كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

القطعة الأخيرة لمخرجه السعوديّ محمد بازيد

محاكاةٌ لأفلام السينما الصامتة وحنين للعظيم شارلي شابلن

باريس ـ صلاح سرميني

صلاح سرميني يكتب عن الأفلام العربية القصيرة

   
 
 
 
 

تحيةً.. شارلي، يا صديق طفولتي، هل تذكر أيام كانت أحذيتنا متشابهة ؟ آه، أعلم أنّ السنوات مضت، لكنني لا زلتُ أحسُّ بدفء غريبٍ في جسدي، لأنك حضنتني في ذلك المساء، فيما كانت الكسف الثلجية(1) تتسلل إلي دار الخيّالة في قريتي، حيثُ جلستُ ملتفةً في سروال طويل، وشعري ينزل علي عينيّ البراقتيّن...

أكتب لكَ هذه الرسالة من أجل الجميع، فقط إلي شارلي شابلن، من (نيكافوروس)، ولكن، كيف أعنونها؟ شارلي؟ أيّ مكان؟ إلي حيث ضياء الشمس؟ إلي الجميع؟ أو هل لأجل الصبيّ ماسح الأحذية الشريد الذي ألقي برأسه مرةً علي كتفي، وضحك بجنون عندما رآكَ علي الشاشة؟

شارلي، أكتبُ لكَ من أجل كلّ الأصدقاء، فأنتَ ساعي بريد كلّ البشر، أنتَ تستطيع الرحيل إلي كلّ بلد، تطرق بعكازك الرقيق نوافذ الفقراء، تترك قرنفلات علي الأسكفة(2)، أنتَ تستطيع دخول الأبواب نصف المفتوحة، تدخل مهود الأطفال، وروحك مُحمّلة بالدُمي.

شارلي، يا صديق الأصدقاء، يا صديق من لا صديق لهم، أولئك الذين سُرقت شمسهم الذين ينتظرونك دائماً، قادماً، وذاهباً، ضارباً نعليك العريضين، أقرأهم سلامي يا شارلي، وأحمل لهم زهرةً بمليون بتلة في رسالتي...

(نيكافروس فريتاكوس ـ ترجمة د. محمد قصيبات ـ المصدر: موقع دروب).

ہہہ

في الخامس والعشرين من شهر كانون الاول (ديسمبر) 2007، سوف يحتفل العالم بالذكري الثلاثين لرحيل أشهر الممثلين/المخرجين منذ بدايات السينما، وحتي اليوم، البريطانيّ المولد، الأمريكيّ الجنسية، شارلي شابلن (16 نيسان/أبريل 1889 ـ 25 كانون الاول/ديسمبر 1977)، والذي تحول مع الزمن إلي (أيقونة سينمائية) ألهمت الكثير من الأعمال الفنية، والأدبية.

وأنا أكتبُ اليوم هذه القراءة، كم كانت جميلة تلك الصدفة التي منحتني متعة مشاهدة الفيلم الكوميديّ المصريّ (عفريت مراتي)/ 1968 للمخرج الراحل (فطين عبد الوهاب)، حيث يختتمه بتحية دالة، وذلك عندما يعود (صالح/صلاح ذو الفقار) إلي بيته مرتدياً ملابس (شابلن) ليُثير اهتمام زوجته (عايدة/شادية) التي كانت قبل ذلك تعاني من حالة مرضية تجعلها تتقمصّ، وتعيش لأيام شخصيات الأفلام التي تُشاهدها.

وربما من الطريف يوماً، أن يبحث أحد النقاد، أو المُؤرخين عن الأفلام العربية التي استوحت، أو استلهمت، أو استعارت شخصية (شابلن) في أحداثها، حتي ولو كان ذلك في لقطةٍ واحدة، كما حدث في (عفريت مراتي).

وأعتقدُ بأنه لن يُغفل فيلماً روائياً قصيراً بعنوان (القطعة الأخيرة) لمخرجه السعوديّ (محمد بازيد)، والذي يُعتبر ـ علي حدّ علمي ـ الفيلم الوحيد في السينما العربية المُستوحي بكامله من شخصية (شابلن)، وأفلامه، مع بعض الإضافات الراهنة...

يرتكز الفيلم علي حكاية، طرفة، أو أمثولة (متداولة في مواقع الانترنت)، وقابلة للتحقق في أيّ زمان، ومكان، وقد عمد (بازيد) إلي تعريبها / أو سعودتها، وتعديلها وُفق رؤية شخصية مزجت ما بين الماضي (مُحاكاة السينما الصامتة)، والحاضر (تعشيقها مع السينما الراهنة)، واختلقت صدفة اللقاء بين شخصية أنكلو/أمريكية المنشأ مع أخري عربية (ليس بالضرورة أن تكون سعودية).

وزيادةً في الإيضاح، فقد تمثل الماضي في الفيلم من خلال العناصر التالية:

* استجلاب شخصية شابلن شكلا ً(وسوف أتطرّق للمضمون لاحقاً).

* استعارة بعض مفردات السينما الصامتة، وأجواء عروضها:

ـ الأبيض، والأسود، وتدرجاتهما.

ـ حركة كاميرا بانورامية، ثقيلةٌ، ومتعثرة.

ـ خطوط شاقولية بيضاء تقطع شاشة مُتسخة نلحظها عادةً خلال عرض نسخة فيلم مُستهلكة.

ـ الاستغناء عن الحوار، والمُؤثرات، ما عدا الموسيقي.

ـ استخدام المزج بين اللقطات، أو التغيير المُفاجئ للموسيقي للإيحاء بمرور الوقت.

ـ لوحةٌ تفسيريةٌ مكتوبة علي الشاشة..

بينما نسي، أو تعمّد بأن تبقي حركة الشخصيتين (طبيعية)، ونعرفها (سريعة) في الأفلام الصامتة، بسبب تصويرها بسرعة أقلّ من 24 صورة في الثانية، ما يمنح الإيحاء بوهم السرعة عند عرضها علي الشاشة.

بينما تجسّد الحاضر في الفيلم من خلال العناصر التالية:

ـ شخصيةٌ تشبه شابلن شكلاً، ومختلفةٌ عنه مضموناً.

ـ شابٌ شرقيّ الملامح، والملابس، سعوديّ، أو من أيّ جنسية عربية.

ـ المكان، طبيعته، وتضاريسه، شارع بمُحاذاة البحر في مدينة سعودية، أو عربية.

ـ المُلحقات التكميليّة، مجلةٌ يقرأها شابلن السعوديّ، وصحيفة يتصفحها الشابّ، وكيس بسكويت/العنصر الأساسيّ في الحكاية:

يتمشي شابلن السعوديّ في شارع بمُحاذاة البحر، يشتري كيساً من البسكويت، ويستريح في مقعد حجريّ سبقه إليه شابٌ يقرأ في صحيفة، ويشترك الاثنان في التهام محتويات الكيس، مما يُثير غضب، واستياء شابلن السعوديّ الذي يعتقد بأنّ الشابّ يعتدي علي كيسه، وبعد أن تشير لوحة مكتوبة علي الشاشة إلي مرور ساعة من الزمن (كان من الأفضل بأن تكون دقائق فقط)، نعود إلي نفس الوضع السابق بعد لقطة اعتراضية تظهر لنا قطعةً واحدةً بقيت في الكيس تنتظر من يلتهمها، وهنا لا يحتمل شابلن السعوديّ بأن يسطو عليها جاره، ولكنّ الشاب الطيب يلتقطها، ويتقاسمها معه.

يتعمّد السيناريو اصطناع مفارقة معهودة في الكتابة السينمائية، تتجلي إخراجياً باختيار تكوين سينمائيّ يخفي أحد عناصر الصورة عن المتفرج، و/أو الشخصيات، وذلك بهدف خلق حالة من الغموض، أو التشويق، أو سوء الفهم، ومن ثمّ يكشف عنها لاحقاً.

ينهض الشاب راضياً، ومبتسماً، ويغادر المكان، ويبقي شابلن السعوديّ وحيداً، غاضباً، وحانقاً، يعاتب ذاك المجهول، وينهره في حركات صامتة، وعندما يضع المجلة في محفظته، يكتشف بأن الكيس الذي اشتراه قبل ساعة... ما يزال في مكانه.

من المُفيد الإشارة إلي تكوين تلك اللقطة بالذات (وهي التي أخذت حيزاً زمانياً كبيراً من الفيلم)، من اللحظة التي يجلس فيها شابلن السعوديّ في المقعد الحجريّ، وحتي بقائه وحيداً، يُعاتب نفسه، وينتحب.

في البداية، تمتلكُ الشخصيتان وضعاً متوازناً، من وجهة نظر المتفرج، يجلس شابلن السعوديّ في يمين الصورة، ويقتسمُ الشاب يسارها، وكأنهما علي طرفيّ لوح خشبيّ يتأرجح فوق اسطوانة، وحالما ينهض الشابّ من مقعده، نشعر باختلال التكوين، لقد أصبح شابلن السعوديّ في وضع تشكيليّ (ومضمونيّ) ضعيف جداً، بينما يحظي الشاب بمكانة قوية، ومسيطرة، وعندما يغادر المكان، ويكتشف شابلن السعوديّ حيثيّات المُفارقة، فإنه بقصد، أو بدونه، تحتفظ اللقطة بنفس تكوينها السابق، حيث يبقي شابلن السعوديّ وحيداً في يمين الصورة، نتخيله يفقد توازنه، ويكاد يميل بمقعده نحو الأرض.

(القطعة الأخيرة) شكلاً، تجربةٌ نادرةٌ، مثيرةٌ، متميزةٌ، وجريئةٌ في إطار المُحاولات السعودية، ولكنه يشترك في نفس الإشكالية الكبيرة التي تُعاني منها معظم الأفلام الخليجية، السيناريو بما يتضمّن من أفكار، وشخصيات، وأحداث، فقد ارتكز الفيلم علي فكرة (بسيطة) تمّت معالجتها بـ(تبسيط) شديد، حيث اختطفت شخصية شارلي شابلن شكلاً، وأفرغتها من محتواها، وكادت تنسينا خصوصية محاكاة مفردات السينما الصامتة.

ولفهم هذا التناقض، دعونا نستعيد سلوك الشخصيتين في الفيلم:

ـ الشابّ المجهول (صاحب كيس البسكويت، والمُعتدي عليه) شخصٌ حقيقيٌّ، واقعيٌّ، مؤدبٌ، هادئٌ، بسيطٌ، مبتسمٌ، وكريم..

ـ شابلن السعوديّ (المُعتدي علي كيس البسكويت)، شخصٌ وهميّ، أو متوّهم، غاضبٌ، حانقٌ، متوترٌ، بخيلٌ، أنانيٌ، وربما مصابٌ بمرض النسيان..

بينما نحتفظ في ذاكرتنا بصورة لشارلي شابلن مغايرة تماماً عن تلك الصفات التي شاهدناها في (القطعة الأخيرة).

خلال كتابته للفيلم مع (ضياء يوسف)، وتحضير إنجازه، أتوقع بأنّ (محمد بازيد) قد قرأ الكثير عن شارلي شابلن، وشاهد (بعض) أفلامه، وعرف بأنه شخصيةٌ محبوبةٌ، امتلكت كبرياءً، وكرامةً، ونبلاً، وحصلت علي تعاطف الجميع، الصغار، والكبار، وكانت تفوح في أفلامه روح الثورة، وعدم الخضوع، وتجسّد نقداً اجتماعياً، وانحيازاً للطبقات العاملة، واليسارية.

هو الذي ابتكر شخصية (المُتشرد)، وطوّرها، وأضفي عليها أبعاداً إنسانية متعددة، بدأت بالشكل التقليدي، بما في ذلك قبعته، وعصاه، وبنطلونه الواسع، وحذاؤه الكبير، ومشيته المُميزة..

ومع ذلك، يبقي (القطعة الأخيرة) خطوةً إضافيةً في مسيرة الأفلام العربية القصيرة الخارجة عن مألوف، ونمطية الأفلام العربية الروائية السائدة.

القطعة الأخيرة:

إنتاج عام 2005، 5 دقائق Mini DV.

إنتاج، وإخراج محمد بازيد.

سيناريو: ضياء يوسف.

تصوير، ومونتاج : حسن البنا.

موسيقي: من فيلم أضواء المدينة لشارلي شابلن.

تمثيل: مراد أبو السعود، محمد بازيد.

حصل الفيلم علي شهادة تقدير في الدورة الخامسة لمسابقة أفلام من الإمارات 2006.

محمد بازيد

محرر في موقع سينماك الإلكتروني، وصفحة السينما في صحيفة الوطن السعودية.

هوامش:

(1)    الكسف الثلجية بكسر الكاف، هي الثلج الرطب بعد سقوطه مباشرة (المُترجم).

(2)    الأسكفة بالضم، هي عتبة الباب التي يُوطأ عليها (المُترجم).

القدس العربي اللندنية في

19.06.2007

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)