كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

د. جابر عصفور يكتب من قلب العاصفة (1)

حب السيما المحاصر بالأصولية الدينية.. والديكتاتورية السياسية والبطريركية الذكورية

بحب

السيما

   
 
 
 
 

* «بحب السيما» يبدأ من حيث انتهي الفيلم الإيطالي الفرنسي الذي حصل علي جائزة الأوسكار عام 1988 لكنه يأتي في سياق مختلف ويخرج من دائرة المحاكاة إلي دائرة الخلق المستقل المتميز

* الفيلم هو الأول من نوعه في التركيز الكامل علي حياة أسرة مسيحية من الطبقة الوسطي الفقيرة في أدق تفاصيلها وفي علاقاتها المسيحية الخالصة

* الهدف الأساسي للفيلم هو إسقاط حاجز الخوف عن المعالجة السينمائية لحياة الأسرة المسيحية المصرية التي لا تختلف عن الأسرة المسلمة التي تتشابه معها في الظروف

* الأب في الفيلم أصولي يمارس القمع ضد ابنه وزوجته ويخضع في الوقت ذاته لقمع سياسي باعتباره مواطنا في دولة تسلطية

* اكتشف الأب المتسلط أن ناظر المدرسة التي يعمل بها يختلس المال العام.. فكانت النتيجة أن وجد نفسه في المعتقل بتهمة أنه شيوعي وضد النظام الناصري

علي صفحات جريدة «الحياة» اللندنية، وفي الزاوية التي يكتبها كل أربعاء بعنوان «هوامش للكتابة»، نشر «د. جابر عصفور» سلسلة من المقالات، حول العاصفة الفكرية والنقدية والدينية التي أثارها فيلم «بحب السيما»، أحد أهم الأفلام التي عرضت خلال السنوات الأخيرة.. ولأهمية هذه الدراسة، ومكانة كاتبها، وصلته المباشرة بالموضوع، باعتباره أمينا عاما للمجلس الأعلي للثقافة، الذي تتبعه الرقابة علي المصنفات الفنية، فقد استأذنته القاهرة في إعادة نشرها علي صفحاتها، لتتيح للمعنيين بالأمر، من المثقفين فرصة قراءتها.

ونبدأ هذا العدد بنشر المقال الأول منها وهو يقدم رؤية د. جابر عصفور ـ كناقد ـ للفيلم.. ونبدأ من العدد القادم في نشر رصده وتحليله لردود أفعال كل الأطراف.. التي أعقبت عرضه.

يبدأ فيلم «بحب السيما» للمخرج أسامة فوزي من حيث انتهي الفيلم الشهير «سينما باراديسو Cinema Paradiso أو «سينما الفردوس» معتمدا علي التيمة نفسها التي تجعل من السينما عالما سحريا شبيها بالجنة، يجتذب الخيال الطفلي إليه، أو خيال الطفل الذي تنطوي عليه، مجسدا ما يمكن أن يتعلق به طفل بريء، يمارس بهجة الانطلاقة العفوية التي لا تعرف الحواجز المنطقية بين الأشياء، أو قواعد الرياء الموصولة بحواجز الخوف التي تنغرس في نفوس الكبار. وللنظر إلي العالم من خلال عيني طفل مزاياه العديدة التي تتيح للمبدعين استعادة الماضي الموصول بطفولتهم، أو الإبحار في أفق مفتوح يمتزج فيه السحر بالأسطورة، أو الاستعاضة التخيلية عن جهامة الواقع في الحاضر، أو إبراز المفارقة بين عالم الصغار المفعم بالنقاء والبكارة والبراءة وعالم الكبار المشغول بحسابات الربح والخسارة أو علاقات القمع والخوف.

وأيا كان الهدف من استعارة عيني الطفل ووعيه، في تجاوبات التجارب الإبداعية، فإن هذا الهدف يظل مقرونا بوعي الحاضر الذي يحكم مسار الاستعارة والاستعادة، محددا زوايا النظر، ومفردات الذكريات المتداعية، وعلاقات المشاهد الأكثر إلحاحا ولفتا للانتباه، سواء في فيلم «سينما باراديسو» السابق أو فيلم «بحب السيما» اللاحق.

* معزوفة بصرية سمعية

أما «سينما باراديسو» فهو كوميديا درامية من إنتاج إيطالي فرنسي، حصل به مخرجه جيوسيبي تورناتوري علي جائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي سنة 1988، وجائزة لجنة التحكيم الكبري في مهرجان كان 1989 وهو معزوفة بصرية سمعية شجية من الحنين إلي الماضي، ممزوجة بذكريات سينمائية لا تخلو من طابع أسطوري في تعرفها الأول، تسترجع عوالم ما بعد الحرب في قرية صقلية لعبت دار السينما الوحيدة فيها دورا بالغ الحيوية والتأثير، إلي جانب الكنيسة، وفي موازاتها، ومع مراوغة نواهيها المتزمتة، فكانت السينما لفقراء القرية، المحاطين بالحرمان والمهانة، الملاذ الخيالي أو الفردوس الوهمي الذي يهربون إليه مما يعانون من شظف عالم ما بعد الحرب. وكل ذلك في سياقات تتجاوب فيها دلالات العنوان المجازي «سينما الفرودس» الدالة علي أحلام فقراء القرية وأحلام الصبي «توتو» الذي قاده عشق السينما إلي أن أصبح واحدا من مخرجيها.

ويستعيد الفيلم أحلام هذا الصبي في تعاقب الزمن وتقلباته عبر ثلاثين عاما، تبدأ من اللحظة التي يعرف فيها المخرج المقيم في روما بوفاة صديقه ومعلمه القديم، ألفريدو، فيعود إلي البلدة التي تغير فيها كل شيء حتي دار السينما، كما تعود ذاكرته إلي ذكريات الطفولة ثم الصبا في حركة زمنية موازية لحركة الارتحال من روما إلي البلدة القابعة في وهاد صقلية. والمسافة بين بطل الفيلم الخيالي ومخرجه الواقعي «المولود سنة 1956» هي المسافة بين الوجه والقناع، خصوصا في تفاعل التداعيات والذكريات التي يغدو بها الفيلم نوعا من السيرة الذاتية لمخرجه المولود في قرية باجاريا الصقلية التي جري فيها تصوير الفيلم، والتي تحولت ـ في فاعلية الرمزية السينمائية ـ إلي عالم مجازي متعدد الأبعاد، خصوصا في دلالاته التي تصل الحنين إلي بعض الماضي برفض بعض الحاضر، كما تصل سحر السينما ببراءة الطفولة وقدرتها علي إنطاق المسكوت عنه في عوالم الكبار، وفتح أفق الخيال الطليق علي مصراعيه.

ولا يختلف فيلم «بحب السيما» عن «سينما باراديسو» من حيث هو كوميديا درامية، تعتمد علي استعادة عيني طفل ووعية لإبراز أنواع من المفارقات، فكلا الفيلمين استعارة لعوالم طفل جذبته السينما، ورأي فيها الفردوس، أو الجنة بالمعني الذي جعل الطفل «نعيم» ـ في فيلم أسامة فوزي ـ ينطق في صوت الراوي هذا المعني تصريحا لا تلميحا، مؤكدا ـ بوعي الطفل ـ أنه كان يري السينما كالجنة، والتذاكر صكوك غفران، وحارس السينما رضوان، والممثلين أولياء وملائكة «وشياطين!».

وكلا الفيلمين يبدأ من وعي الحاضر: حاضر المخرج الإيطالي الذي يعود إلي قريته بعد ثلاثين عاما بسبب وفاة صديقه الذي قاده إلي عوالم السينما، وحاضر الراوي المصري ـ كاتب السيناريو هاني فوزي ـ الذي يستعيد نشأته المقترنة بحبه للسينما في منطقة الشرابية بالقاهرة، في الستينيات من القرن المنصرم.

والماضي في كلا الفيلمين موصول بما يواجهه البطل ـ الطفل الذي ينتهي به حبه للسينما إلي احترافها: الإخراج في حالة المخرج الإيطالي الذي يصور فيلمه في مسقط رأسه، وكتابة السيناريو في حالة الفيلم المصري الذي يبدأ من الحي الذي ولد فيه كاتب السيناريو ونشأ. ولذلك فإن عنصرا دالا من عناصر السيرة الذاتية يجمع ما بين الفيلمين، سواء في استعادة مكان النشأة وعلاقات قاطنيه، أو في إبراز تعاقب الزمن وأحداثه التي تركت تأثيرها علي الأبطال.

ولكن دلالة «بحب السيما» في فيلم أسامة فوزي ـ المخرج ـ وهاني فوزي ـ السيناريست ـ تترجع داخل تجاوبات سياقية مغايرة، تخرج فيلمهما من دائرة المحاكاة أو التأثير الساذج إلي دائرة الخلق المستقل المتميز. وهي سياقات يقع حب السينما في بؤرة رؤيتها، وذلك من حيث هو حب للفن بوجه عام وتقدير للحرية التي هي أساس الإبداع والحياة الخلاقة علي السواء. ولكن علي نحو يجعل من هذه البؤرة ملتقي للقمع الذي تنبني عليه أنواع ثلاثة من العلاقات، تصطدم بهذا الحب وتهدد حضوره الفاعل.

ولذلك يبدو حب السينما ـ كالحرية الملازمة لمبدأ الرغبة في عفوية انطلاقه ـ محاصرا باستمرار، مطاردا بما يجعل منه قرين الإثم والمعصية بالمعني الديني الخلقي في مستوي، وقرين الحرية الغائبة بالمعني السياسي في مستوي ثان، وقرين البطريريكة الذكورية التي تقمع المرأة ـ اجتماعيا ـ في مستوي ثالث. وكلها مستويات موصولة، يؤكد كل منها غيره ويضيف إليه في التفاعل الذي يبين عن تعدد وتضافر، يتكشف عن أنواع العلاقات القمعية التي لا يمكن أن يزدهر فيها الإبداع، حب السينما، أو ينمو الحب، أو يتحرر الجسد، أو تنطلق الروح، أو تنال المرأة حقها العادل، فتبقي كالرجل المقموع من قبل سلطة سياسية مستبدة، ومن سلطة دينية متزمتة لا تعرف أن الله محبة، وأن الدين هو الحب الذي يطلق ملكات الإنسان ليصنع فردوسه الأرضي العامر بالحق والخير والجمال.

وكما نري الطفل «توتو» في «سينما باراديسو» نري الطفل نعيم في «بحب السيما» ولكن مع فارقين أساسيين أولهما أننا نظل مع نعيم طوال الفيلم، إن غابت صورته بقي صوته كالراوي الذي لا يكف عن التعليق علي الأحداث، وذلك علي العكس من فيلم «سينما باراديسو» الذي يعتمد علي ثلاثة ممثلين لإبراز المراحل العمرية المختلفة للبطل. وثانيهما عالم نعيم الذي ينتسب إلي أسرة مسيحية: الأب متزمت من الطائفة الأرثوذكسية والأم مشروع فنانة مجهض من الطائفة الإنجيلية ذات الأصل البروتستنتي، كلاهما يعمل بالتعليم: الأب مشرف اجتماعي في إحدي المدارس الثانوية، والأم ناظرة مدرسة ابتدائية مشتركة.

ولا نغادر أسرة نعيم إلا إلي الأقرباء في الفيلم الذي يعد الأول من نوعه في التركيز الكامل أو الحصري علي حياة أسرة مسيحية، تنتسب إلي الشريحة شبه الفقيرة من الطبقة المتوسطة في أدق تفاصيلها، وفي علاقاتها المسيحية الخاصة، بعيدا عن أي علاقة لافتة بالجيران من الأسر المسلمة الموجودة في الحي.

ويبدو أن الهدف من ذلك هو تسليط الضوء الكامل علي البيئة المسيحية التي أسهمت في تكوين الوعي الأول لصانعي الفيلم «المخرج كاتب السيناريو» وعدم الخروج من الدائرة المحدودة لهذه البيئة إلي غيرها، وذلك لكي لا يبتعد الفيلم عن هدفه الأساسي. وهو هدف له علاقة بإسقاط حاجز الخوف عن المعالجة السينمائية لحياة الأسرة المسيحية المصرية التي لا تختلف الشروط المكونة لها والمؤثرات الواقعة عليها عن الشروط والمؤثرات الواقعة علي أسرة مسلمة موازية، في أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية متماثلة، فمشكلة الفيلم ليست مشكلة ديانة، مسيحية أو إسلامية، حتي في اقتصاره علي أسرة  مسيحية، إنما مشكلة الشروط والمؤثرات الواقعة علي الأسرة من حيث هي أسرة مصرية ابتداء، لا من حيث هي أسرة مسيحية.

والتركيز علي الأسرة المسيحية، في سياق الفيلم، ومن هذا المنظور، تركيز يرتبط ـ أولا ـ بمتطلبات عنصر السيرة الذاتية التي ينطوي عليها الفيلم الذي يبدأ من الحي الفعلي الذي نشأ فيه كاتب السيناريو، والغوص ـ ثانيا ـ في حياة الأسرة المسيحية بما يؤدي إلي النتائج نفسها في وحدة الشروط المجتمعية الواقعة علي الأسرة المسيحية والمسلمة علي السواء.

ويبدو الأمر ـ من هذا المنظور ـ كما لو كان الفيلم يريد الوصول إلي نتائج عامة خاصة بالمجتمع المصري كله، في لحظات تحول تاريخي دالة، وذلك من خلال التعمق في حالة خاصة، يؤدي الغوض في شبكة علاقاتها إلي اكتشاف القواسم المشتركة التي لا تخلو من خصائص قمعية واحدة، خصائص تتباين مجالاتها من حيث السطح الخارجي، لكن تتجاوب ثوابتها من حيث الأعماق التي تتناقض ورمزية المحبة التي تمثلها محبة السينما، أو محبة الفن المقترنة بحرية الإبداع بشكل عام. وهي رمزية لا تختلف فيها ـ علي مستوي التحليل النهائي ـ أسرة مصرية مسلمة عن أسرة مسيحية، أو العكس، في دائرة الوطن الواحد.

* التزمت الديني

وأول ما ينقض معاني محبة السينما في الفيلم هو التزمت الديني الذي يلازم الأب في أغلب الفيلم، فهو رجل أربعيني «أدي دوره باقتدار محمود حميدة» لا يخلو من النزوع الأصولي الذي يقرن الفن بالإثم والمعصية، ويري أن السينما وما يماثلها من إبداعات الفن بدع مصير أصحابها النار. والجنس نجاسة عند هذا الأب، ولا معني له بعد الإنجاب، والابتعاد عنه بتولية يثاب عليها الصالحون الذين يصومون مائتي يوم في السنة، ويظلون في خوف ورعب من احتمال الوقوع في المعصية. ولذلك يكثرون من وضع القيود علي أنفسهم، ويثقلون غيرهم بالنواهي المخيفة والتحذيرات المرعبة التي تنفي عن الألوهية صفات المحبة، وعن البشر صفات التسامح، فيغدو الإيمان الديني قرين الخوف الدائم الثابت من النار، والألوهية قرينة الرعب المتأصل في النفوس المذعورة من احتمال الوقوع في الإثم. ولا يرفض الأب ذهاب ابنه «نعيم» «الذي يحلم أن يكون رجل دين يحقق الحلم الذي عجز عنه الأب» إلي السينما فحسب، بل يرفض إقامة علاقة حب حقيقية مكتملة مع زوجته التي جسدتها ببراعة «ليلي علوي» ناهيا إياها عن ممارسة الرسم الذي كانت تحبه، محرما علي الأسرة شراء التليفزيون، ذلك الجهاز الملعون الذي يدخل الرذيلة والهرطقة والخراب إلي بيوت أصحابه.

* القامع والمقموع

وصراع الابن «الذي يستبدل بنعيم الكهنوت نعيم الفن» مع هذا الأب صراع مع الأصولية الدينية المدمرة التي تتجسد فيه والتي يمارسها الأب القامع الذي يقع عليه بوصفه مواطنا في دولة تسلطية ـ القمع السياسي في أقسي صوره، خصوصا عندما يتهمه ناظر مدرسته زورا بأنه شيوعي، وضد النظام الناصري، لا لشيء إلا لأن الأب تصدي لسرقات الناظر من الأموال التي يستحقها الطلاب الفقراء الذين يسعي الأب إلي مساعدتهم اجتماعيا، ولا يتردد في أن يعطيهم من مرتبه القليل.

ويمر الأب بمحنة التعذيب في السجون الناصرية، ولا يخرج منها إلا بعد أن اكتشف عمق المهانة التي يقع فيها المقموع سياسيا الأمر الذي يدفعه إلي مساءلة معتقداته وأفكاره متحولا إلي الاتجاه النقيض الذي يتحول من العداء لرغبات الابن والزوجة إلي التعاطف معها، ومحاولة الاستجابة لها ولكن المحاولة لم تستمر طويلا، فالقلب العليل للأب يسرع به إلي الموت الذي يتزامن وكارثة العام السابع والستين، وذلك في موازيات تجعل من موت الأب بالمعني الخاص قرين موت الزعيم بالمعني العام، أو العكس فيما يشبه تجاور النظائر في دلالة انكسار البطريركية بمعناها العام والخاص.

* الديكتاتورية والأصولية

ولا ينفصل تجاور النظائر في هذا السياق عن بقية التوازيات التي يحرص المخرج «يساعده السيناريو» علي الوصل بينها وصلا ذكيا، وذلك علي نحو يجاور بين الديكتاتورية السياسية والأصولية الدينية، كما يجاور بين التسلط الاجتماعي وأشكال التمييز الواقعة ضد المرأة، في شبكة من العلاقات المتجاوبة، رأسيا وأفقيا وذلك بما يؤكد تضافر أشكال التخلف وعلاقات الأصولية التي يتجاوب فيها السياسي والاجتماعي  والديني والثقافي، والنتيجة هي ما يتقاطع أو يتداخل مع تتابع الأحداث التي تقف في صدارتها علاقة نعيم بالسينما، في مواجهة تحريمات الأب الأصولية. أعني ما نسمعه من أغنيات العهد الناصري عن بناء السد العالي مثلا، وخطب عبدالناصر، ومن مشاهد تتركز فيها بؤرة الكاميرا علي مانشيتات لقاءات عبدالناصر مع الرئيس تيتو، مرورا بأنباء إغلاق خليج العقبة وردود الفعل المصاحبة له، وانتهاء بخطاب استقالة عبدالناصر الشهير بعد الهزيمة الماحقة في العام السابع والستين. وينطبق الأمر نفسه علي تقاطع الاجتماعي «البطريركي» مع الأصولي الديني، حيث تزمت الأب الذي حارب حب ابنه للسينما يوازي قمعه إمكانية الإبداع في شخصية زوجته، وحيث هيمنته الذكورية توازي الأشكال المتعددة من الهيمنة نفسها الواقعة علي الشخصيات النسائية الأخري، خصوصا الشخصيات الشابة المتحركة ما بين سندان الفقر ومطرقة الهيمنة الذكورية وهي الوجه الآخر من البطريركية الموزعة علي الخلفية الاجتماعية والسياسية والدينية للعلاقات التي جعلت من حب السينما حبا مقموعا، لا يمكن له التنفس إلا في حالات الهرب النادرة من القمع، أو حالات سقوط الرموز البطريركية المؤثرة في كوارث خاصة أو عامة، هي النهاية الطبيعية أو المنطقية لكل أصولية دينية جامدة أو استبداد سياسي مطلق، أو تسلط اجتماعي ظالم.

والسخرية المباشرة وغير المباشرة هي السلاح الفني الذي يناوش به الفيلم أشكال القمع العديدة، ابتداء من التزمت الديني المرضي للأب، مرورا بموازياته السياسية والاجتماعية، وانتهاء بفن السينما نفسه، خصوصا حين صدر الطفل نعيم «الذي أبرز موهبة يوسف عثمان النادرة» في براءة المكر،  أو مكر البراءة، تعليقاته الدالة علي قصص الحب المتكررة النمطية في الأفلام المصرية التي تتجاهل الواقع، أو تغترب عنه، مؤكدا علي نحو ضمني ضرورة مواجهة مشكلات هذا الواقع  بجسارة لم يخل منها فيلم «بحب السيما» الذي حقق إنجازا غير مسبوق لا يقلل من قيمته بعض الملاحظات السلبية هنا أو هناك.

جريدة القاهرة في

14.09.2004

 
 

د. جابر عصفور يكتب من قلب العاصفة (2)

الكنيسة المصرية تنتقل من الحياد الصامت إلي الانحياز المعلن للذين يكرهون السينما

·     شيخ المصادرات عطا الفيومي يرحب بموقف المتشددين الأقباط.. ويطلب نسخة من فيلم «بحب السيما» لعرضها علي لجنة خاصة برئاسة شيخ الأزهر

·         الشركة التي أنتجت الفيلم سارعت برفعه من دور العرض لتفسح المجال لفيلمي «تيتو» و«عوكل»!

الرقابة ترفض استئذان الكنيسة في عرض الفيلم لحرصها علي إبعاد الأعمال الفنية عن المؤسسة الدينية < إبداعات الفن ليست نصوصًا دينية.. وهي تقدم صياغة مجازية لا يحكم عليها إلا النقاد المتخصصون < عرض فيلم «آلام المسيح» أطاح بقاعدة شبه ثابتة قضت بعدم عرض الأفلام التي تصوره عرضًا عامًا < حملة الهجوم التي تعرض لها مسلسل «أوان الورد» جعلت التليفزيون المصري يتوقف عن إعادة عرضه < الناصريون لم يتوقفوا أمام البعد السياسي للفيلم الذي يربط بين التطرف الديني والتسلطية السياسية < الرقابة اعتمدت في ترخيصها بعرض الفيلم علي لجنة ضمت 13 من كبار المثقفين المهتمين بالسينما بينهم 8 من الأقباط < منشورات تطالب المسيحيين بمقاطعة الفيلم وحملة علي الإنترنت تدعوهم إلي عدم مشاهدته لأنه يسيء لدينهم < المتزمتون من العاملين في دور السينما كانوا يصرفون الجمهور عن مشاهدة الفيلم ويدفعونهم لمشاهدة أفلام أخري

لا أظن أن فيلما عربيا أثار في السنوات الأخيرة ما أثاره فيلم "بحب السيما" للمخرج المصري «أسامة فوزي» وكاتب السيناريو «هاني فوزي»، فقد أهاج الفيلم الكثيرين قبل عرضه بسبب ما تناثر عنه من أخبار تشير إلي موضوعه، وطالب البعض بعرضه علي الكنيسة لإبداء الرأي فيه، ولكن الاقتراح لم يلق قبولا، حرصا من القائمين علي جهاز الرقابة في مصر علي إبعاد الأعمال الفنية عن المؤسسة الدينية، ولذلك لم تأخذ الرقابة رأي الأزهر في عرض فيلم "آلام المسيح" الذي أخرجه «ميل چيبسون»، ولم تأخذ الرقابة ـ بالقياس نفسه ـ رأي الكنيسة في فيلم "بحب السيما" الذي يعالج ـ فيما يعالج ـ التزمت الديني الموجود عند بعض الأسر المسيحية المصرية.

وكان منطق الرقابة علي المصنفات الفنية مرتبطا بمبدأ بسيط وواضح وحاسم في آن، وهو أن أعمال الفن إبداعات خيالية وليست نصوصا دينية، وأن المغزي الديني الذي تهدف إليه، أو الموضوع الديني الذي تعالجه، لا وجود له ولا معني بعيدا عن العمل الفني المتضمن فيه، والذي هو صياغة مجازية أو رمزية لا يحكم عليها إلا نقاد الفن والمتخصصون فيه. وللجمهور العادي أن يقبل هذا العمل أو يرفضه، فهذه حريته التي لا ينازعه فيها أحد، وإذا رأت المؤسسة الدينية أو غيرها من المؤسسات السياسية أو الاجتماعية في العمل ما يسيء إليها ـ في تأويل أو فهم بعض رجالاتها ـ فبوسعها الاحتجاج بإبداء الرأي، أو اللجوء للقضاء.

قاعدة ثابتة!!

ولحسن الحظ لم تتحرك مؤسسة الأزهر في مصر عند عرض فيلم "آلام المسيح" واقتصر الأمر علي انتقادات وجهها بعض مشايخ الأزهر، مقابل استحسان غيرهم، فضلا عن هجمات لم تتوقف طوال فترة عرض الفيلم من بعض ممثلي التطرف الديني في مصر، خصوصا أولئك الذين تمسكوا بالدلالات الحرفية للقرآن الكريم فيما يتصل بصلب المسيح، ومع هؤلاء طائفة من الرافضين لمبدأ ظهور الأنبياء بوجه عام علي شاشة السينما أو خشبة المسرح. وقد كان لتأثير هؤلاء ما منع عرض أفلام "المسيح" في مصر لسنوات طويلة، صاغت ما بدا للبعض قاعدة ثابتة، إلي أن أطاح بهذه القاعدة قرار عرض "آلام المسيح" والحماسة التي أبدتها جماهير المشاهدين أثناء العرض، خصوصا أن فترة العرض تزامنت وارتفاع موجة غادرة من الصلف الإسرائيلي في البطش بالشعب الفلسطيني. وما اقترن بهذه الموجة من اغتيال الشيخ المقعد أحمد ياسين، الأمر الذي أثار في نفوس المشاهدين لفيلم "آلام المسيح" تداعيات ربطت بين ما فعله اليهود قديما بالمسيح، وما يفعله الصهيونيون حديثا بالشعب الفلسطيني الذي سال دمه، كما سال دم الشهيد أحمد ياسين. وقد ربط الكثيرون بين الماضي والحاضر، وجعلوا اغتيال الشيخ ياسين موازيا لاغتيال المسيح بالصلب، حتي لو كان الصلب علي سبيل التشبيه. ولم تخل ملابسات "آلام المسيح" من مصادفة إيجابية، هي توافق زمن العرض مع قدوم عيد القيامة الذي كان حافزا لمشاهدة الفيلم عند الأسر المسيحية المصرية، ولا أعرف هل حدث الأمر نفسه في الأقطار العربية الأخري أم لا، فالمهم أن فيلم "آلام المسيح" رأته الجماهير العربية التي لم تأبه بأصوات المتطرفين المسلمين التي ضاعت أصداؤها وسط الحماسة الجماهيرية لمشاهدة الفيلم الذي حاول أباطرة اليهود ـ سدي ـ إيقاف عرضه ومحاربته في الولايات المتحدة نفسها.

وحدث الأمر نفسه مع فيلم "بحب السيما" ولكن في سياقات مغايرة، فالفيلم مصري، يدور حول أسرة مسيحية تبرز للمرة الأولي علي الشاشة بسلبياتها وإيجابياتها. وهي أسرة مكونة من أب أرثوذكسي متزمت وأم تنتسب إلي طائفة مغايرة، بروتستنتية ـ إنجيلية، تبدو أكثر تسامحا وتحررا، الأمر الذي يبرز بعض أوجه التناقض الطائفي بين المسيحيين، لكن ضمن علاقات أوسع، يتجاوب فيها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وذلك علي نحو يبرز محبة الفن ـ السينما ـ ومغزاه في واقع متخلف. صحيح أن شخصيات مسيحية عديدة ظهرت في الأعمال الأدبية التي كتبها مبدعون مسلمون وغير مسلمين، ابتداء من جرجي زيدان مرورا بنجيب محفوظ ويحيي حقي وليس انتهاء بإدوار الخراط. وقد انتقلت بعض هذه الشخصيات إلي شاشة السينما المصرية، عندما تحولت الأعمال الواردة فيها إلي أفلام، بل إن بعض الأفلام التي لم تؤخذ عن أعمال روائية سابقة ضمت عددا دالا من الشخصيات المسيحية، متابعة روح التسامح المصري التي سمحت بعرض الفيلم القديم  "حسن ومرقص وكوهين"، للمخرج فؤاد الجزايرلي في الأربعينيات، وذلك في سياق يبدأ من العشرينيات التي شهدت الفيلم القصير "برسوم يبحث عن وظيفة" للمخرج محمد بيومي، ويمتد إلي ما بعد الأربعينيات التي شهدت ـ إلي جانب "حسن ومرقص وكوهين" ـ "فاطمة وماريكا وراشيل" من إخراج حلمي رفلة. وكان حضور مثل هذه الأفلام التي جمعت بين المسلمين والمسيحيين واليهود، أو بين المسلم والمسيحي فقط، مقترنا بالمبدأ الذي أرسته ثورة 1919: "الدين لله والوطن للجميع". وهو المبدأ الذي اقترن بالأفق المفتوح للمجتمع المدني الحديث فيما ينبني عليه من حرية الاعتقاد والعبادة، الأمر الذي يكفل ـ دستوريا وقانونيا ـ للأقليات الدينية الحقوق نفسها التي تتمتع بها الأغلبية. ولذلك أبرزت شاشة السينما المصرية الشيخ المعمم مع القسيس، في عدد لا بأس به من الأفلام، رمزا للوحدة الدينية التي يغمرها التسامح، كما أبرزت من الشخصيات المسيحية ما أكمل صورة العائلة المصرية، خصوصا في عنصر أساسي من عناصر تكوينها.

ولكن ظل ذلك في حدود يحرص الدائرون فيها علي عدم الاقتراب من المناطق الشائكة. وما حدث مع عرض مسلسل "أوان الورد" للصديق العزيز وحيد حامد ـ أكمل الله شفاءه ـ يمكن أن نعده دلالة لافتة في هذا الاتجاه، فالمسلسل الذي لقي نجاحا جماهيريا كبيرا، قام علي قصة حب بين ضابط شرطة مسلم وفتاة مسيحية، تنتهي العلاقة بينهما بالزواج الذي باركته الأم وبعض الأقرباء. وينجح الزواج رغم المقاومة التي ظلت أطراف عديدة تمارسها علي امتداد المسلسل. وكان "أوان الورد" في ذلك يستجيب إلي الأصول الراسخة للتسامح الديني في المجتمع المدني المصري الذي شهد الكثير من هذه الزيجات، خصوصا قبل أن تنبح أغربة التطرف التي جاءت من الصحراء، محملة بغبار التعصب وجراثيم التمييز الديني. وكان مسلسل وحيد حامد ردا مباشرا علي ما أشاعته هذه الأغربة وحملته من آثار ضارة مدمرة.

ولذلك كان من الطبيعي أن تهاجمه أصوات التطرف الديني المسلم، وتدعو إلي إيقافه. لكن الأكثر دلالة أن الأصوات المسيحية كانت أعلي أصوات الاحتجاج، وأبرزها حدة في الهجوم. ولكن سرعان ما هدأت العاصفة عندما انتهي المسلسل، وأدخلتنا الدنيا التي نعيشها في دوامات جديدة، وأحداث مفاجئة، وإحباطات متكررة، فانداحت دوامات العنف، غير أن الآثار ظلت قائمة، ولم يعرض التليفزيون المصري المسلسل من يومها، ولم تعرضه قناة غير مصرية، فيما أعلم.

وفي هذا السياق، دخل قطاع الإنتاج في التليفزيون المصري إلي الدائرة نفسها، فأنتج "فيلم هندي" الذي فاز بإحدي جوائز المهرجان القومي للسينما في مصر. وهو فيلم يتناول حياة شاب قبطي يؤدي دور البطولة في الأحداث، وتربطه علاقة صداقة حميمة بصديق مسلم. ولكل منهما خطيبة من الديانة نفسها، مسلمة في حالة المسلم الذي أدي دوره أحمد آدم، ومسيحية في حالة المسيحي الذي أدي دوره باقتدار صلاح عبدالله. وينتهي الفيلم بفشل البطلين في علاقة الحب، واحتفاظهما بالصداقة التي لم تؤثر فيها بعض أشكال السلوك المتزمت للخطيبة المسيحية. وقد مرّ الفيلم بلا ضجة، أو اعتراض، لأن السيناريو كان من الذكاء الذي تباعد بالأحداث عن حقول الألغام التي اقترب منها مسلسل "أوان الورد". وهو الاقتراب  الذي أسهم ـ في سياق التقبل لقصة "فيلم هندي" ـ في تشجيع كاتب السيناريو هاني فوزي الذي كتب سيناريو "فيلم هندي" علي الاقتراب أكثر فأكثر من مناطق الألغام، وكتابة سيناريو فيلم "بحب السيما" الذي كان واضحا منذ البداية استفزازه للأفكار المستقرة للمجموعات المسيحية المحافظة، دينيا، واستفزازه بالقدر نفسه للمجموعات الناصرية، سياسيا.

الناصريون والكنيسة

ولم يبد الناصريون احتجاجا دالا في عنفه علي الفيلم، فيما عدا مقال للكاتب المسرحي محمد سلماوي في جريدة الأهرام بتاريخ 7/6/2004، وذلك في موازاة بعض الأصوات المشابهة سياسيا. وكان الاحتجاج مقترنا بجعل عبدالناصر المقابل الرمزي سياسيا للأب المتطرف اعتقاديا، وذلك بما يجعل من التسلطية السياسية الوجه الموازي للتطرف الديني. وقد أضيفت إلي ذلك ملاحظة سليمة لو أخذنا الوقائع بحرفيتها، فالتطرف الديني لم يعرف في زمن عبد الناصر، والنكسة لم تكن نتيجة هذا التطرف بل كانت إحدي أسبابه. ولم يخلُ الأمر من تلميح بأن السيناريو هرب إلي زمن عبد الناصر خوفا من مواجهة الزمن الحاضر، أو ايجاد مبرر فني للهجوم علي عبد الناصر، والربط بين الاستبداد السياسي والتطرف الديني. وقد شغل هذا النقد البعض لكن لوقت قصير. وسرعان ما اختفت الاستجابات للبعد السياسي  في الفيلم، بل اختفي البعد السياسي نفسه في غمرة العنف المتصاعد للاستجابات المسيحية التي لم تر في الفيلم سوي جرأة دينية غير مقبولة.

ويلفت الانتباه ـ في هذا السياق ـ أن الكنيسة المصرية اتخذت موقفا ذكيا من الضجة التي آثارها الفيلم، فقد آثرت الصمت، ولم تبد أي تعليق رسمي. وفي المقابل اعتمدت الرقابة في الترخيص بعرض الفيلم علي لجنة من كبار المثقفين والمثقفات، نصفهم تقريبا من المسيحيين والمسيحيات، وأعلن الجميع في اللجنة حماستهم لعرض الفيلم. واقترح البعض منهم حذف بعض الكلمات التي وجد فيها إثارة زائدة للمشاعر، وتقبـل المخــرج والمنتجـة ـ الفنانة إسعاد يونس ـ الاقتراح في رحابة صدر. وأخذ الدكتور يونان لبيب رزق علي الفيلم الذي يدور في الحي الذي نشأ فيه شخصيا أنه يخلو من أسرة مصرية فاعلة في الأحداث، الأمر الذي قد يوهم أن المسيحيين المصريين يعيشون في عزلة، أو "جيتو" لا يؤثر أو يتأثر بالعائلات المسلمة المحيطة التي تعودّت علي الحياة والمصالح المشتركة مع إخوانهم في الوطن. وكانت ملاحظة يونان لبيب رزق مثار نقاش كبير، ولم ينفع في ردها أن هناك جملة ترد في بعض المشاهد للجار المسلم، فمن الواضح أن الفيلم بأكمله يبدأ بالأسرة المصرية المسيحية وينتهي بها. وقيل في الرد علي ما أثاره يونان لبيب رزق، وما قبله هو من الناحية الفنية، إن الفيلم يهدف إلي وضع حياة الأسرة المسيحية التي يتناولها تحت المجهر، وأنه لم يشغل نفسه بالسياقات الدينية الأوسع في وحدة التنوع المائزة للمجتمع المصري، بل انشغل بمشكلات هذه الأسرة من حيث هي تمثيل لغيرها من الأسر المسيحية، لكن بما لا يمنع من تأثرها بالمؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمع المصري كله. وكما اقتنع يونان لبيب رزق بهذا التبرير، في حماسة إعجابه بالفيلم، اقتنع غيره من الذين كانت لديهم أسئلة موازية. وانتهي النقاش بعد ساعات طويلة إلي الموافقة علي الفيلم بالإجماع. وكان أعضاء اللجنة ـ إلي جانب يونان لبيب رزق ـ نبيل بباوي وقدري حفني ومني مكرم عبيد وهدي بدران وأسامة الغزالي حرب وناجي فوزي ونادر عدلي وكمال رمزي وماجدة موريس وأحمد صالح وجورج إسحاق وكاتب هذه السطور. وكان واضحا في تشكيل اللجنة أنها تجمع تيارات فكرية مختلفة، وأجيالاً متباينة، وللمرأة فيها حضور دال، وللمسيحيين فيها نصيب غير قليل. ولم يكن من المقبول أن تقتصر عضوية اللجنة علي المسيحيين وحدهم، أو المسلمين وحدهم، فضمت الجميع بلا تفرقة في دائرة الثقافة، احتراما لمعني المواطنة، وتأكيدا لحضور المعايير المدنية للفن، ومن منظور الفن.

دعوة للمقاطعة

وما إن عرض الفيلم حتي قامت عاصفة من الهجوم غير المسبوق، وتتابعت المقالات الرافضة، والتعليقات الحادة والاتهامات الجارحة. ووصل الأمر إلي حد توزيع منشورات تطالب المسيحيين بمقاطعة الفيلم وعدم مشاهدته، عملا بنصيحة بعض القسس الذين اتهموا الفيلم بالهرطقة الدينية والتحلل الجنسي. وتجاوز الأمر توزيع المنشورات إلي القيام بحملة علي الإنترنت لمقاطعة الفيلم، وذلك عبر رسالة بالبريد الإلكتروني تصل إلي المسيحيين فقط، وقد نشر وائل عبد الفتاح ـ في جريدة "صوت الأمة" بتاريخ 2004/7/5 فقرات من هذه الرسالة التي تدعو المسيحيين إلي عدم مشاهدة الفيلم الذي يسيء إلي دينهم. وتطالب الرسالة متلقيها بإعادة إرسالها إلي كل الأصدقاء كي تتسع دائرة المقاطعة، وتمنع نجاح الفيلم.

وكان واضحا منذ اللحظة الأولي أن العاصفة مسيحية بالدرجة الأولي، وأن أغلب مظاهر الهجوم وأكثر أنواعه حِدِّة جاءت من المسيحيين المصريين الذين يصوّر الفيلم بعض جوانب حياتهم للمرة الأولي، وبجرأة لم تحدث من قبل. ولا يزال يدهشني علي نحو خاص تحويل الفيلم إلي فيلم ديني بشكل كامل مع أنه ليس كذلك، واختزاله في بعد واحد لا يساعد علي فهمه حق الفهم، فالفيلم الذي يضع المشكلة الدينية للتطرف في صدارة علاقاته لا يفصل هذه المشكلة عن غيرها، ويؤكد ـ علي نحو ضمني بتجاوب سياقاته ـ أن هذه المشكلة لا يمكن إدراكها إلا في علاقاتها بغيرها من المشكلات والأبعاد. وللأسف غاب إدراك ذلك عن الكثيرين من الذين دافعوا عن الفيلم، واقعين ـ دون أن يدروا ـ في شباك الخطابات النقيضة التي اختزلت الفيلم في ملاحظات دينية ضيقة، وذلك علي نحو ما ظهر في موجات المقالات والتعقيبات الدفاعية، والحوارات التي أخذ بعضها طابع التبرير الذي لم يخل من اعتذار في البرامج التلفزيونية المختلفة.

كان من الطبيعي ـ في سياق تصاعد الهجوم علي الفيلم أن تقوم مجموعة من الرموز المسيحية باللجوء إلي القضاء لإيقاف عرضه لأنه  يسيء ـ في تقديرهم ـ للكنيسة المسيحية التي لم يسبق ـ في رأيهم ـ الإساءة إليها علي هذا النحو. وقد أبرز المدّعون أوجه هذه الإساءة التي قدّروها أو تخيلوها، ابتداء من التعريض بالكنيسة ـ ومن ثم الطائفة ـ الأرثوذكسية لحساب الكنيسة الإنجيلية، مرورا بالمشاهد التي لا تليق بالكنيسة المسيحية، وانتهاء بما رآه المدّعون تجديفا دينيا وكفرا واجب العقاب.

وتضمَّن منطوق الدعوي ـ من هذا المنظور ـ اتهام الفيلم بإثارة العداء بين طائفتين مسيحيتين داخل الديانة الواحدة، وازدراء هذه الديانة بوجه عام عن طريق الاستخفاف بمكان عبادتها الذي يستمد من ديانته قداسته: الكنيسة. ونفهم ذلك كله من خطاب الدعوي المستعجلة التي انعقدت لها جلسة 3/7/2004، حيث تأجل النظر إلي جلسة 24/7/2004. وهي الجلسة التي أعلنت التأجيل للحكم الذي صدر بالفعل في يوم الثلاثاء العاشر من شهر أغسطس الماضي، حيث رفض رئيس محكمة الأمور المستعجلة الدعوي المرفوعة التي تطالب بوقف عرض الفيلم. وأكد رئيس المحكمة «نادر عليوة» في حيثيات الحكم أن المحكمة "غير مختصة بنظر الدعوي بصفتها قضاء مستعجلا". وأضاف أن "مقدمي الدعوي رفعوها عقب مشاهدتهم الفيلم وخرجوا إثرها بانطباع أنه يحمل ازدراء للطائفة الدينية الأرثوذكسية التي يقدّرها العالم وشعب مصر وأن المحكمة لا تخالف هذا التقدير". وأضاف أن "أساس القضاء العاجل لا يمتد ليشمل التعمق في أخذ الحق، وأن ما طالب به أصحاب الدعوي يتمثل في انطباعات شخصية من المشاهد دون أن تكون هناك عبارات مباشرة تفيد بازدراء الأقباط مما لا يعين المحكمة علي تبين القصد منها، وبالتالي تعذَّر عليها التعمق في دلالات ومقاصد الفيلم".

وكان حكم المحكمة ـ في هذا الاتجاه ـ حلقة جديدة في سلسلة أحكام القضاء المصري المتعلقة بحرية الرأي والإبداع. وهي حلقة يتناغم فيها الحكم مع الحكم السابق الذي أصدره قاض آخر مستنير هو «سلامة سليم» الذي أصدر في الخامس عشر من سبتمبر لسنة 1997 ميلادية حكمه العادل برفض دعوي مصادرة كتاب "رب الزمان" لسيد القمني، تماما كما أصدر زميل له حكما عادلا لاحقا برفض دعوي مصادرة رواية «محمد عبد السلام العمري» "الجميلات". وقس علي مثل هذه الأحكام غيرها الذي يعيد إلي الأذهان ذكري الأحكام الجليلة الدالة علي استنارة القضاء المصري، ورسوخ التقاليد التي صنعها قضاة من طراز عبدالعزيز فهمي وعبد الرزاق السنهوري وعبدالحميد بدوي وغيرهم من القضاة العظام الذين لم تذهب تقاليدهم سدي، ولا تزال تؤثر في أجيال جديدة من القضاة الذين تنزل أحكامهم السكينة علي نفوس المثقفين المصريين، ومعهم العرب، وذلك بما يزيدهم حماسة في التمسك بحرية إبداعهم المحاصرة من كل صوب وحدب، والدفاع عن هذه الحرية، وعدم التنازل عنها مهما كانت وطأة الهجوم عليها من كل اتجاه.

وقد صدر الحكم برفض دعوي إيقاف فيلم "بحب السيما" دفاعا عن الحرية الإبداعية في سياق متوتر، تولت الدفاع عن الفيلم فيه مجموعات المثقفين المستنيرين علي اختلاف طوائفهم الاعتقادية وانتماءاتهم السياسية، كما دافعت عنه "المنظمة المصرية لحقوق الإنسان" في جلسة تاريخية لابد من تقدير الذين أقاموها والذين أسهموا فيها، كما ظلت الصحافة وأجهزة الإعلام المصرية والعربية حريصة علي تأكيد أهمية توسيع مساحة الحرية الإبداعية وعدم تضييقها حماية للفن والمجتمع علي السواء. وبالقطع، فإن حكم محكمة الأمور المستعجلة لابد من فهم  دلالته في هذا السياق، وفي علاقته بالسياق الأوسع من تاريخ الاستنارة الإبداعية العربية التي لم تتوقف عن اقتحام المدارات المغلقة وإنطاق المسكوت عنه من الخطاب الاجتماعي السياسي الثقافي الديني، وذلك في الوقت الذي لم تكف فيه قوي التسلط السياسي والتصلب الاجتماعي والتزمت الاعتقادي والتحجر الثقافي عن الهجوم علي الحرية الإبداعية ومحاولة استئصالها.

الملاحقة مستمرة

ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يعلن المستشار نجيب جبرائيل أحد رافعي الدعوة، ومعه مجموعة من القساوسة ينوبون عن غيرهم من الكهنة الذين وقَّعوا علي عريضة الدعوي، رفضه الحكم، وعدم توقّفه عن ملاحقة الفيلم قضائيا، وقال ـ فيما نقلته عنه الصحف ـ إن محكمة القضاء الإداري تنظر في الثاني والعشرين من أغسطس في دعوي أخري أقامها مع أربعين قسيسا وبعض رجال القانون، بينهم مسلمون وأقباط، ضد وزيري الثقافة والداخلية ورئيس الرقابة الفنية للطعن في قرارهم بعرض الفيلم باعتبار القرار قرارا سلبيا. وأشار إلي أن نيابة الاستئناف تحقق حاليا في البيانات المقدمة من عدّة جهات مسيحية بعد انتهاء النيابة من سماع أقوالهم، ملحا علي أنه "سيتابع مقاضاة الفيلم" حتي ينجح في وقف عرضه.

الطريف أن الفيلم توقف عرضه بالفعل. ولكن من الشركة المنتجة بحجة أن إيرادات العرض لم تعد تكفي لاستمراره، ولذلك دفعت الشركة بأفلام أخري غيره من إنتاجها، كما دفعت غيرها من الشركات بأفلام موازية، أفلام تتناسب و "لغو الصيف" الذي تحدث عنه طه حسين بوصفه نقيض "جد الشتاء". وقد أغضب سحب الفيلم المخرج الذي اتهم شركة الإنتاج بتعمد سحب الفيلم رغم زيادة إيراداته، طمعا في أرباح أكبر. وأعلن أن الفيلم تعرض لتآمر المتزمتين العاملين في دور السينما، وأن بعض موظفات وموظفي شباك التذاكر كانوا يصرفون الجمهور الراغب في مشاهدة الفيلم، ويدفعونه إلي مشاهدة أفلام أخري مثل "عوكل" أو "تيتو" أو ما أشبه من أفلام لغو الصيف. وقد وجدت هذه الأفلام من النجاح الجماهيري ما يطرح العديد من الأسئلة عن نوعية الجمهور المصري المشاهد للسينما، وفئاته العمرية، ومستوياته الثقافية، في السنوات الأخيرة. وهي أسئلة تدفع إليها حقيقة بسيطة مؤداها أن فيلم "بحب السيما" رغم العاصفة التي أثارها، وحيوية الحياة التي يصورها، وخطورة القضايا التي يتعرض لها، لم يحقق في دفعة عرضه الأول في قاعات الدرجة الأولي سوي أقل من مليوني جنيه مصري، بينما جاوز الفيلم الأخير لمحمد سعد "عوكل" رغم تفاهته، وسطحية الشخصيات التي يصورها، والضحكات البلهاء التي يثيرها عشرين مليون جنيه.. فتأمل!؟

أصولية المنظور

وأتصور أن هذا الوضع المقلوب هو الوضع الطبيعي الذي يتسم بتشجيع التفاهة بوصفها تسلية خالصة، لا تزعج أحدا، ولا تدعو إلي تفكير، وذلك مقابل الازورار عن الأعمال الفنية الجادة، والتربص بكل ما يدعو إلي إعمال الفكر، أو يقتحم المناطق المسكوت عنها سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا، أو يخرج علي التأويلات الدينية الجامدة، وحيدة البعد، تقليدية الرؤية، أصولية المنظور. ولذلك فإن النجاح الجماهيري لأفلام الترفيه الصيفية الخشنة هو المعادل الموضوعي لعدم الإقبال الجماهيري علي الأفلام الجادة، أو الجسورة. وهو ـ في الوقت نفسه ـ المعادل الموضوعي المعبِّر عن رضا القوي التقليدية والمجموعات المحافظة (المتحكمة في الوعي العام بوسائل إعلام وتثقيف متواطئة) عن الأعمال التي تعمل علي تخدير العقول، والإبقاء عليها في سباتها، في مقابل مهاجمة الأعمال الإبداعية التي تضع هذه العقول موضع المساءلة. وفي الوقت نفسه، تدفعها إلي وضع كل شيء موضع المساءلة.

ولا غرابة ـ والأمر كذلك ـ في أن يتجمع أربعون من رجال الدين الأقباط ورجال القانون المسيحيون والمسلمون، في الرابع من شهر يوليو الماضي وأن يذهبوا إلي النائب العام في مصر، مقدمين إليه مذكرتين تطالبان بوقف عرض فيلم «بحب السيما» لأنهم يعتبرونه «مسيئا للأقباط». وصرح راعي الكنيسة المعلقة في مصر القديمة ـ حسب ما ذكرت جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 6/7/2004 ـ أن المذكرة تضمنت خمسة عشر بندا تدور حول ازدراء العقيدة المسيحية وإهانة المقدسات، وخاصة بيت الله ودور العبادة، استنادا إلي المشاهد التي تضمنها الفيلم، والتي قامت المجموعة بتقديمها أمام محكمة الأمور المستعجلة التي حكمت برفض الدعوي. وأوضح الراعي أنه من أبرز هذه المشاهد تلك التي تتضمن عبارات علي لسان بطلة الفيلم (ليلي علوي) تعكس سخرية واستهجانا لتعاليم الدين المسيحي فيما يتعلق بالصوم، وربط الفيلم بين الصوم والانحلال الخلقي، إذ جعله نظاما متزمتا ومقيتا يؤدي بالزوجة إلي الخيانة الزوجية. وأشارت المذكرة إلي أن الفيلم تضمن «إساءة للسيد المسيح، إذ يظهر الفيلم طفلا واقفا أمام صورة المسيح ويخاطبه بالعامية المصرية محتجا علي إرادته قائلا: إنت ما عندكش غير جنة ونار»، كما تضمن الفيلم إساءة وتحقيرا للكنيسة كمكان للعبادة من خلال مشاهد في الفيلم تدور داخل الكنيسة، من بينها مشهد شاب وفتاة يتبادلان القبلات، ومشهد آخر لطفل يبول من برج الكنيسة علي الجالسين فيها.

وأعلن المستشار نجيب جبرائيل الذي يتزعم الحملة القانونية ضد الفيلم أن المشاركين في رفع الدعوي طالبوا بتقديم المنتج والمخرج وكاتب السيناريو والممثلين إلي المحكمة الجنائية بتهمة ازدراء الدين المسيحي، وباعتبار أن ما تم ضد الأخلاق وضد النسيج الوطني في مصر، ومخالف للدستور. وأكد هذه الأقوال صالح محمد الدمرداش أحد المحامين المسلمين المتضامنين مع موقف رافعي الدعوي، موضحا أن مشاركته في رفع الدعوي تأتي علي أساس رفض أي مساس بالعقيدة بغض النظر عن الديانة، لأنه إذا ضاعت هيبة الدين فعلي الدنيا السلام. وأشار إلي أنه يجب أن يكون هناك فاصل بين الفن الهادف والفن الذي يصل إلي درجة الإسفاف ويتخذ الدين وسيلة للسخرية. وأضاف : «نحن نرفض تشويه العقيدة المسيحية حتي لو كان المخرج والمنتج وكاتب السيناريو من المسيحيين، لأن الشخص العادي يجب أن يحترم عقيدته الدينية التي ينتمي إليها، وأن يدافع عنها أساسا، ولا يجب المساس بها واتخاذها وسيلة للكسب بطريقة مشروعة أو غير مشروعة. والطريف أن المحامي المسلم عندما سُئِل ما إذا كان قد شاهد الفيلم أم لا؟ أجاب بأنه لم يشاهد الفيلم إلي وقت تقديم المذكرتين وتسجيل إدانته.

مظاهرة الكاتدرائية

وقد أكد المحامون ورجال الدين أنهم يقيمون الدعوي ضد الفيلم بمبادرة شخصية منهم، وليس باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي لم يصدر عنها أي تعليق رسمي علي الفيلم، ذلك علي الرغم مما ذكرته بعض الصحف ـ ومنها «الرأي العام» الكويتية بتاريخ 9/7/2004 ـ من حدوث مظاهرة في السابع من  يوليو 2004 داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، حيث تجمع ما يزيد علي خمسمائة من الأقباط قبل أن يلقي البابا شنودة الثالث بطريرك الأقباط الأرثوذكس موعظة الأربعاء، وردَّد المتظاهرون الذين تجمعوا في بهو الكاتدرائية هتافات ضد الفيلم ومخرجه، ورفعوا شعارات تؤكد أن الفيلم يسيء للأقباط. وحاول المتظاهرون الخروج إلي الطريق العام، لكن قوات الأمن منعتهم، وتدخَّل عدد من قيادات الكنيسة، وأقنعوا الثائرين بالهدوء، وألقي البابا موعظته كالمعتاد، وتجنب الحديث عن الفيلم الذي أثار الضجة. وهو موقف يكشف عن محاولة إعلان الحياد في قضية خلافية.

لكن هذا الموقف يمكن فهمه من منظور آخر، مغاير، خصوصا حينما نضع في الاعتبار ـ ما لاحظه محرر مجلة «المصور» القاهرية بتاريخ 9 يوليو 2004 ـ أن تسعة من الكهنة أصحاب البلاغ أو المذكرة، من إبراشية القاهرة التي تتبع البابا شنودة مباشرة بوصفه أسقفها، كما أن أحدهم هو القس بطرس بطرس جيد كاهن كنيسة السيدة العذراء بالزيتون، وهو ابن شقيق البابا في الوقت نفسه. ويلفت الانتباه ـ من هذا المنظور ـ أن البابا لم يبق علي حياده طويلا، فقد نشرت جريدة «الأهرام» القاهرية في صفحتها الأولي (بتاريخ 15/8/2004) أن البابا قال إن «فيلم بحب السيما» يعد تدخلا في شئون الكنيسة.

والمسافة ما بين تصريح البابا الأخير وبداية تقديم المذكرات إلي النائب العام لا تزيد علي شهر إلا بأيام معدودة. ولكنها مسافة تكشف عن تحولات  دالة، أبلغها دلالة تحول موقف الكنيسة من الحياد الصامت إلي الانحياز المعلن إلي صف من تولوا الهجوم علي الفيلم، وتحريك الدعاوي القضائية ضده. ويلفت الانتباه ـ في هذا السياق ـ ما نشرته جريدة «المصري اليوم» (بتاريخ 18/8/2004) في صفحتها الأولي ـ أي بعد رفض محكمة الأمور المستعجلة دعوي إيقاف الفيلم ـ أن الكنيسة الأرثوذكسية طلبت رسميا رأي الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية في فيلم «بحب السيما» الذي تطالب بعض القيادات المسيحية بوقف عرضه في دور السينما. وأكد المستشار نجيب جبرائيل (الذي وصفته الجريدة بأنه محامي البابا شنودة الثالث والكنيسة الأرثوذكسية) أنه تقدم بمذكرة رسمية إلي مجمع البحوث الإسلامية، يطلب فيها رأي الأزهر في فيلم «بحب السيما». وصرح المستشار للجريدة بأنه قدم المذكرة إلي الشيخ إبراهيم الفيومي أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، وذلك طبقا للقانون 103 لسنة 1961 الذي يعطي الأزهر حق فحص المصنفات الفنية، وأضاف أنه سيطلب من محكمة القضاء الإداري التي تنظر دعوي وقف عرض الفيلم إلزام الرقابة علي المصنفات الفنية بتسليم نسخة من الفيلم للمحكمة لعرضها علي مجمع البحوث الإسلامية.

الشيخ الفيومي علي المسرح

ومن جانبه، أعرب أمين عام مجمع البحوث الإسلامية (المشهود بمصادراته العديدة التي رفض بعضها القضاء) عن ترحيبه بالمذكرة التي تقدمت بها الكنيسة المصرية عبر محاميها الذي يتولي الإجراءات القانونية، مؤكدا أن رسالة الأزهر الأساسية هي المطالبة بوقف عرض أو تداول المصنفات الفنية والمؤلفات التي تحتوي علي ازدراء الأديان أو إساءة للذات الإلهية والأنبياء. وبادر الشيخ الفيومي بطلب نسخة من الفيلم لعرضها علي لجنة خاصة في المجمع برئاسة شيخ الأزهر لإعلان الرأي النهائي في الفيلم محل الشكوي. ولم يفت الشيخ الفيومي أن يشدّد علي أن رسالة الأزهر الأساسية هي المطالبة بوقف عرض وتداول أية مصنفات فنية أو إصدارات تشتمل علي الإساءة إلي الذات الإلهية والأديان السماوية والأنبياء. وأرجع تأخر إعلان رأي الأزهر في الفيلم إلي أن مجمع البحوث الإسلامية ينتظر طلب الجهات المختصة لفحص الأعمال التي تعرض عليه، سواء كانت هذه الجهات شخصيات اعتبارية أو طبيعية. ورافق المستشار نجيب جبرائيل في زيارته لمجمع البحوث الإسلامية كل من القمص مرقس عزيز كاهن الكنيسة المعلقة في مصر القديمة، وممدوح نخلة مدير مركز الكلمة لحقوق الإنسان.

وقد أوضحت جريدة «المصري اليوم» بتاريخ (18/8/2004) سر التوجه إلي مجمع البحوث الإسلامية فيما نقلته عن المستشار نجيب جبرائيل من أنه قرر الاستعانة بالمجمع، خصوصا بعد أن قرأ في الجريدة نفسها (العدد 68) تحت عنوان «مصدر بالبحوث الإسلامية: سنوصي بمنع بحب السيما لو طلبوا رأينا». وهو إعلان دفع المجموعة المحاربة للفيلم إلي اللجوء إلي المجمع للاستعانة برأيه المؤيد لموقفهم، قبل مشاهدة الفيلم، في المعركة القضائية ضد الفيلم.

جريدة القاهرة في

21.09.2004

 
 

د. جابر عصفور يكتب من قلب العاصفة (3)

لجوء الأصولية القبطية إلي مجمع البحوث الإسلامية لاستصدار تقرير ضد سابقة خطيرة لا تخلو من «الوصاية»

* علي طريقة «وليمة لأعشاب البحر» تم شحن الجماهير بافتراءات وأقوال كاذبة.. وكاد الأمر يتطور إلي ما هو أخطر من التظاهر لولا تدخل عقلاء الكنيسة

* الأزمة أثبتت غلبة ثقافة الإشاعة في المجتمع المصري.. حتي إن كثيرين صدقوا أنه فيلم جنسي يسيء إلي المسيحية دون أن يروه

* من دلالات الأزمة استخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة بنشر الرسائل التحريضية عبر الإنترنت في سابقة كان لها تأثيرها القوي في خفض معدلات مشاهدة الفيلم  

في هذا المقال يختتم د. جابر عصفور سلسلة المقالات المهمة التي كتبها عن فيلم «بحب السيما»، وعن تفاصيل الأزمة وما أثارته من مشاكل رقابية ودينية وقضائية.. والدلالات التي خرج بها بعد أن انجلي غبار المعركة.

يلفت الانتباه التشابه الدال في ردود أفعال الرفض ما بين تطرف الأصولية القبطية التي لا تزال تناصب فيلم «بحب السيما» العداء وتطرف الأصولية الإسلامية التي لم تتوقف عن مصادرة حرية الفكر والإبداع، وتكفير كل ما لا تراه متطابقا مع تأويلاتها الجامدة ومداراتها المغلقة. وخطاب التكفير هو الوجه الآخر من تهييج الجماهير لإثارتها، ودفعها للخروج في مظاهرات ضد الأعمال المحكوم عليها بالكفر من منظور التطرف. وفي الوقت نفسه، فإن اللجوء إلي القضاء، ومحاولة استغلاله في غير ما تأسس له، وهو الدفاع عن الحقوق الدستورية والإنسانية لكل مواطن في التعبير عن رأيه ومعتقده والإبداع الحر الذي لا يعرف القيود، هو الوجه الموازي لتوزيع المنشورات التي تعمل، بدورها، علي إضافة المزيد من الوقود علي النار المشتعلة داخل الجماهير التي تمت إثارتها. وما بين هذه الأصولية أو تلك تتكرر نماذج متشابهة من القائمين بالتحريض، والمتصدِّرين للدفاع عما يرونه هم بمثابة صحيح الدين، متحدثين باسم الجميع كأنهم وحدهم حماة الدين والناطقون باسمه والمحتكرون لمعرفته والأوصياء عليه. ودورهم المتكرر لا يفارق التهييج والإثارة. والهدف هو الانتقال من الكلمة إلي الفعل، ومن التحريض إلي الاعتداء، ومن الاتهام إلي الإقصاء، وذلك في المتوالية نفسها من محاربة المختلف، وإقصاء المغاير، وفي العملية التخييلية نفسها من إثارة الانفعال بوقائع كاذبة وتأويلات مضلّلة، وتحويل الانفعال إلي فعل هو ممارسة صريحة بعنف الرفض الذي يصل إلي درجة التصفية المعنوية أو التصفية الجسدية.

وليس من الغريب ـ والأمر كذلك ـ أن تقترن العاصفة التي لا تزال تهب علي فيلم «بحب السيما» بلوازم متكررة دالة، سبق أن رأيناها في العواصف السابقة. واللازمة الأولي هي اللجوء إلي القضاء، إما باختراقه أو محاولة تضليله، وذلك علي نحو ما حدث في الحكم الجائر الذي أصدرته محكمة النقض علي نصر حامد أبو زيد في الخامس من أغسطس 1996 بالتفريق بينه وزوجه، أو الحكم الجائر الثاني الذي أصدرته محكمة كويتية في أكتوبر 1999 بسجن الدكتور أحمد البغدادي الأستاذ بجامعة الكويت لأن كليهما اجتهد اجتهادا وأعلنه، ورأي رأيا أبداه، فكانت النتيجة الحكم الجائر بالتفريق في حالة الأول، والسجن في حالة الثاني. ويبدو أن الذين لجأوا إلي القضاء لمنع فيلم «بحب السيما» وتجريم مخرجه وكاتب السيناريو والمنتجة يتطلعون إلي حكم مماثل، لكن البدايات تدل علي الخواتيم، فرفض الدعوة الذي أعلنته محكمة الأمور المستعجلة  سيتكرر ـ فيما أظن ـ مع الدعوي القائمة التي أرجو أن يحفظها النائب العام، خصوصا بعد أن تغيرت الشروط السياسية والأوضاع الدولية، ولم يعد المناخ الثقافي يقبل أحكاما قضائية من نوع ما وقع علي نصر أبو زيد في مصر أو أحمد البغدادي في الكويت.

وأتصور أن اللجوء الأخير إلي مجمع البحوث الإسلامية هو نوع من المحاصرة، أعني أنه إذ لم تفلح محاولة استصدار قرار ضد الفيلم من القضاء المدني، فلا بأس من استصدار قرار من هيئة دينية، إسلامية، ما دام القانون المنظم لعملها يبيح لها التصدي للمصنفات الفنية أو الإصدارات الفكرية التي تشتمل علي الإساءة إلي الذات الإلهية أو الأديان السماوية والأنبياء. ولكن حتي لو أصدر مجمع البحوث الإسلامية حكما سلبيا علي فيلم يتناول قضايا مسيحية، وهو أمر لم يحدث من قبل، وسابقة خطيرة لا تخلو من معني الوصاية، فإن هذا الحكم يظل من الناحية القانونية في دائرة الرأي، ويمكن لأي محكمة مستنيرة أن ترفضه، تماما كما حدث مع كتاب «رب الزمان» لسيد القمني الذي أباح توزيعه وتداوله حكم أصدره قاض مستنير، نقض ما انتهي إليه مجمع البحوث الإسلامية. وسواء حدث ذلك مع فيلم «بحب السيما» أو لم يحدث فإن ظاهرة المنع باللجوء إلي القضاء، أو الاستعانة بمؤسسة دينية موازية للقضاء، تظل قائمة، ومتكررة، وذلك في سياقات الصراع الذي لن ينتهي قريبا ما بين تيارات الاستنارة وتيارات الإظلام، أو اتجاهات التعصب واتجاهات التسامح في المجتمعات العربية علي اختلاف دياناتها وطوائفها.

استفزاز الجماهير

وإذا كان اللجوء إلي القضاء هو حلقة من حلقات المحاصرة التي تهدف إلي الإقصاء، في سياقات هذا الصراع، فإن استفزاز الجماهير البسيطة بواسطة المنشورات المعادية والمقالات التكفيرية، هو الحلقة التي تكملها حلقة دفع هذه الجماهير إلي التظاهر بعد شحنها بالغضب. وكما حدث في حالة رواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» حين تم تهييج طلاب الأزهر، بواسطة منشورات تهدف إلي إشعال غضبهم بأقاويل كاذبة وافتراءات ظالمة، ودفعهم إلي التظاهر ضد رواية لم يقرأوها، حدث الأمر نفسه في حالة «بحب السيما» حين تم شحن مجموعة من المسيحيين الذين تظاهروا في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في القاهرة، والذين حاولوا الخروج إلي الشارع للاتساع بعدد الرافضين للفيلم، وفرض الموضوع علي انتباه رجل الشارع. وكان يمكن للأمور أن تتصاعد، لولا تدخل عقلاء الكنيسة، وتصدّي رجال الأمن للمحاولة، الأمر الذي منع حدوث التداعيات التي حدثت في حالة «وليمة لأعشاب البحر». لكن ظلت ظاهرة التظاهر لازمة دالة في تكرارها، خصوصا بعد المنشورات التي أخذت ـ في حالة «بحب السيما» ـ بعدا جديدا مقترنا بالإفادة من تكنولوچيا الاتصال والإعلام. ويلفت الانتباه ـ في هذا التباين ـ دلالات الرسالة التي تم إرسالها بواسطة البريد الإلكتروني E. Mail ضد الفيلم إلي المسيحيين فقط، وهي رسالة تدعو من يتلقاها إلي عدم مشاهدة الفيلم الذي يسيئ إلي الدين المسيحي، كما تدعو إلي معاودة إرسالها ـ من حيث هي رسالة ـ إلي كل المعارف والأصدقاء، كي تتسع دائرة المقاطعة ضد الفيلم، وذلك في سابقة تحريضية كان لها تأثيرها الفاجع في خفض معدلات مشاهدة الفيلم، وذلك علي نحو أدي إلي سحبه من دور العرض التي كانت تعرضه. وهي رسالة تستحق التحليل لأهميتها ولكثرة الدلالات التي تنطوي عليها. وتمضي علي النحو التالي:

«إلي كل أصدقائي: لقد شاهدت بنفسي فيلم بحب السيما ورأيت فيه كمّ الإهانة الموجهة إلي المسيحيين من إظهارهم شتامين وزناة حتي داخل الكنيسة وفي الإجمال منحلين أخلاقيا مع وجود عدد هائل من الألفاظ الخارجة التي يعف لساني عن ذكرها ويعاقب عليها القانون وأتعجب من إجازتها من قبل الرقابة!! فضلا عن وجود العديد من المشاهد الجنسية الفاضحة الخارجة عن حدود المنطق والمعقول.. الفيلم لم يعرض شخصية أساسية أو ثانوية واحدة مسيحية سوية بل علي العكس كلهم غير متزنين ومرائين يفعلون كل المبيقات (يقصد الموبقات) والأفعال الشائنة حتي داخل الكنائس وتحت الصليب.. لذلك أطلب منكم مقاطعة هذا الفيلم حتي لا ينجح.. وإرسال هذه الرسالة إلي كل أصدقائك».

والرسالة صادرة ـ كما يقول وائل عبدالفتاح ـ عبر موقع اسمه زيتون، نسبة لظهور العذراء في كنيسة الزيتون عام 1968. وهو موقع يهتم بالمعجزات والكرامات. مكتوب باللغة الإنجليزية باستثناء بعض مقتطفات الكتاب المقدس أو الرسائل الإلكترونية. وعادة ما يهتم بشئون اللاهوت والعقيدة. وتلك معلومات تشير إلي السياق الذي تدور فيه الرسالة والدلالات التي يمكن استخراجها منها. فهي ـ أولا ـ تعتمد علي سيادة الثقافة السمعية السائدة في مصر وغيرها من الأقطار التي لا تزال للثقافة الشفاهية سطوة كبيرة فيها. وهي ثقافة تؤدي ـ في جوانبها السالبة ـ إلي اتخاذ كثيرين مواقف من أشياء لم يعرفوها وإنما سمعوا عنها، والعداء لأفكار لم يقرأوا عنها وإنما سمعوا عن إدانتها وإدانة أصحابها. وتكتمل هذه الثقافة السمعية الشفاهية بالنزعات الاتِّباعية السائدة في الثقافة الجماهيرية الغالبة، وهي نزعات تقترن بالميل إلي التصديق دون تمحيص، وقبول المنقول من غير إعمال العقل فيه. والنتيجة هي المسارعة إلي تصديق ما يقال، خصوصا إذا التبس القول بما يغوي بتصديقه، إما بتخييل لفظي واقع في القول، أو بصفات معينة في القائل.

ثقافة الإشاعة

والنتيجة هي غلبة ثقافة «الإشاعة» في المجتمع، وشيوع كثير من الأكاذيب التي يلتبس فيها الحق بالباطل، أو يستبدل التعصب بالتسامح، ولغة الاتهام الكيدي أو التحريضي بلغة الحقائق الهادئة. وأكثر ما يحدث ذلك الآن ـ في المستويات الدينية من الخطاب الاجتماعي ـ فيما يتعلق بالآداب والفنون، ومنها حالة فيلم «بحب السيما» الذي لا تزال الشائعات تطارده، ولا يزال الكثيرون يصدقون ما رمي به من اتهامات ظالمة أو باطلة. وقد لفت نظري أن التصديق الاتِّباعي جاوز العامة إلي الخاصة. ودليل ذلك تحقيق ورد في مجلة «روزاليوسف المصرية» (بتاريخ 1/7/2004) بعد أن توجَّه أحد عشر كاهنا من كهنة الكنيسة الأرثوذكسية إلي النائب العام مع كثيرين للمطالبة بمنع الفيلم. وعندما سأل المحرر القمص مترياس نصر ـ أحد مقدّمي البلاغ وكاهن كنيسة العذراء ـ عما إذا كان قد شاهد الفيلم الذي تقدم بالبلاغ ضده، كانت الإجابة المفاجئة أنه لم يشاهد الفيلم، وإنما اعتمد علي ما نقل إليه عنه. وعندما ينتقل المحرر إلي بقية رجال الدين القبطي الذين يشكل تجمّعهم نوعا من القمع المعنوي تكررت المفاجأة التي تمثلت في أن أكثر من واحد لم ير الفيلم الذي يسعي إلي الاستعانة بالقضاء لإيقافه.

والمفارقة المؤسية أن هذه الرموز الدينية التي لاذت بالسماع لا المعاينة، قد تركت تأثيرها في بسطاء الناس الذي سرعان ما تقبَّلوا المسموع والمنقول، وأشاعوه بدورهم في موجات متزايدة، داخل ثقافة اتباعية غالبة.

وقد أوضحت حنان شومان مضارّ هذه الثقافة ـ في حالة فيلم «بحب السيما» ـ بمقال لها بعنوان «ليس من سمع كمن رأي» في جريدة «الميدان» القاهرية (بتاريخ 17/6/2004) حاكية أن صديقة لها بادرتها في اتصال تليفوني بأن هناك فيلما كافرا يعرض حاليا، وكانت محتدة بشدة، وساقت أسباب نعتها لهذا الفيلم بصفة الكفر. فكما قالت هو فيلم يرفع الكلفة بين الإنسان وربه فنري البطل يتحدث إلي الله وكأنه شخص عادي أو صديق، ثم هو فيلم تظهر فيه السماء تبرق، والرعد والغمام في السماء يتحول إلي شبه وجه، وكأنه يرينا الله الذي ليس كمثله أحد، فكيف يتم تجسيد الله في صورة غمام يتكون في السماء؟ ولم تتوقف الصديقة بل زادت بأن الفيلم فيه تجسيد لصورة سيدنا يوسف، وتصوير القديسين والأنبياء حرام كبير، ثم اختتمت حديثها بأن الفيلم يحوي مشهدين لعلاقة جنسية بين رجل وامرأة. ولم تنطق حنان شومان المختصة في السينما بكلمة إزاء طوفان اتهامات الصديقة، وظلت تستمع إليها حتي أنهت حديثها باستنكار السماح بعرض مثل هذه الأفلام، ولم تنس الصديقة تعنيف الكاتبة لأنها كتبت تدافع عن حرية التعبير لصناع هذا الفيلم، مؤكدة أن الكفر ليس حرية تعبير!! وحين انتهت الصديقة من حديثها، سألتها حنان شومان سؤالا واحدا. هل رأيت الفيلم؟ فأجابت لا. ابنتي شاهدته وحكت لي.

وإذا جاوزنا الثقافة السمعية الاتّباعية التي تعتمد عليها الرسالة، من حيث دفعها الأغلبية إلي التصديق النقلي، إلي دلالات أخري ملازمة، وجدنا أن الرسالة تعتمد في تحريضها علي الاستفزاز والغضب الذي لابد أن ينتاب القارئ المسيحي، حين يسمع عن الإهانة الموجَّهة إلي كل المسيحيين، بإظهارهم شتَّامين وزناة ومنحلين حتي داخل الكنيسة. والغضب ـ في هذا السياق ـ نتيجة تخييل يعتمد علي مغالطة أن الذين يبرزهم الفيلم هم الواقع بأسره، وليس شريحة من الواقع. وحين يقع تحويل الخاص إلي عام، والجزء إلي كل، يعاجل التخييل الروية بما يدفعها إلي التصديق. ومن ثم يسهل جرّ قارئ الرسالة ـ في ثقافة نقلية ـ إلي تقبّل محتوي الرسالة، والوقوع في شراك إدانة الفيلم بفاعلية مغالطة الاتهامات التي تبدو معقولة ظاهريا، ومثيرة للمشاعر كليا. ومَنْ مِنْ المسيحيين يقبل أن يكون أبناء دينه زناة حتي في داخل الكنيسة؟!

وبالطبع يؤدي اللعب علي الوتر الأخلاقي دوره في عملية التخييل اللغوي للرسالة، وذلك علي النحو الذي ينتقل بالانفعال إلي الفعل، وبالاستماع إلي التصديق.

ولا ينفصل عن الإيهام الأخلاقي استخدام الصور المستفزة تخيليا التي تثير الانفعالات الدينية النقية، خصوصا عندما يقرأ قارئ الرسالة عن تدنيس حرمة الكنيسة بشخصيات غير متزنة تفعل المحرمات والأفعال الشائنة داخل الكنائس وتحت الصليب. وملفوظات الصياغة تتركب بطريقة تثير في المخيلة صورا تؤدي ـ بدورها ـ إلي إثارة انفعالات الغضب والسخط والازدراء والنفور والكراهية لدي المتخيل الذي تفضي به تداعيات التخيل إلي ما يحيل الانفعالات إلي مواقف سلوكية عدوانية، مواقف لابد أن تتجه بالإدانة التحقيرية والتكفيرية إلي من تسبَّب في هذا الجرم. وهو الفيلم الخارج علي الأخلاق والدين.

ويمكن أن نلاحظ ـ في ثنايا التحليل الدلالي ـ أن الرسالة تتعمد عدم الإشارة إلي الفارق بين المذاهب المسيحية، حيث يميل بعضها إلي المحافظة النسبية، وبعضها إلي التحرر النسبي. والهدف المضمر هو عدم إثارة السؤال عن إمكان الزواج خارج ما يسمي «الكنيسة الأم» من وجهة نظر المتعصبين لها، أو إثارة تفاصيل الاختلاف بين الطوائف، فالأفضل من إبراز هذا الاختلاف التركيز علي الخروج الأخلاقي والديني بالكلية، والاقتصار عليه في مخايلة التهييج التي تنتهي بإيهام التكفير.

ولا ينفصل عن ذلك أن منطق الرسالة لا يختلف عن منطق الإشاعة التي تدين الفيلم لأن أبطاله يتحدثون في حميمية إلي خالقهم، وذلك بمغالطة تستبدل علاقة الخوف من الله بعلاقة المحبة، والرعب من كل ما يقود إليه بدل الشوق إلي تفهم علامات العالم الذي خلقه، وذلك لكي ترسخ علاقات الخوف والرعب من الله، وتنتقل من العلاقة بالسماوي إلي العلاقة بالبشري، فتغدو الطاعة المطلقة سمة للجميع، والخوف هو الأصل الذي يحكم كل علاقة إنسانية.

جريدة القاهرة في

28.09.2004

 
 

اختلفوا حول الشخصيات المسيحية ولم ينتبهوا للابعاد السياسية الكامنة في الفيلم:

بحب السيما تناول الثالوث المحرم الدين والجنس والسياسة

القاهرة ـ كمال القاضي

برغم الصدي الواسع الذي أحدثه فيلم بحب السيما وردود الأفعال الرافضة من قبل البعض لدخول المقدسات الدينية طرفا في الدراما وما ترتب علي ذلك من نزاعات ومعارك بين صناع الفيلم أسامة جرجس فوزي المخرج وشقيقه هاني جرجس فوزي المنتج وبين رجال الكنيسة ووصول الخلاف إلي ساحات القضاء إلا أن أحداً لم ينتبه إلي الأبعاد السياسية المطروحة داخل العمل الجيد وظل التناول مقصوراً علي الشكل الاجتماعي للشخصيات المسيحية دون رصد حقيقي للخلفية السياسية التي أغفلها النقاد والجمهور في غمرة انشغالهم بما اعتبروه مساساً بالدين والعقيدة وذلك علي غير الحقيقة تماماً حيث لم يقصد أي من صناع الفيلم أن يتعرض بسوء للمعتقد الديني ويمكن اعتبار ما جري من تناول لممارسات الشخصية القبطية وطقوسها الدينية نوعا من النقد الاجتماعي الذاتي، لا سيما وأن المنتج والمخرج مسيحيين وهو ما ينفي عنهما تهمة الإساءة المتعمدة.. وربما يكون ذلك هو نفسه المنطق الذي اضطر هيئة المحكمة لرفض الدعوة، خاصة بعد تأكد الكنيسة من عدم توافر سوء النية. ولعل براءة الفيلم وصناعه من سبة الإساءة والتطاول هي المبرر لإعادة قراءة الفيلم مرة أخري في سياقه الدرامي الصحيح.. وقبل الدخول في التفاصيل لابد من الإشارة إلي العوامل التي جعلت من هذا الفيلم عملاً فارقاً، إذ أنه يمثل عودة لسينما الموضوع بعد سيادة سينما الإفيهات و النكت وإصابة الجمهور بالغثيان.. ويحمل الفيلم عنوانا كأنه التبرير لصناعته أو إنتاجه بحب السيما فحب السينما الجادة وحده يكاد يكون هو الدافع الأساسي وراء إنتاج مثل هذه النوعية من الأفلام التي تحمل هموماً وقضايا مهما اختلفنا او اتفقنا معها.

فالفيلم يقدم لنا طرحاً سياسياً وفنياً جديداً لحقبة تاريخية تجاوزناها بدأت أحداثها من عام (66) يعيد السيناريست هاني فوزي محاكمتها علي نحو غير تقليدي حيث يتم تحييد المشاهد تماماً فلا يستطيع أن يقطع بإدانة المرحلة ورموزها أو براءتها بشكل مطلق فهو يحافظ علي ذلك التوازن الخفي بين السلبيات والإيجابيات ويطلق العنان للعقل كي يتبني الحقيقة من السراب، فهو يعترف أن عبد الناصر كان رمزاً وفي نفس الوقت يلقي الاضوء علي الأخطاء ويشد الخيوط لتصل بنا إلي ما هو أبعد من حصر التجربة في التأييد أو الرفض الوجداني فنجده يفتح حواراً ساخناً بين البطل محمود حميدة الأخصائي الاجتماعي القبطي المتزمت وزوجته ليلي علوي مديرة المدرسة التي هجرت الفن التشكيلي بفعل دعاوي الرفض والتحريم المتوالية من الزوج لينطوي الحوار علي نقد لاذع من الزوجة يقابله ثبات من الزوج الذي يرفض المهادنة والمساومة ويلتزم بتعاليم الدين ويحرص علي الصلاة والصوم، وفي نفس الوقت يتهم من بعض زملائه المغرضين بالماركسية ويتعرض للوشاية فيصاب بالارتباك والريبة ويغالي في حرصه علي البديهيات الدينية.. تربية أقرب إلي الصوفية لكنها لا ترفض العقل ولا تستطيع مجاراة الواقع المليء بالمترفات والخلاعة كذلك الزوجة سيدة شديدة الالتزام ولكنها تعاني اغتراباً واضحا في علاقتها بزوجها تضطرها لإقامة علاقة غير مكتملة مع فنان تشكيلي (زكي فطين عبد الوهاب) يعيد إليها الروح المنسية ويغمرها بمشاعر مختلفة فتسلم له بعد مقاومة ضعيفة ثم تعود نادمة وتقف في ساحة الاعتراف أمامك المذبح والصليب بالكنيسة ترجو الصفح والغفران كأنه الإقرار الضمني من السيناريست والمخرج بنسبية الجريمة الأخلاقية فمذنب الأمس يمكن أن يكون قديس اليوم حيث تقاس درجة الإدانة طبقا للسياق الذي وقع فيه الإنسان في براثن الخطيئة وهنا يبدو الإسقاط كأنه الخيط الرفيع الملامس للواقع السياسي، وكان بإمكان المخرج أسامة فوزي أن يحرر هذا المعني بسلاسة لولاً أنه اهدر بذلك التصريح الفج حين اكد البطل في لحظة سكر أن العالم كله يكذب.. حتي عبد الناصر نفسه كان حوله كذابون أضلوه وغرروا به!

و في خطأ آخر لتأكيد ذات المعني جعل خلفية المشهد كلمات التنحي الشهيرة.. لقد اتخذت قراراً أريدكم أن تساعدوني عليه.. إلي آخره!

غير أنه في مشهد آخر وأثناء الممارسة الجنسية بين الزوج والزوجة نسمع في الباك غرواند أيضاً جزءا من خطاب سياسي يتحدث فيه عبد الناصر عن ضرورة البناء والتعمير وحقوق الطبقة العاملة، بينما تتصاعد من بين الجمل الحماسية الآهات والتأوهات ثم تنتقل بنا الكاميرا إلي داخل غرفة النوم لنجد الزوج مرهقا ومتعباً بل ومستعصيا علي التجاوب مع زوجته فيما تصر هي علي إشباع رغبتها دون إرادته وهو ربط غامض ومستفز، لا سيما وان المشهد لا يحل دلالات من أي نوع سوي الادعاء و التثاقف السياسي الساذج!

و دون ذلك يحسب للمخرج عزفه علي وتر التنويعات الجريئة في نقده للمؤسسات الدينية واختراقه للتابوهات وكسر حاجز المسموح والممنوع وتعامله مع القضية باعتبارها نوعاً من النقد الذاتي وخروجاً من عباءة الفضيلة إلي رحابة الاستفسار والتساؤل وتحرير العقل من المحظور بما في ذلك السلوكيات الخاصة جداً بالشخصية القبطية فضلاً عن استغلاله لموهبة الطفل يوسف عثمان الذي لعب طوال الفيلم دور الرقيب أو المراقب لما يحدث وراء الستار كأنه البغبغان يترجم بوعي خاص لما يراه من تفاصيل قد يخجل الإنسان الرشيد من مكاشفتها والبوح بها. ونعود إلي نقطة الخلاف الأساسية التي تتلخص في المشهد الأخير حيث اعتبر السيناريست أو المخرج أن خطاب التنحي الذي ألقاه عبد الناصر إثر وقوع هزيمة حزيران (يونيو) 67 كأنه نهاية اسطورة الزعيم لذلك اختار لبطله النبيل أن يموت بعد تلاوة الخطاب المشؤوم مباشرة ، وهنا يخرج الفيلم من سياقه الموضوعي فالاعتراف بالمسؤولية عن النكسة ومحاولة الاعتذار عن تولي أي منصب رسمي لم يكن هو النهاية قط ولكنه كان البداية الحقيقية لميلاد مرحلة جديدة تم فيها تدارك الأخطاء وأعيد بناء الجيش وسجلت انتصارات حرب الاستنزاف التاريخية التي كبدت العدو خسائر جسيمة وإن لم تكن في نفس مستوي ما خسرناه في (67) ولكنها بمعيار المقاومة والبطولة كانت درساً مستفاداً ومن ثم لا يجوز إهمالها وتجاهلها.

وبالابتعاد قليلاً عن الخط السياسي للفيلم والاقتراب من الحالة الإنسانية التي شكلتها الأحداث نري بوضوح جهداً لا ينكر للسيناريست هاني فوزي في إعادة تشكيل الأحداث المهمة وصياغتها في لوحة فنية بالغة الحضور والتأثير زاد من الإحساس بها أداء الفنان محمود حميدة الذي أكد نضجه وقدم شهادة اعتماد جديدة كواحد من اهم نجوم السينما وأيضاً ليلي علوي فقد بدت أكثر إقناعاً وتمكناً من الشخصية.

واخيراً يبقي السؤال: هل نجح الفيلم في إماطة اللثام عن الثالوث المحرم.. الدين والجنس والسياسة؟

القدس العربي في

02.10.2004

 
 

فيلم «بحب السيما» نموذجاً

الرقابة على الإبداع ضد الإنسان والتاريخ

كتب: سعد القرش

وصف الناقد السينمائي المصري ناجي فوزي الرقابة على الإبداع أنها إحدى أدوات القمع »حتى يبقى كل شيء على ما هو عليه ضد الإنسان وضد التاريخ«.

وطالب ناجي فوزي بوضع تعريف علمي دقيق لمصطلح (الرقابة على الأفلام السينمائية) فضلا عن ضبط مصطلحات غير محددة تتعلق بما وصفه بالثوابت الاجتماعية والدينية »حتى نتحاشى فتح الطريق أمام جماعات الضغط (الأهلية) كما حدث هذا العام (في مصر) فيما يخص فيلم (بحب السيما)« الذي أثار زوبعة من الاتهامات، حيث رفعت إحدى الجماعات من الطائفة المسيحية في مصر دعوى ضد الفيلم بحجة اساءته للدين في حيث أن الفيلم لا يناقش بتاتا لا من قريب ولا من بعيد اصول العقيدة أو أي طرف آخر للدين بحسب عدد من النقاد.

جاء ذلك خلال مشاركة فوزي بورقة بحثية عنوانها (المفاهيم الرقابية وحرية المنتج الثقافي) ضمن أنشطة مؤتمر أدباء مصر الذي اختتم دورته التاسعة عشرة يوم الجمعة الماضي بمدينة الأقصر.

وقال لرويترز إنه »في كل حالات إلغاء الرقابة (على الأفلام السينمائية) لا خوف من أية تداعيات«.

 »نرفض تماما وجود رقابة على الأفلام السينمائية فيما يخص عناصرها غير الفنية المتعلقة على سبيل المثال بالأمن العام والآداب العامة والقضايا ذات الحساسية الدينية«.

وقال إن البديل للرقابة بشكلها الحالي هو أجهزة مدنية غير حكومية يقتصر دورها على »تصنيف الأفلام من حيث مشاهدتها تصنيفا عمريا من أجل حماية الأطفال الصغار من مشاهدة مناظر العنف الشديد والعنف المبالغ فيه في بعض الأفلام لأغراض فنية ومن مشاهدة مواقف لا تتلاءم مع أعمارهم من حيث الإدراك«.

وبعد أن شهدت مصر في السنوات الأحيرة تيارا من الأفلام وصفه سينمائيون بأنه مسطح وتجاري لا يرقى لمستوى السينما الجديرة بالمشاركة في المهرجانات طالب البعض بأن يكون للرقابة على المصنفات الفنية دور في منع ما اعتبروه أعمالا تسيء إلى السينما الجادة.

 إلا أن ناجي فوزي اعترض على أن يكون للرقابة دور فيما يتعلق بالعناصر غير الفنية في الفيلم »إذا كنا نرفض دور الرقابة بصفة عامة فكيف يمكن تصور أية مؤازرة لها على المستوى الفني للفيلم«

»إن وقف تدفق الأفلام المصرية المتواضعة فنيا أمر ينعقد على إرادة المشاهدين ويعود إلى المجتمع ذاته فالذين يقبلون على مشاهدة هذه الأفلام هم أيضا الذين يملكون زمام مقاطعتها«

وحذر مما وصفه بجماعات الضغط الخاصة في مصر مثل النقابات المهنية »كما حدث من نقابة المحامين المصريين بالنسبة لفيلم (الأفوكاتو) الذي أخرجه رأفت الميهي وكذلك الهيئات الدينية كالأزهر وأخيرا بعض رجال الدين المسيحيين في مصر كما حدث بشأن فيلم (بحب السيما)«.

 وعرض هذا العام بمصر فيلم (بحب السيما) الذي كتبه السينارست المصري هاني فوزي وأخرجه أسامة فوزي وأنتجه شقيقه هاني جرجس وهما ابنا المنتج السينمائي المصري الراحل جرجس فوزي.

 والفيلم الذي تأخر عرضه أكثر من عامين بسبب ما اعتبره مراقبون خوفا من موضوعه الذي يعالج تشدد رب أسرة أرثوذكسي مصري مع أسرته وزوجته البروتستانتية إذ يلجأ إلى تحريم بعض متع الحياة على ابنه ومنها حبه للسينما. ولكن علاقة الأب بالله تتحول تدريجيا من الخوف الذي يبلغ جلد الذات إلى الحب فيتسامح مع من حوله.

ولكن بعض رجال الدين المسيحيين ومحامين مسيحيين رفعوا قضايا لوقف عرض الفيلم بحجة أنه يقلل من هيبة الكنيسة ويسيء الى الديانة المسيحية.

وعلق فوزي قائلا إن مصطلحات مثل (احترام العقائد) على سبيل المثال »فكرة مطاطية لاتقل في مراوغاتها عن مراوغات فكرة (خدش الحياء العام).

»الرقابة (على الأفلام) في مصر أداة مرتعشة ووصاية العديد من وسائلها تمنع من التمتع بالفن«

وأشار ناجي فوزي إلى أن هناك عاملا آخر يهدد الحرية يتمثل في الرقابة »بناء على رغبة الجمهور« مستشهدا بقيام دار عرض سينمائية بالقاهرة بحذف مشاهد من الفيلم الأمريكي (الجمال الأمريكي) الذي أخرجه عام ٩٩٩١ البريطاني سام ميندز وقام ببطولته كيفن سبيسي.

 وأبدى دهشته مشددا على أن الحذف تم بسبب اعتراض رب عائلة مصرية وأفراد أسرته على »أحد مشاهد العري على الرغم من أهميتها دراميا وعلى الرغم من أن الرقابة (الحكومية الرسمية) قد صرحت به.

»هذا دليل على نوع من الرقابة تتعرض فيه الأفلام للحذف دون علم مبدعيها وصناعها«.

الأيام البحرينية في

06.10.2004

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)