كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

"ملكوت السماء" لريدلي سكوت يعيد طرح سؤال الإسلام في هوليوود

شخصيتان نموذجيتان تمثلان الطرفين ومقاربة عامة للأفكار الشائكة

ريما المسمار

عن فيلم

مملكة السماء

   
 
 
 
 

عندما قرر المخرج والممثل مل غيبسن تقديم شريط عن المسيح، علت الصيحات المنددة من قبل ان ينطلق المشروع، وشُرِّعت الاتهامات من قبل ان يبصر الفيلم النور واكتفى النقد برصد موقعه من السامية بعد العرض. الامر سيان بالنسبة الى "ملكوت السماء" Kingdom of Heaven، آخر افلام المخرج الانكليزي ريدلي سكوت في هوليوود. بموضوعه الشائك­الحروب الصليبية­ استثار المشروع ردود الفعل المبنية على أحكام مسبقة، ليتأكد من جديد ان السينما بمفهومها الشعبي والسائد ليست سوى حكاية مرفقة بصور ايضاحية، غير مطلوب منها الارتقاء الى مستوى السرد البصري. ولعل السينما تشهد في هذه المرحلة ارتداداً اشد الى قواعد السرد في عصر الغلبة فيه للصورة التلفزيونية المُراد لها ان تحل في مكان الخبر لتصبح هي الخبر. فكيف اذاً والموضوع تاريخي وسياسي بإسقاطات واضحة على الحاضر؟ المسلمون، المسيحيون، اليهود، الصراع على الارض المقدسة، الحروب، العنف... عناصر تبدو كأنها خارجة من فلسطين او العراق او افغانستان الى آخر القائمة.. ولكن الاهم انها تعيد الى الواجهة سؤالاً اساسياً: كيف سيُروى تاريخ من هذا النوع او جزء منه وبأي نظرة سيُنظر الى الاسلام؟ سؤال قائم على تراكم طويل من الصور والايحاءات السلبية التي أحاطت بها هوليوود ليس العرب او المسلمون فقط بل كل ما هو عداها من شعوب الارض واعراقها واثنياتها. ولكن الخوف والحذر مضاعفان في حالة الفيلم الحالي لأنه يطاول حقبة من الحقبات المضيئة في تاريخ الحضارة الاسلامية، يعول العرب عليها كثيراً وربما يتمسكون بها حالة دفاعية عن العرب والاسلام في وجه العجز الذي قد يرافق محاولة دفاعية مشابهة في هذا الزمن، العجز عن العثور على ومضة مشرقة في معزوفة الرعب والارهاب بدءاً ببن لادن. بهذا المعنى، واجه "ملكوت السماء" مصيراً مشابهاً لـ"آلام المسيح" مع فارق ان الاخير يمس شريحة اوسع ويخاطب كل الجمهور. لا يعني هذا ان شريط سكوت لا يتوخى ذلك، الا ان موضوعه التاريخي ربما يحصر نقاش التفاصيل بين حفنة من المؤرخين. بينما يهتم المشاهد العادي بالمناخ العام المحيط بالشخصية العربية الابرز التي تمثل وجه الاسلام وقتذاك، القائد صلاح الدين الايوبي. وهوليوود عبر تاريخها، سهلت تلك المهمة حتى على المشاهد غير المدرب او المطلع من خلال كليشيهاتها المباشرة الى حد تحويلها تلك الكليشيهات لازمات لصيقة بأصحابها (السود والعنف، الهنود والشر، العرب والتخلف، الروس والاجرام، الايطاليون والمافيا...). بحثاً عن تلك الكليشيهات، سيخرج المشاهد خالي الوفاض وربما مندهشاً. فهناك في ذلك المناخ غير العنصري، سيتصور المشاهد لعبة عكسية تقوم على إنصاف صورة العرب والاسلام. ابداً لن يتمكن المشاهد العربي إزاء هذا الفيلم من التخلي عن التصنيف السائد: مع او ضد. ابداً لن يستطيع ان يتخلص من بقايا التاريخ لينظر الى المسألة من منظور انساني بحت. هوليوود ستظل دائماً اما ظالمة واما مُفْضِلة لأنها في موقع السلطة، او هكذا نتعامل معها. ومن هنا، علت اصوات عربة تسأل عن سبب عدم تضمين الفيلم معركة حطين او مواقف جليلة لصلاح الدين كأنه بالفعل فيلم معقود على هدف تصحيح صورة العرب في حين انه يقع في مكان آخر. من هذا المنطلق، تعامل الجمهور الاميركي مع الفيلم. فمن الطبيعي ان يقابل الاحساس العربي العارم بالانصاف إحساس اميركي بالمبالغة. وتلك ردة فعل طبيعية من جمهور يتلقى بصورة يومية وعلى مدار الساعة صور إعلامه المنمطة التي تقع في إطار ذهني جاهز هو الآخر نتيجة تراكم صور وافكار من السينما والسياسة والتاريخ. أحدهم اعتبر الفيلم فرصة على طبق من فضة للعرب والمسلمين. كأن هوليوود هي ذلك الهواء المفتوح الذي أُتيح للعرب استغلاله كما يشاؤون للمرة الاولى لاسماع صوتهم. تعليق آخر لمشاهد اميركي اعتبر الفيلم تعبيراً عن حضارة بدأت عظيمة ومن ثم تدهورت، مستشهداً بحاضرها. الأجواء برمتها مرتهنة بأحداث 11 ايلول. ففي نهاية المطاف، هذا عمل يُعتَقد انه يشيد بمن اعتُبروا منفذي هجمات 11 ايلول.

البحث عن الخلاص

لعله من المضحك بمكان ان هذا الفيلم يتطابق مع المساعي الحالية الحثيثة في اميركا واوروبا لإحلال "الديمقراطية" في منطقتنا والنموذج هو لبنان بالطبع. كما ان الفيلم يتزامن مع مناخ اميركي داخلي على مستوى الادارة الاميركية، يميل الى لا جدوى تمويل الارهاب في المنطقة، كما فعلت في السابق، لإحكام سيطرتها لأن ذلك عاد عليها بخسائر كبرى (أحداث 11 ايلول). بعضهم قد يجد ذلك ربطاً صبيانياً، مدعوماً بنظرية إحكام السياسة قبضتها على هوليوود. ولكم منذ 11 ايلول، بدا واضحاً التقارب بين هوليوود ومخططات الادارة وان كان عائداً الى محطات تاريخية أقدم بكثير. انها ليست مسألة سلطة ومن يحكم من بقدر ما هي تركيبة تجعل كل الأجسام الفاعلة في المجتمع، تتمايل على ايقاع واحد. هوليوود والادارة كلتاهما مرآة لسياسة المرحلة. المفارقة الأخرى هي المخرج نفسه، ريدلي سكوت. صحيح ان للأخير وقفات بارزة في مسيرته السينمائية (THE DUELLISTS، BLADE RUNNER، BLACK RAIN...)، الا انه ليس سينمائياً مؤلفاً، او بمعنى آخر، ليس متطرفاً في التعبير عن مواقفه الخاصة او وجهة نظره الذاتية في افلامه. صحيح ان خيطاً رفيعاً من افكار وشخصيات يربط بين اعماله (الايمان والخلاص والشخصيات التائهة في بحثها عنهما)، الا انه ليس معنياً بشكل عميق بمضمون افلامه. فلا ننسى انه قدم واحداً من أكثر الافلام عنصرية وتغاضياً عن الحقائق في مسلسل البطولة الاميركية الذي تبع أحداث 11 ايلول. أقصد فيلم "إسقاط الصقر الاسود" Black Hawk Down الذي تناول فيه واحدة من العمليات الاميركية الكثيرة حول العالم بهدف "تنظيف النظام" في الصومال. لعله من الصعب التنبؤ كيف كان سكوت ليقدم فيلمه الحالي Kingdom of Heaven في صحوة 11 ايلول المباشرة وما اذا كان سينقلب على صورة الاسلام. ولكن المؤكد ان هذا الفيلم يتشارك على ارضية اوسع مع افلامه السابقة مما يفعل Black Hawk Down. فهنا ايضاً، يخوض البطل "باليان" (اورلاندو بلوم) رحلة الخلاص بعد ان فقد ايمانه بموت زوجته تماماً مثل "ماكسيموس" (راسل كرو) في Gladiator و"نيك كونكلين" (مايكل دوغلاس) في Black Rain وسواهما من شخصياته التي تخلف كل شيء وراءها بحثاً عن خلاصها الذاتي. لعل ذلك ما يحمل بعض العزاء من ان نوايا الرجل صادقة وربما الوقت سانح للتعبير عنها. ولعل سكوت المقيم في وسط الأحداث الحاضرة والمدرك تأثير عمل من هذا النوع، أدرك أهمية استلهام الحكمة في تقديم الفيلم (وصل ذلك الى حد عرضه السيناريو ومن ثم نسخة الفيلم الاولى على متخصص في التاريخ الاسلامي). واذا صحت التكهنات حول تأثير هوليوود والسياسة في تقديم هذا النوع من الافلام، فلعلهما، هوليوود والادارة الاميركية، ارادتا لفت أنظار العرب انفسهم لاسيما المسلمين الى تاريخهم المضيء ربما لحثهم على العودة الى اصوله.

توازن

ليس ذلك من قبيل اعتبار الفيلم فتحاً في مجال تقديم العرب في السينما الهوليوودية. او ربما هو كذلك ولكن لا يتصل كما يظن بعضهم بتبدل النظرة العامة. كل ما هنالك ان الفيلم اختار فصلاً من فصول الحروب الصليبية الطويلة قائم على تهادن بين الطرفين وربما كان ذلك في خدمة الحكاية المحاذية للمعارك. فقبل اي شيء، هذا ليس فيلماً عن صلاح الدين (غسان مسعود) ولا عن الملك بالدوين (ادوارد نورتن) الذي كان ملكاً على القدس في نهاية القرن الثاني عشر. انها حكاية الشاب "باليان" الذي يتحول من حداد الى "لورد" الى قائد لجيوش الملك في المعركة التي دخل على اثرها صلاح الدين القدس. من هنا، ينضم "باليان" الى قائمة ابطال سكوت، الساعين الى الخلاص بعد تعرضهم لتراجيديا عميقة في حيواتهم الخاصة. الواقع ان "باليان" هو ثمرة الصفات الحميدة من الطرفين، المسلم والمسيحي. انه معجون بالنبل والشهامة والاخلاق وبصفات الفارس الحقيقي. ثم ان سكوت لم يجهد في بناء رؤية او موقف. كل ما فعله هو مقاربة المناطق الشائكة بعمومية. فحين يلقي "باليان" خطبته قبيل المعركة، يشير الى التراكم الديني الذي تقوم القدس عليه في ما هو معروف، داعياً الى ضرورة التعايش بين الاديان بما لا يكاد يقدم جديداً على مستوى العقيدة المسيحية او الاسلامية. من جهة ثانية، يوازن الفيلم بين الطرفين عبر نموذجين: صلاح الدين والملك بالدوين المتحليين بالحكمة والنبل والتسامح، تاركاً القذارة للمتطرفين من المسيحيين امثال "غي دو لوزينيان" و"رينالد" (براندن غليسن) المتعطشين للدماء. بهذا المعنى، فإن الفيلم ليس "مع" ولا "ضد". فضيلته عدم إخلاله بالتوازن وعدم تشويهه صورة العرب وليس اعلانه موقفاً غير مسبوق. على ان ذلك الميل الى اختيار نموذج يمثل كلاً من الطرفين، لا يمر من دون اثر. ففي مساحة دوره، يُقدم صلاح الدين في سلسلة مواقف تعبر عن شخصيته بملامحها العامة، بينما تغيب التفاصيل التي تبني الشخصية وتنضجها في سياق الاحداث. في المقابل، تبدو شخصية "باليان" اقل اكتمالاً مع بداية الفيلم، لتتشكل على الشاشة شيئاً فشيئاً على مرأى من المشاهد بما يمنحها بعداً اقوى. انها شخصية تتكشف مع كل جملة حوار ومع كل مشهد الى ان يصل الحدث الأخير الفاصل الذي يحقق لها خلاصها. فهو بعد مقاومة باسلة عن القدس، يفاوض صلاح الدين على تسليم القدس مقابل سلامة الناس. فكرة جوهرية لدى الاثنين، صلاح الدين وباليان، تتمثل في تقديم الانسان على كل شيء. فحين يسأل "باليان" "صلاح الدين" عما تمثله القدس بالنسبة اليه يجيبه: "لا شيء" ثم يضيف "..وكل شيء". لعل ما قصده صلاح الدين ان الاقتتال على الارض وحدها لا يساوي شيئاً وانما القيم الكامنة فيها هي التي تصنع الفرق.

كعادته، يتفوق سكوت في مشاهد المعارك وفي تقديم المناخ العام انما تفلت منه نفاصيل كثيرة ليس اقلها تقديم شخصية شقيقة صلاح الدين بلهجة مغاربية وان تفوهت بجملة واحدة فقط او تقديم الحوار بين شخصيتين عربيتين باللغة الانكليزية بما لا يبررها. ولكن المفارقة ان اقوى مشاهد الفيلم تكمن في معركة لا تتم عندما يتواجه الملك بالدوين وصلاح الدين فيقرران العودة الى الهدنة بينما جيوش كل منهما تنتظر في الخلف اشارة.

في المحصلة، "ملكوت السماء" فيلم ينتمي الى اعمال مخرجه ويتقاطع معها بملامح كثيرة ويُسجل له عدم ارتكانه الى صورة منمطة للعربي والمسلم وان بدا ذلك من بديهيات العمل الفني، الا انه مقارنةً بصنائع هوليوود، يكتسب اهمية ما. وأخيراً، ليس هذا فيلماً عن الحروب الصليبية ولا حتى عن حقبة فيها، بل ان الأخيرة تكاد تشكل خلفية ومناخاً غنياً لحكاية فارس من الايمان الى اليأس ومن ثم الى الخلاص بكل مستلزماتها الحكائية والبصرية.

المستقبل اللبنانية في

13.05.2005

 
 

غسان مسعود:

"لو انني كنت سأقدم صلاح الدين في سوريا لبحثت أكثر عن سلبياته"

ريما المسمار

في هذا الحوار الى "المستقبل"، يتحدث الممثل غسان مسعود عن مشاركته في فيلم "ملكوت السماء" بدايةً من اختياره الاولي ومقابلته المخرج ريدلي سكوت ومن ثم تحضيره للدور وأجواء التصوير.

·         فلنعد الى البداية. كيف تم اختيارك لدور صلاح الدين الايوبي في فيلم "ملكوت السماء"؟

ـ كان المخرج ريدلي سكوت يبحث عن ممثل لشخصية صلاح الدين الايوبي وكان معنياً بالعالم الاسلامي تحديداً وبممثل يحمل الثقافة الاسلامية. وكان البحث يجري من خلال شركة "بيراميديا" ومديرتها السيدة نشوى الرويني. وهكذا أجرى ممثلون كثر تجربة اداء على سطرين من الحوار باللغة الانكليزية. في البداية، تهربت من خوض التجربة. لا أعرف لماذا ولكنني تهربت وحسب. كنت منشغلاً بالتحضير لمسرحية. ولكن الصداقة التي تربطني بنشوى وبالممثلة فرح بسيسو التي تولت عملية تجربة الاداء في سوريا، دفعتني في نهاية المطاف الى الاستجابة. وهكذا أديت السطرين وعدت الى مسرحيتي. وبعد نحو شهر، تلقيت اتصالاً من نشوى أخبرتني فيه انه وقع الاختيار الاولي علي.

·         ماذا كانت الخطوة التالية؟ هل قابلت المخرج؟ هل تسلمت السيناريو؟

ـ الخطوة التالية كانت سفري الى اسبانيا بهدف القيام بتجربة اداء نهائية مع احد مساعدي سكوت. صورت مشهد الخيمة حيث يدور الحوار بين صلاح الدين والشيخ المنلا حول الهدنة مع الصليبيين. كان ذلك في الصباح. في مساء اليوم نفسه، طلب سكوت مقابلتي وبالفعل تقابلنا في اليوم النالي وبُلِّغت بعد لقائي به بقبولي النهائي للدور.

·         كيف دار الحوار بينكما؟ هل تمحور حول السيناريو وصلاح الدين؟

ـ لم يكن عن صلاح الدين بل عن المسرح. كلانا آتٍ من خلفية مسرحية لذا كانت هناك امور كثيرة لنتحدث فيها عن شكسبير وتشيخوف وسواهما. ثم طرح سؤالاً عليّ: "هل تعتقد ان صلاح الدين رجل حرب؟" فأجبته بـ "لا، بل رجل دولة". على هذا الاساس قدمت الشخصية وتطابقت رؤيتي مع رؤية المخرج الذي لم يقدم صلاح الدين كمحارب بدليل انه لم يضرب ضربة سيف واحدة.

·         ماذا كان انطباعك الاولي عند قراءة السيناريو؟

ـ شأني شأن اي عربي مدعوم بنظرية المؤامرة والشك وملوعاً من تاريخ هوليوود الطويل في الاساءة الى صورة العربي عموماً، خضت التجربة بحذر لم يفارقني حتى لحظة مشاهدتي الفيلم على الشاشة. فالسينما كما هو معروف فن المونتاج وتالياً فإن الاتفاق النظري لا يضمن شيئاً. الا ان ثقتي بمخرج بمستوى ريدلي سكوت وكلامه على صلاح الدين الذي كان يؤكد احترامه له كانا مصدر ثقة. بقي القلق من الاستديو. فهل هو معني فعلاً بإنصاف صلاح الدين؟ وماذا لنا عليه لينصفنا؟ هوليوود في النهاية امبراطورية لها قوانينها وعوالمها القائمة بذاتها.

·         هل ما ظهر على الشاشة هو ما قرأته في السيناريو؟

ـ لنقل ان الذي شاهدته على الشاشة هو الافضل. هناك توازن عالٍ والفيلم غير معني بالاساءة الى أحد انما يركز على فكرة الفروسية والنبل والشهامة التي كرسها الاسلام. ما يعنيني بشأن شخصية صلاح الدين تحقق. ولكن ما أسعدني هو التوازن الذي لحق في الخطوط الاخرى ومنها نظرته الى الاسلام.

·         بحكم عملك التمثيلي والاخراجي، هل كانت لديك رغبة سابقة في تجسيد شخصية صلاح الدين؟

ـ بالطبع، فهذه شخصية يحلم بها كل ممثل عربي وربما عالمي لأنها تخطت الذاكرة العربية والاسلامية الى الذاكرة العالمية.

·         كيف قاربت الشخصية وحضرت لها؟

ـ كما ذكرت، حصل الاتفاق بيني وبين ريدلي سكوت على ان صلاح الدين رجل دولة، اي انه ليس زعيم طائفة او زعيماً دينياً، بل انه زعيم امبراطورية في ذروة مجدها. لا أذكر كم قرأت من الكتب ولكنني خلصت في النهاية الى انني امام قائد عالمي بامتياز، لم يكن رجل سيف بقدر ما كان رجل عقل، يعرف كيف يصل الى الآخر. بحسب استنتاجاتي، كان يريد ان يعطي العالم صورة عن الاسلام مخالفة عن تلك الراسخة وكان يعطي الامثلة من موقع القوة لا الضعف. فهو، كما يظهر في الفيلم، طرح الحوار عندما كان في ذروة قوته واستجاب له. ترك باب الحوار مفتوحاً في الوقت نفسه الذي كان فيه باب الحرب مفتوحاً بل انه مال الى الاول. بمقارنة بسيطة يمكن ادراك عظمة صلاح الدين، مقارنة بين اخلاقياته واخلاقيات حكام اليوم وقادته، أصحاب القوة والنفوذ اليوم غير مستعدين للحوار.

·         اين صوّرت مشاهدك وكم استغرقت من الوقت؟ كيف تصف الاأجواء؟

ـ صورت مشاهدي بين اسبانيا والمغرب على مدى خمسة أشهر، تخللتها اوقات راحة قليلة. فوجئت بالترحيب الذي أحطت به وبالثقة التي شعرت بها بين ممثلين من طراز ليام نيسن وجيريمي ايرونز وادوارد نورتن وسواهم. فقد تعاملوا معي بدون حواجز، كأفراد مهنة واحدة مما أشعرني بروعة ان يشكل الفنانون عالماً خاصاً. كذلك اولاني المخرج ريدلي سكوت عناية واهتمام فائقين. في المحصلة، لم أشعر بالحاجة الى تعلم الكثير لأتمكن من الوقوف امام الكاميرا امام اولئك.

·     عطفاً على ما ذكرته من ان شخصية صلاح الدين حلم كل ممثل عربي، أتساءل لماذا الممثل في منطقتنا في حالة دفاع دائمة او في موقع اثبات شيء ما او نفيه بما يطغى احياناً على الجانب الابداعي لمهنته؟

ـ لعله إحساس طبيعي يرافق الشعوب والبلدان عندما تكون تحت المجهر ومستهدفة حضارياً نتيجة ضعفها. ليس سراً اننا كشعوب نشكو الضعف والتشتت غياب الفعل والكلمة.. كل هذا ينعكس سلباً على الفنان ويدفعه في الاتجاه الذي ذكرت كلما قام بنشاط في الخارج. ولكن ذلك لا يؤثر برأيي على الناحية الابداعية عنده الا اذا تحول الى هاجس تقديم الدور النموذجي. حتى مع الشخصيات العظيمة، لا يجوز ان ننسى اننا نجسد بشراً وتالياً فلا بد من تقديم الخطأ والصواب. صلاح الدين أخطأ وأصاب. وانما في ظرف دولي كالحالي حيث الاسلام برمته مستهدف والوجه السلبي هو الطاغي، تبدو فرصة تقديم وجه ايجابي ثمينة جداً. لو انني كنت سأقدم صلاح الدين في سوريا، لبحثت أكثر عن سلبياته.

·     تلخص النقاش حول الفيلم بنظرته الى الاسلام. ألا تعتقد انه من السذاجة بمكان ان نهلل لذلك وان تبقى نظرتنا الى العمل في تلك الحدود الضيقة؟

ـ الموضوع يتخطى النظرة الى الاسلام الى حالة وعي منزّهة عن الأغراض. فالرسالة بمعناها الانساني موجهة الى كل الشعوب وليس الى المسلمين فقط وهي تحرض على النظر الى الآخر بالعين الايجابية. هناك صلاح الدين في الجانب المسلم وهناك الملك بالدوين في الجانب المسيحي. هذان مثالان كبيران. اما من خرق حالة التعايش السلمي بين الطرفين فهم العصابيون من الطرفين ايضاً.

·         علقت مراراً على التوازن كقيمة جوهرية للعمل. الى اي حد هو ضروري في الفن؟

ـ الفنان كائن هش كونه يشتغل على جملته العصبية. وهو يتحول مرة بعد مرة كائناً بلورياً يجهد لكي لا ينكسر ومن هنا يأتي هاجس التوازن عنده كي يحمي نفسه.

·         قصدت التوازن في النظرة او الموقف.

ـ هذه مسألة عائدة الى الفنان. هناك من يعتبر ان الممثل هو من يمثل فقط. برأيي الشخصي، الممثل هو الفنان الذي يمثل والذي يفعل شيئاً آخر ايضاً.

·         ما هو هذا الشيء؟

ـ لا أعرف بالضبط ولكن أعرف ان له دور آخر في المجتمع. فهو يجب ان يكون معنياً بما يحدث في بلده ومجتمعه لاسيما اذا كان في منطقة غير مستقرة كالتي نحيا نحن فيها. لا أستطيع ان افهم فناناً بلا دور.

·     لا أعرف اذا كان توصيف "التوازن" ينطبق على ذلك ايضاً. ولكن ثمة ميل في الفيلم الى التعاطي مع الافكار الشائكة بحيادية او بعمومية لا تعبر عن موقف شخصي. أليس التطرف هو ايضاً من ملامح الفن؟

ـ الكتب المقدسة التي هي أرقى اشكال الابداع تقوم على الشمولية. ولكن على مستوى التفاصيل يقوم التأويل. بتقديري ان العمل الابداعي هو القابل للتأويل وان بدا جامعاً مانعاً.

المستقبل اللبنانية في

13.05.2005

 
 

فيلم «ملكوت السماء»

أسطورة تسليم القدس إلى صلاح الدين

بيروت – زكي محفوض

كنا جالسين في مقهانا المعتاد عندما اقترب منّا النادل البشوش. لم يسألنا عن طلبنا لأنه يعرفه، ولكنه على غير عادة، قدّم لنا بطاقتي دعوة لفيلم «ملكوت السماء» للمخرج ريدلي سكوت، وكاتب السيناريو ويليام موناهان. «سينما؟»، سأل أحدنا. ورحنا نتقاذف بالبطاقتين حتى استقرتا في شنطة إحدى الزميلات. وفي المساء، ذهبت معها بعد طول تردد، لأنها لم تجد غيري ليرافقها. (بعد الفيلم، أسفت جداً على هذا التردد. وعزمت على مشاهدته مرة أخرى مع أبني البالغ 11 عاماً. «صحيح أن الفيلم عنيف»، قلت أثناء المناقشة مع الزميلة، «لكن ولدي يستحق أن يشاهد جمالية أسطورية».)

التسليم وليس الإيمان

«ماذا تساوي القدس؟»، سأل باليان ابن غودفري (أورلاندو بلوم) صلاح الدين (غسان مسعود) تحت خيمة المفاوضات، وبعد معركة طاحنة سقط في نهايتها المدافعون والمهاجمون عند السور المدكوك.

أجاب صلاح الدين: «لا شيء»، ومضى... ثم استدار وأردف فرحاً بانتهاء المفاوضات السريعة في مصلحته: «كل شيء».

وعاد كل منهما إلى جماعته... انسحب الصليبيون وعائلاتهم نحو البحر والمدن الأخرى بأمان، ودخل العرب المسلمون المدينة بسلام، تماماً كما وعد الرجلان واحدهما الآخر.

حرص صـلاح الدين بنفسه على إعادة المديــنــة مثلما كانت (لقطة إسهامه شخصيـــاً في ترتيب الكنيــسة المدمّرة، الأمــــر الذي كان ليُعتبر كليشيهاً لو أن الفــــيلم من إنتاج عربي). واستقر باليان في فلسطين، حيث عــــاد حداداً مثلما بدأ، يدير مزرعـــــة «إيبيلن» التي ورثها عن أبيـــه غودفــري (ليام نيسن)، وتـــرك الحرب لأهلها.

في طريق العودة إلى المزرعة سألته سيبيلا (إيفا غرين) – ملكة القدس (تخلت عن المملكة وعن حَسَبها ونسبها لتظل مع الشاب المقدام)، سألته: «ماذا سيحلّ بنا؟»، فأجابها باليان: «الدنيا ستقرر. الدنيا دائماً تقرر».

كل سلّم بقدره طواعية وعن قناعة مطلقة، ولكنْ بعد سعي جاد للحؤول دونه. ذلك أن فيلم «ملكوت السماء» معقود على فكرة التسليم وليس تماماً على «الإيمان»، كما قال مخرجه ريدلي في إحدى المقابلات. فكرة التسليم بنتيجة المسعى، بالقدر المحتوم، بالحب، بالسياسة...

ولا تترك مجريات الفيلم من بدايته أي مجال للبس، حتى عند أصحاب الرأي المسبق. فالأخيار والأشرار عند كلا الطرفين المتنازعين وكذلك العقلاء والمتزمتون. ولا وجود لشخصيات رمادية تسعى الى أي نوع من أنواع التعايش الهش: أمام كل امرئ فرصة للاختيار.

هناك شخصيات تعمل في سياقات معتقداتها، كما تفهمها، وتتصرّف على هذا الأساس. هناك ساعون لتفادي سيل الدماء والأمور البغيضة. يقابلهم حاقدون يصرّون على كسر العظم.

لكأن ريدلي ينشد تحقيق أمر مستحيل يتجسّد في تقارب الأطراف مع الحفاظ على الخصوصيات. يحاول بناء مجتمع غير متجانس، كالماء والزيت، يعيش فيه الكل في توازن دقيق واحترام متبادل... ثم تفشل محاولته. ولعلّه تعمّد الوصول إلى هذا الفشل لأسباب تكمن في البشر (الشخصيات) أنفسهم.

لتفادي معركة واقعة لا محال، إثر اعتداء إفرنجي على قافلة عربية قتلت فيه أخت صلاح الدين عمداً، حرّك المخرج جيشين جرارين: جيش صلاح الدين وجيش الصليبيين على رأسه الملك بولدوين الرابع العاقل والمصاب بالبرص.

لم تقع المعركة على رغم تقابل المتحاربين على أرضها، لأن الزعيمين استطاعا أن يتفاهما: وعد بولدوين بالاقتصاص من الحاقد المجرم (ووفى بوعده). وفي المقابل، وعد صلاح الدين بأن يرسل أطباءه لمعالجة الملك، لما رآه منهكاً على شفير الموت. ثم عاد كل جيش من حيث أتى. طبعاً، أثار هذا التراجع حفيظة المتشددين في كلا الطرفين.

مات بولدوين وخلفه صهره المتعصب (زوج أخته سيبيلا). ومنذ لحظة التتويج يشعر المشاهد بأن معركة القدس واقعة وبأنها خاسرة: اختل التوازن مع غياب العاقل النافذ (وهذا من قدر محتوم). وقبيل موته، يطلب الملك من باليان تولي الدفاع عن المدينة: «عليك بالدفاع عن القدس ليس لأنه عمل نبيل، بل لأنه محق».

ضبابية الصورة

فكرة «التسليم» تنسحب على أداء الممثلين. ويبدو الأمر واضحاً عند أورلاندو بلوم وإيفا غرين كما عند غسان مسعود وآخرين. في وجوههم هناءة ونظرة سارحة إلى البعيد وقبول، على خلفية البقاء على استعداد لإبراز العصب في حينه وعند الضرورة.

والحوارات في «ملكوت السماء» جاءت مسبوكة بعناية، فلا مجال للكلام. الوقت، كل الوقت، للفعل والسعي. الشخصيات تتفاعل، تارة برقة وطوراً بعنف، والكلام يؤجّل الحدث أو يعجّله.

أما الصورة فتأتي لتكمله أو لتشدد عليه. تتواجه شخصيتان وتقولان قولاً مقتضباً معبّراً لينشب من بعده مشهد حب أو معركة حامية، أو يطبق صمت أو تسرح طبيعة خلابة خيّرة. والفيلم على الدوام في تماسك وسبك وتوازن بين كل مكوّناته.

مناخات الصورة مأخوذة من عبق لوحات المستشرقين (للمشاهد الداخلية) و»الغرافور» (للمشاهد الخارجية)... تلك الخلفية الضبابية التي لا يبرز فيها إلا التفصيل المطلوب. واللافت في التصوير أن اللقطة القريبة تساوي اللقطة البعيدة في القيمة التعبيرية والدرامية. في اللقطات القريبة، تبرز القسمات وحقيقة المواقف وأدق التفاصيل. وفي اللقطات البعيدة نسج وحياكة متقنان (يرقىان إلى مصاف المقامات ونقوش السجاد. رسوم منمنمة من خيول وخيّالة وأعلام وغبار وتلال وجلول، تتحرّك بجمال). إلا أن ثمة إحساساً بأن إدارة المجاميع في المعارك مستعارة من الياباني أكيرا كوروساوا، وتحديداً من فيلم «كاغيموشا» (المحارب الظل، 1980).

مثلما يفعل الممثلون في نهاية كل عرض، رحنا نتقبّل التهاني عند الملصق الكبير قرب القاعة. ورحنا نعرّف المشاهدين الخارجين مستمتعين بأن صلاح الدين هو الممثل السوري غسان مسعود. البعض رفع حواجبه إعجاباً والبعض الآخر ضحك إذ تذكّر أنه هو الذي قال: «إبن غودفري؟ غودفري هذا، كاد أن يقتلني في لبنان»، عندما سأل صلاح الدين عمّن يدافع عن القدس.

مهما يكن من أمر يمكن الاطلاع على ردود الفعل حول الفيلم من خلال موقع «أي أم دي بي» للأفلام  www.imdb.com (وهو بنك أفلام غني جداً ومفتوح على آراء الجميع من كافة أنحاء العالم، حصل فيلم «ملكوت السماء على 7.2 علامة من 10 (نسبة إلى نحو 2000 مقترع). أما أبرز التعليقات الفردية عليه فهي: «لم أكن أتوقع هذه النظرة العادلة إلى طرفي النزاع» مع إشادة بـ»أداء غسان مسعود الجذاب لدور صلاح الدين. كما تجدر الإشارة الى أنه إضافة إلى مسعود هناك ممثلان عربيان آخران شاركا في العمل وهما المصري خالد النبوي في دور ملاّ متشدد، والسوداني الصديق الفاضل (أحد مساعدي صلاح الدين).

الحياة اللبنانية في

13.05.2005

 
 

أورلاند بلوم بطل مملكة الجنة في حوار لـ الأهرام العربي‏:‏

الفيلم رسالة إلي العــالم‏..‏ وجعلني أفكر في التاريخ

هوليوود ــ محمد رضا

فيلم ريدلي سكوت الجديد مملكة الجنة هو أفضل ما حدث للعرب والمسلمين علي الصعيد الإعلامي منذ أن نال نجيب محفوظ جائزة نوبل سنة‏1988‏ أو منذ أن أثار فيلم التونسية مفيدة التلاتلي صمت القصور رواجا غربيا في سنة‏1994‏ ما حمل أكثر من ناقد أمريكي وغربي علي جدولته بين أفضل عشرة أفلام شاهدها للعام‏,‏ مملكة الجنة هو أفضل إنتصار إعلامي عربي منذ وقوع مأساة‏11/9/2001,‏ بل هو انتصاره الوحيد‏.‏في مقابل كل ذلك هو أيضا المأساة والإدانة علي أكثر من صعيد أكتفي بصعيد واحد فقط‏:‏

منذ عقود وكثير من المثقفين يوصمون كل ما هو هوليوودي يتعرض لموضوع عربي بأنه صهيوني و معاد ومشوه‏,‏ ولا ريب أن الكثير منها كان كذلك‏,‏ لكن التعميم الذي لا يقدم عليه سوي الجاهلين والمتطرفين تغاضي دائما عن حقيقة أن المشكلة ليست فيما تنتجه هوليوود من أفلام معادية أو مشينة أو مشوهة للعربي‏,‏ بل فيما لا ننتجه نحن من أفلام تتحدث عن كرامة العربي وعن حقه وثقافته وأخلاقياته‏,‏ لكي نفعل ذلك مطلوب منا شيئان‏:‏ التفكير‏,‏ ونحن‏,‏ غالبا‏,‏ مقصرون في استخدام عقولنا‏,‏ ومعرفة اللغة السليمة للتواصل‏,‏ لا شيء كان يجب أن يمنعنا من أن نكون نحن المتحدثين عن تاريخنا وبطولاتنا ومفاهيمنا الإنسانية لولا شرور المعادين للفن والثقافة والذي لا يؤازرها سوي فساد الغايات التجارية التي لا تؤمن الا بمعاملة تجارة السينما بنفس معيار تجارة الأعلاف‏,‏ في ذلك‏,‏ هي لا تسعي لتحسين صورة او مناوأة أخري‏,‏ بل ليبقي كل شيء علي ما هو عليه لأن السوق ماشي وإذا لم يكن بدا فلننتج فيلما عن أبطال المقاومة وأبطال عمليات التجسس المعادية للعدو يفرغ الجمهور من نقمته علي الأوضاع ويجعلنا بحل من أي التزامات وطنية أو قومية كبري‏.‏

هنيئا لريدلي سكوت‏,‏ ولهوليوود علي فيلمهما النير مملكة الجنة كان الأمر بحاجة إلي كاتب سيناريو ومخرج أجنبيان وإلي‏410‏ ملايين دولار هوليوودية لإنتاج فيلم نري فيه صلاح الدين وهو في أبهي صورة ممكنة‏:‏ رجل حكيم وعادل وغير متعطش للدم تحمل أذي الصليبيين الغزاة والسفاحين إلي أن طفح الكيل‏,‏ فحمل علي القدس وحين استسلمت لم يذبح الأطفال والنساء كما فعل الصليبيون حين استولوا علي المدينة‏,‏ بل سمح لهم وللمقاتلين جميعا بالخروج سالمين منها من دون أذي‏,‏ هذا ليس في التاريخ فقط بل علي شاشة مملكة الجنة‏.‏

وللقاريء أن يتصور هذه الملايين من المشاهدين الغربيين‏(‏ والأمريكيين علي وجه الخصوص‏)‏ في مرحلة ما بعد‏11/9‏ وهي تتلقف درسا في التاريخ لم تكن تعلم به‏,‏ تقرأ في صفحات واقع كانت غائبة عنه‏,‏ فتجد أن الغزو الأوروبي لبلاد العرب يعود إلي ما بعد الألف الأول من التاريخ الميلادي بقليل ولا يزال‏,‏ وأن كلمة الحملة الصليبية التي وردت علي لسان جورج بوش في أكثر من خطاب ليست كلمة جيدة المعني‏,‏ الفيلم يعرض للغربيين الوجه الأسود للكلمة ويقدم فيلما الأخيار فيه هم المسلمون والأشرار هم الأوروبيون‏,‏ ليس كلهم ولكن هذه خطوة كبيرة لا غبار عليها‏.‏

في حكاية تقع أحداثها خلال الحقبة الثانية من الحملة الصليبية‏(‏ الأولي من‏1095‏ إلي‏1099,‏ الثانية من‏1147‏ إلي‏1148‏ والثالثة من‏1189‏ إلي‏1192)‏ يواجه المحارب باليان‏(‏ أورلاندو بلوم‏)‏ أزمة اعتقاد بأنه يحمل الشعور بالخطيئة ويحاول أن يجد في القدس خلاصه لكن مجيئه إلي هناك لا يحل أزمته الإيمانية بل يضعه علي رأس المحاربين الذين سيدافعون عن القدس عندما يقرر صلاح الدين أن الوقت حان لاسترجاعها حالما تجاوزت اعتداءات الجيش الصليبي الحد الممكن‏,‏ لقد جئت هنا للدفاع عن الله‏,‏ لكني وجدت أن الحملة كلها من أجل الثروة والسيادة‏,‏ يقول أحد أعوان باليان وهو يتوجه إلي مصيره المحتوم‏,‏ وقبل نهاية الفيلم قنبلة إعلامية أخري عندما يطمئن صلاح الدين باليان قائلا‏:‏ سلم القدس لي وأنا أضمن خروج الأطفال والنساء والمحاربين والملكة من دون أذي‏,‏ علي ذلك يرد باليان مستغربا‏:‏ ألم يذبح الصليبيون النساء والأطفال حين احتلوا القدس‏,‏ فيرد عليه صلاح الدين‏:‏ أنا لست منهم‏.‏

إلي جانب قوة المضمون هناك تقديم العربي كشخصية حقيقية وليس كنمط متعارف عليه‏,‏ ولدينا ثلاثة ممثلين يؤدون شخصيات عربية ناطقة في الفيلم‏.‏السوري غسان مسعود في دور صلاح الدين وما عليك إلا لتري كيف أن تمثيله يطغي علي تمثيل أورلاندو بلوم لتعرف طينة بعض ممثلينا الجاهزة للتصدير‏,‏ وخالد النبوي الذي يؤدي دور أحد كبار معاوني صلاح الدين المتحمس للقتال ودحر الغزاة وألكسندر صديق في دور معاون آخر لديه جلد واستعداد لفهم الآخر‏,‏ كل من غسان وخالد بحاجة إلي دروس في الإنجليزية لا شك‏,‏ لكن لا شيء يمكن أن يقال نيلا من مستوي أدائهما التعبيري‏.‏

بطولة الفيلم تتمحور حول شخصية باليان التي يؤديها أورلاندو بلوم‏,‏ من سيد الخواتم إلي طروادة إلي مملكة الجنة شاهدناه يحمل السيف والدرع ويقاتل‏,‏ لكنه لم يحتل حيزا دراميا جيدا وواسعا كما الحال هنا‏,‏ إنه ممثل جيد لكن شخصيته متضاربة إلي حد ملحوظ من حيث إن المطلوب منه أن يكون بطلا وفي ذات الوقت يحمل ما يكفي لأن يكون معاديا للبطولة‏,‏ التالي هو لقاء الأهرام الأسبوعي معه حين حط الممثل في هوليوود للحديث عن فيلمه‏.‏

·         هذه أول مرة نراك فيها تحمل الفيلم علي كتفيك‏,‏ أنت الممثل الأول وتظهر في نحو‏58‏ بالمئة من مشاهده‏,‏ كيف أنجزت ذلك؟

بفضل المخرج ريدلي سكوت الذي جعل الأمر سهلا إلي حد بعيد إنه مخرج نشط ونوع من الرجال الذي يلهم بالعظمة منحني الكثير من الثقة بمجرد وجوده في قيادة هذا الفيلم‏,‏ بالنسبة إلي شخصية باليان هي الشخصية التي شعرت بأنني أستطيع أن أرتاح في التعبير عنها‏,‏ الشخصية التي تستطيع تنفيس دواخلي فيها‏,‏ علي عكس شخصية راسل كراو في جلادياتور‏,‏ وهو قدم أداءا ممتازا في ذلك الفيلم‏,‏ شخصيتي هنا كبطل تستدعي قدرا من التمنع‏,‏ إنه بطل ممتنع‏,‏ بطل من نوع أبطال سيرجيو ليوني‏,‏ بالنسبة إلي هو رجل يمضي في رحلة لاكتشاف منابع روحانية‏,‏ ما ساعدني أيضا أنني شاهدت براد بت وإريك بانا يؤديان بطولة طروادة وجوني دب يؤدي بطولة قراصنة الكاريبي وفيغو مورتنسون في سيد الخواتم وكلهم يؤدون أدوارهم جيدا ما جعلني أشعر بأنني أستطيع أن أفعل الأمر نفسه‏,‏ لذا كنت في وضع مرتاح عموما‏.‏

·         كيف تنظر إلي المحاكاة التي يقصدها الفيلم بين التاريخ والحاضر؟ كم مهمة هذه المحاكاة في نظرك؟

أعتقد أنها مهمة جدا اليوم‏,‏ أعتقد أن هذا الفيلم يحمل رسالة كبيرة إلي الإنسانية‏,‏ باليان رجل فقد علاقته الروحانية ويريد استعادتها‏,‏ ويريد أيضا الحصول علي إجابات حول الحياة‏,‏ رحلته بدأت بلقائه بأبيه وبمنحه رتبة فارس والوصول إلي القدس ووقوعه في حب الملكة ثم دفاعه عن المدينة‏,‏ الرحلة تعلمه قيمة التحمل والتواصل وتكشف له مساويء التعصب‏,‏ الرحلة بالنسبة إليه هي خلاص من تبعات التعصب وفي ذلك رسالة لنا جميعا‏.‏

·         كيف تفسر علاقة باليان بصلاح الدين؟

علاقة احترام‏,‏ حين يقول باليان لصلاح الدين في لقائهما الأخير سلام عليكم إنما يبادره بلغته ويعنيها‏,‏ إنه يظهر احترامه له ولجيشه ويراه مساويا له كرجل‏.‏

·         هذه هي المشكلة في العديد من الأفلام التي صورت الغربي ضد الآخر‏,‏ الآخر لا يمكن أن يكون مساويا؟

صحيح‏,‏ باليان لا يراه عدوا‏,‏ لا يراه كرجل مختلف ولديه دين آخر غير دينه‏,‏ لكن كإنسان أعتقد أن باليان إذ خسر إيمانه الروحاني وجد أن تحقيق عالم أفضل مرتبط بقيام إحترام متبادل بين الإنسان والآخر بصرف النظر عن عنصره ودينه ولغته او ثقافته‏.‏

·         ذكرت بعض الصحف إنك قلت أن هذا الفيلم غير قناعاتك وزادك فهما للأمور‏,‏ لكنها لم تذكر كيف‏,‏ هل لك أن توضح هذا؟

الفيلم كما قلت يحمل رسالة إنسانية تدعو إلي السلام القائم علي الاحترام المتبادل‏,‏ قبله كنت علي علم بأهمية هذه الرسالة وأنا ليبرالي في الأساس‏,‏ لكن الفيلم جعلني أفكر أكثر في تاريخنا وتاريخ العلاقة بين العالمين‏.‏

·         هل تري ما يراه الفيلم من أن الدين استخدم ستارا لحملة هدفها كان الثروة والأرض؟

نعم‏,‏ العبارة ترد في الفيلم وهي مقصودة‏.‏

·         هل قرأت أي شيء عن صلاح الدين قبل تصوير الفيلم؟

كنت أعرف أن صلاح الدين محترم من قبل العالم بأسره كقائد‏.‏رجل من الفروسية والنبل بمكان بعيد‏,‏ كنت أعلم أن باليان دافع فعلا عن القدس وأنه سقط أسيرا بيد صلاح الدين وصلاح الدين أطلق سراحه لكي يعود إلي القدس ليكون بجانب زوجته قبل الهجوم الأخير‏,‏ في الحقيقة كان باليان قد وعد صلاح الدين بأن يأخذ زوجته ويرحل من القدس‏,‏ لكن حين طلب منه الدفاع عن القدس عاد إلي صلاح الدين وأخذ إذنه ومنحه صلاح الدين الإذن ليبقي في القدس ويدافع عنها‏,‏ ووجدت أن ذلك كله رائع من حيث إنه غاية في التفاهم والاحترام المتبادل‏.‏

·         كنت في مهرجان دبي حين وصلت لحضور المهرجان‏,‏ لم نلتق لكن من التقي بك حمد فيك خصال التواضع؟

شكرا‏.‏

·         هل المغرب حيث تم تصوير الفيلم والإمارات العربية المتحدة هما البلدان العربيان الوحيدان اللذان زرتهما؟

نعم‏,‏ صورنا في المغرب لأربعة أشهر وكانت المرة الثانية لي هناك فقد زرتها حين صورت طروادة أيضا‏,‏ المغرب مكان مختلف عن الإمارات‏,‏ ذهلت مما رأيته في دبي من تقدم‏,‏ لكن المغرب وجه آخر من العالم العربي‏.‏

·         هل زرت القدس؟

لا‏.‏

·         هل لديك نية في زيارتها؟

لا أدري‏,‏ ربما بعد هذا الفيلم علي أن أزورها‏.‏

·         في طروادة لعبت شخصية شقيق إريك بانا‏,‏ وهي شخصية ضعيفة‏,‏ هنا شخصية قوية‏,‏ كيف تنظر إلي هذه النقلة؟

حين لعبت شخصية باريس في طروادة لاحظت أنها شخصية ضعيفة وجبانة وحين قرأت شخصيتي في مملكة الجنة وجدتها شجاعة‏.‏هذا سبب آخر جعلني أتمسك بالفيلم‏*

الأهرام العربي في

14.05.2005

 
 

أخيرا هوليوود تنصف العرب‏:‏

صلاح الدين يتألق في مملكة الجنة

ريم عزمي

وضع الجمهور العربي يده علي قلبه وحبس أنفاسه انتظارا لما سيسفر عنه عرض فيلم مملكة الجنة‏,‏ ثم تنفس الصعداء بعد مشاهدته وتمني له مشاهدته مرة أخري وهو مسترخي الأعصاب‏,‏ فقد خشي أن ينضم هذا الفيلم البطولي إلي قائمة هوليوود سيئة السمعة حتي بعد تأكيد النجم السوري غسان مسعود الذي قام بدور القائد صلاح الدين الأيوبي‏,‏ أن الفيلم قدم صورة جيدة عن العرب والمسلمين‏,‏ وظل الجميع يترقب العرض حتي اطمأن قلبه‏,‏ لينضم الفيلم إلي قائمة صغيرة قدمتها هوليوود بصورة موضوعية عن العرب والمسلمين والمفاجأة أن الفيلم عرض في بلادنا قبل البلاد التي أنتجته وفي نفس توقيت عرض الفيلم في لندن‏.‏

يبدأ الفيلم بعودة أحد كبار القادة الصليبيين عام‏1184‏ من فلسطين إلي بلاده‏,‏ ندرك أنه جود فراي أوف إيبلان ويقوم بدوره النجم الأيرلندي ليام نيسون‏,‏ الذي جاء إلي الأراضي الفرنسية بحثا عن ابنه غير الشرعي باليان‏,‏ وبعد أن يكشف عن شخصيته الحقيقية للحداد الشاب الفقير ويقوم بدوره النجم الإنجليزي أورلاندو بلوم‏,‏ الذي دفن زوجته للتو بعد انتحارها لعدم احتمالها صوت طفلهما الوليد‏,‏ ويمنيه بالذهاب إلي الشرق لينعم بحياة جديدة حيث رغد العيش‏,‏ ولا يتردد الابن كثيرا خاصة بعد أن قتل قسا‏!‏ فهذا الابن لا يبدو مؤمنا تماما لكنه يعتقد أن هجرته إلي الأراضي المقدسة سوف تنقي روحه مما سيؤهله للفوز بمغفرة الله سبحانه وتعالي‏.‏

ويشد الرحال مع والده وجنوده من المحطة الرئيسية ميسينا بجزيرة صقلية ونستعد لنقلة مهمة في حياة البائس باليان نحو مستقبل مجيد‏.‏ تتطور الأحداث بحيث يقوم الأب بتعميد ابنه كفارس صليبي‏,‏ وبعد رحيله يرث ابنه لقبه وأملاكه بل وأفكاره أيضا‏,‏ فقد اشتهر جود فراي بميله للسلام واحترامه لفترة الهدنة التي عقدها الملك مع العرب‏,‏ لذا يمهد أحد كبار الأمراء الصليبيين وهو تبرياس الذي يقوم بدوره النجم الإنجليزي جيريمي أيورنز‏,‏ لياليان مقابلة مع ملك القدس وهو بولدوين الرابع المصاب بمرض الجذام الخطير وينتظر الموت بين لحظة وأخري‏,‏ يعترف الملك لباليان بأنه يتوقع وفاته قبل بلوغه سن الثلاثين لذا يحتاج لدعمه في التصدي لمحاولات فرقة فرسان المعبد المتطرفة لإفشال عملية السلام مع صلاح الدين ثم تقع الحادثة الشهيرة عندما يقوم فرسان المعبد بقطع الطريق علي إحدي القوافل العربية وذبح جميع أفرادها بمن فيهم شقيقة صلاح الدين‏!‏

تندلع الحرب التي حاول الملك بولدوين تفاديها لعلمه بتفوق الجيش العربي والمسلم‏,‏ في أثناء ذلك يفكر مع تبرياس في مؤامرة ضد الأمير الصليبي جي ديه ليزينيان للتخلص منه وهو صهر الملك وأكثر الأمراء تطرفا‏,‏ ويتم عرض المؤامرة علي باليان في مقابل تزويجه من الفاتنة سيبلا شقيقة الملك وزوجة جي‏,‏ يقابل باليان هذا العرض بالرفض رغم ولعه بسيبلا لأنه يفضل الاستقامة‏.‏

يقرر الملك الخروج علي رأس الجيش بنفسه رغم ضعفه الشديد البدني والمعنوي‏,‏ ويتفاوض مع صلاح الدين ويتعهد له بمعاقبة فرسان المعبد الذين خرقوا الهدنة‏,‏ ويقبل صلاح الدين بل ويعرض زيارة أطبائه للملك المريض الذي تزداد حالته سوءا‏,‏ ويشرع الملك في اتخاذ إجراءات لوضع حد لتطرف فرسان المعبد‏,‏ ويبدأ بسجن أحدهم وهو رينو ديه شاتيون‏.‏ لكن القدر لا يمهل الملك فيسلم الروح‏,‏ وبطريقة تلقائية ينتقل الحكم إلي زوج شقيقته المتعصب جي‏,‏ الذي يفرج فورا عن رينو ديه شاتيون‏.‏

وتقع المعركة الفاصلة حطين ويفتك العرب والمسلمون بالجيش الصليبي ويتم أسر وذبح رينو ديه شاتيون بإيعاز من زعيم فرقة من المتشددين في جيش صلاح الدين ويقوم بدوره النجم المصري خالد النبوي‏,‏ ويتم الاحتفاظ بالملك جي‏,‏ ينصح تبرياس صديقه باليان بالفرار فورا إلي أوروبا قبل وصول العرب إلي القدس في خلال‏4‏ أو‏5‏ أيام لكن باليان الذي يتمتع بشيم الفرسان الصليبيين دوما يرفض الهروب ويتمركز في القدس ويعد العدة كي يصمد أمام جيش صلاح الدين وبعد مقاومة مستميتة لحماية أسوار الحصن ينفذ العرب للداخل بعد انهيار الجيش الصليبي مرة أخري‏,.‏ ويستعد الصليبيون نفسيا كي يفرض صلاح الدين شروطه‏,‏ وينصح أحد القساوسة باليان أنه قبل التفاوض من الأفضل له اعتناق الإسلام‏!‏

ويفاجيء صلاح الدين الجميع بفروسيته ونبله‏,‏ فلم ينتهز الفرصة لإذلال المهزومين‏,‏ بل يطمئن باليان قائلا إنه سوف يتركهم يخرجون في سلام وعندما يندهش باليان مما يحدث يسأله كيف يتركهم بهذه البساطة‏,‏ يجيبه صلاح الدين بكل ثقة‏:‏أن لست مثل هؤلاء أنا صلاح الدين‏..‏ صلاح الدين يسأله باليان مرة ثانية‏:‏ما قيمة القدس فيجيبه مرة ثانية بثبات‏:‏لا شيء‏..‏ وكل شيء‏!!‏

ما وراء الجنة

بلاغة الفيلم تنقلنا إلي مستوي أعمق يذكرنا بضخامة وجمال فيلم لورانس العرب وإنسانية المحارب الثالث عشر‏,‏ حيث يظهر العربي أو المسلم في صورة بديعة‏,‏ كرجل متحضر وذكي وقوي حتي أن التناول يأتي متحيزا للعرب والمسلمين علي حساب الغربيين في بعض الأحيان‏!‏

أثار الفيلم القلق والتشكك في إمكانية تقديم كاتب السيناريو والحوار وليام مونهان صورة موضوعية بعد أن تردد أنه يهودي‏,‏ لكن ليس بالضرورة أن يكون متعصبا‏,‏ وقد حاول بالفعل تقديم صورة محايدة لهذا الصراع‏.‏

وانتهز الفرصة لتقديم إسقاطات تعكس الوضع الحالي‏,‏ خاصة من خلال الجملة الشهيرة الأخيرة‏:‏أنه حتي بعد ما يقرب من ألف عام مازالت مدينة القدس تعاني من الصراعات وأطلق من خلال الفيلم نداء جاء علي لسان أبطاله لجعل مدينة القدس مكانا للعبادة حفاظا علي البشر وعلي المقدسات التي تخصص للمسلمين والمسيحيين واليهود‏,‏ ونذكر أنه كان إحدي مقترحات الرئيس الراحل السادات الطريف أن الصليبيين لم يكن يشغل بالهم وقتها اليهود بل أنهم قاموا بطردهم من القدس مع المسلمين ثم سمحوا للمسلمين فيما بعد بالدخول‏,‏ وظلت المدينة محرمة علي اليهود ويذكر باليان أن وضع المقدسات المتلاصق‏,‏ المسجد الأقصي وكنيسة المهد وحائط المبكي يفرض نظاما خاصا للمدينة‏,‏ ولولا أن الكاتب يهودي لما أكد في السياق علي وجود يهودي في هذه الآونة‏,‏ لكن هذا أكثر ما يمكن توجيهه كنقد له بفضل تمجيده لصلاح الدين ورجاله‏.‏ هناك أيضا لقطات مهمة‏,‏ فمثلا يبدو بولدوين مسالما تماما نفهم أن هذه الحكمة أتت لأنه يعرف إمكاناته القتالية ساعتها ولولا ذلك لسعي لمحاربة صلاح الدين‏,‏ فيتذكر في أحد المشاهد المؤثرة عندما سعد بهزيمة صلاح الدين‏,‏ عندما كان في السادسة عشرة من عمره‏,‏ بما معناه أن ذلك لن يتكرر مرة أخري‏!‏ يرتدي الملك بولدوين قناعا فضيا بالغ الروعة يعكس انطباعا حزينا‏,‏ وقد تألق النجم الأمريكي إدوارد نورتون في أداء هذا الدور‏,‏ فنحن لا نسمع صدي صوته المنكسر ولا نري سوي عينيه الذابلتين من خلف القناع‏,‏ بالإضافة إلي زيه الرائع الذي يغطيه تماما‏,‏ كما لو كان المخرج قد وضعه في إطار خاص‏,‏ فهو ليس حبيس مرضه فحسب بل إنه لا يوجد فكاك من المستقبل‏!‏

تذكرنا سيبلا الجميلة وتؤدي دورها النجمة إيفا جرين وهي تنحدر من أصل فرنسي سويدي‏,‏ بفرجينيا جميلة الجميلات في فيلم الناصر صلاح الدين للمخرج يوسف شاهين‏,‏ يبدو تأثر المخرج ريدلي سكوت بهذا الفيلم مرة أخري عندما قام باختيار غسان مسعود أحد نجوم الدراما السورية وأستاذ المسرح والدراما في دمشق‏,‏ لأنه يشبه إلي حد كبير النجم الراحل أحمد مظهر الذي قدم نفس الدور‏!‏

المخرج الإنجليزي ريدلي سكوت الذي قدم أعمالا شهيرة مثل رجال ماتشيستيك وسقوط الصقر الأسود وهانيبال والمصارع والمجندة جين والجزء الأول من كائن فضائي سواء كمخرج أو كمنتج‏,‏ يذكرنا بتحفته الفنية التي قدمها عام‏1992‏ بعنوان غزو الفردوس‏1492‏ بمناسبة مرور‏500‏ عام علي اكتشاف الرحالة كريستوفر كولومبوس للشواطيء الأمريكية عندما انتشي الغرب بعثوره علي أرض جديدة اعتبرها الجنة التي تحل له ولا تحل لسكانها فينقلنا هذه المرة إلي جنة أخري شرقية طالما شغلت الأوروبيين وداعبت خيالهم ودخلوا في مغامرات لا حصر لها في محاولة للاندماج في عالم ألف ليلة وليلة الخيالي‏!‏ وعلق سكوت علي هذا الإنتاج الضخم الذي بلغت تكلفته‏130‏ مليون دولار وشاركت فيه الولايات المتحدة مع بريطانيا وأسبانيا قائلا‏:‏لقد جذبتني دوما فكرة الفارس وصورة الرجل الذي يمشي مرتديا الفولاذ ويحارب من أجل الحق مهما كان‏,‏ لكنني لم أرغب في تقديم مجرد قصة عن الحروب الصليبية لذا فإن هذه الفترة مهمة حيث ساد الإسلام بفضل هذين الرجلين الرائعين‏.‏ نري أن باليان يعتز بجملة‏:‏الرجل لا يصبح رجلا ما لم يحاول إصلاح العالم‏,‏ لكن هذه الجملة تنطبق بالأخص علي صلاح الدين وبولدوين‏,‏ وليس علي باليان نفسه‏.‏

ولا يمكن تصنيف الفيلم كديني‏,‏ فعلي العكس يحمل لمحات علمانية تسخر أحيانا من الدين وتنادي في أحيان أخري بوضع الدين جانبا والعيش بإنسانية‏,‏ وقليلة هي الأفلام الهوليوودية التي تطرقت للمسيحية‏,‏ وكان آخرها‏:‏آلام المسيح لميل جيبسون ورغم محاولة صناع الفيلم الحيادية‏,‏ فهي لا تبدو مثالية تماما‏,‏ فكما لو كانوا يتمنون أن يظل الغربيون مستمتعين بخيرات بلادنا لكن بدون عنف‏!‏

الفيلم يذكرنا كذلك بالكلمة الشهيرة التي استخدمها الرئيس بوش عند غزو العراق‏,‏ وهي كلمة حرب صليبية‏,‏ وأخذ قادته علي عاتقهم تفسير الكلمة بأنها حملة‏,‏ ويبدو أن الشرق سوف يمثل دوما الكنز صعب المنال بالنسبة للغرب‏* 

 

الأيوبي الفذ

هناك تاريخ تقريبي لمولد ووفاة صلاح الدين الأيوبي الكردي ما بين‏1137‏ ـ‏1193‏ واسمه الحقيقي يوسف بن أيوب‏,‏ وكان والده ضابطا في جيش عماد الدين زنكي وقد اشتهر كسياسي محنك وإنسان بكل المعاني أكثر منه محاربا‏.‏

والطريف أن شكله الحقيقي ليس كما يظهر في الأفلام‏,‏ فقد كانت بشرته وردية وهو يميل للقصر والامتلاء كما يقال ربع وكان قد فقد إحدي عينيه في معاركه ولا يسعني سوي الأطراء علي هذا العمل المبهر‏,‏ الثري فهناك تكثيف للأفكار والأقوال‏,‏ فهل يحقق النجاح المطلوب‏,‏ خاصة بعد انحسار الجمهور الأمريكي عن متابعة أفلام الحروب؟

 

حقائق تاريخية

بدأت الحروب الصليبية عام‏1095‏ وانتهت عام‏1291,‏ أول إماراتين هما الرها وأنطاكية التابعتين لتركيا حاليا وتكونت مملكة القدس عام‏1099‏ ثم سقطت طرابلس فيما بعد نجح عماد الدين زنكي في تخليص الرها عام‏1144‏ بعد ذلك توالت نجاحات المسلمين في طرد الصليبيين‏,‏ سقوط القدس عام‏1187‏ علي يد صلاح الدين‏,‏ ونجح الظاهر ببيرس في الفوز بانطاكية عام‏1268,‏ ومن بعده نجح السلطان المنصور قلاوون في إنقاذ طرابلس عام‏1289,‏ وقضي ابنه الأشرف خليل تماما علي فلول الصليبيين بعد سقوط عكا عام‏.1291‏

لم يذكر في التاريخ أن باليان كان ابنا غير شرعي لجود فراي‏,‏ كما لا نعلم تماما كيف كانت بدايته لكنه أتي إلي القدس في سن أصغر ولم يقع في غرام سيبلا‏,‏ واشتهر الملك بولدوين باسم بولدوين المجذوم‏,‏ ولا نجد في التاريخ شخصية تبرياس‏,‏ لكنها تتشابه مع شخصية ريمون الصنجيل أو ريمون ديه سان جيل حاكم طرابلس‏,‏ وهو من أبرز أمراء المماليك وكانت تربطه بصلاح الدين علاقة طيبة‏.‏

أخت صلاح الدين لم تقع في الأسر كما لم تقتل‏,‏ بالإضافة إلي أن الملك جي لم يقتل رسل صلاح الدين كما ظهر في الفيلم‏.‏ عرف فرسان المعبد لدي العرب باسم الداوية وهي مجموعة بالغة التطرف من الصليبيين‏,‏ وقام الفاتيكان بالتخلص منهم في النهاية المجموعة المتشددة التي مثلها خالد النبوي في الفيلم وأطلق عليها صناع الفيلم لقب ملا‏,‏ كانت تحمل اسم الصوفية لكنهم ليسوا من المتصوفين وقد أتاح لهم صلاح الدين فرصة الفتك بالداوية بعد معركة حطين‏.‏ لم يتم إبراز قيادات في جيش المسلمين مثل تقي الدين عمر ابن شقيق صلاح الدين‏,‏ وبهاء الدين قراقوش ومظفر الدين كوكبوري‏,‏ لأن الفيلم ركز علي القادة الصليبيين وفي المقابل قيل إن جيش المسلمين يتعدي‏200‏ ألف عسكري في حين كان لا يتعدي‏16‏ ألف عسكري قاموا باكتساح الجيش الصليبي‏!

الأهرام العربي في

14.05.2005

 
 

 مملكة السماء

محمود كرم من الكويت

لستُ شغوفا ً ب الأفلام التاريخية على اعتبار أن  التأريخ في عالم السينما يدرج ضمن الحبكة الفنية ويخضع لأصول الدراما وغير ذلك من فنون السينما وبالتالي تبقى مسألة نقل التأريخ كما هو في السينما عملية تتعرض للتشويش.. ولكني مع هذا وجدتُ نفسي مهتما ً بمشاهدة الفيلم التاريخي الضخم ( مملكة السماء ) والذي لا زال  يعرض إلى الآن في دور السينما الكويتية..  ما شدني حقيقة ً أن أذهب لمشاهدة هذا الفيلم هو فضولي في معرفة كيف ينظر ( الغرب ) الآن  إلى عالم العرب والمسلمين وخاصة ً بعد أحداث 11 سبتمبر الدامية..

وربما يتساءل  البعض منا عن جدوى   مشاهدة فيلم يحكي عن فترة حساسة من  تاريخ العرب والمسلمين تمت صناعته في هوليوود ، ولذلك حينما  عرض الفيلم اعترض عليه بعض النشطاء الإسلاميين في أمريكا ولكن حينما سألوا الممثلة الجميلة ( إيفا  جرين ) التي تقوم بدور ملكة القدس ( سيبيللا )  في الفيلم في مقابلة لها مع مجلة ألمانية وجاء جوابها ردا ً على الاتهامات التي تقول  أن الفيلم يصوّر العرب على أنهم مجرد  قتلة وسفاحون ومتعطشون للدم والذبح  فقالت:

لعلهم لم يشاهدوا الفيلم، ولو رأوه لغيروا رأيهم، فهو يحمل كل الاحترام للثقافة الإسلامية، وصورة كريمة جداً للإنسان العربي، فضلاً عن هذا أن الفيلم يظهر بوضوح أن كل دين فيه طائفة من المتشددين، الذين يمثلون أنفسهم أكثر من الدين الذي ينتسبون إليه.. ومن الأشياء التي تحسب للفيلم أنه قد تم عرضه على لجنة خاصة في مكافحة العنصرية و أستاذ متخصص في الدراسات الإسلامية من  جامعة كاليفورنيا..  وكان شيئا ً جميلا ً أن يشارك الممثل السوري ( غسان مسعود ) بدور صلاح الدين في الفيلم..

وعلى الرغم من أن الفيلم تدور أحداثه حول صانع سيوف شاب من القدس والذي يقف ضد جيوش المسلمين بقيادة صلاح الدين لحماية  المدينة و أنه لم يكن يخدم سوى ملك هالك إلا أنه يتمكن من إنقاذ المملكة من الجيوش الجرارة بعد أن عقد اتفاقا ً سلميا ً مع صلاح الدين لإنقاذ المدينة وأهلها  من المزيد من الموت في مقابل أن يستولي الجيش الإسلامي على المدينة..

وهنا قد تكون رسالة الفيلم في غاية الأهمية لأنه يريد أن يقول أن ( الإنسان ) أهم بكثير من حرب  الأديان..

وخاصة أن الفيلم كان يظهر في بعض لمحاته أنه كان هناك  تعايشا ً سلميا ً في مدينة القدس بين المسلمين والمسيحيين واليهود وأن الكنائس كانت تقرع أجراسها والمآذن تصدح بالأذان جنبا ً إلى جنب..

ومع أن الفيلم يحوي على الكثير من مناظر العنف والقتل إلا أن رسالة الفيلم كانت واضحة وهي أن العنف لا يمكن بأية حال أن يخدم  قضية ما وأن الناس لم يستفيدوا شيئا ً من دروس التاريخ حتى أن ابنتي ( فروحة ) قد انتبهت إلى مغزى هذه الرسالة بحسها الطفولي فقد سمعتها تقول بتنهيدة  أثناء مشاهد العنف:

مو حسافة الناس تموت من الصوبين..

وتقصد أليس حراما ً أن الناس يموتون  من الطرفين وكأنهم لم يتعلموا من درس  التاريخ شيئا ً..

وفي بعض مشاهد االفيلم كانت هناك بعض اللمحات الأخلاقية والتي تؤكد على أن التفوق الأخلاقي مسألة مهمة جدا ً في الصراع فكان أن عرض ( صلاح الدين ) على ملك القدس أطباءه الخاصين لعلاجه من المرض الذي كان يفتك به  وفي المقابل  التزم الملك  أمام صلاح الدين بمعاقبة من تسببَ في خرق الهدنة  وفي قتل أفراد ينتمون إلى   المسلمين..

ومن اللمحات المؤثرة في الفيلم أن البطل المدافع عن القدس ( بايلان ) بعد أن سلم المدينة إلى صلاح الدين في مقابل تعهد الأخير على أن لا  تتعرض المدينة بمن  فيها من أهلها  إلى القتل والتدمير ذهبَ إلى حال سبيله  ولم يلتحق بعد ذلك بجيش ملك الإنجليز ( ريتشارد قلب الأسد ) الذي عرض عليه الانضمام لجيشه لمحاربة صلاح الدين..

وهذه إشارة  من ( بايلان ) برفضه الاشتراك في الحرب مجددا ً وهي  أن (الإنسان) هو الأهم  من حروب لا تنتهي سببتها الأديان على مر العصور..

ولعل هناك مفارقة يجب أن لا نغفل عنها في مسألة التعاقب  التاريخي  وهي أن صلاح الدين قد تعهد  على أن يحافظ على الأمان في المدينة بينما أجداد ( بايلان ) لم يدخروا وسعا ً في الهجوم على المدينة مجددا ً وإشاعة الموت فيها..

وعلى الرغم من أن الفيلم يتناول الفترة التاريخية لما بين الحملتين الصليبيتين الثانية والثالثة خلال القرن الثاني عشر الميلادي إلا أن هناك البعض من متشددي ومتعصبي  شعوبنا العربية والإسلامية يملك قدرة هائلة على استحضار تلك الأحقاد ويبني عليها موقفا ً معاديا ً لكل ماهو ( مسيحي ) أوغربي خاصة ً إذا عرفنا أن  عالم الغرب يرى أن ما حدث في ذلك الوقت لم يكن سوى كارثة  ولم تجن ِ منها البشرية  سوى الدمار والعدم  ولذلك استطاعت أوروبا أن تخرج من تلك الدائرة الخانقة وانتبهت إلى نصرة واقعها والتحول إلى العوالم التي من شأنها أن تساهم في صنع الإنسان بعيدا ً عن موروثات التاريخ وأمجاده في الحروب..

بينما نحن لا نزال نستحضر ذلك   التاريخ ونتوارث أحقاده وسلبياته لنصنع من خلاله مجدا ً حاضرا ً..

وفي غمرة المشاهد الحربية  في الفيلم سألتني ابنتي ( فروحة ):

منو ودّك يفوز؟؟!!!!!

فأجبتها: الإنسان يا بابا..

موقع "إيلاف" في

15.05.2005

 
 

طارق الشناوي يكتب عن «مملكة الجنة»:

الحروب الصليبية وصلاح الدين برؤية الأمريكيين وليس يوسف شاهين

المخرج لم يناصر الصليبيين ولا المسلمين ولا اليهود.. قدم رؤية موضوعية لا تستحق

كل هذه الضجة

«مملكة الجنة» هو الفيلم الذي تحول إلي قنبلة موقوتة تثير الجدل والنقاش والخلاف وتباين وجهات النظر ولا بأس من هذا كله.. بل إنني أري أن قيمة العمل الفني تتحدد وأيضا تتجدد بقدرته علي تلك الإثارة علي شرط واحد وضروري وهو أن تصبح الإثارة إنارة.. تضيء لا تحرق!!

من تتملكهم الحساسية المفرطة وهم يشاهدون فيلم «مملكة الجنة» ينبغي أن نستوعب مشاعرهم الغاضبة لأنهم لا شعوريا محملون برأي مسبق يتوجس من كل ما هو غربي وتحديدا أمريكي في رؤيته للإسلام والمسلمين، حيث إن صورة المسلم والعربي علي وجه الخصوص دائما ما تخضع لتنميط مخل ورؤية قاصرة.. العنصر الثاني هو أن قضية القدس لا تزال مشتعلة والممارسات الاستفزازية الإسرائيلية لا تتوقف والاعتداء علي المقدسات الإسلامية والتهديد الدائم بضربها لا يعرف هوادة.. الثالث أن الفيلم يعود للحروب الصليبية التي استمرت 200 عام في مطلع الألفية الثانية وشهدت في النهاية انتصارا للجيوش الإسلامية بقيادة البطل الكردي المحنك المسلم صلاح الدين الأيوبي الذي حرر الأرض وأقام العدل وهو انتصار تاريخي علي القوات الصليبية دائما ما يحدث التوازن في الشخصية المسلمة والعربية لنواجه بها هزائم الحاضر واخفاقاته المتكررة! إنه صورة دائمة التألق والوهج تبدد ما نغشي فيه الآن من ظلام وهوان.. رابع العناصرالمؤثرة في «مملكة الجنة» إخراج الأمريكي ريدلي سكوت هو أن هناك مرجعية سينمائية وحيدة صارت بمثابة وثيقة تاريخية نتشبث بها وأعني بالطبع فيلم «الناصر صلاح الدين» للمخرج يوسف شاهين، حيث إن الحروب الصليبية عند الجمهور ليست هي ما يذكره المؤرخون ولكن هي فقط فيلم «صلاح الدين».. ليس مهما ما تم تدوينه في كتب التاريخ، الناس تصدق فقط وتثق فقط في الشريط السينمائي.

صلاح الدين الأيوبي هو أحمد مظهر وليس أحمد مظهر هو الذي أدي شخصية صلاح الدين!! أي أن الصورة السينمائية التي قدمها يوسف شاهين قبل نحو 42 عاما هي فقط التاريخ الأصلي وليست صورة سينمائية من التاريخ!!

كل هذه التباينات الشاسعة لاشك أنها سوف تلقي بظلالها وقيودها علي من يشاهد «مملكة الجنة» وعنصر واحد منها فقط كفيل بأن يجعل المشاهد ينفر من رؤية ريدلي سكوت لأنها تتناقض تماما مع رؤيته، وهنا يظلم المشاهد نفسه بقدر ما يظلم الفيلم.. ان زاوية الرؤية التي قدمها سكوت تجعل من شخصية الحداد «باليان» التي لعبها أورلاندو بلوم هي الشخصية المحورية التي من خلالها نطل علي الأحداث وهي أيضا ينبغي أن تصبح بالنسبة لنا كمشاهدين هي عيننا التي نشاهد من خلالها الفيلم وليس صلاح الدين الأيوبي كما هو موثق بالفيلم المصري.

هذا الحداد الذي يعيش في إحدي قري فرنسا يقتل طفله وتنتحر زوجته الجميلة حزنا علي طفلها ويأتي الراهب بكل قسوة يقطع رأسها ـ لأنها من وجهة نظره كافرة ـ لإقدامها علي الانتحار ثم يسرق صليبها من عنقها.. وعندما يكتشف «باليان» الحداد ذلك يلقي به إلي النيران انتقاما لزوجته!

وهكذا بتلك اللقطة قدم المخرج إيحاء سلبيا لبعض رجال الدين من الكاثوليك وهي الطائفة التي ينتمي إليها بطل الفيلم.. والكاثوليكية ـ المسيحية ـ الغربية هم الذين شنوا الحرب في القدس، علي الجانب الآخر فإن المسلمين بقيادة صلاح الدين ورفاقه يقدمهم الفيلم مؤمنين بقضيتهم وأيضا من خلال صلاح الدين أي مقومات شخصية المؤمن الحق الذي يوقر الأديان السماوية عملا بالآيات القرآنية الكريمة التي تمنح لغير المسلم كل حقوق المسلم، كما أن القرآن الكريم يحوي آيات كثيرة تؤكد أنه لا إكراه في الدين «فمن يشاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر».

عديدة هي لمحات صلاح الدين الذي أدي شخصيته الممثل السوري غسان مسعود التي تؤكد علي سماحة الإسلام منها أنه عندما رأي الصليب ملقي علي الأرض رفعه إلي المنضدة وأزال عنه الأتربة وكانت نظرته مليئة بالتوقير.. كذلك فإن صلاح الدين الأيوبي كان يميل أكثر إلي الجنوح للسلم إلا أنه إذا اضطر إلي خوض القتال فإنه لا يعرف هوادة. عملا بالآية الكريمة: «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه». أيضا هو قائد يحترم كلمته، حيث إن الصليبيين عندما قرروا الانسحاب تعهد بأن يحافظ علي أرواحهم وممتلا كاتهم وأوفي بالوعد.. كذلك فلقد عرض علي الملك الصليبي بالدوين المصاب بالجذام أن يعهد به إلي أطبائه المسلمين لكي يعالجوه من مرضه العضال.. وقدم خالد النبوي دور أحد قادة جيوش المسلمين الذي لا يؤمن إلا بالحرب والقتال ولهذا فإنه مع كل اتفاق للهدنة يحتج لدي «صلاح الدين».. علي الجانب الآخر فإن الصليبيين ليسوا جميعا قتلة ولا معتدين، كانت رؤية ـ سكوت ـ تراعي دائما الوجه الآخر للصورة وعلي الجانبين.. إن لدي المخرج رؤية فنية ووجهة نظر يريدها أن تصل للعالم أجمع وهي: «أن القدس ليست مدينة من حق أحد أن يسيطر عليها سياسيا ولكنها مملكة الجنة لا ينبغي أن يعلو فيها صوت إلا صوت الله وصوت عباد الله ومن كل الأديان والطوائف والأعراق».. إنها دعوة إذا حاولنا أن نصنع لها سياجا وإطارا سياسيا نجد المخرج يدعو إلي أن تصبح القدس مدينة مستقلة عن أي سيادة جغرافية لدولة ما لأنها أكبر من أن يحتويها أي إطار جغرافي يتيح السيطرة عليها من قبل هذه الدولة.. ولا يمكن أن نطالب مخرجا أن يدعو إلي رؤية سياسية تتوافق تماما مع الرؤية العربية الفلسطينية ومثاليتها والتي تري أن القدس عاصمة لفلسطين لأن هناك علي المقابل رؤية إسرائيلية مغرقة في ظلمها تريد أن تجعل من القدس عاصمة أبدية لإسرائيل!! فلقد وقف علي الحياد تماما بين الرؤيتين.

ريدلي سكوت يريد من كل الأطراف أن تلقي السلاح، إنه لم يقدم في تلك الرؤية اغتصاب فلسطين عام 1948 ولا المذابح التي أقامها الإسرائيليون لأصحاب الأرض الفلسطينيين ولا مماطلة إسرائيل في تنفيذ وعودها.. الفيلم لم يحلل ذلك هو فقط يري أن الدماء لا تزال تسيل في القدس ولم يقل من الجائر ومن الضحية.. من القاتل ومن المقتول.. هو دعوة للسلام صاغها بإحساس سينمائي عادل ولم يتابع الأحداث التاريخية التي تلت القرن الثاني عشر بلقطة واحدة في نهاية الفيلم أشار إلي ضرورة أن يعم السلام.

شارك عدد من الممثلين العرب في أدوار مساعدة مثل غسان مسعود ـ السوري ـ في دور صلاح الدين وفي دور هامشي مثل «خالد النبوي» المصري في دور أحد قواد جيوش المسلمين.. لم يكن هناك تواز درامي بين الصليبيين والمسلمين هذا ما فرضته رؤية الفيلم.. وبالتالي لا يمكن مقارنة المساحات هنا أو هناك.. إلا أن الممثلين العربيين غسان وخالد لا أتصور أن أياً منهما حقق من خلال هذا الفيلم تواجدا محسوسا. بالطبع دور غسان له ملامح وتفاصيل لأنه «صلاح الدين»،إلا أن غسان لم يمتلك كممثل تلك الكاريزما الخاصة التي كانت لدي صلاح الدين كما تقول عنها كتب التاريخ، أما خالد النبوي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها قبل أن يعرض هذا الفيلم علي اعتبار أنه بدأ مشوار العالمية بهذا الدور الهامشي فلا أتصور أن مساحة الدور ولا تفاصيل الشخصية ولا أداء خالد لا أتصور أن تلك الشخصية الهامشية منحت خالد شيئا ولا هو منحها شيئا!

إننا بصدد فيلم ملحمي رصدت له إمكانيات ضخمة كان ينبغي أن يشارك فيه فنانون من العالم العربي، ولا يوجد شيء في ذلك يدعو لكي يغضب بعض المتشنجين هنا أو هناك.. فلم يشارك الفنانون في تقديم عمل فني يدينهم أو يسيء لقضيتنا العربية.. إنها فقط رؤية لمخرج أمريكي يري أن القدس مدينة السلام ينبغي أن تعيش السلام، فلم يناصر لا اليهود ولا الصليبيين ولا المسلمين.. فقط قال إنه يقف مع من يوقف الدماء.. ولا نطلب من مخرج أمريكي أكثر من ذلك!

جريدة القاهرة في

17.05.2005

 
 

مملكة الجنـة‏..

دعوة للتسامح الديني ضد كل تطرف

كتب ـ نــــادر عـــــدلي

يكتسب فيلم مملكة الجنة‏KINGDOMOFHEAVEN‏ أهمية وقيمة خاصة بين الافلام التاريخية لأنه يقدم معالجة للمشكلة أو القضية التي تشغل العالم كله الآن‏,‏ وهي مشكلة التطرف الديني‏..‏ صحيح ان أحداث الفيلم ترجع إلي الوراء‏1000‏ سنة‏,‏ ولكنها تلقي بظلالها بقوة علي ما يحدث اليوم‏..‏ والفيلم نفسه عن حرب دينية لها تأثيرها العميق علي الشرق والغرب‏,‏ فقد استمرت ما يقرب من‏200‏ سنة‏,‏ ووصفها التاريخ الانساني بالحرب الصليبية أو الحرب المقدسة‏..‏ وهي حرب حاضرة في الاذهان بقوة اليوم‏,‏ والرئيس الامريكي بوش الابن وصف ما حدث في سبتمبر‏2001‏ بأنه حرب صليبية جديدة‏,‏ ورغم انه اعتذر عن زلة اللسان‏,‏ الا انه كان يتحدث بلسان التطرف‏.‏

سبق عرض فيلم مملكة الجنة توجس حقيقي من التوجه الذي يطرحه‏,‏ وحدث هجوم علي الفيلم من المسيحيين والمسلمين‏..‏ وبعد العرض بدأت مناقشات أكثر عقلانية‏,‏ وان ظلت اصوات الادانة من الطرفين قائمة رغم ان الفيلم يدعو صراحة إلي التسامح الديني‏,‏ ويدين التطرف‏..‏ وتقديم معالجة سينمائية للحروب الصليبية اليوم‏,‏ ومن خلال وقائع تاريخية دقيقة لحد كبير‏,‏ تتوقف قراءتها علي الرؤية التي يريد ان يطرحها الفيلم‏.‏

مخرج مملكة الجنة ريدلي سكوت أحد مخرجي السينما الكبار في العالم‏,‏ ويميل الي تقديم الاعمال التي تقوم علي وقائع تاريخية‏,‏ وأفلام الخيال العلمي التي تعتمد علي الانتاج الضخم‏,‏ والصور المبهرة‏,‏ والفيلم نفسه انتاج إحدي الشركات الهوليودية الكبري‏(‏ تكلف‏130‏ مليون دولار‏)..‏ وبعيدا عن الدخول في تفاصيل احداث الفيلم‏,‏ نذهب الي رؤية ريدلي سكوت والكاتب وليم موناهان‏..‏ أن الحرب الصليبية امتدت‏200‏ سنة‏,‏ واختيار المخرج للفترة الزمنية التي يتوقف امامها تمثل ـ بالتأكيد ـ رؤيته لما يريد ان يطرحه‏..‏ وقد اختار سكوت الفترة بين الحملتين الصليبيتين الثانية والثالثة‏,‏ أي في منتصف هذه الحرب‏,‏ واذا كانت الحملة الأولي انتهت باحتلال الصليبيين للقدس‏,‏ فإن الحملة الثانية اعادت القدس للمسلمين‏..‏ وتاريخيا فإن هذه الفترة شهدت معاهدة مهمة أو هدنة بين صلاح الدين والملك بالدوين الرابع للسلام وممارسة الاديان بحرية‏..‏ ولكن المتطرفين من الجانبين ضربوا هذه المعاهدة وعادوا للحرب‏.‏

قدم ريدلي سكوت القائد صلاح الدين الايوبي‏(‏ الممثل السوري غسان مسعود‏)‏ دراميا بكثير من التقدير والاحترام‏,‏ وكرجل دولة وقائد عسكري يتمتع بالنبل والفروسية ولا يخوض حربا الا اذا كانت بين يديه مقومات الانتصار‏,‏ وبجوارة هذا الشيخ‏(‏ خالد النبوي‏)‏ الذي يريد الحرب بأي طريقة لتحرير القدس ومهما تكن الخسائر‏..‏ وفي المقابل جاءت شخصيات الصليبيين الذين يشغلون المساحة الاهم من الفيلم‏,‏ لان المخرج يقدم رؤيته للغرب وليس الشرق‏,‏ ونأتي الي شخصية الملك بالدوين انه ضد المتطرفين من حوله‏,‏ وهو يعاني من مرض الجذام مما يجعله يرتدي قناعا فضيا طوال الوقت‏(‏ واقعة مرض الملك حقيقية‏,‏ وفي نفس الوقت لها دلالتها الدرامية‏),‏ وبجواره من المتطرفين الصليبيين جاي قائد الجيوش‏,‏ ورينو الفاسد‏..‏ وتسير الي جانب الفريقين‏(‏ صلاح الدين وبالدوين‏),‏ دراما أخري تصب في النهاية داخل الصراع بينهما‏,‏ انها دراما الفارس جودفري‏(‏ وليام نيسون‏)‏ الذي ينادي بمملكة الجنة أو مدينة الضميرالقدس‏,‏ ويدعو لان تكون لكل الاديان‏,‏ ويدين بقوة من جاء باسم الصليب من أجل مصالحه‏,‏ أو من أجل الارض والثروة‏..‏ ويموت الفارس‏,‏ ويحمل سيفه ورسالته ابنه باليان‏(اورلاندو بلوم‏)‏ الذي كان حدادا‏,‏ والذي يدافع عن ارواح من معه من نساء واطفال وشيوخ‏,‏ ويتفق مع صلاح الدين ألا يحدث الانتقام منهم‏,‏ كما فعل الصليبون مع المسلمين وشقيقة صلاح الدين الايوبي نفسه‏..‏ ويرفض باليان ان يشارك في الحملة الثالثة التي قادها ريتشارد قلب الاسد‏.‏

الجانب النسائي بالفيلم يتمثل في سيبيلا‏(‏ ايفاجرين‏)‏ شقيقة الملك‏,‏ والتي تصبح بعد وفاته ملكة القدس‏,‏ وهي ترفض زوجها الدموي والجشع والذي يعلن الحرب من جديد‏,‏ بينما تميل إلي باليان في خط درامي لا يجد الفيلم نفسه له مبرره او قوته سوي انها توافق علي مبادئ باليان وترفض هذه الحرب‏..‏ وينتقد سكوت ثقافة التطرف والحرب باسم الصليب‏,‏ او باسم ماهو مقدس‏..‏ ويقدم رؤيته الخاصة بأن التسامح ونبذ التطرف هو الذي يصنع مملكة الجنة أو مملكة السماء‏.‏

إن فيلم مملكة الجنة يقدم قضية أو مشكلة شديدة الأهمية والخطورة سواء بالنظر اليها كتاريخ‏,‏ أو طرحها لقراءة ما يحدث في عالم اليوم‏..‏ ولكن قيمة القضية نفسها لا تتحقق الا اذا تم تقديمها فنيا بنفس القوة والعمق‏,‏ وهنا تأتي عبقرية ريدلي سكوت كمخرج صاحب خيال سينمائي مدهش في جماليات الصورة‏,‏ وتحريك المجاميع‏,‏ واختيار الممثلين‏,‏ وتقديم معادلات بصرية تضيف للرؤية وتدعمها‏..‏ اننا امام عمل فني يستحق المشاهدة والمناقشة‏..‏ والتقدير‏.‏

الأهرام اليومي في

18.05.2005

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)