كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ماذا يريد بالضبط؟

أحلام منتصف الظهيرة: مُقارناتٌ مدرسية، ونماذج نمطية

باريس ـ صلاح سرميني

صلاح سرميني يكتب عن الأفلام العربية القصيرة

   
 
 
 
 

المخرج السوري غسان عبدالله تخير تقديم كلّ شخصياته من بعيد، فظهروا أشكالاً شبحية، دمى في مسرح عرائس.

باختيار المخرج السوري غسان عبدالله لقطةً افتتاحيةً عامة لمدينة دمشق، واستعراضه البانورامي لها، فإنه يشير ـ بدون مُواربة ـ إلى الإطار المكاني، والزماني لأحداث فيلمه الروائي القصير "أحلام منتصف الظهيرة"، وبانتقاله المُفاجئ إلى لقطة متوسطة لكفيّ رجل، وامرأة يلتقيان، وتعلو مؤثرات دقات طبول، وموسيقى أفراح، وينهض العريسان، ومعهما الكاميرا مبتعدةً إلى الخلف نحو الأعلى، فقد تخير بذلك لقطات تعميمية مُوجزة لا يمكن فهم دلالاتها بدون لقطة تالية تظهر إعلاناً كبيراً عن "المصرف الوطني العقاري، مشروع الأحلام السكنيّ"، حالما ترتفع الكاميرا من جديد، وتستعرض مباني سكنية فاخرة، وتتقدم لتعبر نافذة أحدها، وتدخل إلى صالة، تصحبها موسيقى ناعمة، ونشاهد زوجة تحمل طبقاً ساخناً، تضعه فوق طاولة يجلس على جانبيها أبّ، وطفلةٌ صغيرة.

مما شاهدناه يمكن أن نستخلص الفكرة التالية:

في دمشق، العاصمة السورية، يتزوج شابٌّ (ما) من امرأة (ما)، ويستقرا في مسكن فاخر، وينجبا طفلةً، ويعيشا حياةً هانئة...

باقتطاعه من سياقه، وما سوف نشاهده فيما بعد، تطغى على ذاك المشهد صياغةً سينمائيةً (إعلانية) عن مشروع سكنيّ، أو سلعةً غذائية...

وباستمرار تجوال الكاميرا في الحيّ الفاخر، وهبوطها من جديد بعكس حركتها السابقة نحو سيارة، وشخصاً (ما) يسترخي خلف مقودها، يبتعد الفيلم عن تلك الصبغة، ويقترب أكثر فأكثر من مساره الروائي، حيث نتوقع كمتفرجين تطور الحكاية...

وحالما يستعيد شريط الصوت دقات الطبول، تصاحب رؤوساً من الخلف ضمن مجموعة مواطنين ينتظرون الحافلة العمومية، ويتطلعون إلى إعلانات كبيرة، يتبين لنا بأن هناك حكاية أخرى سوف تتوازى، تتقاطع، أو تتداخل مع الأولى.

هناك احتمالان لتفسير تلك المشاهد المتباينة:

ـ الزفاف، الحيّ السكني، البيت الفاخر، الأسرة النموذجية،....تشكل في مجموعها مشهداً حقيقياًّ (غير مُتخيل) يعبر عن جانب من المجتمع السوري.

ـ أو الاحتمال الأرجح، فقد سرحت الشخصيات المُنتظرة للحافلة، أو البعض منها، وبدأت تحلم بالزواج، البيت، الاستقرار، الأولاد، والحياة الهانئة،..

وفي لحظة مرور سيارة فوق بركة ماء (وكأن سائقها يتعمّد تصرفاً سادياً أرعن) استيقظ هؤلاء من شرودهم، وأحلامهم، وعادوا إلى معاناة الواقع.

إنه احتمال كبير أن يكون المشهد الأول مجرد "حلم" لهؤلاء المواطنين (المساكين)، وهو ما يؤكده عنوان الفيلم، ولكنه في نفس الوقت لم يكن "حلم" أيّ واحد منهم، لأنّ الشخصيات التي شاهدناها في ذلك المشهد المُتخيل مختلفة تماماً.

ـ فهل من المعقول بأن يتخيل أحدنا نفسه متجسّداً في شخصية أخرى تعيش بدلاً منه مواقف، وأحداثاً جميلة؟

ـ وهل من المعقول أيضاً بأن يحلم ثلاثة أشخاص، أو أكثر ، وفي نفس الوقت، حلماً واحداً متشابهاً بكلّ تفاصيله؟

وانطلاقاً من الأجوبة البديهية، تتكشف التركيبة الهشة للسيناريو، وشخصياته الهلامية، وتقود أحداثه إلى الافتعال، التبسيط، الرمزية الفجة، المُقارنات المدرسية، والنماذج النمطية الجاهزة.

وكي تتعمق الهوّة أكثر بين طبقتيّن متباينتيّن، فقراً، وثراءً، فقد أقحم السيناريو سيارةً فاخرةُ تمرق أمام منتظري الحافلة، وتعبر دواليبها بركة ماء راكدة، فتبللّ ملابسهم، ووجوههم، وكان من البساطة وصول الحافلة كي توقظ الجميع من "أحلام اليقظة".

ومع ذلك، عندما تصل متكاسلة، ويتلهف المنتظرون للصعود فيها، يقدم لنا السيناريو سلوكاً سادياً آخرّ، فهو ليس حكراً على الأثرياء فقط، حيث يتوقف السائق بعيداً عن موقف الانتظار، كي نشاهد بدورنا تلك اللقطات الأزلية لأشخاص يركضون مسافة كبيرة خلف الحافلة، ويلحقون بها حتى تتوقف، وتستقر عدسة الكاميرا لحظات عند ماسورتها الخلفية، وهي تنفث دخاناً كثيفاً.

وبينما يتزاحم الجميع للركوب، ترتفع الكاميرا نحو الأعلى كي تظهر لنا سقف الحافلة، وهي تغادر موقف الانتظار.

ثلاثة أشخاص فقط (أشخاصاً ما) لم يتمكنوا من الصعود، هم الحالمون أنفسهم، فاضطروا لانتظار حافلة أخرى، وهم يتطلعون إلى إعلان كبير:

"عطر إغراء، استخدم عطر إغراء لتعثر على شريكة حياتك."

إعلانٌ آخر:

"اشتري هذه السيارة، وأخلق 206 فرصة عمل."

وثالثٌ:

"المصرف الوطني العقاري، مشروع الأحلام السكني."

ومازال شريط الصوت يقدم بين الحين، والآخر دقات الطبول، تلك المُستخدمة في مناسبات الزفاف، والأفراح.

ومع الإعلان الثالث، يظهر العنوان: "أحلام منتصف الظهيرة".

ماذا حدث؟ لقد اعتقدت في تلك اللحظة بأن الفيلم سوف يبدأ حالاً (بعد مقدمة طويلة)، ولكنني فوجئت بنهاية الفيلم، وقائمة شكر لأصحاب الإعلانات نفسها، ومكتب السلام العقاري لأبو وائل، ومطبعة شروق للإعلان.

حسناً، كنت سوف أتساهل مع فيلم كهذا أخرجه شخص لم يدرس السينما، وربما أتسامح مع طالبّ في معهد سينمائي أنجزه كفيلم تدريبيّ، ولكن، كيف لمخرج درس السينما في بريطانيا تقديم فيلم تبسيطيّ إلى هذه الدرجة عن الفقر، والثراء، والفوضى، والنظام، والتناقضات الطبقية.

هذه التيمات التي شبعت منها السينما السورية، والعربية منذ بدايات السينما فيها، وحتى اليوم، ومازالت تستهلكها القنوات التلفزيونية في كلّ برامجها الترفيهية، والدرامية، والوثائقية.

أذكر بأنه في بداية علاقتي بالسينما، صورتُ مع أصدقاء مغرمين مثلي بكاميرا "سوبر 8" فيلماً هواة (ساذج) عن شاب يركب سيارته، ويعود إلى منزله في أحد الأحياء الثرية لمدينة حلب، وآخر ينتظر الحافلة العمومية في المحطة المركزية وسط المدينة، ويذهب إلى بيته في حارة شعبية.

كان ذلك استيحاءً من واقعنا الاجتماعي في تلك الفترة، وبتأثير واضح من أفكارنا المدرسية عن الاشتراكية التي جعلتنا نعتقد بأننا طالما نسكن في أحياء شعبية، ونستخدم المواصلات العمومية، ولا نتجرأ الدخول إلى كافتيريا الفندق السياحي، ولا نحتفل بليلة رأس السنة، ولا نستمتع بأجواء الملاهي المنتشرة في منطقة العزيزية، فإننا في هذه الحالة فقراء، مساكين.

كان مفهومنا عن الفقر، والغنى قطعياً، وساذجاً، وأتذكر بأننا كنا نستعذب، ونتلذذ حالتنا، ونعتبر أنفسنا ضحايا التناقضات الطبقية، وتوضح ذلك عملياً خلال دراستنا الجامعية، عندما تقوقعنا على أنفسنا في مواجهة طلبة آخرين، تبين لنا فيما بعد بأنهم ليسوا أكثر ثراءً منا، ولسنا بدورنا أكثر فقراً منهم.

اليوم، بإمكاني توجيه أسئلة كثيرة لنفسي، وللمخرج غسان عبدالله:

ـ ماذا يريد بالضبط من تلك المُقارنات التبسيطية؟

ـ هل يتخلى الأثرياء عن مساكنهم، وسياراتهم؟

ـ وهل يتوجب على الفقراء السكن في فيلات، وامتلاك سيارات مماثلة كي تصبح الحياة وردية؟

ـ وهل انتظار الحافلة، وركوبها من علامات الفقر، وقد فعلتُ ذلك طوال عمري، ولم تمنعني عن الدراسة، والسفر، وتحقيق طموحاتي.

أليس الهدف من سيناريو كهذا الاقتراب من المواطن العادي، الغني، والفقير، بينما تخير غسان عبدالله تقديم كلّ شخصياته من بعيد، فظهروا أشكالاً شبحية، دمى في مسرح عرائس. وعندما اقترب منهم عند صعودهم إلى الحافلة، كانت الكاميرا تصور أيديهم، وأرجلهم،.... ومؤخراتهم.

لماذا اختار غسان عبدالله ممثلين محترفين إذاً، وهم نجوم السينما، والتلفزيون، وكان بإمكانه ـ في حالة كهذه ـ التعامل مع أناس عاديين، وتصوير لقطات تسجيلية حقيقية لأشخاص ينتظرون عند موقف ما.

والحقيقة، خلال زياراتي الأخيرة لدمشق، وحلب،لفت انتباهي الحافلات العمومية الفارغة من ركابها، وعرفت بأن السوريين يفضلون استخدام الميكروباصات الخاصة.

لقد أصبح مشهد الزحام الشديد في المواصلات العامة ذكرى بعيدة في مخيلتي، تعود إلى سنوات دراستي الثانوية، والجامعية، فهل تدور أحداث فيلم "أحلام منتصف الظهيرة" في تلك الفترة؟

وبعد أن نوّهت إلى نفس الأمر في كتابتي عن فيلم روائيّ قصير آخر بعنوان ("رتلٌ كامل من الأشجار" لمخرجه السوريّ "طلال ديركي"، أتساءل عن دور، ومسؤولية المؤسسة العامة للسينما بدمشق في إنتاج هذا الفيلم، هل بدأت تتساهل لجنة القراءة مع أفلام قصيرة تستنسخ من جديد أشكال، ومضامين السبعينيات؟

من جهة أخرى، تقنية بحتة هذه المرة، لماذا جلب غسان عبدالله فريقاً من بريطانيا لتصوير سيناريو باهت، غامض الأهداف، والمعاني، وحاول تنفيذه بصياغة سينمائية مُتكلفة، ومُكلفة (حركات الكاميرا المحمولة على رافعة، وتُسمى الكرين).

وهل وصلت المؤسّسة العامة للسينما إلى درجة من الثراء (الذي يستهجنه الفيلم على طريقته)؟، وهل هناك نقصّ في الخبرات التقنية السورية كي تستقطب تقنيين من بريطانيا، وما هي الخبرات الكبيرة التي قدمها الفريق الإنكليزي لمثيله السوري.

أم أنّ المؤسسة العامة للسينما، والوسط السينمائي في سوريا يجد في هذا الفيلم مستويات إعجازية لم أستطع شخصياً رصدها، لأنني، ومنذ ربع قرن أشاهد أفلاماً لم تصل بعد إلى هذا المستوى من الإبداع.

أسئلةٌ لا أمتلك أجوبتها اليوم، وربما أكون متحاملا، أو مخطئاً، أو غير قادر على فهم المنظومة الإبداعية لأفلام كهذه.

لا أدري.

البطاقة التقنية، والفنية للفيلم:

أحلام منتصف الظهيرة: 7 دقائق ، 35 ملم ، 2005

إخراج، ومونتاج: غسان عبد الله

مدير تصوير: فيليب روبرتسون

مساعد كاميرا: جيسيكا ستيد

مصمم الصوت: دوني بوكوك

مؤلف موسيقي: لي همفرايز

مكياج: إما رومانز

غسان عبدالله:

عمل لسنوات عديدة منتجاً تلفزيونياً في سوريا قبل أن يسافر إلى بريطانيا، ويدرس الإخراج، ويحصل على درجة الماجستير، ويعمل محاضراً في نفس المدرسة التي درس فيها، وبعد عودته إلى سوريا، عمل في المؤسسة العامة للسينما بدمشق، وهو بصدد تحضير فيلمه الروائي الأول.

ميدل إيست أنلاين في

27.07.2007

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)