل وتبسط معي بصورة لم تسبق له من قبل، فرغم كل الصلات التي قامت بيني وبينه كنت أشعر دائما أنه يقول شيئا ويخفي في نفسه أشياء ولكنه في تلك المرة تبسط كثير وشرح كثيرا وأفاض كثيرا ثم كلفني بأمر!

شرح لي حسن البنا متاعبه التي تأتيه من ناحيتين:

ناحية الملك.. وناحية الأجانب

وأراد أن أكون وسيطا له لكي يقابل الملك عن طريق صديقي يوسف رشاد وبالفعل حاولت لكني لم أستطع، وللتاريخ أذكر أن الملك في يوم من الأيام قد دعا إليه يوسف رشاد وطلب منه أن يتصل بحسن البنا وأن يستمع إلي ما كان يريد البنا أن يقوله للملك، والتقي يوسف رشاد بحسن البنا وتحدث معه ثلاث ساعات وقال لي يوسف إنه خرج من هذه المقابلة مقتنعًا تمامًا بخصوص نية حسن البنا نحو الملك وذهب للملك فنقل له كل شيء وإذ به يفاجأ بالملك يقول له: حسن البنا ضحك عليك!، وحاول يوسف رشاد أن يدافع عن نفسه ويقنع الملك أنه ليس الساذج الذي يضحك عليه الناس ولكن الملك ضحك ضحكته المشهورة وأعاد جملته: حسن البنا ضحك عليك.

ويروي السادات دور حسن البنا وجماعة الإخوان في حرب فلسطين قائلا: أقبل عام 1948 وأقبلت معه أحداث فلسطين وفي الأيام الأولي لم يكن قد تقرر أن يخوض الجيش المعركة، ولكن الحكومة كانت في موقف لا تستطيع معه منع الجماعات الثائرة من الشباب من خوض هذه الحرب كمتطوعين، وكانت أكثر الجماعات تحمسا للتطوع والقتال هي جماعة الإخوان المسلمين، بدأت في هذه الفترة صلات جديدة مع الإخوان صلات بين ضباط المجموعة - التي أنتمي إليها- وبين قيادة الجماعة، فقد عقدت اجتماعات في بيت المرحوم حسن البنا ضمت جمال عبد الناصر ( كان الرئيس عبد الناصر يذهب للبنا في بيته ليضع معه الخطة) وكمال الدين حسين ضابط المدفعية وبعض الضباط المنتمين للإخوان (!!)، وفي الوقت نفسه نشأت صلات بين المجموعة وبين الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين وبين الجامعة العربية، وكان هدف المجموعة من هذه الصلات جميعا هو تكوين تنظيمات وتشكيلات مسلحة وتدريبهم وإعدادها إعدادا كاملا بكل ما تحتاج إليه من خبرة ومن سلاح قبل التطوع لخوض غمار المعركة المقدسة وكان الإخوان يقولون إنهم مستعدون إلي أقصي الحدود أنهم لا ينقصهم شيء سوي السماح لهم بالسفر علي ميدان المعركة، وكان مفتي فلسطين والجامعة العربية بجانبه يكونان تشكيلات من المتطوعين وقد أعلنت الجامعة أنها علي استعداد لتسليحهم والإنفاق عليهم ( ودارت الأيام وأصبحت الجامعة العربية بلا دور بعد أن كانت تلعب دور البطولة أيام الملك)، وبقي دور الضباط.. فقد كان الضباط لا يستطيعون الاشتراك في الحرب إلا إذا أعلنت الحرب من الدولة إعلانًا رسميًا واشترك الجيش فيها ولم يكن تقرر بعد إعلان الحرب ولذلك فكر الضباط الخروج من الجيش والاشتراك في الحرب كمتطوعين.

وبدأت الطلبات تنهال علي قيادة الجيش بالاستقالة، وكانت الحكومة مترددة في دخول الحرب مما أوجد الضباط في حالة من الغضب وزاد من حدة السخط في قلوبهم ولكن ضغط الحوادث كان قاسيًا وخطيرًا، وفكرت الحكومة في أن ترسل جماعة من ضباط سلاح المهندسين إلي فلسطين ليقوموا ببعض الأعمال الاستكشافية، وفوجئ ضباط بإشارات تأتيهم لمقابلة الفريق عثمان المهدي - رئيس هيئة أركان حرب الجيش -، ولبي الضباط الإشارة وفي مكتب رئيس الأركان وجدوا البطل أحمد عبد العزيز، وجلس مع المتطوعين وقال لهم «إنكم لا تذهبون لقتال عدو فحسب ولكنكم ذاهبون لتكتبوا التاريخ، وفرغ أحمد عبد العزيز من خطابه، إذ بالجمع يري حسن البنا ومعه الشيخ فرغلي قادمين لوداع المسافرين وخطب حسن البنا وخطب الشيخ فرغلي واشتد الحماس وبلغ أوجه، وكان المتطوعون خليطًا من شباب الإخوان المسلمين ومن آخرين.

ويروي السادات أغرب قصة في كتابه وهي حكاية القبض علي جمال عبد الناصر بتهمة أنه من أعضاء جماعة إخوان بقوله: بعد انتهاء حرب فلسطين عادت القوات المصرية وقررت المجموعة العمل فورا فقد كانت هذه هي اللحظة المناسبة لتكون نقطة البدء في العمل السري الكامل الذي يؤدي إلي تغيير الأوضاع في البلاد، وبينما كانت المجموعة تفكر في عمل قاعدة ارتكاز لبدء العمل فوجئت المجموعة بزيارة غير مرغوب فيها من الفريق عثمان المهدي رئيس الأركان لمنزل جمال عبد الناصر، ولم يكن الفريق عثمان المهدي وحده في هذه الزيارة، فقد كان معه عدد من ضباط البوليس الحربي، ولم يكن هدف الزيارة هدفا عاديا وإنما كان الهدف هو القبض علي جمال عبد الناصر وتفتيش بيته،وقام رجال البوليس الحربي بالتفتيش فلم يجدوا في البيت سوي بضع طلقات فقد كان جمال عبد الناصر حريصا دائما(!!)

أما جمال فقد اصطحبه عثمان المهدي إلي «دولة» إبراهيم عبد الهادي باشا - رئيس مجلس الوزراء والحاكم العسكري العام -، وهناك في مكتب رئيس الوزراء جرت مناقشة طويلة بين جمال وعبد الهادي.. فقد وجه عبد الهادي لجمال تهمة التعاون مع الإخوان المسلمين مستدلاً علي ذلك بأنه - أي جمال - قد قام بتدريب بعض شبان الإخوان علي السلاح أثناء الحرب وبعد قيامها، أما جمال.. جمال الثائر الذي كان عائدا من الفالوجا فلم يكن لديه من الصبر ما يمكنه من عدم الاحتدام في المناقشة مع الحاكم العسكري العام، ولعلها كانت مفيدة فقد تريث إبراهيم عبدالهادي في إصدار الأمر باعتقاله، وأرسل رسله يأتونه بأخبار جمال ثم تم الإفراج عنه فورا لأنه أدرك أن لهذا الضابط شخصية معينة بين ضباط الجيش وأن له كيانا خاصا في صفوفهم فخشي أن يعتقله فتكون القشة التي تقصم ظهره وظهر العهد من بعده.

الدستور المصرية في

01/09/2010

 
 

حلمي النمنم يكتب:

أزمة الكتابة عن حسن البنا..

مذكراته المصدر الوحيد لمعرفة شخصيته!

يعاني كثيراً من يبحث ويدرس حياة وتطور مرشد جماعة الإخوان المسلمين (المؤسس) حسن البنا، وذلك أن المصدر الوحيد أمام الباحث، هو ما كتبه البنا نفسه عن نفسه، خاصة في المراحل الأولي من حياته، فبعد أن أسس جماعته واشتبك في العمل العام باتت هناك أطراف أخري يمكن الاستعانة بها ومراجعتها للمعرفة، لكن ـ قبل ذلك ـ وحين كان حسن البنا طفلاً وشاباً مغموراً يظل هو المصدر الأول، وأكاد أقول الأوحد عن نفسه، وقد دوَّن هو ما أراد في كتابه الذي يحمل عنوان «مذكرات الدعوة والداعية».

والمعروف علمياً أن الكتابة من الذاكرة، تجعل المرء ينسي وربما يتناسي أشياء، وتلعب حالته النفسية والعقلية دوراً في عملية الكتابة، وحين أخذ حسن البنا يكتب مذكرات الدعوة والداعية، كان هو المرشد العام للجماعة وكان يخاطب بها جمهور الجماعة وكذلك الجمهور الذي يود استقطابه نحو الجماعة، لذا نراه يكتبها وكأنه وُلد ليكون مرشداً عاماً للجميع!!!، وربما كانت ملاحظة شقيقه الأصغر جمال البنا مهمة هنا، إذ ذكر أن الدعوة تغلب علي المذكرات وتزاحم الداعية، لنتذكر أن طه حسين حين كتب «الأيام» لم يتردد في أن يقول لنا إنه وهو في الكُتّاب كان «يرشو» العريف ليعفيه من قراءة أجزاء القرآن يومياً، وأنه هو نفسه حين عهد إليه العريف القيام بمهمته تلقي هو الآخر رشاوي، من بعض الصبية، ولم يجد غضاضة في أن يكتب أنه عندما فشل في قراءة بعض سور القرآن حفظاً أمام والده، ذهب وضرب نفسه بالساطور، لكن في مذكرات البنا تشعر بأنه الإنسان الكامل.. لم يكذب مرة واحدة.. لم يخطئ مرة.. لم تصدر عنه هفوة ولو صغيرة في حياته، لم يمر بلحظة ضعف واحدة، وهذا يلقي بعبء ضخم علي الباحث الذي يتناول حياته.

روايتان متناقضتان لواقعة في حياة المرشد المؤسس.. هو من روي فبأيهما نأخذ؟

وزاد الأمر صعوبة بعد النهاية المؤسفة لحياته، فقد أضفت «هذه النهاية» حالة من القداسة عليه في نظر الذين عرفوه وتعاملوا معه.. حتي الذين اختلفوا بعد ذلك مع الجماعة وخرجوا عليها، راحوا يؤكدون إيمانهم بموهبة البنا وأنهم خرجوا علي الجماعة لأنها من بعده وفي ظل مرشدين آخرين خرجت عن خط المرشد العام المؤسس ولم تلتزم بتوجيهه وروحه.. لذا كتبوا عنه أنه الإمام الشهيد.. الملهم الموهوب.. الرجل الرباني.. الرجل النوراني.. وغير ذلك من صفات قد لا يُمنح بعضها إلا للأنبياء وللمرسلين، لقد وجدنا في السيرة النبوية أن المحيطين برسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ كانوا يختلفون معه أحياناً فيما لم يرد فيه وحي.. واعترفوا بأن الرسول لم يكن معصوماً فيما هو خارج الوحي والتكليف الإلهي.. ونموذج ذلك ما جري في غزوة أحد.. ونعرف أنه بعد إحدي الغزوات وقف الرسول يوزع الغنائم فقال له أحدهم: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، ونعرف كذلك من السيرة النبوية أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ مر بلحظات يأس شديدة (ربي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي) وشعر بالإحباط في بعض المواقف، لكن شيئاً من هذا لن نجده في سيرة حسن البنا، هو في نظر نفسه وفي نظر جماعته «الإنسان الكامل» وقد يزيد عن ذلك بكثير وكثير عند بعضهم.

هذا كله يزيد عبء الباحث، خاصة أن الجماعة لا تسامح مع أي انتقاد للمرشد المؤسس وتمارس ضغطاً معنوياً رهيباً علي أن يحاول الاقتراب من الكتابة بغير انبهار، لذا لم نجد تعاملاً علمياً حقاً مع حياة البنا إلي اليوم، مثلاً هو يذكر أنه لم يكن قد أتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن الرابعة عشرة بمدينة المحمودية، وهي سن متأخرة ليتم الطفل حفظ القرآن الكريم فيها، ففي ذلك الوقت كانت السن النموذجية لحفظ القرآن هي التاسعة من العمر، إن كان الطفل متميزاً، وبعد ذلك بعامين للطفل العادي، أما ما دون ذلك فيعني أن الطفل ليس مهتماً بالحفظ أو ليس نابهاً، وبمعني آخر قد يكون «لعبياً»، أي يفضل اللعب عن المداومة علي الحفظ وربما كان «بليداً» بالفعل، وهي درجة من درجات الكسل العقلي.. تري ماذا كان عليه الطفل حسن، وما الذي أخره هكذا في حفظ القرآن الكريم، حتي أنه حفظ ثلاثة أرباع القرآن فقط في تلك السن، ألا ينفي ذلك عنه ما ذكره هو من اهتمامه البالغ بنشر التدين منذ الطفولة وتشكيل جمعية لإكراه الناس علي ذلك؟!

نعرف أن حسن البنا الذي ولد سنة 1906، كان الابن «البكري» لوالديه، ومثل هذا الابن يكون ـ غالباً ـ مدللاً في طفولته، هو مناط بهجة الوالدين والأهل جميعاً، فهل كان حسن مدللاً في طفولته، وهذا ما جعله يتأخر في حفظ القرآن الكريم، عن مناظريه من أبناء جيله. طه حسين، ولد في نوفمبر 1889 وفي سنة 1900 كان قد أتم حفظ القرآن الكريم، رغم أنه كان ضريراً، وكانت ظروفه بالكُتاب تعسة للغاية.. فما بالنا بمن لم يكن كذلك؟! عموماً هو يحدثنا عن تلك التجربة بأنه كان في «كُتاب» الشيخ محمد زهران أو ما يسميه هو «مدرسة الرشاد» وأنه قضي بها أربع سنوات من الثامنة وحتي الثانية عشرة، ثم ترك الشيخ المدرسة وانشغل بأمور أخري، لكنه عهد بها إلي غيره من «العرفاء»، فلم ينسجم معهم، ولذا قرر أن يترك هذه المدرسة، رغم أنه كان قد وصل في الحفظ إلي سورة الإسراء فقط، أي نصف القرآن الكريم تقريباً، مما أثار حزن والده، لكنه تعهد له أن يتم الحفظ مع نفسه وفي المنزل!! والواقع أن أربع سنوات كانت كافية جداً للطفل لكي يتعلم حروف الهجاء نطقاً وكتابة ثم ينطلق إلي كتاب الله حفظاً، وتكون القدرة علي الحفظ كبيرة في السن الصغيرة، نشعر في رواية حسن البنا بأن هناك شيئاً غامضاً أو غير واضح، هو يوجز بشدة ولا يقول كل شيء.. فحتي التحاقه بمدرسة المعلمين بدمنهور لم يكن قد أتم حفظ القرآن الكريم، رغم أنه كان قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره بنصف عام.

يذكر البنا أنه ترك الكتاب والتحق بالمدرسة الإعدادية، كان ذلك وعمره 12 عاماً، أي نحو سنة 1918، ونعرف من تاريخ التعليم أن نظام الإعدادية أدخل في التعليم بعد ثورة 1952، علي عهد الوزير كمال الدين حسين، أما قبلها فكانت هناك المدارس الإلزامية والابتدائية ثم الثانوية وبعدها التوجيهية، صحيح أنه يستدرك ويقول: «والمدرسة الإعدادية ـ حينذاك ـ علي غرار المدرسة الابتدائية اليوم بحذف اللغة الأجنبية وإضافة بعض مواد القوانين العقارية والمالية وطرف من فلاحة البساتين، مع التوسع نوعاً في دراسة علوم اللغة الوطنية والدين»، ويكرر بعد ذلك أن «الغلام» كان طالباً بالمدرسة الإعدادية، هو هنا يتحدث عن نفسه، ونلاحظ أن مواصفات المدرسة التي يتحدث عنها تنطبق علي المدرسة الإلزامية، فلماذا ذكر الإعدادية، ولم يذكر الإلزامية؟ كان المعروف أن المدارس الإلزامية للتلاميذ الفقراء، وكانت ـ علي الأغلب ـ بلا مصاريف، أما المدارس الابتدائية التي كان يتعلم بها الطفل اللغة الإنجليزية والحساب فكانت بالمصاريف، وكان معروفاً أن المدرسة الإلزامية تقدم تعليماً محدوداً، يتيح لمن يتخرج فيها أن يعمل موظفاً بسيطاً أو عاملاً، ومن الناحية الاجتماعية كان التعليم بحق في الأزهر أو في المدارس الابتدائية، وهو كانت لديه عقبة في الذهاب إلي الأزهر وهي أنه لم يتم حفظ القرآن الكريم، أما الابتدائية فتحتاج مصاريف، ونعرف أن والده كان فقيراً وكان كثير الإنجاب، تري هل وجد المرشد العام وهو يكتب سنة 1943 عن نفسه أنه لو ذكر حقيقة المدرسة الإلزامية فإن ذلك يحط من قدره ومن قيمته؟ وهل أراد أن يتهرب من تلك الحقيقة، فاخترع مقولة المدرسة الإعدادية؟! الطريف أنه فيما بعد وهو في «دار العلوم» يتحدث عن أخيه عبدالرحمن الذي أنهي الدراسة بالمدرسة الابتدائية، وكان عليه أن ينتقل إلي القاهرة ليدرس الثانوية، دون ذكر لحكاية الإعدادية.

وهناك واقعة ترد في مذكرات الدعوة والداعية، تفرض علينا التعامل مع المذكرات بحذر علمي، فهي ـ كما ذكرت من قبل ـ مكتوبة لجمهور التابعين والمبهورين ومقصود بها تضخيم الذات، الواقعة تتعلق بزيارة علي بك الكيلاني ـ مراقب التعليم الابتدائي للإسماعيلية ـ وتوجهه إلي المدرسة التي كان يعمل بها حسن البنا مدرساً للخط العربي، طبقاً لما ورد في المذكرات فإن شكوي وصلت إلي إسماعيل صدقي (باشا) رئيس الوزراء من الإسماعيلية ضد حسن أفندي البنا، تتهمه بالشيوعية، وكان صدقي باشا جاداً في محاربة الشيوعية، فأحال الشكوي إلي وزير المعارف العمومية، ومن مسئول إلي آخر بالوزارة حتي انتهت إلي مراقب التعليم الابتدائي الذي كان عليه أن يحقق فيها بنفسه، فذهب إلي المدرسة وقابل البنا وقال له بالحرف الواحد: «جئت لأزورك زيارة شخصية فلا تعتبرها زيارة تفتيشية أو رسميات ولكن جئت لرؤيتك فقط، فشكرت له ذلك، وانتهزتها فرصة وقلت له: ذلك جميل يا سيدي ومن حقي عليك إتماماً للزيارة ورداً للجميل أن تزور بناء المسجد والمدرسة لتري بنفسك أثراً من آثار هذه الدعوة والجماعة فوعد بذلك آخر النهار.. وتمت الزيارة في الليلة نفسها واستمع إلي خطباء الإخوان، وقال كما يروي البنا في المذكرات: «عجيب، هذه أعجب مدرسة رأيتها»، ولم يتمالك نفسه بعد نهاية الخطب أن قام فتناول وساماً من أوسمة الإخوان، وكان شارة الإخوان إذ ذاك وساماً من الجوخ الأخضر كتب عليه الإخوان المسلمون، فلبسه وأعلن انضمامه للجماعة وحيا المجتمعين بكلمات طيبات».

ولدينا رواية أخري لزيارة علي بك الكيلاني، يرويها حسن البنا بنفسه، في رسالة بعث بها إلي والده، وقد نشر هذه الرسالة جمال البنا في كتابه «خطابات من البنا الشاب إلي أبيه»، والرسالة بتاريخ 22 شوال 1349 هجرية = مارس 1931، تبدأ الرسالة هكذا:

«سيدي الوالد المحبوب..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فلعلكم جميعاً بخير ما أحب لكم هناءة وغبطة.. عندي بشرتان أقولهما لكم مشفوعتين بحمد الله وشكره.. الأولي: أننا تسلمنا بقية المبلغ وهو 300 جنيه من الشركة» والمقصود هنا مبلغ التبرع من شركة قناة السويس، ولا نعرف هل هو بقية مبلغ الخمسمائة جنيه التي كانت تبرعاً لبناء المسجد، أم أنها تبرع آخر، خاصة أن مبلغ الخمسمائة جنيه كان المرشد اعتبره «دفعة أولي» أو بداية لتبرعات أخري تمناها، ما يعنينا في هذا السياق، البشري الثانية، لأنها تتعلق بزيارة علي بك الكيلاني، يقول لوالده في الخطاب: «إن سعادة مراقب التعليم الابتدائي علي بك الكيلاني زار الإسماعيلية، وزار المدرسة وكان له بها حفل تكريم حضره الأعيان والموظفون، وكنت خطيب القوم فسر الرجل سروراً جماً تضاعف بزيارته لي في الفصل، بما رأي من نظام ونشاط»، ويقول أيضاً: «ثم إنه زار في الليلة التالية المسجد ومدرسة التهذيب ومعه المأمور والمعاون ووكيل النيابة والناظر والمدرسون، فدهش لما رآه من نظام الجمعية والمسجد والمدرسة ووقع في دفتر الزيارة ثم انتقل هو والمدعوون إلي بوفيه شاي وتناول الشاي في حفل عظيم وخطب الإخوان خطباً وقصائد في الترحيب به فزاده كل ذلك وقام محيياً الجمعية والإخوان».

نحن ـ هنا ـ بإزاء رواية مغايرة تماماً، زيارة «البك» ـ كما في الخطاب، لم تكن للتحقيق ولا للمساءلة ولا لإبداء الإعجاب بالمدرس، الزيارة كانت للإسماعيلية وللمدرسة وكانت هناك حفلة لتكريمه معدة سلفاً وزيارته للفصل كانت بعد أن استمع إلي خطبة ألقاها المدرس أي أنها لم تكن واردة من قبل، ولا أنها زيارة للتحقيق وللمساءلة، ولو كانت للتحقيق لم يكن ليصحبه فيها الأعيان وكبار الموظفين.. ولو كانت زيارة للمساءلة لوقع أوراقاً أو كتب نتيجة التحقيق ولا تتخذ أي قرار أو ترك وصية للناظر، ولنقل تعليمات إليه، لكن كما هو واضح من الخطاب أنها زيارة تكريمية معدة سلفاً، للمراقب العام، وأن البك خطط من قبل لزيارة المدينة والمدرسة ولم تكن «زيارة مفاجئة»، ولم يرد في الخطاب أن البك بادر إلي الانضمام للجماعة، بل إنه تناول شارة الجماعة وارتداها تلقائياً.. كما ذكر البنا في المذكرات.. ويعقب جمال البنا بعد نشر الخطاب بالقول: «وقد أصبح الأستاذ علي الكيلاني بعد ذلك من الإخوان» وبالتأكيد لو أن البك انضم إلي الجماعة وهو في الإسماعيلية لأخبر حسن البنا والده في خطابه، فلم يكن يخفي عنه شيئاً.. وكان يتفاخر في رسائله إليه بما يحققه وينجزه، والآن.. ونحن بإزاء روايتين لواقعة واحدة، بينهما تباين كبير واختلاف شديد، والراوي في الحالتين هو حسن البنا.. فأي الروايتين نأخذ وأيهما نستبعد؟ المعني المهم هو أننا في تاريخنا ودراستنا لحياة ومسيرة حسن البنا، نقع أسري أحادية المصدر ـ غالباً ـ وهذا المصدر هو حسن البنا نفسه.. ومن أسف أن خطابات حسن البنا وأوراقه الخاصة في حوزة نجله إلي الآن، ولم يتح لأحد الاطلاع عليها ولا هو نشرها، هكذا قال جمال البنا في كتابه «خطابات حسن البنا الشاب إلي أبيه».

المذكرات تمتلئ إعجاباً بالذات، بل امتناناً، والغريب أن الجميع أخذوا كل ما بها باعتباره حقيقة لا تقبل أي شك أو حتي مساءلة، مثلاً يحكي البنا حين ذهب إلي الإسماعيلية وأخذ يلقي الدروس بالمقاهي فيقول عن نفسه: «كان المدرس دقيقاً في أسلوبه الفريد الجديد، فهو يتحري الموضوع الذي سيتحدث فيه جيداً (......) وهو كذلك يتحري الأسلوب فيجعله سهلاً جذاباً مشوقاً».. ألم يكن الأجدي أن يترك هو للآخرين أو لجمهوره والمستمعين إليه أو من يتابعونه أن يطلقوا عليه هذه الصفات؟!. وفي سياق آخر، يتحدث عما قام به تجاه أهالي الإسماعيلية أو بعضهم، ولنتذكر أنهم مسلمون موحدون، يقول: «سلك بهم المدرس مسلكاً عملياً بحتاً، إنه لم يعمد إلي العبارات يلقيها أو إلي الأحكام المجردة يرددها، ولكن أخذهم إلي الحنفيات تواً، وصفهم صفاً ووقف فيهم موقف المرشد إلي الأعمال عملاً عملاً، حتي أتموا وضوءهم ثم دعا غيرهم، ثم غيرهم، وهكذا أصبح الجميع يتقنون الوضوء عملاً».

تري هل مطلوب منا أن نصدق ونقتنع بأن مواطنين مسلمين يعيشون في بلد مسلم بحاجة وهم في سن متأخرة إلي من يعلمهم الوضوء أو إتقان الوضوء؟!».

ويحاول أن يمنح نفسه صفات أخري، مثلاً حين كان يتهيأ لامتحان التقدم إلي دار العلوم، وكان قلقاً بشدة من امتحان النحو والصرف، فلم يكن درسه دراسة منتظمة، صحيح أنه حفظ الفقيه ابن مالك، لكنه قلق، فهو لا يجيد قواعد النحو، ولنتأمل كيف تجاوز هذه العقبة يقول في مذكراته، إنه ليلة الامتحان نام، ورأي رؤية خاصة حلت له المشكلة: «رأيت فيما يري النائم أنني أركب زورقاً لطيفاً مع بعض العلماء الفضلاء والأجلاء يسير بنا الهوينا في نسيم ورخاء علي صفحة النيل الجميلة، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء، وكان في زي علماء الصعيد، وقال لي: أين شرح الألفية لابن عقيل؟ فقلت: ها هو ذا، فقال لي: تعال نراجع فيه بعض الموضوعات، هات صفحة كذا، وصفحة كذا، لصفحات عينها، وأخذت أراجع موضوعاتها حتي استيقظت منشرحاً مسروراً، وفي الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات»، ثم ظهرت النتيجة ونجح!!! تري أي معني يصل للقارئ هنا، خاصة إذا كان تلميذاً أو دارساً؟!

في المذكرات نجد ما يمكن أن يعد خفة أو استسهالاً في استعمال الآيات القرآنية الكريمة.. من ذلك ما يرد حول شراء الأرض لبناء مسجد للجماعة بالإسماعيلية، والذي حدث أنه وجد قطعة من الأرض وأعلنت الجماعة أنها سوف تشتريها أو تقبل التبرع، كانت القطعة ملك الحاج علي عبدالكريم ويصفه بأنه «كان صالحاً يحب الخير»، لذا تبرع بقطعة الأرض وكتبوا معه عقداً ابتدائياً بالتنازل عنها، ولكن «أخذت عقارب الحسد والضغينة تدب في نفوس ذوي الأغراض» وما أن علموا بأن الشيخ علي عبدالكريم تنازل عن قطعة الأرض حتي ضيقوا عليه الخناق وملأوا نفسه بالوشايات والدسائس.. (...) فكانت فتنة انتهت بأن سلمته ورقة التنازل عن طيب خاطر ووجدوا قطعة أرض اشتروها ودفعوا ثمنها، نحن إذن بإزاء رجل تبرع ثم قرر التراجع أو لعله طلب ثمناً لها، وهذا وارد وربما كان متوقعاً، ويستعرض البنا ما قيل عنهم إبان تلك الأزمة: «راحوا يصورون الدعوة والداعية للناس بصور شتي: فهم تارة يدعون إلي مذهب خامس وهم أحياناً شباب طائش لا يحسن عملاً ولا يؤمن علي مشروع، وهم أحياناً نفعيون مختلسون يأكلون أموال الناس بالباطل وهكذا..» وإذا كان الأمر كذلك لما وجدوا من يبيعهم قطعة أرض ولوجدوا معارضة في بناء المسجد، المسألة ببساطة ـ كما هو واضح ـ أن المتبرع لم يقتنع وسحب تبرعه، لكن المرشد العام لا يضعها في هذا السياق، فحين راح يرويها في مذكراته بدأ الحديث عنها هكذا «ولكن دعوة الحق في كل زمان ومكان لابد أن تجد لها من المعارضين والمناوئين من يقف في طريقها، ويعمل علي معاكستها وإحباطها، ولكن النصر لها في النهاية، سنة الله (فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً) (فاطر: 43) (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفي بربك هادياً ونصيراً) (الفرقان: 31) (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) (الأنعام: 112) (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمني ألقي الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) (الحج: 52)».

هذه الاستشهادات القرآنية استشهد بها المرشد المؤسس في واقعة سحب المتبرع تبرعه.. ومعني هذا الاستشهاد أنه يضع نفسه في مصاف الأنبياء الذين نزل فيهم قول الله تعالي في الآيات السابقة.. وأن الذين يعترضون علي دعوته وجماعته هم من المجرمين ومن الشياطين.. والواقع أن هذا استسهال بالغ، فلا هو في مكانة الأنبياء ولا خصومه من الشياطين وليسوا مجرمين، والاستشهاد والقياس خاطئ تماماً، لكن خطورة هذا الخطاب أنه انزلق منه إلي أتباعه وإلي غيرهم، فصارت آيات القرآن الكريم تُستعمل في غير سياقها، ويضفي البعض علي نفسه هالة من القداسة ويتم شيطنة المخالفين لهم ومن ثم تكفيرهم، وما بعد ذلك يكون مجرد نتيجة فقط.

هذه الصورة شبه المقدسة التي يرسمها المرشد لنفسه في مذكراته، تفتقد إلي التضاريس الإنسانية البسيطة من غضب وفرح.. حب وكره.. انفعال وفتور وغير ذلك، مما يصاب به البشر أجمعون، كبيرهم وصغيرهم، وهي صورة ليست حقيقية، الصورة الحقيقية نجد شيئاً منها في بعض الرسائل التي بعث بها المرشد المؤسس إلي والده، فور وصوله الإسماعيلية، ونشرها جمال البنا، واحدة من هذه الرسائل كان يتحدث فيها عن مصاريفه الخاصة لمدة ثلاثة أشهر، وضع مفردات الإنفاق، ويبدو أن والده كان غاضباً منه ووالدته كذلك، لأنه كان من المفترض أن يرسل إليهما مبلغاً من راتبه الشهري، ولم يتمكن من الوفاء بذلك، ويتوقع جمال البنا أن تكون الرسالة قد كُتبت في أواخر سنة 1928 أو بداية سنة 1929، يفيدنا هنا منها بعض الجمل مثل «وعلي كل حال الذي يهمني راحتكم مهما كلفني ذلك، وسأفصل لكم في هذا الخطاب حساب ثلاثة أشهر مضت هي نوفمبر وسبتمبر وأكتوبر، أي منذ فارقتكم لتعلموا أنه ليس في تصرفي شيء من الإسراف ولا الخفاء ولا الاستبداد برأيي، وإنما أنا مساق بقوة الظروف التي لا تُغلب، وإذا كانت ظروفي هكذا فما ذنبي أنا».

وكان بين مصاريفه مبلغ خمسين قرشاً كتب أمامه عبارة «لمسجد الراشدين»، ويقول للوالد عنها: «وإن كان يؤلمكم الخمسون قرشاً التي دفعت في المسجد فقدروا الظروف التي تورطت فيها لدفعها وقدروا أجرها»، والواضح أنه كان قد تبرع بها، ويقول له كذلك :«ذلك يا سيدي حساب ثلاثة أشهر أتقدم إليكم أدق من الشعرة، فإن كان لا يروقكم فما ذنبي أنا فلتسألوا الله أن يحور هذه الظروف».

في هذه الرسالة نحن أمام إنسان حي.. من دم ولحم، لديه أزمة اقتصادية خانقة حتي إنه يقول: «واقترضت من مال الجمعية جنيهاً آخر وهي تمام المنصرف»، وسبب هذه الأزمة يعلنه لوالده وهو يقدم له قائمة المصاريف: «لست أغشكم أو أكذب في هذا» ويقول في رسالة أخري لوالده بتاريخ 26 نوفمبر 1928: «أنا الآن لا أسهر في الخارج قطعياً وفقط سأجعل ليلتين في الأسبوع أدرس فيهما بعد العشاء في مسجدين»، والواضح أنه كان كثير السهر وأن والده لم يكن مستريحاً لذلك، أو لعله أنبه علي طول السهر خارج البيت، لكن هذه الصورة الإنسانية جري طمسها، والمرشد نفسه هو من طمسها، فقد قدم صورته الأسطورية أو الربانية التي يريدها في مذكراته، وباتت هي الصورة الوحيدة والأحادية له.. لذا نعيد التساؤل من جديد: هل تصلح هذه المذكرات وحدها لتقديم صورة المرشد المؤسس حسن البنا؟ والإجابة القاطعة هي النفي.. لكن واقع الحال يقول إنه المصدر الوحيد المتاح والمعتمد والمسلَّم به لذلك، وأي محاولة للخروج عليها محفوفة بالمخاطر.. وأمامنا نموذج وحيد حامد، فقد اعتمد علي هذا المصدر الوحيد والأحادي.. ومع ذلك يواجه بدعاوي قضائية واحتجاجات بالغة.

الدستور المصرية في

01/09/2010

 
 

مذكرات "فوزية" شقيقة حسن البنا

كتب أحمد الطاهري

المؤكد أن «وحيد حامد» كان فى موقف لا يحسد عليه عند تصديه للكتابة عن جماعة الإخوان المسلمين خصوصاً أن ما يعرض حالياً هو الجزء الأول من العمل الدرامى الذى يتناول نشأة «الجماعة» وبالطبع تتطرق الأحداث لسيرة مؤسسها «حسن البنا».. فكم ما كتب عن شخصية «البنا» وظروف التأسيس وغيرها من كتابات اختلفت فى وجهات النظر أو تغاضت أو أسهبت فى ذكر وقائع مختلف عليها حول شخصية «حسن البنا».. فهذا الكم الهائل من الكتابات وضع «وحيد حامد» فى مفترق طرق وحثه على البحث الدءوب، وبالطبع كانت له رؤيته الخاصة فى التركيز على وقائع بعينها وإغفال أخرى قد تكون مهمة لكن لا تغير عمله الدرامى! ما يلى جزء من مذكرات عائلة البنا، كما ترويه «فوزية البنا» شقيقة «حسن البنا»، والمؤكد أنها أسهبت فى الحديث عن شقيقها وتروى حادثة اغتياله وغيرها من الوقائع والتى كانت قد كتبتها عقب عليها شقيقها «جمال البنا» بعنوان «ذكريات فوزية البنا بقلمها» والصادرة عن دار الفكر الإسلامى عام 2009.

«فوزية» كانت مطبوعة على الحياء وكانت تنفر أشد النفور من كل صور الاختلاط، وكانت نموذج المرأة «ربة البيت» وهو النموذج الذى تؤمن به وترتاح إليه، فلم تكن الأحداث السياسية لتعنيها ولكن.. هذه الأحداث فرضت نفسها عليها.. هكذا أعطى المفكر جمال البنا صورة عامة عن شقيقته فوزية الأخت الصغرى لحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وزوجة أحد الأقطاب الإخوانية الدكتور عبدالكريم منصور الذى رافق حسن البنا فى حادث الاغتيال، والتى حملت مذكراتها أبعاداً أخرى فى شخصية هذا الرجل الذى فر من مصر بعد تضييق الخناق على الإخوان إبان المواجهة مع الثورة والرئيس جمال عبدالناصر - ذاهباً إلى السعودية ومنها إلى السودان ثم عودته مرة أخرى إلى السعودية وتكونت له ثروة ضخمة ولم تنقطع صلته بالإخوان وكان يتبرع «لأحمد سيف الإسلام» عندما دخل الانتخابات بمبالغ سخية، والعديد من التفاصيل والأسرار حملها كتاب ذكريات فوزية البنا بقلمها وتعقيب جمال البنا والصادر عن دار الفكر الإسلامى.

الإخوان المسلمون كانوا جزءاً رئيسياً فى حياة فوزية البنا التى تروى ذكرياتها عن طفولتها وتقول «أذكر مرة اجتمعت جميع شعب الإخوان من البلاد وكانت إمكانيات الجمعية لا تسمح بالحجز فى الفنادق، فقرر إخوان القاهرة أن كل «أخ» يستضيف فى منزله عدداً من الضيوف بقدر إمكانياته إلى أن يتم توزيعهم جميعاً، ويبدو أن نصيبنا كان عددا أكبر لأننا كنا نعمل أكل كتير وأصناف متعددة.

وتضيف: كان الإخوان كل صباح يجتمعون فى أحد المنازل ويخرجون سوياً لنشر الدعوة وزيارة بعض الأماكن وأذكر مرة سمعنا أنهم سيذهبون إلى الهرم، فطلبنا من الشقيق عبدالباسط أن يأخذنا معهم أنا وجمال، وفعلاً أخذنا وكنا نسير فى المقدمة.. تحت العلم، وكان الشقيق عبدالباسط يقف أمام المقاهى والأماكن المزدحمة ويهتف بأعلى صوته «الله أكبر.. ولله الحمد.. جمعيات الإخوان المسلمين بالقطر المصرى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر» ويتكلم عن الدعوة وكان يرتدى ملابس الجوالة، أما طريقة المواصلات فكانوا يركبون المواصلات العادية فلم تكن عندهم سيارات خاصة فيذهبون إلى أول محطة الترام أو الأوتوبيس ويركبون عربة أو اثنتين حسب ما يتيسر لهم، وكان معنا كرة وعند الهرم أخذنا نلعب بها أنا والشقيق جمال، وكان الشيخ الباقورى جالساً وإذا بالكرة تضرب فى جبهته وتنزل فى حوض أبو الهول.

فوزية البنا عاشت مرحلة قبل الزواج محافظة دون أن ترتدى الحجاب والتحقت بدراسة التدبير المنزلى وتروى فى مذكراتها أنها لم تكن تغادر شقة الأسرة فى سفر إلا قليلاً المرة الأولى عندما سافرت هى وجمال البنا إلى بلد «شمشيرة» عندما حدثت الغارات الجوية على القاهرة فى أوائل الحرب العالمية الثانية، وتقول: قضينا قرابة أسبوع ولم نشعر براحة وعدنا ولكن تنقلات الشقيق عبد الباسط الذى التحق بخدمة البوليس فى مختلف بلاد الجمهورية أتاح لى فرصة السفر على الأقل مرتين الأولى فى فاقوس والثانية فى الإسكندرية.

وفى كل مرة حرصت «فوزية» على التقاط الصور التذكارية وتروى قصة اثنتين منها إحداهما وهى تركب «حصان الحكومة» فى فاقوس التى كان نقل إليها «عبد الباسط البنا» والأخرى فى الإسكندرية عندما نقل عبد الباسط إليها وعين مأموراً للرمل وكانت فوزية أحضرت معها ابنة أخيها الأكبر «حسن البنا» «وفاء» والتى يقول عنها عمها جمال البنا هى جدة الآن لأكثر من عشرة كلهم يحملون الجنسية السويسرية وكان يمكن أن تكون هى نفسها سويسرية لولا أنها آثرت الاحتفاظ بجنسيتها المصرية رغم إقامتها فى جنيف من أواخر خمسينيات القرن الماضى.

«فوزية» كانت هدفاً لكل الآملين فى الزواج من شباب الإخوان باعتبارها أخت المرشد وكان أحدهم هو عبد الكريم منصور الحاصل على ليسانس الحقوق من جامعة ليون ولم يكن ميسور الحال وقتها ورفضه شقيقها «محمد» لكن حسن البنا هو الذى أتم الزواج.

تروى «فوزية» فى مذكراتها تلك الواقعة بقولها فى يوم سمعت شقيقى جمال يقول لشقيقى محمد الحاج عبد الكريم كل يوم يكلمنى ويسأل عن الموضوع الذى كلمتك عليه، فيقول له محمد مش موافقين.. بلغ كده وأنا لا أدرى على أى شىء يتكلمان ولكن «جمال» أخبرنى أن رجلاً تقدم لخطبتى وتخيلت أنا الحاج هذا رجلاا عجوزا، ولكن جمال أخبرنى أنه شاب ولكنه رجعى فقلت له يعنى إيه رجعى؟ قال متمسك بالدين ومتشدد، فقلت له طب كويس ولكن عبد الكريم تمكن من الاتصال بالمرشد ونال موافقته المبدئية وتم الزواج.

وتقلب «فوزية البنا» فى أوراقها وتفتح خزانة ذكرياتها لتصل إلى أصعب مراحل حياتها والتى اسمتها أيام «الفزع والشقاء» وكتبت تقول: صدر قرار حل جماعة الإخوان المسلمين فى 8 ديسمبر 1948 وبدأت حملة الاعتقالات بالجملة، وأول المعتقلين من العائلة كان الشقيقين «جمال»، «عبد الرحمن» وبعدهما بحوالى اسبوعين أعتقل الشقيقان الآخران «محمد» و «عبد الباسط» وسحبوا السلاح المرخص من الإمام الشهيد وقطعوا التليفون عنا وانتشر المخبرون حول المنزل لاعتقال كل من يزوره، فاتصل المرشد «حسن البنا» بالمسئولين وقال لهم أنتم عاملنى مصيدة لتعتقلوا كل من يحاول زيارتى.. اعتقلونى أنا وفى أثناء هذه المدة كان زوجى يختفى ليكتب مذكرة ببطلان الحل.

ولما علم «عبد الكريم» بذلك وأن المرشد أصبح وحيداً ظهر ليكون بجانبه فقال له دعنى يا «عبد الكريم» والله معى واذهب أنت إلى أخيك فى الصعيد فرفض أن يتركه فطلبت من زوجى السفر لكنه رفض وقال لى سأبقى مع المرشد ولو أحد حاول الاعتداء عليه فسأدافع عنه، أما والدتى فكان تعليقها تعرفى يا فوزية هم سايبين أخوكى ليه علشان يقتلوه ويعتقلوا كل من يحضر للعزاء.

وتتذكر فوزية ليلة اغتيال شقيقها الأكبر «حسن البنا» وتقول فى هذه الليلة حضر إلى منزل الإمام الشهيد شخص لا يعرفه وقال له أنت على موعد مع زكى على باشا بعد المغرب لتسوية بعض الأمور فى جمعية الشبان المسلمين، وقال له عبد الكريم بلاش تروح دول لازم مدبرين شىء قال خليك أنت أما أنا لازم أروح وأشوف حل للناس المعتقلين فى السجون ويعنى حيعملوا فيا إيه ؟ يقتلونى الأعمار بيد الله. وتمت المقابلة وصلى العشاء وخرج حوالى الساعة الثامنة وكان عبد الكريم ينتظره وعندما وصلا إلى باب الشارع لاحظ عبد الكريم أن الشارع مظلم فقال له الدنيا ضلمه ليه مع إن الساعة لسه ثمانية فقال له يا راجل الشارع نور والدنيا نور.

لم يكن هناك إلا تاكسى واحد فلما رآهم السائق على باب الجمعية ينتظرون تاكسى تحرك فأشار إليه وعندما ركبا اتجه إلى التاكسى شخصان وأطلقا عليهما الرصاص، ونزل السائق تحت المقعد فقد كان متفقا معه على ذلك وبعد أن فر الجناة قام السائق وذهب بهما إلى الإسعاف، وفى الإسعاف طلبا أن يذهبا إلى مستشفى خاص فرفض الإسعاف وحولوهما إلى قصر العينى وكان الإمام الشهيد يقول للأطباء اسعفوا عبد الكريم أولاً أنا كويس وعبد الكريم يقول اسعفوا الأستاذ الأول ولكنهم نفذوا غرضهم وتركوا عبد الكريم.

جنازة «حسن البنا» تصورها فوزية أنها خرجت من المنزل وحولها العساكر والضباط مسلحين ولم يكن فيها رجال سوى والده ووالدته وزوجته وأولاده الصغار وشقيقتى وأنا، والنساء من عادتهن النواح والندب ولكننا كنا نصرخ بالدعاء وبعد الصلاة وضعوا النعش فى السيارة الكبيرة ورأينا العربات المصفحة واقفة على جانبى الطريق والعساكر بين كل عسكرى والآخر متران إلى أن وصلنا المقبرة بالإمام الشافعى ولم يتركوه الضباط ونزلوا معه إلى داخل المدفن وتركوا عدداً كبيراً من العساكر على باب المدفن لمراقبة من يذهب لزيارته واعتقاله وفى المساء لم يحضر للعزاء سوى مكرم باشا عبيد ويومها أحد الضباط قال لنا تعرفوا إن المصفحات هذه لم تخرج بعد الحرب العالمية الثانية إلا فى هذا الحادث.

تكمل فى الصباح التالى للجنازة حصلت على إذن بزيارة زوجى بعد معاناة وعند باب المحافظة وجدنا سيارة بوليس فى انتظارنا بها ضباط وعساكر ومخبرون وساروا بنا إلى قصر العينى فوجدت زوجى فى حالة سيئة جداً ويعانى من آلام شديدة وكانت إصابته كسرا فى المرفق فى يده اليمنى وزجاجة دخلت وخرجت دون عملية تحت السرة قرب المثانة فوضعوا يده فى الجبس بطريقة مؤلمة جداً وشدوها خلفه وعند خروجى من عنده مسك بيدى وقال هاتى لى دكتور بسرعة أحسن حيموتونى والمخبرين والعساكر اللى على الباب الأوضه بيخشوا بالليل يخوفونى.

وتستمر فى السرد قائلة: الضابط أخذ منى تصريح الزيارة وقال هى مرة واحدة فقط، وكنت عرفت أن اللذين قاما بإجراء العملية للمجنى عليهما هما الدكتور عبدالله الكاتب وأحمد الزنينى ففكرت بالذهاب إلى زكى على باشا وكان وزير دولة ليتوسط لى فى موضوع الزيارة، وذهبت إلى منزل زكى باشا وبعد ألف سؤال من العسكرى اللى على باب فيللته والاتصال بالداخل سمح لى بالمقابلة وشرحت له الموضوع، وكل ما رأيته فى قصر العينى وطلبت منه التوسط للسماح بالزيارة فسألنى تعرفى اسم الدكتور الذى قام بإجراء العملية فأجبته الدكتور أحمد الزنينى، وكان يعرفه، وأعطانى كارت توصية له، وسألت عن منزله وذهبت له فرحب وقال: أنت لسه صغيرة والناس بيقولوا إن قصر العينى هم اللى موتوا أخوكى فلا تصدقوا هذا الكلام، الدكتور يؤدى اليمين بأن يكون مخلصاً فى عمله ويراعى أرواح المرضى، وإن شاء الله بكره الساعة التاسعة انتظرى فى استعلامات قصر العينى وسأحضر وأتفاهم مع مجاب بك المدير ليسمح لك بالزيارة.

وتكمل فوزية البنا: بالفعل حضر فى الميعاد وصعدت معه، لكن لم أدخل معه وسمعته يقول للمدير بانفعال لابد لها من زيارته، ويكفى أن كل الناس بيقولوا إن حسن البنا كانت إصابته طفيفة وأن الدكاترة فى قصر العينى قتلوه وقطعوا له شريانا تسبب فى الوفاة، وبعد مناقشة طويلة سمح المدير بالزيارة لى يوما بعد يوم ولم يسمحوا بزيارة أمه أو إخوته وبعد حوالى شهر طلبت الخروج من قصر العينى، وإننا سنكمل العلاج عند الدكتور أحمد المنيسى فى عيادته.

وتنتقل «فوزية البنا» إلى مرحلة ما بعد سقوط حكومة إبراهيم عبدالهادى - بداية الإفراج التدريجى عن الإخوان، وكيف بدأ زوجها عبدالكريم منصور فى إعادة ترتيب أوراقه ومعاودة مزاولة المهنة ودعمه الإخوان المسلمون وكانوا يوكلون له قضاياهم باعتباره الرجل الذى امتزج دمه بدم حسن البنا.

وكتبت عن هذه الفترة تقول: فى يوم فوجئنا بسقوط حكومة إبراهيم عبدالهادى وتبدل الحال إلى أحسن وبدأ الإفراج عن المعتقلين بالتدريج، وانقطعت زيارة الضابط كل يوم خميس، وشعرنا ببعض الحرية، وكان لابد لزوجى أن يعمل وفكر فى المحاماة، ولكن أين المكتب؟ وأين المصاريف؟ وكانت لنا جارة لها قضية صغيرة وطلبت أن يحضر لها هذه الجلسة معه أول جلسة صدر الحكم لصالحها وأعطتنا جنيه أتعابا، وفرحنا به وكان هذا الجنيه يعادل مائة جنيه فى نظرنا، ولم تمض فترة طويلة حتى اشتهر اسم عبدالكريم منصور وحضر الإخوان من الصعيد ومن بحرى ليروا الرجل الذى امتزج دمه بدم الإمام الشهيد حسن البنا، وبعضهم عندهم قضايا وطالبوه بالدفاع فيها وقدم أتعابا لا بأس بها، مما شجعنا على فتح مكتب فى شارع الأزهر ومعه السكن، وعشنا هذه الفترة الأولى.. عيشة التقشف لأننا كنا نترك معظم الأتعاب للتأثيث ونعيش بالقليل وكنا سعداء وأصبح بالمكتب عدد من المحامين تحت التمرين وكان المكتب ناجحا جدا.

وفى سنة 1954 انقلبت الثورة على الإخوان وبدأت حملة اعتقالات كبيرة لأفراد الإخوان وانتشرت المخابرات فى كل مكان وطلب أحد المعتقلين وهو القاضى عبدالقادر عودة زوجى للدفاع عنه، وكان ينظر للأمور من زاوية بعيدة ويتوقع بعض الأشياء التى كانت تستحق، فاحتار بين أن يذهب للدفاع عنه أو لا يذهب، وأخيرا ذهب إلى والدى واستشاره فى الموضوع وشرح له تخوفه، فقال له توكل على الله، واذهب لمن استجار بك ولا تتخل عنه، وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، والله حافظك إن شاء الله، وكان المعتقل فى السجن الحربى فلما ذهب إليه ورآه بعض الضباط، قالوا له أنت لسه عايش على وش الدنيا، أنت حقك تكون مع عبدالقادر عودة دلوقتى، ولم يمكنوه من مقابلة الشخص الذى ذهب من أجله، فخاف وتسلل من السجن راجعا وقرر فى نفسه السفر خارج مصر، ولم يخبرنى بذلك وصادف أن كان فى هذه الأيام موسم الحج فقدم للحج وتمم كل الإجراءات دون أن يخبر أحدا بذلك، لا أنا ولا أحدا من أهلى.

وتكمل: وذهبت إلى والدتى وأخبرتها أننا سنسافر للحج فلم تصدق وقالت لى: أنت ما عندك ملابس الحج ولا حضرنا لكم شيئا فقلت لها: سألبس ملابسك، وكانت ملابسها التى حجت بها سوداء ونحن لا نهتم بالالتزام بالملابس البيضاء ونعلم أنها ليست ضرورية للحج، وسافرنا على الباخرة مصر وبعد أن أبحرت الباخرة وفتحت الشنط لآخذ بعض الملابس فوجئت بأنه وضع فيها ملابسه الإفرنجية البدل والقمصان والكرافتات ولما سألته عن ذلك، قال: ربما نحتاج إليها وصرح لى بأنه لن يعود وأنه أرسل لأخيه فى السودان أن يستخرج له ولى فيزا للدخول وأننا سنسافر إلى السودان، وحاولت إقناعه بالعودة إلى مصر ووسطت بعض الإخوان الموجودين معنا فى الحج، وحاول الجميع إقناعه ولكنه أصر على عزمه.

وذهب عبدالكريم منصور وزوجته فوزية البنا إلى السودان وعاشا هناك ثلاث سنوات كانت أيام شقاء واضطر إلى بيع الفاكهة بعدما صرف مبلغ التعويض الذى حكم به فى قضية اغتيال حسن البنا.

وتنتقل بعد ذلك فوزية البنا إلى أهم مراحل حياتها هى وزوجها عبدالكريم منصور وهى الانتقال للمملكة العربية السعودية والتى أمضوا فيها أربعين عامًا تكونت خلالها لهم ثروات ضخمة وبدأوا حياتهم هناك بالحصول على الجنسية السعودية والتى كانت أمرًا يسيرًا للإخوان فى هذه الفترة وكيف كان اسم أخيها حاضرًا هناك ويزيل أحيانًا بعض العقبات فى طريقها هى وزوجها.

ظلت «فوزية البنا» تحمل بداخلها حنقًا على الثورة وعلى الرئيس جمال عبدالناصر ويظهر ذلك جليًا فى أكثر من مقطع من مذكراتها فتجدها تتعامل أن اعتبار فلان مثلاً من أنصار عبدالناصر كأنه سُبة تنتقص من الشخص.

وتبدأ فوزية البنا بعد ذلك رحلتها مع المرض وتدخل فى غيبوبة لمدة سبعة أيام مكثت خلالها فى العناية المركزة .

وظلت نوبات المرض تلاحقها إلى أن فارقت الحياة فى أكتوبر 1997 وقد سبقها زوجها ولم يكن قد أنجبا، ويقول جمال البنا معقبًا على ثروة عبدالكريم منصور: عندما تيسرت أموره كان يشترى أراضى فاشترى فى السودان واشترى فى الفيوم وأشرف على بناء بيت الشقيقة فى المدينة المنورة التى تبرعت به لجمعية تحفيظ القرآن، وكان يكتب بعضها باسم أحد أفراد الأسرة دون أن يعلم الذى كتبت له كما حدث فى أرض السودان وكانت قطعة أرض فى جزيرة فى النيل تواجه فندق الهيلتون بالخرطوم فقد كانت لديه نية التبرع بها للأستاذ أحمد سيف الإسلام ابن الإمام الشهيد حسن البنا، ولكنه غير فكره وكتبها باسم فوزية دون أن تدرى فوزية أو سيف، وعندما تيسرت له الحال بعد ذلك كان يتبرع للأستاذ أحمد سيف الإسلام عندما دخل الانتخابات بمبالغ سخية.

روز اليوسف اليومية في

04/09/2010

 
 

الامام والجماعة (١-٢) :

حسن البنا.. حياة زاهرة ونهاية مأساوية

كتب   ماهر حسن

فى مدينة المحمودية التابعة لمحافظة البحيرة، ولد حسن عبدالرحمن البنا فى ١٧ أكتوبر ١٩٠٦، لوالد كان يعمل ساعاتى، نشأ فى عائلة متدينة، فحفظ نصف القرآن فى الصغر ثم أتمه فى الكبر. درس فى مدرسة الرشاد الدينية، ثم فى المدرسة الإعدادية، ثم فى مدرسة المعلمين الأولية فى (دمنهور) وأنهى دراسته فى دار العلوم عام ١٩٢٧.

تم تعيينه بعد ذلك معلما للغة العربية فى المدرسة الابتدائية الأميرية فى الإسماعيلية، وهناك بدأ رحلة تأسيسه لجماعة الإخوان، وبقى فى هذه الوظيفة إلى أن استقال منها عام ١٩٤٦، للتفرغ لجماعة الإخوان.

تأثر حسن البَنّا بعدد من الشيوخ والأساتذة، منهم والده الشيخ أحمد والشيخ محمد زهران– صاحب مجلة الإسعاد وصاحب مدرسة الرشاد التى التحق بها حسن البَنّا لفترة وجيزة بالمحمودية– وكذلك الشيخ طنطاوى جوهرى صاحب تفسير القرآن «الجواهر»، وترأس تحرير أول جريدة أصدرها الإخوان المسلمون سنة ١٩٣٣. عَمِلَ البَنّا بعد تخرجه فى دار العلوم سنة ١٩٢٧ مدرسًا بإحدى المدارس الابتدائية بمدينة الإسماعيلية،

وفى السنة التالية ١٩٢٨ أسس جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه قبل أن يؤسسها كان قد انخرط فى عدد من الجمعيات والجماعات الدينية فى بلدته المحمودية مثل «جمعية الأخلاق الأدبية»، و«جمعية منع المحرمات» فى المحمودية، و«الطريقة الحصافية» الصوفية، وقد أسس جماعة الإخوان فى مدينة الإسماعيلية أثناء عمله هناك مدرسا فى مارس ١٩٢٨، ونمت الجماعة وتطورت وانتشرت حتى أصبحت فى أواخر الأربعينيات أقوى قوة اجتماعية سياسية منظمة فى مصر، كما أصبحت لها فروع فى كثير من البلدان العربية والإسلامية.

عمل البنا مندوباً لمجلة الفتح التى يصدرها محب الدين الخطيب. ثم أنشأ مجلة (الإخوان المسلمون) اليومية، وكان يقوم بإعداد معظمها، ثم أسس مجلة النذير وعهد بتحريرها لصالح عشماوى، كما ترأس تحرير مجلة (المنار) بعد وفاة رئيس تحريرها الشيخ محمد رشيد رضا، واستأجر مجلات النضال والمباحث والتعارف وغيرها.

قاد البَنّا جماعة الإخوان المسلمين على مدى عقدين من الزمان من ١٩٢٨ إلى ١٩٤٩ وخاض بها العديد من المعارك السياسية مع الأحزاب الأخرى، خاصة حزب الوفد والحزب السعدى، ولكنه وجّه أغلب نشاط الجماعة إلى ميدان القضية الوطنية المصرية التى احتدمت بعد الحرب العالمية الثانية، وقام الإخوان بعقد المؤتمرات، وتسيير المظاهرات للمطالبة بحقوق البلاد، كما قاموا بسلسلة من الاغتيالات السياسية للضباط الإنجليز، وجنود الاحتلال، خاصة فى منطقة قناة السويس.

دعا البنا إلى رفض قرار تقسيم فلسطين الذى صدر عن الأمم المتحدة سنة ١٩٤٧، ووجه نداءً إلى المسلمين كافة- وإلى الإخوان خاصة- لأداء فريضة الجهاد على أرض فلسطين حتى يمكن الاحتفاظ بها عربية مسلمة، وقال: «إن الإخوان المسلمين سيبذلون أرواحهم وأموالهم فى سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلاميًّا عربيًّا حتى يرث الله الأرض ومن عليها».

واتخذت الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين قرارًا فى ٦ مايو سنة ١٩٤٨ ينص على إعلان الجهاد المقدس ضد اليهودية المعتدية، وأرسل البَنّا كتائب المجاهدين من الإخوان إلى فلسطين فى حرب سنة ١٩٤٨م، وكان ذلك من أسباب إقدام الحكومة المصرية آنذاك على حل جماعة الإخوان فى ديسمبر سنة ١٩٤٨، الأمر الذى أدى إلى وقوع الصدام بين الإخوان وحكومة النقراشى.

وفى مساء الأربعاء ٨ ديسمبر ١٩٤٨ أعلن رئيس الوزراء المصرى محمود فهمى النقراشى حل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها. وفى ١٢ فبراير ١٩٤٩ أطلق النار على حسن البنا أمام جمعية الشبان المسلمين، فنقل إلى مستشفى قصر العينى، حيث فارق الحياة.

ويقول الإخوان المسلمون إنه ترك ينزف دون علاج حتى الموت، ولا تُعرف لحسن البَنّا كتب أو مؤلفات خاصة سوى عدد من الرسائل مجموعة ومطبوعة عدة طبعات بعنوان «رسائل الإمام الشهيد حسن البنا»، وتعتبر مرجعًا أساسيًّا للتعرف على فكر ومنهج جماعة الإخوان بصفة عامة، وله مذكرات مطبوعة عدة طبعات أيضًا بعنوان «مذكرات الدعوة والداعية»، ولكنها لا تغطّى كل مراحل حياته وتتوقف عند سنة ١٩٤٢.

####

الإخوان والعنف .. محطة تاريخية فى مسيرة الإخوان يروى تفاصيلها أحد أعضاء التنظيم السرى

كتب   ماهر حسن

كان الدكتور عبدالعزيز كامل، عضو النظام الخاص «التنظيم السرى» بالإخوان المسلمين ووزير الأوقاف الأسبق، طبع مذكراته، وتضمنت المذكرات تفاصيل دقيقة حول مقتل القاضى الخازندار، وتفاصيل الخلاف بين عبدالرحمن السندى زعيم «التنظيم السرى» مع حسن البنا مرشد الجماعة الأول، خلال جلسة عاصفة، عقدت فى اليوم التالى لواقعة الاغتيال، وبدأ فيها البنا متوتراً للغاية حتى إنه صلى العشاء ثلاث ركعات، وأشار فيها كامل إلى عدم إيمان حسن البنا بمبدأ الشورى.

تحدث كامل عن وجود علاقات بين الجماعة الإسلامية التى كان يرأسها أبو الأعلى المودودى فى باكستان والإخوان، وأن المودودى سعى إلى ضرورة التنسيق بينه وبين الإخوان فى طرق العمل. كما تحدث عن «صدمة سيد قطب من ضحالة فكر قيادات الجماعة»، وكان الدكتور عبدالعزيز كامل قد أوصى بنشر مذكراته بعد أن ظلت حبيسة الأدراج أكثر من خمس عشرة سنة،

وقال إنه تعرف على فكر الإخوان عندما التقى بصديق له يدعى محمد عبدالحميد فى آداب القاهرة عام ١٩٣٦، وقرأ له تلخيصاً لدعوة الإخوان المسلمين على أحد دواليب الكلية، ثم تلقى منه دعوة للحضور بالمركز العام للإخوان المسلمين فى ١٣ شارع الناصرية بالسيدة زينب للاستماع إلى حديث حسن البنا الأسبوعى يوم الثلاثاء. يومها ركز البنا فى حديثه على الإيمان والعبادة ثم انتقل إلى فريضة الجهاد.

وانتقل كامل فى مذكراته إلى أحداث صباح يوم ٢٢ مارس ١٩٤٨ عندما تم اغتيال المستشار أحمد الخازندار أمام منزله فى حلوان، وهو متوجه إلى عمله، على أيدى شابين من الإخوان هما: محمود زينهم وحسن عبدالحافظ، وأرجع كامل الحادث إلى مواقف الخازندار المتعسفة فى قضايا سابقة أدان فيها بعض شباب الإخوان لاعتدائهم على جنود بريطانيين فى الإسكندرية بالأشغال الشاقة المؤبدة فى ٢٢ نوفمبر ١٩٤٧، وقد استدعى البنا للتحقيق فى مقتل الخازندار وتم الإفراج عنه لعدم كفاية الأدلة.

وسرد كامل ما دار فى الجلسة الخاصة التى عقدتها الجماعة برئاسة البنا وحضور أعضاء النظام الخاص حول مقتل الخازندار، حيث بدا المرشد متوتراً على حد قوله وعصبياً وبجواره عبدالرحمن السندى، رئيس النظام الخاص، الذى كان لا يقل توتراً وتحفزاً عن البنا.

وفى هذه الجلسة قال المرشد: إن كل ما صدر منى تعليقاً على أحكام الخازندار فى قضايا الإخوان هو «لو ربنا يخلصنا منه» أو «لو نخلص منه» أو «لو حد يخلصنا منه»، بما يعنى أن كلماتى لا تزيد على الأمنيات ولم تصل إلى حد الأمر، ولم أكلف أحداً بتنفيذ ذلك، ففهم عبدالرحمن السندى هذه الأمنية على أنها أمر واتخذ إجراءاته التنفيذية وفوجئت بالتنفيذ.

ورصدت المذكرات احتدام الخلاف بين البنا والسندى أمام قادة النظام الخاص، وهو ما ظهر حين قال كامل للبنا: أريد أن أسألك بعض الأسئلة وتكون الإجابة بنعم أو لا.. فأذن له البنا.. فسأله:

كامل: هل أصدرت أمراً صريحاً لعبدالرحمن السندى باغتيال الخازندار، وهل تحمل دمه على رأسك وتلقى به الله يوم القيامة؟ فأجاب البنا: لا. فقال كامل: إذن فضيلتكم لم تأمر ولا تحمل مسؤولية هذا العمل أمام الله؟ فأجاب البنا: نعم. فوجه كامل أسئلته إلى السندى بعد استئذان البنا سائلاً: ممن تلقيت الأمر بهذا؟ السندى: من الأستاذ حسن البنا. كامل: هل تحمل دم الخازندار على رأسك يوم القيامة؟ السندى: لا!! كامل: إذن من يتحمل مسؤولية الشباب الذين دفعتم بهم إلى مقتل الخازندار؟ السندى: عندما يقول الأستاذ إنه يتمنى الخلاص من الخازندار فرغبته فى الخلاص منه أمر. كامل: مثل هذه الأمور لا تؤخذ بالمفهوم أو بالرغبة.

وسأل المرشد: هل ستترك المسائل على ما هى عليه أم تحتاج منك صورة جديدة للقيادة وتحديد المسؤوليات؟ فرد البنا: بل لابد من تحديد المسؤوليات. واستقر الرأى على تكوين لجنة تضم كبار المسؤولين عن النظام الخاص، بحيث لا ينفرد السندى برأى أو تصرف، وأن تأخذ اللجنة توجيهاتها الواضحة من البنا نفسه، وفق ميزان دينى، وهو الدور الذى قام به الشيخ سيد سابق، وأوضح كامل أن سابق أصبح ميزاناً لكبح حركة الآلة العنيفة داخل الإخوان.

وأشار كامل إلى أن عام ١٩٤٨، ومطالع عام ١٩٤٩، كان أكثر الأعوام دموية عند الإخوان، ولهذا فتحت لهم المعتقلات وأعدت قوائم بالآلاف كانت تحت يد رجال الثورة حين أرادوا توجيه ضربتهم للإخوان سنة ١٩٥٤ وما بعدها.

وعرج كامل على فكر الإمام البنا مؤكداً أن البنا لم يؤمن بمبدأ الشورى، وأن الشورى عنده غير ملزمة للإمام، وإنما هى معلمه فقط، وقد كتب البنا هذا الرأى ودافع عنه ولم يتحول عنه، بل سرى هذا الفكر إلى من حوله فى أواخر الثلاثينيات، وهى السنوات الأولى لكامل فى الإخوان، حيث كان يسمع كثيراً كلمة «بالأمر» رغم أنها كلمة عسكرية، ولهذا لا يجد عضو الإخوان من يناقشه إذا كلفه رئيسه المباشر بأى أوامر بل ينبغى أن يكون هذا محل تسليم، وهى نقطة الخطورة التى أصابت جسم الإخوان بالخطر من وجهة نظر كامل، حيث أسس البنا النظام الخاص على السمع والطاعة والكتمان وهو ما سهل خروج النظام عن أهدافه.

وبالنسبة للنظام الخاص يقول الدكتور عبدالعزيز كامل: كان عبدالرحمن السندى المسؤول رقم «١» فيه، والترشيح لعضوية النظام يخضع لسلسلة من الاختبارات تتركز على قدرة المرشح على السمع والطاعة، فإذا اجتاز تلك الاختبارات تحددت له ليلة البيعة داخل شقة لأحد قادة التنظيم فى حى السيدة عائشة قرب جبل المقطم ويبيت عنده المرشحون يتعبدون طوال الليل ثم يؤمرون واحداً بعد الآخر بالدخول إلى غرفة مظلمة، لا يرى فيها أحد، ويجلس على الأرض بعد خطوات محددة، ويمد يده إلى حيث يوجد مصحف ومسدس وتمتد يد ممثل المرشد ليبايعه على السمع والطاعة والكتمان دون أن يرى وجهه.

ويذكر كامل تجربته حين دخل كى يبايع المرشد ولم يكن الصوت غريبا عليه فقال: ما هذا يا عشماوى وهل من الإسلام أن أضع يدى فى يد من لا أعرف؟ ثم إننى أعرفك من صوتك وأتحدث معك كل يوم ما هذه الأساليب التى أدخلتموها على عملنا ولا أساس لها من ديننا؟ فأجاب صالح عشماوى وكان عضوا فى مكتب الإرشاد ورئيس تحرير مجلة الإخوان: هذا نظامنا.

ورصد كامل صدام الإخوان مع ثورة يوليو بعد سعى الإخوان لإصدار مجلة جديدة بجانب مجلة «الدعوة» ومحاولة سيد قطب وحسن الهضيبى احتواء الأزمة، وصل فى هذا الوقت «ظفر الأنصارى» إلى القاهرة وهو أحد المقربين من «أبوالأعلى المودودى» أمير الجماعة الإسلامية فى شبه القارة الهندية، وأخبر كامل بأن لديه رسالة من المودودى إلى حسن الهضيبى مرشد الإخوان الأسبق، وبالفعل التقيا به، ودارت رسالة المودودى حول حتمية عدم صدام الإخوان بالثورة.

إلا أن موجة الاعتقالات بدأت مع مطلع عام ١٩٥٤ بالهضيبى وعبدالقادر عودة وعبدالحكيم عابدين وحسن عشماوى، ومنير دله، وصلاح شادى، بالإضافة إلى عبدالعزيز كامل الذى لفت انتباهه عدم وجود قادة النظام الخاص فى المعتقل معهم.

وأوضح كامل أن الاعتقالات الأولى فى ١٩٥٤ قسمت الإخوان إلى شريحتين، الأولى تعاونت مع الثورة والأخرى زج بها فى المعتقلات، وهى تمثل الأغلبية الصامتة من أعضاء الجماعة، بالإضافة إلى القيادة العامة للجماعة.

وأشار كامل إلى أن تجربة المعتقل مع الإخوان كانت قد كشفت لسيد قطب ضحالة فكر قيادات الإخوان وهو ما كان يسر له به حين يلتقيه فى السجن.

أما عن محطة حرب فلسطين عام ١٩٤٨ فقد كانت بداية النهاية لحياة حسن البنا فقد شهدت هذه الحرب صداما بين البنا ومحمود فهمى النقراشى ففى ١١ مايو ١٩٤٨ وافق البرلمان على دخول الجيش المصرى حرب فلسطين، وإعلان الأحكام العرفية ووافق النقراشى على هذا، وخاصة بعد سقوط حيفا فى أيدى اليهود فى ٢٣ أبريل ١٩٤٨، وعقد مؤتمر عسكرى فى الأردن وبعد ثلاثة أيام تحركت القوات العربية باتجاه فلسطين،

وفى ١٥ مايو احتلت القوات المصرية غزة وواصلت زحفها حتى بئر سبع والمجدل وتجاوز الجيش الأردنى القدس زاحفا إلى تل أبيب، ثم فوجئت القوات المصرية بانسحاب القوات الأردنية من اللد والرملة فاستولى عليهم اليهود وأصبح الجيش المصرى وحده فى المعركة، أما الإخوان فى هذه الحرب فكان لهم شأن آخر فقد شارك شباب التنظيم السرى فى حرب فلسطين كمتطوعين وهو الاتجاه الأصلى لدى النقراشى،

وقد أبلى أولئك المتطوعون بلاء حسنا واستشهد عدد منهم غير أن الإخوان فوجئوا باللواء فؤاد صادق، قائد القوات المصرية، يقوم باعتقال جميع متطوعى الإخوان، ووضعهم فى معسكر رفح، ثم قام بترحيلهم إلى المعتقلات فى مصر، وفى الثامن من ديسمبر ١٩٤٨ أصدر النقراشى باشا قراراً بحل جماعة الإخوان، ووفق ما ورد فى أكثر من مصدر فإن الجهاز السرى للجماعة أصدر فتوى بأن النقراشى عدو الإسلام وتعين إهدار دمه،

وفى الثامن والعشرين من ديسمبر ١٩٤٨ كان النقراشى باشا رئيس وزراء مصر ووزير الداخلية يخرج من سيارته متجهاً إلى المصعد فى وزارة الداخلية ليذهب إلى مكتبه فتقدم نحوه شاب اسمه عبدالحميد أحمد حسن يرتدى زى ضابط برتبة ملازم أول، ولم ينتبه الحرس لوجود هذا الضابط الدخيل بينهم الذى صوب مسدسه تجاه النقراشى وأطلق عليه الرصاص فسقط النقراشى صريعاً من فوره وقبض على القاتل، وتبين أنه من جماعة الإخوان،

وبعد وقوع الحادث بادر الإمام حسن البنا بإعداد بيان يبرئ ساحة الجماعة من هذه الجريمة تحت عنوان «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين» لينشره فى الأهرام ويستنكر الحادث، وعلى أثر اغتيال النقراشى جاء إبراهيم عبدالهادى باشا على رأس الوزارة وإليه نسب تدبير حادث اغتيال الإمام البنا. 

####

ليلة مصرع حسن البنا

كتب   ماهر حسن

بعد أن علم البنا بنية النقراشى حل الجماعة حاول مقابلة الملك، لكنه لم ينجح، فبعث إليه برسالة عن طريق مدير الأمن العام أحمد مرتضى المراغى، الذى حاول تدبير لقاء بين النقراشى والبنا، لكن البنا رفض ولاحقا قال النقراشى لـ«المراغى» هل تريد أن تقر الإرهاب وتعترف بشرعية الإخوان؟

وهل تسمح لهذه الجماعة بالتمادى؟ لماذا قابلته أصلا؟ ولما عدل البنا عن قراره وأراد لقاء النقراشى وذهب إليه رفض النقراشى مقابلته وبدأت حملة الاعتقالات، خاصة بعد الهزيمة فىحرب فلسطين، وصدر قرار بحل الجماعة نشر فى الصحف، وبدأ استهداف القيادات الإخوانية،

واستثمرت الحكومة أعمال الشغب التى وقعت فى نوفمبر ١٩٤٨، ولاحقت الإخوان وأسرع أعضاء الجماعة وأشقاء البنا عبدالرحمن وعبدالباسط ومحمد إلى دار المركز العام للجماعة فى الحلمية الجديدة فوجدوا البنا ومعه صفوة من قيادات الإخوان، ولم تمض سوى دقائق حتى داهمت السيارات المصفحة المكان واقتحمته،

وقال ضابط الحملة للبنا عندى أوامر بالقبض على كل الموجودين إلا أنت وأنا عبدالمأمور وأرجو تسهيل مهمتى، فحاول البنا الصعود إلى إحدى سيارات الشرطة، ولكن الجنود والضابط منعوه، وقالوا إنهم ليس لديهم أوامر باعتقاله فقال البنا لماذا تأخذون هؤلاء بجريرتى، إذا كان الإخوان عصابة إجرامية فأنا رئيسها وأنا الأولى بالاعتقال، وركب معهم وفى المحافظة رفضوا القبض عليه وأخلوا سبيله واستمرت حملة الاعتقالات وبقى حسن البنا طليقا ينتظره مصير مختلف،

ثم وقع اغتيال النقراشى فى ٢٨ ديسمبر ١٩٤٨ على يد الشاب الإخوانى عبدالمجيد أحمد حسن وكتب البنا بيانه الشهير «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين» ثم تم التخطيط لتصفية البنا جسديا ولم يعد له حارس سوى شقيقه ضابط الشرطة (عبدالباسط) وقد تم القبض عليه وبقى البنا وحيدا، فكتب إلى محافظ القاهرة فؤاد شيرين يقول إنه مهدد بالقتل وطلب توفير حراسة، على نفقته، كما تمت مصادرة السيارة الخاصة لسكرتير عام الجماعة، وقطعت خطوط التليفون عنه،

وتم تضييق الخناق عليه، وتعاظم نفوذ الحكمدار محمود عبدالمجيد المعروف بعنفه وندب معه اليوزباشى عبده أرمانيوس والبكباشى أمين حلمى والرائد حسين كامل والمخبر الأومباشى أحمد حسين جاد والمخبر حسين محمدين رضوان والجاويش محمد سعيد إسماعيل، وتكررت محاولات اغتيال البنا وتم منعه من السفر وصار مبنى الشبان المسلمين هو المكان الوحيد الذى يتردد عليه، وأحس البنا بأن الموت يتعقبه، وفى هذا المبنى كان يلتقى الهضيبى، الذى اختير مرشدا للجماعة.

وفتح البنا الباب للتفاهم مع رئيس الحكومة، لكنه لم يوفق وبعد تقديمه تعهدات بأن يرشد الحكومة لأماكن الأسلحة ومحطة الإذاعة الإخوانية السرية مقابل الإفراج عن المعتقلين من أفراد الجماعة وبوساطة من وزير الدولة محمد زكى على باشا الذى اتصل برئيس الوزراء إبراهيم عبدالهادى، الذى أراد إثبات حسن النية من قبل البنا بالإرشاد عن الأشخاص، الذين لديهم أسلحة وعن محطة الإذاعة،

ووافق رئيس الوزراء على لقاء البنا فى١٤ فبراير وعاد محمد الناغى إلى جمعية الشبان المسلمين ظهرا، وطلب من سكرتيرها محمد الليثى مقابلة البنا الذى استجاب بعد تردد وطلب من صهره عبدالكريم منصور أن يصحبه ولاحظ منصور وجود شخص على دراجة أمام البيت انطلق عندما لمحهما وآخرين يراقبونهما من داخل تاكسى واستقل البنا وصهره سيارة تاكسى ولاحظ منصور أن ثمة سيارة تتبعهما حتى باب جمعية الشبان المسلمين،

ووصل البنا وجلس مع محمد الناغى فى مكتبه بالدور الأول بالجمعية وعرض الناغى شروط رئيس الوزراء علىالشيخ البنا، الذى أبدى عجزه عن تحقيق المطلوب، وهو مكتوف الأيدى ومحاصر ومعظم قيادات الجماعة فى السجون فاتصل الناغى بزكى على باشا يبلغه شرط البنا بالإفراج عن الإخوان المعتقلين، للحصول منهم على المعلومات المطلوبة، فلم يجد الوزير فىالمنزل فصلى الليثى والبنا المغرب والعشاء وطال الانتظار وانصرف الناغى بعد فشله فى الوصول إلى الوزير واستعد البنا للانصراف على وعد باللقاء فى اليوم التالى للقيام بمحاولة جديدة.

وعلى الجانب الآخر كان يتم إعداد العدة لتصفية البنا، وفى مساء السبت ١٢ فبراير طلب العقيد محمود عبدالمجيد من سائق سيارته محمد محفوظ أن يتجه إلى شارع عبدالخالق ثروت، وأن ينتظر بسيارته عند نادى نقابة الصحفيين قرب جمعية الشبان المسلمين، ويجعل مقدمة السيارة فى اتجاه عبدالخالق ثروت، قال له إذا حضر اثنان يرتديان الملابس البلدية وركبا السيارة أحضرهما إلى فى فندق إيدن، وكان البنا داخل الجمعية وطلب صهر البنا من ساعى الجمعية إحضار تاكسى ونزلا وودعهما الليثى حتى الباب ودق جرس الهاتف فى مكتب الليثى، ولاحظ صهر البنا (منصور) أن شارع نازلى (رمسيس) هادئ جدا وأنواره خافتة فسأل البنا (الساعة كام؟) ورد البنا: الثامنة فقال منصور: مستحيل إحنا فى آخر الليل.

تركهما الليثى ودخل يرد على الهاتف، ولاحظ عبدالكريم منصور وجود ثلاثة رجال يقفون على ناصية الشارع من بينهم شرطى يعرفه فقد فتشهما فى محكمة الاستئناف من قبل، فى قضية حل جماعة الإخوان.

أصر البنا على أن يركب صهره التاكسى أولا ثم تبعه إلى داخله وأدار السائق على محمد نفادى محرك السيارة، وقبل أن يحدد البنا وجهته تقدم رجل يرتدى ملابس بلدية ويضع شالا حول عنقه «لثاما» لإخفاء شخصيته، وفتح الرجل باب السيارة من الناحية التى يجلس فيها البنا، وأخذ يطلق عليه النار، ونام المرشد فى أرضية السيارة،

وهو يخفى رأسه بيديه وفتح الرجل الباب مرة أخرى وأخذ يواصل إطلاق النار، وفى نفس الوقت جاء رجل يرتدى جلبابا أبيض وبالطو وتلفيعة من ناحية عبدالكريم منصور الذى حاول فتح باب السيارة فقاومه الرجل ليمنعه من الخروج وهشم المخبر زجاج السيارة،

وأسرع الليثى على صوت الطلقات فخرج تاركا الهاتف، فلما رأى ما يجرى صاح: إمسك إمسك فأطلق عليه أحد الرجلين الرصاص، فهرول إلى داخل الجمعية وارتفع صوت رجل آخر: «حلق حوش» ورأى الليثى شخصا آخر يلاحق الجانى فظنه يطارده، وكان السائق محمد محفوظ منتظرا بسيارته فى مكانه أمام نادى نقابة الصحفيين فجاء أحمد حسين جاد وشخص آخر يدعى مصطفى فاستقلا السيارة التى رآها الليثى تسرع بعيدا عن المنطقة،

وفى الوقت نفسه كان يجلس على المقهى المواجه للجمعية الجاويش محمد سعيد إسماعيل والأومباشى حسين محمدين رضوان بملابسهما الرسمية ليتسلما القاتلين إذا ما قبض عليهما الناس وعاد الليثى إلى الجمعية ليمسك بسماعة التليفون التى تركها مرفوعة ليجد المتحدث المقدم محمد الجزار فقال لقد أطلقوا النار علىالشيخ حسن.. فسأله الجزار: مات؟

وحين توقف الرصاص اندفع البنا خارج سيارته، وكأنه فى كامل عافيته، وأخذ يتعقب الجناة، فلم يلحق بهما فعاد إلى الجمعية وهو يصيح: قتلت قتلت.. هاتوا الإسعاف وحاول الوصول إلى الهاتف عبثا فعاد إلى التاكسى وقاد السائق السيارة إلى جمعية الإسعاف القريبة، وهناك قال البنا: «إلحقنى يا دكتور.. مفيش فايدة أنا ح أموت»

ورغم ذلك ظل متماسكا أمام الطبيب محمد طلعت الذى وجده فى حالة سيئة ثم استقل الليثى سيارة الإسعاف وفيها البنا إلى مستشفى قصر العينى وهناك لم يجدوا الطبيب المناوب فبحثوا عن الدكتور على السباعى فى بيته واستدعوه من على أحد مقاهى مصر الجديدة وكان الشيخ فى حالة معنوية قوية وطلب إنقاذ صهره أولا وتبين أن البنا أصيب بسبعة عيارات نارية وصهره أصيب باثنين فى تلك الأثناء وصل إلى مقر الجمعية رجل يسأل أين ذهب الشيخ فقالوا له فى قصر العينى فذهب إلى هناك على الفور،

وحاول دخول الغرفة فمنعه الأطباء وأبلغه الليثى برقم السيارة التى هرب فيها الجناة فنظر له الرجل بسخرية، تركه دون أن يرد عليه ولم يكن هذا الضابط سوى المقدم محمد وصفى قائد حرس الوزارات أحد أركان المؤامرة، وتوفى البنا فى مستشفى قصر العينى.

المصري اليوم في

12/09/2010

 
 

الإمام و الجماعة (٢-٢)

تباينت الآراء والروايات حول السبب الحقيقى وراء مقتل حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٤٩، ولكن معظم ما ورد عن هذا الحادث فى مذكرات السياسيين وأعضاء الجماعة يؤكد أن النظام الخاص أو التنظيم السرى للجماعة، كان سببا رئيسياً فى حادث مقتل البنا، والدافع الأول الذى جعل من يقفون وراء حادث الاغتيال، يفكرون فى تصفيته.

بداية اختلفت روايات قيادات ومؤسسى الجماعة، على العام الذى تم فيه تأسيس التنظيم السرى، فيما قال الشيخ عمر التلمسانى إنه تأسس عام ١٩٣٦، قال صلاح شادى، أحد أعضاء التنظيم، إنه أنشئ عام ١٩٤٠ بهدف المشاركة فى حرب «فلسطين»، ونظراً للدور الخطير الذى لعبه هذا التنظيم، يجب وضعه فى خلفية المشهد عند سرد أحداث مقتل مؤسس الجماعة. 

التحقيق فى مقتل «البنا»..

وسر سيارة الاغتيال الذى كشف الجناة

كتب   إسلام عبدالوهاب

«٩٩٧٩ ملاكى القاهرة»، قالها شاب أسمر يرتدى جلبابا وطربوشاً لـ(محمد الليثى) رئيس قسم الشباب فى جمعية الشبان المسلمين، ورد الليثى (تعال اشهد معانا) فقال الشاب: «ماليش دعوة، أنا باقولك الرقم، عاوز تاخده خده، مش عايز أنت حر». كتب «الليثى» الرقم على علبة سجائر ملقاة على الأرض، فبعد أن شاهد بنفسه الجناة يهربون فى السيارة الليموزين السوداء الكبيرة وفشل فى التقاط أرقامها يشاء القدر أن تأتى الأرقام إليه بسهولة ليتحمل وحده صعوبة وعناء أخطر شهادة حادثة اغتيال فى القرن العشرين وهى اغتيال المرشد العام ومؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا.

وجاء فى كتاب «ليلة مقتل البنا» لمحسن محمد نص التحقيقات والكواليس فى حادثة اغتيال البنا ونذكر من فصل تحت اسم «زيف» ما ورد بالتحقيقات من زيف وتضليل للعدالة.

«كان يمكن أن تقتل أيضا».. قالها الرائد محمد الجزار، ضابط مباحث أمن الدولة، لـ«محمد الليثى» ناصحا إياه بألا يذكر رقم السيارة ولا يزج بنفسه فى الشهادة وأكمل الجزار قائلاً «ماذا تنتظر.. انصرف سالما» ورد الليثى «لقد أبلغت النيابة إنى أعرف رقم السيارة» قال الجزار «لا تهتم بالإجراءات.. انصرف ولن يستدعيك أحد ولن يحقق معك أحد.. وأضمن لك ذلك» سكت «الجزار» برهة ثم أضاف «لقد توفى الشيخ البنا.. ولم يبق إلا شاهد واحد.. أنت!» ثم تعالت لهجة التهديد فى نبرة حديثه وأكمل «للشيخ أكثر من خصم، هم قادرون على الثأر ممن يعينون على ضبط الجناة فى الحادث وإنى مشفق عليك من الاعتقال لأن لك صلة بالبنا. إنه رجل كان يهدد أمن الدولة والحكومة والملك والمواطنين.. لقد انتهى أمر جماعة الإخوان المسلمين بقطع رأس الثعبان.. اذكر رقما آخر للسيارة يختلف عن الرقم الحقيقى» وبعد سلسلة من المفاوضات انتهى الاتفاق بين الجزار والليثى.

«٩٩٧٩ أو ٩٩٩٧» قالها الليثى فى غرفة التحقيق المقامة فى جمعية الشبان المسلمين وبالتحديد فى نفس الغرفة التى كان يجلس فيها الشيخ «البنا» قبل اغتياله بلحظات، واعترض المقدم محمد وصفى، المفتش بالقسم السياسى، رئيس حرس الوزارات الذى جاء ليكون رقيبا على الشاهد عند الإدلاء بمعلوماته وقال «أخبرنى الليثى فى المستشفى بأن الرقم هو ٩٩٩٧»، أثار وصفى بتأكيده للرقم الزائف حنق الليثى وغضبه، ولم يجد كفارة عن ما فعله سوى كشف الحقيقة كاملة وتأكيد الرقم الصحيح «٩٩٧٩».

لم يفت الصحافة أن تلعب دورها الدائم فى البحث عن الحقيقة فقد استطاع مندوب جريدة «المصرى» محيى الدين فكرى أن يخترق السياج الأمنى ويدلف إلى الجمعية ويحصل على رقم السيارة قبل طرده من قبل رجال الشرطة، وتحرك فكرى فى سرعة إلى مقر الجريدة ليلتقى بمرسى الشافعى، مدير التحرير، ويكتب وصفا للحادث فيه رقم السيارة وصورة حسن البنا، ويوافق الرقيب محمود يوسف على النشر لأنه لم يتلق تعليمات بحظر النشر.

وصدرت «المصرى» تحمل فى صفحتها الأولى رقم السيارة ٩٩٧٩ التى فر بها الجناة، ولكن مدير الرقابة توفيق صليب فزع من الصورة ورقم السيارة واتصل بالرقيب العام عبدالرحمن عمار يسأله وأصدر الأخير أمرا بمصادرة الجريدة فى نفس الليلة، ويتم اقتحام المطبعة وتوقيف الجريدة وتم مصادرة الأعداد المطبوعة التى لم توزع بعد، وصدرت الجريدة بعد خلوها من الصورة والرقم، وأحيل الشافعى وفكرى إلى نيابة الصحافة والتحقيق معهما، لكن خمسة آلاف نسخة تقريبا تسربت بالرقم والصورة وبيعت فوراً ليضاف إلى الأدلة.

«معى ٥٠٠ جنيه خدها.. وستحصل على مثلها، بعد أن تدلى بأقوالك الجديدة فى تحقيقات النيابة» قالها الجزار لليثى فى لقاء جديد جمع بينهما فى محل نيوبار بشارع سليمان باشا، ولم يكتف الجزار بإغراء الليثى بالأموال فقط بل أغراه بالخمر أيضا وحتى النساء فقد كانت هناك سيدة تجلس فى نفس المكان تتابعهم عن كثب وتبتسم لهم فى إيحاءات ذات مغزى، وعندما وجد «الجزار» أن إغراءات المادة لا تنفع معه عاد للتهديد وقال له «إن الذين قتلوا البنا لن يتركوك تضرهم وترشد عنهم وصحيفة المصرى التى نشرت رقم السيارة صودرت»، طلب الليثى مهلة للتفكير واتفقا على موعد لكن الليثى لم يذهب مرة أخرى لملاقاة الجزار.

«يا بيه الشيخ البنا اغتيل.. وعندى ٨ أطفال».. قالها السائق محمد محفوظ، للعقيد محمود عبدالمجيد، فور قراءته رقم سيارته فى الجريدة ورد العقيد بهدوء «بس. لما يبقوا يتيتموا يبقى يحلها ربنا.. اخرس يا أهبل.. أنت لك مكافأة وأنا حاشيلها لك». بكى «محفوظ» وقال «انتم اللى عملتم الحادث وأنا لا كان لى فى الطور ولا فى الطحين» فصرخ فيه العقيد عبدالمجيد قائلاً «اقفل بقك.. ولا تذكر أن أحداً ركب معك».

وفى النيابة قال محمد محفوظ «كنت داخل السيارة أمام فندق الإيدن» وقال: إن العقيد كان بالفندق ومعه عدد من أعيان جرجا وبعض ضباط شرطة جرجا، وعندما سأل المحقق العقيد محمود عبدالمجيد نفى علاقته بالجريمة وقال إنه سمع عنها فى اليوم التالى وأكد أن سيارته كانت أمام فندق إيدن من الغروب إلى التاسعة مساء أى إلى ما بعد وقوع الجريمة بأكثر من ساعة وشهد ثلاثة من ضباط الشرطة ونائب العمدة أنهم كانوا مع عبدالمجيد وأن السيارة كانت تقف تحت أنظارهم بعيدة عن مكان الجريمة، وبرر عبدالمجيد ذكر رقم سيارته أن الليثى عرف رقم سيارته عندما زار الجمعية من شهر وأن المقصود بهذا الاتهام إلقاء الشبهة على الحكومة فى أنها قتلت الشيخ.

«موقفك مشرف ولابد أن تستمر».. قالها فؤاد سراج الدين باشا، سكرتير عام حزب الوفد، لـ«محمد الليثى» وطلب الأخير منه أن يقف الوفد بجواره لأنه وحده، ووعده الباشا خيراً، وقابل الليثى عمر عمر نقيب المحامين الوفدى فوعده خيراً أيضاً.

وأما محمد الجزار، وكبار الشرطة فأحاطوا الليثى بالشبهات وقالوا فى تحقيقات النيابة وأمام القضاء إنه كان يعمل مرشدا عند «الجزار» ويتقاضى عشرة جنيهات شهريا قبل الجريمة بعام، وقال صالح حرب باشا، رئيس جمعية الشبان المسلمين، مدافعاً عن «الليثى» أمام المحكمة: «أدى الليثى واجبه فوق ما يطيق» ونفى عنه تهمة الإرشاد لصالح الشرطة.

وتذكر «الليثى» الشاب الأسمر الذى منحه الرقم ولم يرض أن يمثل للشهادة فقد كان محقاً ولو شهد لكان من السهل أن ينفى أمام المحقق أنه رأى رقم السيارة أو يغير هذا الرقم.

####

صحافة الإخوان قديماً..

أنشأها البنا لتكون منبراً للدعوة والسياسة معا

كتب   إسلام عبدالوهاب

«إنما المؤمنون إخوة» شعار رفعته جريدة «الإخوان المسلمون» فى أعلى صفحتها الأولى، بعددها الأول فى ٢٢صفر لعام ١٣٥٢هـ الموافق ١٥ يونيو١٩٣٣م وهى جريدة أسبوعية إسلامية جامعة. تمثل لسان حال الجماعة وتخدم كل هيئة تعمل لرفعة الإسلام وإعادة مجده، ورأس تحريرها الشيخ طنطاوى جوهرى، ورأس مجلس إدارتها الشيخ محب الدين الخطيب، وأدار القسم الدينى المرشد العام للجماعة الشيخ حسن البنا بنفسه.

٥ مليمات هو ثمن الجريدة و٣٠ قرشاً قيمة الاشتراك السنوى داخل مصر وخارجها تباع بـ ٥٠ قرشا، وبدأ توزيع الجريدة بشكل محدود فى القاهرة، وبدءاً من العدد السابع زادت منافذ توزيعها إلى ٢٦ منفذاً، كان ثلثها فى القاهرة، والثلث الآخر فى الدلتا والسواحل. وثلث فى الصعيد وخارج مصر.

تصدرت غلاف الجريدة على نحو ثابت صورة للحرمين المكى والنبوى معاً. وكان عدد صفحاتها من ٢٤ إلى ٢٨ صفحة. يتضمن كل عدد «فهرست» فى الصفحة الثانية بديلاً للمانشيتات.

احتلت البسملة صدر الصفحة الأولى، وأسفلها مباشرة القسم الدينى الذى يقدمه الشيخ حسن البنا، مهتما بالدعوة إلى الله حيناً، وحيناً آخر يتناول قضية دينية وربما درساً دينياً أو فقهياً أو تفسيراً لأى من القرآن الكريم. وتليه مقالات لكتّاب من مؤسسى الجماعة مثل الشيخ مصطفى جوهرى العالم الفيلسوف صاحب «الجواهر فى تفسير القرآن الكريم». والشيخ عبدالرحمن أفندى الساعاتى نائب الإخوان بالقاهرة ووالد المرشد العام حسن البنا، وكتب فيها بأسماء مستعارة ومختلفة منها أحمد البنا وأحمد عبدالرحمن، كما كتب فيها محمد أحمد جاد المولى بك. وأحمد حسن الباقورى، وإبراهيم عبدالباقى، ومحمد أسعد راجح، ومحمد زهران، ومصطفى الطير وغيرهم الكثير.

أهم ملامح تبويب الجريدة أنها تضمنت موضوعات وقضايا تاريخية تعنى بسرد الأعلام المشهورة من الصحابة، وكان يكتبها أحمد عبدالرحمن البنا، كما تضمنت أبوابا أدبية تقدم القصص والقصائد، وكان هناك أيضا باب «السُّنة» ويختص بالأحاديث، وباب بعنوان «من الصحائف المجيدة» وهو عن شؤون التوحيد والعقيدة، ولم تنس الجريدة تخصيص باب لعرض مبادئ الإخوان المسلمين، وكان هناك «المأثورات» فضلا عن باب «بريد القراء».

وهناك أيضا باب بعنوان «ديوان الجريدة» خُصّص لنشر قصائد ذات روح أخلاقية وإسلامية فى كل عدد.

وجاءت الإعلانات المنشورة مقتصرة فى معظمها على الدعاية للصحيفة، منها ما يقول «شجعوا جريدة الإخوان المسلمون بإيصالها إلى كل بيت»، وكان هناك إعلان آخر «حافظ على اقتناء هذه المجلة أسبوعيا وبذلك يكون عندك فى نهاية العام الهجرى قاموس إسلامى ترجع إليه عند الحاجة»، وكان هناك إعلان مختلف قليلاً وهو كالتالى »جميل بثينة.. للأستاذ عبدالرحمن الساعاتى.. الرواية الشعرية التمثيلية المحبوبة».

تبنت الجريدة معارك فكرية عديدة، منها معركة البنا مع القمص سرجيوس صاحب مجلة المنارة المرقسية وخطيب ثورة ١٩١٩، الذى خطب فى الأزهر لمدة ثلاثة شهور كاملة ليلاً ونهاراً مرتقياً المنبر وكذا فوق منبر جامع ابن طولون وهو من القادة الوطنيين المشهود لهم بالشجاعة والوطنية، حيث كتب البنا فى العدد الثانى للسنة الثانية بتاريخ ٢٦ محرم لعام ١٣٥٣هـ عنوانا يقول: «بالتى هى أحسن.. إلى القمص سرجيوس» للرد على القمص الذى كتب مقالاً فى مجلته تحت عنوان «هل تنبأت التوراة والإنجيل عن محمد» ويذكر البنا فى مقدمة مقالته «اطلعت على هذا العدد فأدهشنى ما رأيت فيه، من تشويهٍ للحقائق، وافتراءٍ على الأبرياء، وجرأة على تحريف الأقوال ومسخ الآراء»، وذكر البنا فى مقاله جزءاً صغيراً من مقال سرجيوس واعتبره ركيزة المقال.

فسرجيوس كتب فى مقاله «وبما أن إخواننا المسلمين نعزهم كل الإعزاز وقد اتجهوا بعقولهم إلى خزانة الأسفار المقدسة السماوية يتجولون بين صحائفها منقبين باحثين، فنرى أن أقدس واجبات الضيافة أن نرافقهم فى جولاتهم ونقدم لهم كل ما يسهل لهم مهمتهم ونمسك أمامهم مصابيح كل ما نملك من مصابيح تنير أمامهم الطريق ليبحثوا وينقبوا ويمحصوا ما يعثرون عليه من دلائل تدل على نبوة محمد فى التوراة والإنجيل» ورغم اعتماد سرجيوس على علماء المسلمين أمثال «جلال الدين السيوطى، الفخر الرازى، الإمام البيضاوى، الجلالين، الطبرى، العدوى، الهندى وغيرهم الكثير»، بالإضافة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية فى كتاباته، لكن ما أثار حنق البنا هو تهكم وسخرية سرجيوس الدائمة والتى كان يعانى منها الأقباط أنفسهم من رجال الدين واعتبرها البنا على حد تعبيره «لا تجيزه أدب المناظرة، ولا ترضى بها عفة النقاش».

وتوقفت الجريدة عن الصدور ثم عادت بعد أربع سنوات من إغلاقها فى ٢٩ أغسطس ١٩٤٢م ولكنها ظهرت فى شكل المجلة بدلا من الصحيفة. وتحمل نفس العنوان «الإخوان المسلمون» مع فروق بسيطة وأسماء جديدة. كما زاد سعر المجلة عن الجريدة فثمن النسخة قفز إلى ٢٠ مليما وأما الاشتراكات فكانت ١٠٠ قرشا فى السنة داخل مصر و١٢٠ قرشا خارجها، واختفى الفهرس وتوقف عدد صفحاتها عند ٢٤ صفحة. واختلفت هيئة التحرير فى المجلة ليرأس تحريرها وإدارتها صالح عشماوى، أما الغلاف فيعلوه اسم المجلة «الإخوان المسلمون» ومن العدد ١٠٦ الموافق ١٥ يونيو لعام ١٩٤٦، تم وضع شعار الإخوان كخلفية للاسم وهو الشعار المعمول به إلى الآن: السيفان وبينهما القرآن الكريم وأسفلهما «وأعدوا».

أبرز تبويب المجلة وكتابها فهو «حديث الأسبوع والذى كان يقدمه صالح عشماوى، خواطر حرة يقدمها العالم محمد الغزالى، صفحتنا الفقهية يقدمها الفقيه سيد سابق. فى صميم الدعوة يقدمها عبدالعزيز كامل. أمراض المجتمع يقدمه أنور الجندى البنا، العالم الإسلامى فى أسبوع يقدمه عبدالعزيز عزت الخياط، ومن صحائف المجد يقدمه صابر عبده إبراهيم، نحو الإصلاح التشريعى فى مصر يقدمه فتحى عبدالصبور، (قصة الأبد.. إبراهيم الحائر) يرويها ابن جلا».

وبحكم المجلة فقد كانت المجلة لديها صفحتان فى منتصف المجلة ذاتا لونين وكان يقدم فيهما موضوعات مصورة قصيرة «فيتشر» عن مدن إسلامية وتقدم معلومات كاملة عن المدينة وتعدادها وإسلامها، وقدمها أكثر من شخص كان آخرهم قطب.

وبرز فى المجلة فكرة العمود الصحفى ومن أبرز كتاب الأعمدة حسن البنا والذى كان يوقع أسفل مقاله بالفقير إليه تعالى.. حسن البنا، على الشريف. محمد الهادى عطية. حسن الأهوانى. أحمد مهدى الظواهرى وغيرهم.

كما احتوى الغلاف الأخير للمجلة على صور يصاحبها تعليقات قصيرة «فيتشرات» منها «الشيخوخة المشردة» فى العدد ١٠٢ ونجد بها صورة لثلاثة عجائز أحدهم ينام على الرصيف أمام مسجد والآخر يدخن الشيشة والثالث ساقى ماء «سقا»، وموضوعا آخر عن الأضرحة بعنوان «الأعداء الثلاثة فى ساحة أبى السعود» ويقصد بالأعداء الثلاثة الفقر والجهل والمرض، وقد صور الأول فى صورة طلائع للنساء أتين للزيارة والبركة، والثانى فى صورة رجل يضرب الودع، والثالث فى صورة عربة طعام يقف عليه شخصان فقط علقوا عليها بتعبير «مطعم معرض للهواء والغبار»، كما كان هناك موضوع عن «تلويث سمعة مصر» هاجم فيه الإخوان الأجانب الذين يسيئون لسمعة مصر عن طريق تصويرهم الفقراء والفلاحين ونشرها بالخارج، وأما الصور المسيئة فهى عبارة عن فلاحة تحمل جرة ورجل أشعث فى الصحراء ورجل فقير فى السوق وخلفه لا يتعدى الناس الأربعة رجال وتعليق الصورة أنه شارع مزدحم غير صحى!.

وبالطبع كانت هناك معارك فكرية تبنتها المجلة وهذه المرة الطرفان المتنازعان أقباط والمتنازع عليه الإسلام! فقد خرج العدد ١٠٣ بتاريخ ٢٥ مايو لسنة ١٩٤٦بمقالة بعنوان «الأستاذ سلامة موسى» المفكر القبطى الكبير أحد رواد الاشتراكية المصرية ومن أول المروّجين لأفكارها، وبدأت المعركة حينما كتب موسى مقالين فى جريدة مصر حول فكرة حرمان الأقباط من المدارس الإلزامية، وانتقد الزفة التى يقوم بها المسلمون لكل من تحول عن دينه فى الشوارع، ولم ترد مجلة الإخوان أو هكذا بدا للجميع، بل واعتذرت المجلة لقرائها من الذين أرسلوا إليها ردوداً على مقال موسى وذلك للتفويت على الأخير على حد تعبيرهم ما يهدف إليه من إثارة فتن طائفية ونبهوا أنهم سينشرون مقالاً واحداً فقط نسبوه إلى مواطن مسيحى يدعى توفيق غالى تاجر وقومسونجى ومورد مدارس يرد فيه قائلا «يهمنى كرجل مسيحى عاش بين المسيحيين أن أرد على هذين المقالين فى جو هادئ» ثم يستطرد قائلا «هذا المقال لا يقصد به خدمة الطائفة القبطية مطلقا بل إنه يخدم به الاستعمار.. نرى الكثيرين يعتنقون الدين الإسلامى ولكننا لم نر شخصا له كرامة اعتنق الدين الإسلامى ونرضى بأن يزفه الناس» ولم يكن المدعو توفيق يتوقف عند حد الاعتراف أن الكثيرين من أبناء دينه تحولوا إلى الدين الآخر بل اعترف أيضا بأن جماعة الأخوان المسلمين أشرف الجماعات مقصدا وأنبلهم خلقا، بل وزايد فى رسالته على موسى قائلا: «باسم إخوانى المسيحيين أن تغذينا بعلمك الغزير وأن توجه جهودك للناحية الثقافية فهذا خير وأجدى». 

####

الإمام «الشهيد».. وساعات ما بعد الاغتيال

كتب   ميلاد حنا زكى

فى تمام التاسعة مساء ١٢ فبراير ١٩٤٩م، اتصل الملك فاروق بالدكتور يوسف رشاد طبيبه الخاص، وقال له بلهجة مفرحة «حسن ضُرب بالرصاص وحالته خطرة، ولكنه لم يمت بعد»، وقال محمد حسن السليمانى، الأمين الخاص للملك فى كتاب «مقتل البنا» للكاتب محسن محمد، إن الملك فاروق تأثر جداً عندما قتل النقراشى، وعندما قتل البنا لم يظهر عليه أى تأثير. وبعدها علم الجميع أنه لفظ أنفاسه الأخيرة، وقال الإخوان إن الملك فاروق توجه إلى قصر العينى ليرى بنفسه حسن البنا قتيلاً.

ورأى عبدالرحمن عمار، وكيل وزارة الداخلية، أن تشييع الجنازة كان مباشرة من مشرحة قصر العينى خشية أن ينتهز الإخوان المسلمين الفرصة ويتجمعوا لإحداث خلل بالأمن العام، ولكن عندما علم بذلك والده الشيخ أحمد البنا، من أحد الضباط فى الواحدة بعد منتصف الليل، توجه إلى مكتب اللواء أحمد طلعت، وطالب بإلحاح بأن تشيع الجنازة من منزله، ووافق الحكمدار بشرط أن تشيع الجنازة فى هدوء بلا مظاهرات أو هتافات، وأكد ذلك الدكتور محمد حسين هيكل، رئيس مجلس الشيوخ فى مذكراته.

ووصفت صحيفة «الكتلة»، الناطقة باسم حزب الكتلة الذى يرأسه مكرم عبيد باشا جنازة حسن البنا فقالت «نقل جثمان حسن البنا إلى بيته فى سيارة، وتحرسه سيارة أخرى، مملؤة بفريق من رجال البوليس المسلحين». وقبيل الفجر تتابعت على باب المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ الوالد، الذى جاوز التسعين من عمره، وأدخلوا الجثة متسللين فلم يشهدها أحد من الجيران، وظل حصار شوارع الحلمية بمدينة القاهرة وتُشدد الحراسة حول البيت المتواضع فى منتصف الشارع، ولا يسمحون لإنسان بالاقتراب،

 وقام الأب نفسه بإعداد جثة ولده، ومسح الشيخ دماء ابنه من أثر الرصاصات التى سكنت جسده وجهزه للدفن، فإن أحداً من الرجال المختصين بذلك لم يسمح له بالدخول، ثم وضعت الجثة حيث وضعت فى النعش، وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير، ورفض رجال البوليس أن يحضروا رجالاً لكى يحملوا النعش. ولم يكن موجود بالبيت إلا زوجته وبناته وابنه الصبى الصغير، ورفض رجال البوليس حمل النعش ولم يحمل النعش إلا نساء أهل البيت، وسارت الجنازة مسلحة وخلفه فقط والده، دون أحد وراءها غيره بجانب رجال البوليس أنفسهم وشاهد الجنازة الناس بعيون مختبئة من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق من الحزن والألم، وعندما وصل الموكب الحزين إلى جامع قيسون للصلاة على جثمان الفقيد كان المسجد خالياً من الناس حتى من الخدم طبقاً لأوامر رجال البوليس، وعندما شاهد ذلك والده الشيخ أحمد البنا انهمرت دموعه أمام النعش فترة طويلة وصلى ومعه النساء الثلاث، اللائى حملن النعش وبعد انتهاء الصلاة حملن النعش على أكتافهن مرة أخرى ومضى النعش إلى مدافن الإمام الشافعى،

وعاد الجمع القليل إلى البيت الذى حرم أيضا أفراد الأسرة من إقامة العزاء فيه وتلاوة القرآن وكل ما حضر أحد من المعزين منعه الجنود من الدخول وإذا اعترض أو وصل للعزاء تعتقله على الفور عدا مكرم عبيد باشا، الذى دخل البيت وأزجى كلمات العزاء ولم يتمكن رجال البوليس من منعه. ورثاه فيما بعد الحاج أمين الحسينى فقال «كان رحمه الله يتوقّد غيرة، وحميّة، وحماسة ضد الاستعمار المعتدى على مصر، وسواها من أقطار المسلمين والعرب، وكان يعمل ما بوسعه لتحرير وادى النيل، والبلاد العربيّة، والوطن الإسلامى بكل أجزائه، من كل استعمار أجنبى» .

ونشرت الصحف المصرية، حادث اغتيال الشيخ حسن البنا بالعناوين الكبيرة فى الصفحات الأولى، فقالت صحيفتا «الأهرام» المستقلة و«الأساس» الناطقة باسم الحزب السعدى الحاكم «إن الإخوان المسلمين هم الذين قتلوا حسن البنا، لأنه كان ينوى إبلاغ الحكومة عن مكان الأسلحة ومحطة الإذاعة السرية».

ونشرت صحيفة «التايمز» فى لندن النبأ فى طبعتها الأخيرة موضحة أيضا أن خطابات البنا الأخيرة وإفشاء أسرار الجماعة هى السبب فى قتله. وأبدت صحيفة «اللواء الجديدة» صحيفة الحزب الوطنى أسفها للحادث، وقالت «إن الشيخ البنا كان يود قبل اغتياله أن يعتكف استجماما من عناء ما كابده فى الأيام الأخيرة»، وقالت مجلة الحوادث الوفدية «من كل هذا يبرأ الوطن» فيما قال الأمير المغربى وقتئذ عبد الكريم الخطابى عندما سمع النبأ «ويح مصر وإخوتى أهل مصر سفكوا دم ولى من أولياء الله» ولم تنشر كلمات الأمير بسبب الرقابة على الصحف إلا بعد فترة طويلة.

والعجيب ما ذكره «الميجور سانسوم»، ضابط الأمن بالسفارة البريطانية فى مذكراته أن كل الإجراءات التى اُتخذت لمنع المظاهرات بعد الاغتيال، وفى الجنازة تم تخطيطها قبل عدة أسابيع. كما بعث «جيفرسون باترسون»، القائم بأعمال السفارة الأمريكية، إلى واشنطن يقول «تم فى هدوء دفن الشيخ حسن البنا، وهذا الدفن السريع ليست له سوابق حتى فى مصر التى يقضى فيها القانون بدفن الجثة خلال أربع وعشرين ساعة من الوفاة، وقد تم تحت ضغط الحكومة التى خشيت أن تكون الجنازة العامة للرجل مناسبة لأتباعه والمتعاطفين معه للتجمع وتعكير الأمن».

واشتركت مؤخراً مراكز الأبحاث فى فرنسا وأمريكا فى وضع قائمة بأهم مائة شخصية أثّرت فى العالم فى القرن العشرين، فكان من العالم العربى اثنان هما: الإمام الشهيد «حسن البنا»، والآخر هو جمال عبدالناصر.

المصري اليوم في

17/09/2010

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)