كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

سينما مصر .. ضد مصر

بقلم : عبد الله كمال

السينما المصرية في عيدها المئوي

   
 
 
 
 

إذا اخترت موعد دوران أول آلة عرض سينمائى فى مصر، فان هذا العدد الخاص عن السينما فى مصر سوف يكون قد تأخر تسع سنوات.. ذلك أنه بعد أن قدم الأخوان (لوميير) أول عرض سينمائى تجارى فى مقهى باريسى خلال ديسمبر عام 1895 كان أن عرض أول فيلم فى مصر فى الإسكندرية خلال يناير .1896

أما إذا اخترت تاريخ بداية صناعة السينما فى مصر انطلاقا من أن أول فيلم تسجيلى تم إنتاجه هو ذلك الذى خلد زيارة الخديو عباس إلى مسجد المرسى أبى العباس فى إلاسكندرية.. فى 20 يونيو .1907 فسوف يكون لهذا العدد معنى أكيد.. بمناسبة أننا نبدأ الآن العام الأول بعد المائة فى واحدة من أهم أدوات ثقافة وحضارة مصر.. السينما الرائعة.

مر زمن طويل، وتبدلت المراحل على هذا الفن العظيم والثرى والمتنوع، والمتوافق مع الميل المصرى الطبيعى للحدوتة والحكى.. غير أن العام الأخير فى مئوية السينما المصرية فرض سببا جديدا لكى يصدر هذا العدد.. إذ تحولت السينما إلى أحد أهم أدوات الجدل السياسى فى المجتمع.. وصارت مرتعا للأفكار.. وميدانا للدعايات.. وتقدم مضمونا أقوى وأشرس من أى رسالة سياسية ينطق بها حزب أو تعبر عنها جريدة أو ترطن بها محطة تليفزيون. فى 2007 - وبسبب موجة من الأفلام ذات الطابع الخاص، المعبرة عن توجهات سياسية - صار الفيلم واحدا من أهم الأدوات المستخدمة فى الحراك السياسى.. والنقاش العام.. وبغض النظر عن أن السينما فى مراحل مختلفة قدمت أفلاما هى فى حد ذاتها تحمل مضمونا سياسيا محددا.. وواضحا.. إلا أن العام الأخير مثل نقطة تحول مدهشة.. سواء اتفقت أو اختلفت معها.. ومثل ذروة تحول نوعى فى تاريخ المضمون.. بعد عدة سنوات من الإرهاصات التى قادت إلى ذلك. (شىء من الخوف) الذى واجه منظومة الديكتاتورية والبطش، و(المذنبون) بما احتواه من نقاش حول الفساد الجماعى، و(البرىء) المنتصر لجندى الشرطة المستخدم فى أداء ما لايدرى، و(ثرثرة فوق النيل) الذى ناقش تفتت مجتمع فى لحظة هزيمة، و(الصعاليك) الذى رصد الجذور الهشة والفاسدة للطبقة الرأسمالية فيما بعد الانفتاح، و(حتى لايطير الدخان) الذى جسد أوضاع الفساد فى الثمانينيات، و(الكرنك) الذى قال كلمة جلية فى وجه التعذيب والبطش، و(ضد الحكومة) الذى تعرض لاستخدام القانون فى اغتيال حقوق الناس، و(زوجة رجل مهم) الذى أرخ لأحداث 18 و19 يناير ووضع رجل الشرطة فى المجتمع، و(الإرهابى) الذى ناقش مأساة مصر مع التطرف فى التسعينيات.. وعشرات غيرها من الأفلام التى ناقشت موضوعات سياسية جريئة ومهمة ومتنوعة.. كانت محطات محورية فى تاريخ الفن المصرى.

كل هذا كان فنا مصريا خالصا، ينقد ويناقش ويمتع ويبنى.. حتى وإن كان مأسويا مؤلما وحادا فى بعض الأحيان.. لكن المرحلة الأخيرة.. بكل مافيها.. ليست من هذا النوع وإن أمتعت.. وإن كانت فنا.. وإن نقدت.. وإن حظيت بجماهيرية هائلة.. وصفق لها الناس فى نهاية حفلات العرض.. وهو تقليد لم يكن متعارفا عليه إلا فى نهاية العروض الخاصة التى يحضرها النقاد والصحفيون والمثقفون والفنانون مبدعو الأعمال. لقد ناقش (الكيت كات) برقى شديد وضع العشوائيات من خلال سيرة الشيخ الأعمى الذى تحدى وضعه الخاص بإرادة لاتلين وحب للحياة، غير أن السينما المصرية حين قدمت فيلما جديدا عن العشوائيات حملت النظارة بقدر هائل من الاحتقان والغضب.. بعد أن انتهوا من مشاهدة (حين ميسرة).. وفى عشرات من الأفلام جرى الحديث عن الفساد السياسى والتفاوتات الطبقية وكل أمراض المجتمع المتنوعة.. لكن الرسالة الصعبة التى صاغها صناع فيلم (عمارة يعقوبيان) بكل سوداويتها.. لم تقد إلا لنفوس مشحونة ومعبأة بالابتئاس.. والبؤس.. لاينقصها إلا أن تثور..

ضابط الشرطة فى (زوجة رجل مهم)، هو نموذج مؤسف ومدان، ومتجاوز للقانون، وهو وسيلة استخدمها الفيلم لمناقشه الخروج عن القواعد، وتعمد التلفيق، غير أن أمين الشرطة.. والضباط فى (هى فوضى) إنما يقودون المشاهد إلى رفض كامل لدور الشرطة من الأصل فى المجتمع.. من الأساس.

والمعنى، أن السينما لم تكن مقيدة من قبل، بل إنها على الرغم من كونها من بين وسائل التعبير النادرة فى مصر الخاضعة لرقابة مباشرة.. حيث لايعرض الفيلم إلا بعد أن يوضع عليه خاتم وتوقيع رقيب رسمى.. إلا أنها وسيلة التعبير الأكثر تمتعا بالحرية على مدى تاريخ تمتع المصرى والمبدع خصوصا بحقوقه السياسية..

إن الحرية الحالية على اتساع أبعادها، والتى لايمكن توقع أى نقصان لها، كان يفترض بها أن تقود الفن إلى آفاق أرحب وأوسع.. ليس منها إسفاف اللغة.. وانحطاط اللسان.. وتدنى المضمون.. وتحول الفن إلى أداة تحريض.. وتثوير.. وقيادة المشاهد إلى طريق أسود مسدود.. فيتحول الفن من إمتاع.. إلى التياع.. ومن أداة تنوير إلى أداة تحشد الكارهين الحانقين الغاضبين. لست أدعو إلى سينما دعائية.. إعلانية.. مثل تلك التى تسبق عرض الأفلام.. ولاسينما ترسخ الواقع المؤلم.. وتوافق على قيمة كما كانت أغلب أفلام ماقبل الثورة.. ولاسينما تقود الناس إلى معهد الدراسات الاشتراكية كما كانت تفعل بعض أفلام الستينيات.. ولاسينما التضليل الهندية.. ولاسينما التفاهات التى أفرزتها حقبة (المقاولات).. ولكنى أدعو إلى أن يتيقظ العقل الجمعى المصرى المبدع لصناعة السينما.. لكى يستغل الامكانيات الهائلة المتاحة أمام هذا الفن.. من أجل قيادة المجتمع إلى مرحلة أفضل.. بدون أن يتجاهل التنوير.. وبدون أن يتجاوز التثقيف.. وبدون أن يغرق فى المباشرة.. وبدون أن يتناسى أن أهم أدواره التعبير عن الثقافة المصرية بقيمها وحضارتها.. أن يكون لها لا عليها.. أن يكون من أجل المصرية وليس مضادا لها.

قبل سنوات كانت السينما المصرية تشكو من نقص التمويل.. فاصبحت استثمارا هائلا ومربحا.. وكانت مقيدة بندرة عدد دور العرض.. فصارت الدور فى كل مكان.. وكانت تعانى من نقص الفنانين.. الذين قوض وجود بعضهم فكر متطرف.. وهى الآن تضم أجيالا من كل نوع وتستهلك كل سنة تقريبا عددا من الوجوه المختلفة.. وكانت تعانى من قيود الرقابة.. فلم تعد تتعرض للحذف والمنع على الإطلاق تقريبا.. وكانت تواجه عجزا تقنيا تكنولوجيا.. وهى الآن واحدة من أكثر الصناعات احتكاكا بالتقدم العلمى والتقنى.. أى أن السينما تعيش مرحلة من أهم عصور ازدهارها على مستوى الشكل والصنعة والاستثمار والقدرات الفنية.. ويفترض أن هذا يضع على كاهل الصناعة أعباء متنوعة.. لكى تنتقل إلى مرحلة أخرى.. بدلا من أن تصبح ترديدا لشعارات المظاهرات.. وغضب الاحتجاجات. الفنان الحقيقى هو الذى يقود المجتمع إلى آفاق أرحب.. وهو الذى ينمو بثقافة أمته.. أن يكون أمامها.. لا وراءها.. أن يفكر لها.. ويحررها.. وليس أن يلعب فيما تجاوزته.. والواقعية ليست هى أن نغرس الكاميرا فى قلب عزبة الوالدة.. والاقتراب من الناس لايكون بأن نردد على الشاشة عبارات المدمنين فى الأحياء الخلفية.. إن المزاج العام للسينما المصرية متأثر تماما بما يقرأ فى صحف الصباح.. ومايشاهد فى برامج (التوك شو) الليلية.. ولا أعتقد أن أحدا يملك الآن جرأة تقديم فيلم مثل (البداية) الذى قدمه صلاح أبوسيف فى نهاية عمره.. أو فلسفة (بحب السيما) الذى قدمه هانى فوزى قبل سنوات، أو (أرض الخوف) الذى أبدعه داود عبدالسيد قبل هذه الهجمة الحالية.. فإذا ماكانت الأفلام هى بعض من الصخب الذى يقدم فى برنامج (العاشرة مساء).. أو تجسيد متناغم مع مانشيتات جريدة الدستور التى تشتم كل شىء كل صباح.. أو حتى ترديد لما يتبادله سائقو الميكروباص.. وسكان العشوائيات فى لحظات تعاطى البانجو.. كما هو الحال فى فيلم مثل (صايع بحر) أو مجموعة تشوهات اللسان التى قدمها محمد سعد فى أفلام اللمبى.. فإننا نكون بذلك أمام مرحلة تاريخية أسوأ تأثيرا من مرحلة أفلام المقاولات.. وهى الأسوأ لأن (المقاولات) لم يكن يشاهدها أحد.. ولاتستمر فى دور العرض أسبوعا.. بينما تتمتع سينما التشويه الحالية بإمكانيات دعائية ومالية وصناعية هائلة.. تجعلها تضغط على عقول وأذهان الناس لفترة طويلة جدا.

وليس هذا العمل الصحفى المتكامل، من خلال ذلك العدد الخاص من روزاليوسف، نوعا من الضغط على الصناعة العظيمة، ولاهو نوع من الرقابة على الفنانين، ولكنه دعوة إلى إعادة التفكير فى الدور الذى يمكن أن تمارسه السينما المصرية فى الحراك.. وفى التغيير.. وفى التحول بالمجتمع إلى مرحلة أخرى أفضل.. إنه استيقاظ لهذه القدرة الهائلة لكى تقود الأمة نحو التنوير بكل معانيه. قف ضد الفساد، لاتتهاون معه، واعترض على التعذيب، وشوه المعذبين، وافضح المزيفين، واعكس مشاكل المجتمع، وعبر عن هتاف الناس، ولاتتهاون مع الزيف السياسى، وانتقد الرأسمالية الغشيمة.. ولكن لاتحول الأفلام إلى منشورات.. ولاتجعل حضور العرض نوعا من التظاهر.. ولاترسخ مشاكل المجتمع بتمجيدها.. ولاتعضد أمراضه بامتداحها. لقد كتبت أكثر من مرة فى الآونة الأخيرة عن هذه الظاهرة، ليس لأنى أحاول أن أبدى اهتماما متمايزا بالحركة الفنية، ولكن لأنى أوقن بالدور الخطير للسينما فى مايحدث فى المجتمع من تفاعل.. والأهم لأنى ألوم على الفنانين أنهم ينتقدون أوضاعا ساهموا هم فى نشوئها.. حين لم يقوموا بدورهم من قبل.. وتخلوا عن مهامهم التى يفرضها عليهم إبداعهم.. فلما قرروا أن يتبرأوا من المشاكل التى يعانى منها الناس راحوا يهدمون المجتمع. هو نوع حقيقى من الهدم، القائم على رفض القانون، وتشويه النظام بمعناه الدستورى لا السياسى، على الرغم من أن السينما فى كافة أنحاء العالم تلعب دورا اساسيا وغير دعائى فى ترسيخ وشائج المجتمعات وليس الإطاحة بها. السينما المصرية ينبغى أن تقدم الثقافة المصرية.. أن تكون وسيلة من آليات نقلها العابرة للحدود.. أن تعبر عن حضارتنا.. أن تواجه الهجوم الشرس على قيمنا.. أن تكون منارتنا فى الإقليم.. وليس دليل تراجعنا وانهيارنا. السينما المصرية لابد أن تعكس تاريخنا، وأن تقدم بطولاتنا، وحين ناقشت السينما الأمريكية أمجاد العسكرية الأمريكية فى الحرب العالمية الثانية، والمعاناة التى جرت فى حرب فيتنام، لم يقل أحد أن تلك دعاية لنظام أو مساندة لحكومة، بل اعتبر ذلك واحدا من أدوات التخليد والمناقشة الصريحة للأخطاء إن كانت قد وقعت وقد وقعت.

السينما المصرية ينبغى ألا تنسى أن أحد أهم التحديات التى تواجه الحضارة المصرية هو التطرف.. والإرهاب.. وأن عليها أن تنير الطريق أمام الناس بثقافة مختلفة.. وعصرية وحديثة.. وأن تقف حائط صد أمام قيم التخلف بدلا من أن تدعمه ربما دون أن تقصد. السينما المصرية ينبغى أن تستغل الزخم الاستثمارى الحالى.. بأن تعضد وجودها كصناعة واعدة.. تفتح الآفاق إلى مستويات خيالية فى التصدير.. واكتساح الأسواق المحيطة.. كما توقعت ذلك.. مشروعات تم بحثها وإن عطلها تضارب الاختصاصات بين اثنين من الوزراء.

تخيل، لقد مضى على صناعة السينما فى مصر مائة عام.. ولم تر فيلما عن حفر قناة السويس، ولم تشاهد فيلما عن محمد على، ولا عن الخديو إسماعيل.. ولم تر فيلما عن حرب أكتوبر، ولم تناقش فى أى عمل مفاوضات السلام، ولم تنتج فيلما عن العائلات المتفرقة على جانبى الحدود فى رفح، ولم تناقش حتى الآن بشكل متعمق تطرف الإخوان، ولم تقترب من ملف القاعدة الذى يعج بعشرات القصص المصرية، ولم تقدم نموذجا عصريا ناجحا، ولم تنتج فيلما عن نجيب محفوظ وأن اقتاتت على أدبه، ولم تقدم حياة زويل، ولم ترصد بورتريها شخصيا لمحمد البرادعى، بل إنها لم تقترب من أحد أهم صناع مجدها (طلعت حرب)، ولم تحلل الظاهرة التى كادت تقضى عليها.. وأعنى بذلك تحجيب الفنانات.. وفى الوقت الذى كانت السينما فى مرحلة ما من تاريخها هى المعضد الأول لقضية المرأة.. لم تعد تقترب من هذا الموضوع فى وقت تبدو المرأة فى أمس الحاجة لذلك.. ولم تقدم فيلما متكاملا عن الرأسمالية الحديثة فى مصر، وتتجاهل الطبقة المتوسطة لصالح تمجيد العشوائيين وإثارة الحقد ضد شديدى الثراء.

إنها بهذا سينما تتجاهل جمهورها وتاريخه وثقافته.. وليس ذلك طبيعيا. إنها بهذا سينما تصر على أن تماثل جرائد الصباح.. وتلك مشكلة كبيرة ضد عمق الفن السينمائى.

روز اليوسف المصرية في 5 يناير 2008

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)