كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

(هزّ يا وزّ) لمخرجه اللبناني (وسام شرف)

عندما يصبح الوقت موضوعة الفيلم الرئيسية

باريس ـ صلاح سرميني

صلاح سرميني يكتب عن الأفلام العربية القصيرة

   
 
 
 
 

في حلبة سباق خيول, يتابع بعض المُولعين بآلية, وصمت تدريبات روتينية لفارسة, حيث نشاهد من بعيد حصاناً يقفز فوق أحد الحواجز, والحقيقة, لم أجد ما يُثير الاهتمام في ذاك المشهد, ولكن, مع مرور الوقت,  يبدو بأن كلّ تلك الاعتيادية البالغة مقصودة تماماً.

(علي), مصورٌ فوتوغرافيٌّ شاب, شخصيةٌ طريفة حقاً (زكرتي باللهجة اللبنانية), رومانسيةٌ, وحالمة, وفي تمتمة صادقة, يبوح لأخيه الجالس بجانبه عن إعجابه بالفارسة, ويتمنى بأن يكون حصانها.

وهاهي المُفارقة الهزلية الأولى تتكشف سينمائياً في لقطة عامة تصحبها موسيقى حماسية هارمونية, تتناقض تماماً مع خروج متكاسل لثلاثة فرسان من حلبة فارغة, ومن الطبيعي بأن نتساءل عن التوافق بين ما نُشاهده, والعنوان الذي يظهر على الشاشة (هزّ يا وزّ), وهو الفيلم الروائي القصير لمخرجه اللبناني(وسام شرف) الذي تخيّر شخصيات, وأحداث متراخية تُعاني من وطأة الوقت.

نحن إذاً أمام جيل سينمائي جديد لم تلحقه الحرب الأهلية, ولم يعرفها, ومن الطبيعي بأن تتناول أفلامه موضوعات أخرى لا علاقة لها بما عاشه السينمائيون الأكبر, ولكن, ما يثير الانتباه في الأفلام اللبنانية القصيرة, ميول أصحابها لتجسيد الجوانب الذهنية لشخصياتهم, والتعبير عن ثرائها, أو خوائها, بدون أن يكون الهدف انتقادها, الانتقاص من إنسانيتها, أو حتى استجداء التعاطف, أو النفور منها, وعلى العكس, تتكشف رغبةٌ أكيدة بالتصالح مع الذات, والآخرين, وتعريةٌ مقصودة للشخصية اللبنانية ما بعد الحرب, ودعوتها للجلوس فوق كنبة مريحة, واختطاف المتفرج كي يصغي إلى بوحها الداخلي, وارتدادها نحو الذكريات, والطفولة.

في (هزّ ياوز), يتخير (وسام شرف) كاميرا ثابتة, وإيقاعاً مونتاجياً متمهلاً, بحيث يمتلك المتفرج الوقت الكافي للتشبّع من تفاصيل كلّ لقطة, وإرغامنا على متابعة دخول (علي) إلى الحمام لإخلاء ما في مثانته (تبوله) حتى آخر قطرة .

من جهة أخرى, وفي الجانب العاطفي, تجهل الفارسة كل شئ عن (علي), وهو يريد التعبير عن عشقه بتقديم صورته لها, تنصحه أخته الأكثر خبرةً بأن يكتب خلفها أبياتاً من الشعر ل(عمر الخيام) .

(علي) لا يقرأ شعراً, ولا يعرف (محمود درويش), فكيف يكون (عمر الخيام) وساطته ؟

هكذا إذاً, تتوافق شخصيات الفيلم بجوانبها الشفافة, الصادقة,  وبإنسانيتها ,وسوف تقودنا هذه التفاصيل إلى مشهد أكثر عبثية .

(علي) بصحبة (عمر) الذي تعرّف عليه للتوّ, أو قبل أيام في مدرج حلبة السباق, وهاهما يقضيا أوقات الفراغ ـ ويبدو بأنهما يمتلكا الكثير منه  ـ في إحدى المراجيح العملاقة لمدينة الملاهي, يتسليا بقرمشة البطاطس المقلية, ويتحدثا بجدية.

وخلال تلك المناقشة, نتعرف أكثر على الشاب (عمر) المٌلقب بالأمريكاني, لأنه يشبه الأمريكان, وذات يوم حرب خطفه أفراد جماعة مسلحة ظناً منهم بأنه أمريكاني فعلاً, ومن ثم تركوه بعد أن تأكدوا من هويته.

و(علي) الذي سوف نتعاطف معه, ونسامحه لأنه يجهل تماماً ما يتحدث عنه, يسأل (عمر) بتمثيل تلقائي:

ـ بتعرف (محمود درويش) ؟

ـ لا.

ـ بجدّ, ما بتعرفو ؟  طيب بتعرف (جبران) ؟

ـ لا.

ـ بجدّ, ما بتعرفو, مع إنو امريكاني متلك ؟

ـ و(عمر الخيام) شاعر الخمرة, سامع فيه ؟

فترة صمت........

ـ طيب, وين ساكن ؟

ـ هون, فوق, صوب المزرعة.

ـ و(كاظم الساهر), ما تقللي مانك سامع بحياتك ب(كاظم الساهر)؟ ! شو ما بتسمع راديو ؟

ويبدأ (علي) بغناء أجشّ : زيديني عشقاً زيديني, يا أحلى نوبات جنوني...

وبنظرة مُستهجنة من (عمر), يتوقف (علي) عن الغناء, ولكنه يكمل أسئلته بجدية بالغة :

ـ طب كيف بدك تدبر راسك إذا ما بتعرف شي من الحياة ؟

وباعتقادي, أن (كوميديا) كهذه تتسامى في رقيّها عن أيّ مبالغات جسدية, ولفظية نشاهدها, ونسمعها من مضحكي الأفلام المصرية.

ببساطة, وحساسية بالغة تتكشف أمامنا شخصيتان تبحثان عن وسيلة للتغلب على الوقت (وليس قتله), فهما من الوداعة بحيث لا يستطيعا إيذاء نملة, وإلاّ لما شاهدناهما في مدينة ملاهي, وفي أرجوحة تدور بهما بدون انقطاع, يتبادلا بمللّ فظيع حوراً صبيانياً أجوف.

وفي الدقيقة ( 13) من الفيلم, تتكشف لي معلومة ما كنت أعرفها من قبل,عندما نشاهد (علي) يقود سيارته في شارع مزدحم, يستمتع بكلمات يتكرر فيها فعل الأمر(هزّ يا وز), تختلط تقنياً بموسيقى إلكترونية على طريقة (التكنو), وهكذا, نعرف بأن (وسام شرف) قد تواطئ كثيراً مع شخصياته إلى الحدّ الذي اختار هذه الكلمات الخاوية من المعنى عنوانا للفيلم.

ومن الجوّ البيروتيّ الصاخب, وبدون مقدمات, ينقلنا (علي) إلى منزل والديه وسط الجبال,هناك, وفي شرفة تطلّ على وديان, وجبال, حيث الإيقاع يتناسب وهدوء الشخصيات, واسترخائها, الأبّ مشغول تماماً بالتطلع إلى عصفور الكناري في قفصه, مهموم برفيقته التي ماتت منذ أيام, ويتوقع انطفاء الأخر بعدها, بينما تتساءل الأمّ مستغربة, وعلينا أن نفهم ما نفهم عن علاقة (علي) بعائلته : 

ـ شو يا(علي), شو جابك صوبنا ؟

ـ جاي شوفكن بس.

ـ بس ؟ منيح.

بعد ذاك المشهد, والذي يظهر لنا علاقة حميمية, ولكنها متباعدة بين أفراد العائلة, وبعد عودة مفاجئة إلى المدينة, ومشهد مباراة باهتة, ومن ثم زيارة منزل فارغ لاستئجاره...نعود مرةً أخرى إلى مغامرة (علي) العاطفية, وفي حلبة سباق الخيول, يقدم الصور للفارسة,  ويبوح لها بحبه, إنه أغرب مشهد (عاطفي) في السينما العربية, وأكثره هزلا,ً ومرارة.. .

تتفحص الفارسة صورها بدون اهتمام بالغ, وتعثر على صورة (علي) بينها

ـ هايدا إنت ؟

ـ إي .

ـ شو ها الشعر؟

ـ هيدا (درويش).

ـ بس أنا ماني وطن !

ـ المرة, والوطن نفس الشي, ماهيك ؟

في المشهد ما قبل الأخير, (علي) مستلقياً على فراشه في ظهيرة يوم حارّ, مكالمة هاتفية تقطع استرخاءه, وفيها يخبره أبوه عن موت العصفور .

يواسيه (علي) : معليش, ما تاكل همّ, العوض بسلامتك, رح أجبلك غيرو.

ومن ثمّ لقطةً ثابتة لمساكن شعبية متداخلة, وملونة, وطيورٌ تحلق في السماء, وموسيقى.

خلال مشاهدتي للفيلم في الدورة الأخيرة لأيام قرطاح السينمائية, كان يجلس بجانبي صحفيتان مصريتان لم تتوقفا عن التأفف, لقد كان الوضع مستفزاً لهما إلى درجة لم يتمكنا من كتمان تساؤلاتهما عن معنى الفيلم, وجدواه بأسئلة من نوع : إيه ده ؟ إيه الهبل ده ؟ ده كتير أوي.

ولأنهما وجداني مُستغرقاً في المٌشاهدة, ولا أشاركهما الضجر, والملل, فقد سألاني معاً : إيه رأيك, يبدو بأن الفيلم عجبك, إيه اللي عجبك فيه ؟

 

* هز يا وز :

* سيناريو, وإخراج : وسام شرف ـ 26 دقيقة ـ 35 مللي ـ إنتاج فرنسا /لبنان ـ 2004

* وسام شرف:

من مواليد بيروت عام 1973, يمتلك خبرة في مجال الصحافة, المونتاج, والتصوير,كما عمل كمساعد مخرج فيديو كليب مع  الفرنسي(هنري جان ديبون), وفي أفلام المخرجة اللبنانية (دانييل عربيد), وبشكل خاص في فيلمها التسجيلي حدود/2002 قبل أن يكتب, ويخرج أول أفلامه الروائية القصيرة (هزّ يا وزّ).

العرب الأسبوعي في

09.06.2007

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)