كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

"باب الشمس" و"موسيقانا" الغوداري

أمام جمهور سيصوت لبعض الفائزين

فيكي حبيب

أيام بيروت السينمائية

   
 
 
 
 

هجمة المهرجانات السينمائية التي تشهدها هذه الأيام العاصمة اللبنانية, تبشر بمستقبل لسينما ما كانت لتقوم من رمادها في هذا البلد لولا اصرار جيل شاب من محبي الفن السابع على تحدي المعوقات الكثيرة والمحاربة على طريقته سعياً لخلق سينما جادة في ظل غياب الاهتمام الرسمي الكامل لها.

مهرجانات صغيرة, لا تجد أي دعم يذكر تشكل نقطة لقاء لعشاق السينما, وتعرف الجمهور الى أعمال لا مجال لمشاهدتها في غير هذه المهرجانات, إذ أن الصالات السينمائية والتلفزيونات المحلية لا تزال بعيدة عن استيعاب هذه المادة السينمائية التي باتت المهرجانات المكان الحصري والوحيد لها الى حد كبير.

حركة سينمائية ناشطة في بيروت... مهرجان يروح وآخر يجيء... فما ان أغلق مهرجان "نما (ولد) في بيروت" أبوابه مطلع هذا الأسبوع, وما ان بدأ الحديث عن مهرجان السينما الأوروبية ومهرجان بيروت السينمائي, حتى بدأت "عجقة" التحضير لمهرجان آخر, مهرجان "أيام بيروت السينمائية" الذي يبدأ في الخامس عشر من الشهر الجاري ويستمر حتى السادس والعشرين منه.

أكثر من مئة فيلم مشارك (13 فيلماً طويلاً, 40 فيلماً وثائقياً, 45 فيلماً قصيراً إضافة الى أفلام تجريبية وأفلام طلاب).

جديد دورة هذا العام تصويت الجمهور على أفضل فيلم قصير أو فيلم وثائقي لبناني, تعطى لمخرجه فرصة لربح معدات تساهم في انتاج لفيلمه المقبل تقدمة من شركة dark side, كما يسهم المهرجان في مبلغ قدره 2500 دولار تقدمة من "مؤسسة لبنان سينما" تعطى للمساعدة على كتابة سيناريو فيلم طويل, وذلك بغية تشجيع الانتاج اللبناني والمخرجين الشباب, هذا من دون أن نغفل ما يردده أصحاب المهرجان من أن مهرجانهم "فسحة تعارف لا مسابقة تنافسية".

وينظّم المهرجان طاولات مستديرة ونقاشات أهمها ندوة عن السينما الفلسطينية إضافة

الى محترف لسينما التحريك (رسوم متحركة) تحت ادارة المخرج الألماني فوك جيفريموفيك الذي حقق ستة أفلام قصيرة جالت في مهرجانات عالمية عدة إضافة الى ليالي "أندرغراوند" فيها مجموعة من فنون التجهيز والأفلام التجريبية, كما سيكون هناك معرض صور عن الصالات السينمائية القديمة من توقيع رين محفوظ, وعرض ثلاثة أفلام طول الواحد منها خمس دقائق من انتاج بيروت دي-سي, وقد أطلق على المجموعة تسمية 5x5, أما الأفلام فهي "ملعوبة" لقوصاي حمزة, "شاطئ سانت مايكل" لزياد سعد, و"ديكالاج" لكاتيا جرجورة.

أفلام..أفلام

بالنسبة الى الأفلام الأساسية, المفاجئ هو أن هذا المهرجان الشاب تمكن من الحصول على فيلمين كبيرين (على الأقل), الأول فيلم قد تحلم أكبر المهرجانات العالمية, بعرضه "موسيقانا" للمخرج جان لوك غودار, وهو الفيلم الذي شارك أخيراً في مهرجان "كان" ونال الاعجاب في صفوف النقاد, أما الثاني فهو ذاك الذي لا شك تحلم المهرجانات العربية في استقدماه عنينا به "باب الشمس" للمخرج يسري نصرالله الذي سيكون فيلم الافتتاح, على ان يكون له عرض ثان في الوقت نفسه الذي يعرض فيه في المهرجان في مخيم مار الياس, وذلك في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا.

ويتميز المهرجان البيروتي في شكل عام بأفلام روائية وثائقية ملتزمة, ناقدة, تحمل نظرة خاصة الى مجتمعاتها من المشرق العربي والمغرب. فيأتينا من لبنان الفيلم الطويل الأول لمحمود حجيج "الأكثرية الصامتة" بانتاج مستقل ومتواضع اضافة الى الفيلم القصير "فان اكسبرس" لايلي خليفة و"أولاد الأرز" لديميتري خضر, ومن مصر "كليفتي" للمخرج محمد خان الذي يخوض هنا تجربته الأولى المتميزة في السينما الرقمية و "بين النساء" لهالة جلال لنصل الى تونس مع فيلم محمد زران "أغنية الألفية" فالى الجزائر مع فيلم مالك بن اسماعيل "اغترابات".

والأفلام عن فلسطين موجودة بكثرة في هذه الدورة من المهرجان, سواء كانت أفلاماً عربية أم اجنبية, ومن هذه الاعمال: "خلقنا وعلقنا" من إخراج علا طبري, "سوريدا امرأة من فلسطين" لتهاني راشد التي عرفت من خلال فيلمها "أربع نساء من مصر", "كتاب الحدود" من اخراج سمير عبدالله وخوسيه رينياس سوريبه, "اجتياح" لنزار الحسن, "مثل عشرين مستحيلة" من اخراج آن ماري جاسير, و"الشهر التاسع" من اخراج علي مطر...

أما تظاهرة "نظرة الى العالم العربي" فتمكن المشاهد التعرف الى أفلام تأتينا من الخارج وتحمل نظرة خاصة الى عالمنا, البداية هنا مع "موسيقانا" لجان لوك غودار يليه فيلم فريديريك لافون "1001 يوم" فـ"2000 ارهابي" لبيتر سبيتجنز وهنرو سميستسمان في "2000 ارهابي" و"طريق الغرب" لغايل موريل.

سينما من الماضي

بعد ذلك كله, يعيدنا المهرجان البيروتي الى الأفلام الوثائقية في السبعينات والثمانينات لنكتشف أعمال أربعة مخرجين عرب صوروا أفلاماً في تلك الفترة وهم: عمر أميرلاي وأسامة محمد و وتهاني راشد وميشال خليفي. فنتعرف من جديد الى "السد" لعمر أميرلاي الذي كان تجربة صاحبه الأولى في عالم السينما (1970) و"الحب الموؤود" و "الى السيدة بنظير بوتو" وهي من مجموعة أسفار قام بها المخرج في عالم النساء.

الأول صوره في مصر والثاني في باكستان, لنصل الى فيلم أسامة محمد "خطوة خطوة" الذي صور عام 1979 ولم يعرض "لأسباب سياسية", كذلك نشاهد فيلماً آخر لتهاني راشد عن الحرب اللبنانية عنوانه "في بيروت... من قلة الموت" الذي صورته عام 1985 ولم يعرض قبلاً في بيروت, وأخيراً هناك فيلم ميشال خليفي "معلولا" الذي صوره في بلدة معلولا في فلسطين عام 1983.

أما ضيفا المهرجان من الخارج فهما "أبونا" باللغة العربية من اخراج محمد صالح هارون من التشاد, و"فودكا ليمون" للمخرج هنير سليم وهو عراقي كردي صور فيلمه في أرمينيا.

وأخيراً نذكر أن نشاطات "أيام بيروت السينمائية" لا تقف عند هذا الحد إذ تنظم جمعية بيروت دي-سي بالتعاون مع معهد الفنون في زوريخ أسبوعاً للأفلام العربية يعرض فيه عدد كبير من الأفلام التي تشارك في المهرجان, وهي تظاهرة يفيدنا أهل المهرجان أنها ستقدم أيضاً في مدن أوروبية أخرى.

الحياة اللبنانية في

03.09.2004

 
 

"أيام بيروت السينمائية" يطلق دورته الثالثة الأربعاء

"المهرجان مساحة للمخرج ولتواصل تجربته مع الآخرين"

ريما المسمار

تنطلق الدورة الثالثة لمهرجان "ايام بيروت السينمائية" مساء الاربعاء المقبل الخامس عشر من ايلول/سبتمبر بفيلم "باب الشمس" لمخرجه يسري نصر الله وتستمر حتى السادس والعشرين منه في سينما امبير­صوفيل. يقدم المهرجان في دورته الحالية قرابة 130 فيلماً تتنوع بين الوثائقي والروائي القصير والطويل إلى التجريبي والتحريك. وعلى الرغم من المناخ العربي الذي يحاول المهرجان ان يثبت خطواته فيه من خلال تركيزه على الانتاجات الفيلمية العربية، تشهد هذه الدورة عرض افلام اجنبية أنجزها اصحابها في العالم العربي او عنه. في مطلق الاحوال، تؤكد مديرتا المهرجان، ايليان راهب وهانية مروة، في هذا الحوار على مرونة اشياء كثيرة من ضمنها فكرة تصنيف الافلام وثبات اخرى كمواءمة نوعية الافلام لروح المهرجان واهدافه الاولية.

***

وُلد مهرجان "ايام بيروت السينمائية" العام 2001 بهيكليته الحالية، اي الانفتاح على انتاجات السينما العربية ذات الطابع المستقل بأشكالها المختلفة. ولكن نواة الفكرة الاولية كانت تجسدت قبلها جزءاً من مهرجان شمس للشباب، اهتم بالعروض الفيلمية الشبابية لاسيما اللبنانية. على ان قيام جمعية بيروت دي.سي. العام 1999 بهدف "تطوير السينما المستقلة اللبنانية والعربية والترويج لها"، جعل من استقلال المهرجان احدى وسائل تحقيق الهدف. من هنا التقى الاثنان، الجمعية والمهرجان، حول هم اساسي هو توفير مساحة للتعبير واللقاء والحوار.

"نحن في الاساس، هانية وديميتري وانا وكان معنا محمد سويد" تقول ايليان راهب "أسسنا بيروت دي.سي. انطلاقاً من إحساسنا اننا كمخرجين غير قادرين على التعبير عن انفسنا. لا نجد مساحة لنا في التلفزيون ولا نشعر ان المهرجانات التي كانت موجودة وقتذاك تمثلنا. وذلك حال مخرجين كثر لبنانيين وعرب. فكان السؤال: اين يذهب اولئك وكيف يعثرون على مكان للتواصل مع الآخرين؟ في ظل رفض السينمات استقبال الافلام غير السائدة وإعراض التلفزيونات عنها إلى جانب اهتمام معظم المهرجانات بالشق التنافسي بما يحتم رفض افلام كثيرة احياناً بحجة عدم ملاءمتها المعايير المطلوبة. ولكن في نهاية الامر، كل صاحب عمل يحق له عرضه. فهل يضع فيلمه على الرف لأنه لا يلائم مسابقة هذا المهرجان مثلاً؟"

من هنا جاءت فكرة إقامة مهرجان للمخرجين في الوقت الذي تهتم فيه معظم المهرجانات الاخرى بالمنتج او بالموزع وبالاستعراض والاضواء والنجوم بحسب ما أوضحت هانية مروة: "لأن القيمين على ايام بيروت السينمائية هم مخرجون اصلاً، كان الهم ان يتحول المهرجان مكاناً للمخرجين الآخرين ايضاً بعيداً من اي توتر او حساسيات قد تثيرها المنافسة والجوائز. الهدف هو ان يشاهد الناس تلك الافلام غير المتوفرة في قنوات العرض السائدة وان تناقشها وتتعرف على اصحابها بعيداً من فكرة البيع والشراء والفوز والجوائز." تكمل راهب بملاحظة شخصية "المخرجون العرب يعانون الكبت في الاساس وأجواء المنافسات تعزز العلاقات السلبية بينهم. لقد لاحظت مراراً كيف يتحفزون لشن الهجوم على بعضهم البعض بتشكيكهم بمصادر التمويل او بسلوك أحدهم للحصول على المال. هذا تصرف غير صحي ومرده إلى ان المخرجين العرب غير قادرين على التعبير عن انفسهم الا بعد مشقة وعقبات تراوح بين العثور على تمويل ووصولاً إلى العثور على سبيل للتواصل مع الجمهور."

لكل تلك الاسباب وغيرها، ينأى المهرجان بنفسه عن الطابع التنافسي "مفضلين ان نصرف المال على دعوة المخرجين" تقول راهب "كل المخرجين وهذا موقف يسجله المهرجان بدعوة مخرجي الافلام الوثائقية والروائية ايضاً القصيرة والطويلة لنقول ان المخرج الروائي ليس أعلى درجة من المخرج الوثائقي كما يحدث في مهرجانات كثيرة، تدعو اصحاب الافلام الروائية فقط. المهرجان لا يؤمن بهذا التصنيف ويرفض التفرقة."

الاختيار

تلقى المهرجان هذا العام اكثر من ثلاثمئة فيلم، اختار من بينها 130 عملاً وفق معايير تقول راهب انه "تم الاتفاق عليها خلال الاجتماع الاول للجنة الاختيار. بالطبع، ظهرت معايير اخرى اثناء مشاهدة الافلام لم نكن قد فكرنا بها. مثلاً فئة "نظرة على العالم العربي" التي تحتوي على افلام اجنبية تتناول العالم العربي لم تكن مقررة منذ البداية. ولكننا تلقينا عدداً كبيراً من الافلام العربية اما لعدم معرفة اصحابها بأن مهرجاننا يُعنى بالافلام العربية فقط وإما لاحساسهم بأن اعمالهم برغم طبيعة المهرجان مازال مكانها المناسب فيه. من هنا، جاءت فكرة تقديم تلك الافلام التي تقدم نظرة مختلفة إلى مجتمعاتنا." تضيف مروة تعقيباً على هذا الكلام ان "السؤال الذي طرحناه على انفسنا منذ البداية كان: ماذا يعني فيلم عربي؟ هل هو الفيلم الذي اخرجه عربي؟ ام الذي يتحدث العربية؟ ام ماذا؟ تلك التساؤلات وغيرها كانت مدخلاً لنقاش حول الفيلم العربي وهويته وهو نقاش سيتوسع في ندوة ستُعقد خلال المهرجان حول الموضوع." وتكمل راهب "انه نقاش بعيد من إسقاطات جامعة الدول العربية وتعريفاتها. ماذا نفعل بكردي عاش كل حياته في العراق؟ او ارمني في لبنان؟ هل نرفض افلامهما بحجة انها غير عربية؟ حاولنا الابتعاد من التصنيف الجيوسياسي الضيق. فيلم الاختتام مثلاً اخرجه كردي مولود في العراق وصوره في ارمينيا باللغة الارمنية. لا ندعي اننا نملك الاجابات الكاملة على تلك الاسئلة ولكن أقلها لا نكرس التعريفات الجاهزة. لذلك اخذنا الفيلم في اطار "افلام ضيوف" مع فيلم آخر تشادي يتكلم العربية ويشبه العالم العربي كثيراً."

ضمت لجنة الاختيار نحو عشرة اشخاص مختلفي الاتجاهات والاهتمامات. اما دور منظمي المهرجان فاقتصر على التوصية بفيلم او آخر من دون التفرد بالجزم حول عرضه او رفضه. عن ابرز المعايير التي اعتُمدت في عملية اختيار برنامج العروض توضح مروة "النظرة الاخراجية كانت عنصراً اساسياً في عملية الاختيار. ولكننا لا نستطيع تجاهل الموضوع اذا كان مهماً وان لم يكن التعبير عنه باللغة الفنية المختلفة لأننا ندرك ان معظم الافلام العربية تُنجَز في ظل ظروف انتاجية او سياسية صعبة. لذلك اخذ لجنة الاختيار بالاعتبار الموضوع واسلوب مقاربته قبل التقنية لاسيما في الافلام الروائية." وتكمل راهب الفكرة معتبرة ان "في الوثائقي الموضوع هو الطاغي لأنه يُعنى اكثر بموضوعات سياسية واجتماعية. ولكننا لاحظنا هذا العام ان نظرة تجديدة سادت تلك الافلام لذلك لم نختر الافلام الوثائقية التي يمكن ان نراها كل يوم على شاشات التلفزة بل تلك التي تقول شيئاً جديداً سواء ابالنظرة او بالموضوع."

بين تمثيل الاتجاهات الفيلمية كافة في السينما العربية والحفاظ على النوعية قد تبرز هوة كبرى توضح راهب ان المهرجان حاول تجنبها: "قبل سنتين، لم تكن هناك معايير للاختيار. اعتبرنا ان مهرجاننا غير تنافسي وان اي عمل هو بطبيعة الحال يمثل صاحبه ويستحق ان يجد طريقه إلى العرض. ولكننا في هذه الدورة اخذنا بالاعتبار النقد الذي طاول الدورة السابقة لجهة تدني مستوى بعض الافلام محاولين ان نمثل الاتجاهات الموجودة انما بحد ادنى من الحرفية واحترام المشاهد." تسوق مروة هنا مثالاً الافلام الفلسطينية او التي تتناول الموضوع الفلسطيني: "وصلتنا افلام لا تُحصى من فلسطين. المشكلة ان السينما اصبحت بأيدي كثيرين سلاحاً للتعبير عن واقع يومي. ربما ليس ذلك خطأ ولكن في الوقت عينه لا نستطيع التعامل مع كل حامل كاميرا يصور من نافذة بيته اشتباكاً في الشارع او انفجاراً كمخرج. هناك حد ادني ليكون المخرج مخرجاً والفيلم فيلماً. من هنا واجهتنا مشكلة افلام الطلاب والافلام الاولى لأناس غير محترفين ولم يدرسوا السينما. فكان القرار ان نعرض منها ما يحمل ملامح الفيلم انما في فئة خاصة "افلام الطلاب" او "فيلمي الاول جداً" انقول اننا نحترم تلك التجارب الاولى ولكننا في الوقت نفسه نقدمها في الاطار الذي يحفظ لها امام المشاهد حقها في الخطأ وربما العفوية وقلة الاحترافية."

في المقابل تشير راهب إلى أهمية التجربة التي يخوضها المخرج: "هناك بعض التجارب التي تستحق ان نقف عندها بصرف النظر عن النقييم الفني الصرف. "كليفتي" مثلاً هو التجربة الاولى للمخرج محمد خان بتقنية الـ"دي.في.كام". الفيلم يكتسب أهميته هنا من أهمية التجربة بالنسبة إلى صاحبه. خان يعتبرها تجربة مهمة جداً ويتحدث عنها بفرحة كبرى. قد لا يكون الفيلم الأهم لخان ولكن التجربة تستحق ان يتشارك بها مع الآخرين. الامر نفسه ينطبق على محمود حجيج وفيلمه "الاكثرية الصامتة" الذي يطرح اسلوبا خاصاً بمخرجه في التعاطي مع كاميرا الديجيتال. كذلك ايلي خليفة الذي يخوض للمرة الاولى فيلماً لبنانياً مستقلاً بدون ضغط اي منتج. خلاصة القول ان التجربة هي معيار ايضاً."

الانتاج المستقل

يحدد المهرجان أحد أهدافه بالترويج لـ"الانتاج المستقل". والوصف، على الرغم من شيوعه، ملتبس إذ يصعب اخضاع اي عمل فني لدفتر شروط جاهز وتصنيفه على اساسه. كيف نحدد ملامح العمل المستقل؟ وهل يندرج عمل مثل الفيلم المصري "أحلى الاوقات" الذي أنتجته الشركة العربية ضمن الاطار المستقل؟ "بالطبع تقف وراء "أحلى الاوقات" شركة انتاجية كبرى تهتم بجانب الصناعة والتجارة في انتاجاتها" تقول راهب وتكمل "ندرك ان في تسمية المستقل لغط لذلك علينا ان نشرح ما المقصود بها. فالانتاج المستقل تختلف معاييره بين بلد وآخر. والسؤال هو: مستقل عن ماذا؟ في سوريا مثلاً، الدولة هي التي تنتج الافلام من خلال مؤسسة السينما ولكن افلاماً كثيرة تبقى مستقلة لأنها مستقلة فكرياً. بالنسبة الينا، الأهم هو ان ينتمي الفيلم إلى مخرجه. فيلم احلى الاوقات لهالة خليل نجح جماهيرياً ولكن المخرجة خاضت معركة كبيرة مع المنتج للحفاظ على فكرتها. هنا نعود إلى أهمية التجربة وقيمتها في توصلها إلى معادلة بين الحفاظ على نظرة المخرج والتجاوب مع المنتج. لذلك نعنتقد ان مكان هالة هو هذا المهرجان. كذلك الامر بالنسبة الى فيلم ديميتري خضر "اطفال الارز" الذي على الرغم من تمويل احدى القنوات التلفزيونية له، استطاع مخرجه ان يحافظ على نظرته. وافلام كثيرة تندرج في هذا الاطار."

الجهة الانتاجية، من ناحية اخرى، قد تكون هي المشكلة أحياناً. فماذا عن افلام المخرجين من فلسطينيي 1948؟ كيف يمكن التعاطي مع فيلم مثل "عطش" لتوفيق ابو وائل ذي الانتاج والمنتج الاسرائيليين؟

"نحن تعاملنا مع الافلام التي وصلتنا" تجيب مروة "هؤلاء هم بالطبع مخرجون عرب وافلامهم تهمنا وكذلك نظرتهم ومشكلاتهم التي لا نعرف الكثير عنها. بالنسبة إلى افلام المخرجين من فلسطينيي 1948، أخذنا افلاماً كثيرة صدف ان منتجيها هم المخرجون انفسهم او اوروبيون. بالنسبة إلى "عطش"، لم يتقدم إلى المهرجان وعلمنا مبكراً انه سيعرض في مهرجان سينما الشرق الاوسط ببيروت. على ان الموضوع يشغلنا ويطرح اسئلة كثيرة ويعيدنا إلى السؤال الاول: من الذي يحدد هوية الفيلم؟ نحن نرفض الافلام الاسرائيلية ولكن هناك افلام فلسطينية ممولة اسرائيلياً. قبولها يطرح التساؤلات ورفضها يتركنا نتساءل: من أين يأتي اولئك بالمال اذاً؟ وهل من العدل القبول بفيلم ممول اوروبياً وخاضع لشروط المنتج على حساب فيلم ممول اسرائيلياً ولكنه يفرض نظرة مخرجه العربي؟ هذا نقاش مفتوح ولكن إلى الآن مازلنا غير قادرين على حسمه كما ان عدم مواجهتنا فعلياً لافلام من هذا النوع ابعدنا عن الغوص عليه أعمق فبقي في اطار التساؤلات."

في إطار اختيار الافلام الروائية الطويلة، تعترف مديرتا المهرجان بصعوبة تفوق اختيار الافلام الوثائقية والقصيرة فتوضح راهب بالقول: "الفيلم الطويل يخضع لشروط اكثر لاسيما شروط المنتج. ولأننل نرغب بالحفاظ على نوع من الاستقلالية شكلاً ومضموناً، نحاول اختيار الافلام الطويلة المعبرة عن تلك الروح، اي الافلام التي تجهد للاستقلال بنظرة مخرجها بعيداً من وطأة الشروط الانتاجية. في هذا الاطار يندرج فيلم الافتتاح مثلاً "باب الشمس" الحامل رؤية مخرجه وكاتبه إلى القضية الفلسطينية والملائم تماماً للندوة حول "فلسطين الصورة، صورة فلسطين."

الهوية

هل تتحدد هوية المهرجان وشكله عبر اختياراته ام عبر حرصه على التنوع والتحول "خزانة عرض" للانتاجات العربية بتفاوت مستوياتها؟ سؤال ربما يمكن طرحه على المهرجانات السينمائية كافة لاسيما العربية لنحصل على مروحة من الاجابات المختلفة الرنانة في معظم الاحيان والواقعية نادراً. عنه تجيب راهب قائلة: "يهمنا ان يفهم المتفرج من خلال المهرجان الحالة السينمائية العربية. انما ذلك لا يعني بالضرورة التنازل عن النوعية وكما ذكرت انه بعيداً من التقويم الفني والابداعي ثمة تجارب تفرض نفسها بفرادتها واحياناً بقيمتها الفنية ايضاً. أعتقد ان ما من لغط حول هوية المهرجان لأنه منذ البداية حدد اطاره بالافلام العربية. ولكن ضمن هذه الهوية العربية العامة ثمة تفاصيل غير محسومة بسبب الغليان الذي تعيشه بعض اجزاء العالم العربي والتنوع الاثني والديني والطائفي والفكري الفريد من نوعه. ضمن هذه الاطر، نحاول ان نسأل ونناقش ونمثل التنوع قدر الامكان." في الموضوع عينه تعقّب مروة "ليس هناك قوالب جاهزة. المهرجان عربي صحيح وانما من شروطه طرح الاسئلة باستمرار وفتح النقاشات لاسيما ان العالم العربي يفتقر إلى ذلك بشدة."

في الحديث عن الاهداف، يطرح السؤال نفسه: ما الذي حققه المهرجان في خلال دورتين ودورة على أهبة الانطلاق وما الذي لم يتحقق بعد؟ تعتبر مروة ان "المهرجان نجح إلى الآن في ان يكون ملتقى للمخرجين العرب عبر تكوينه شبكة بينهم لا تتوقف مع انتهاء المهرجان انما تكمل من خلال التواصل عبر مشاريع وورش عمل." وتضيف راهب ميزة اخرى تحققت للمهرجان بتحوله "مكاناً مقصوداً للاطلاع على الافلام العربية خارج الانتاجات السائدة (mainstream) للعرب والاجانب معاً." اما بالنسبة إلى ما لم يتحقق للمهرجان بعد، فتطرحه راهب في اطار التساؤلات غير المحسومة بعد: "طرحنا على انفسنا احتمال افتتاح سوق للافلام على هامش المهرجان. ولكننا شعرنا ان توجهنا يميل اكثر إلى المخرج وعلاقته بالفيلم. لا نريد للمهرجان ان يصبح مكاناً للبيع والشراء لأن معظم المهرجانات الاخرى في العالم تقوم بذلك وما يتبعه من التوجه إلى المنتج والموزع اكثر. نحن آثرنا ان نكون مساحة للمخرج ولتواصل تجربته مع الآخرين. من جهة ثانية، ندرك أهمية ان يخوض المهرجان خطوة الانتاج لذلك فقمنا بانتاج ثلاثة افلام قصيرة ستُعرض خلال هذه الدورة. إلى جانب تقديم منحة الكتابة من قبل مؤسسة سينما لبنان والمساعدة الانتاجية من قبل "دارك سايد"."

وعلى ذكر المهرجانات الاخرى، تشير راهب ومروة إلى ضرورة التعاون بين المهرجانات المحلية: "ندرك اهمية ان يحافظ كل مهرجان على استقلاليته ولكن التعاون ضروري لان البلد لا يحتمل هذا القدر من المهرجانات كما لا تفعل كمية الانتاج لاسيما ان بعض المهرجانات يصر على العرض الاول للافلام بما هو غير منصف لصاحب العمل الراغب احياناً في عرضه اكثر من مرة." وتوافق الاثنتان على ضرورة ان يطاول التعاون إيجاد اماكن بديلة لعروض المهرجانات لا تتسم بهوية تجارية مثلاً: "من هنا كانت الفكرة الاولى" توضح مروة "اقامة المهرجان في سينما استرال بالحمرا بالتعاون مع زيكو­هاوس الذي يملك برنامجه خلال السنة. ولكننا اصطدمنا بكلفة باهظة بسبب اوضاع الصالة المزرية وبروز مشكلات في البنية التحتية. ولكننا أبقينا طرف المهرجان في استرال من خلال إقامة تجهيز الفيديو هناك للقول انها كانت خيارنا الاول ولكن الكلفة كانت خارج إمكانياتنا. على اننا سنحاول تحقيق المشروع خلال للدورة الرابعة ربما بعد سنتين".

المستقبل اللبنانية في

10.09.2004

 
 

في "باب الشمس" يصور الفلسطيني إنساناً لا ضحية

يسري نصر الله: لا يوجد فيلم حرب جيد يقدم الطرفين

نديم جرجورة

تُفتتح الدورة الثالثة ل<<أيام بيروت السينمائية>> مساء الأربعاء المقبل بالفيلم الجديد ليسري نصر الله <<باب الشمس>>، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للروائي الياس خوري، الذي شارك نصر الله والمخرج والناقد محمد سويد في كتابة السيناريو. وذلك في صالة سينما <<أمبير صوفيل>> في الأشرفية، على أن يُعرض الجزء الأول منه فقط (الرحيل) مساء اليوم التالي في مخيم شاتيلا.

لا يدّعي هذا الحوار أكثر من محاولة أولى للدخول من <<باب الشمس>> إلى تفاصيل تقنية وفنية ودرامية تحتاج إلى قراءة نقدية مستقلّة. انطلق الحوار من البحث في مسار الجزء الثاني من الفيلم (العودة) وشكله وبنائه الفني والدرامي، وتشعّب إلى جوانب كثيرة ارتأيت الاحتفاظ بها ريثما يُعرض الفيلم كاملا.

·     أبدأ بمقولة لعزمي بشارة مفادها أن العرب يحبّون قضية فلسطين ويكرهون الفلسطينيين. هل يُمكن القول إن <<باب الشمس>> أعاد الاعتبار إلى الفرد الفلسطيني كقيمة إنسانية؟

لديّ تحفّظ على تعبير <<إعادة الاعتبار>> المستخدم في سؤالك، لأن <<باب الشمس>> لا يُعيد الاعتبار للفرد الفلسطيني بل يقول <<كيف أحبّ (أنا) الفلسطيني>>، وما الذي يربطني كسينمائي، ويربط الياس ومحمد بالفلسطيني وبفلسطين. مقالاتي السابقة المنشورة في <<السفير>> حول الإنتاج الفلسطيني الذي قدّمته مؤسسات فلسطينية في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، انتقدت هذه الأفلام لأنها تصوّر الدمار وتتعاطى مع الفلسطيني كضحية وتلتقط مشاهد البيوت المهدّمة والجثث. وطرحت في الوقت نفسه سؤال عدم قيام هذه المؤسسات بإنتاج أفلام تتناول حياة الفلسطينيين في داخل المخيمات. يومها، لم يخرج أحد من إطار <<الفلسطيني ضحية>>، في حين أن <<باب الشمس>> تعامل مع الفلسطيني ك<<بني آدم>>. السؤال المطروح في الفيلم هو: كيف نحبّ، الياس ومحمد وأنا، الفلسطينيين. إن مقولة عزمي بشارة، الواردة في الفيلم، تمسّني بشكل قوي، واستعنت بها في أحد الحوارات لأننا أمضينا خمسين عاما في ظلّ أنظمة <<طلّعت دين أمّنا>> على أساس القضية الفلسطينية: يحملون القضية، لكن إذا اقتربت أنت من الفرد الفلسطيني، في بيروت أو القاهرة مثلا، تُحال فورا على التحقيق. أنظمة رأت أن الاقتراب من الفرد الفلسطيني خطر، وفي لبنان ارتفعت هذه الحدّة قليلا، فاندلعت حرب أهلية. كيف تحافظ على الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه تمنعهم من العمل والعيش وتحرمهم من حقوق إنسانية عدّة. تُجرى مباحثات السلام ولا أحد يأخذ بالاعتبار الفلسطينيين أنفسهم.

هذا في الجانب السياسي. إن موضوع الفيلم كامن في كيفية تقديم صورة عن نفسي وعن الآخر وعن الجيل الذي أنتمي إليه، وفي البحث في علاقتي بالحكاية والناس.

هناك مسألة أخرى: الفلسطينيون أنفسهم، كإيليا سليمان ورشيد مشهراوي ونزار حسن وتوفيق أبو وائل وآخرين، بدأوا يصنعون أفلاما يحكون فيها عن أنفسهم. هذا عامل مهم أعانني على التحدّث عن الفلسطينيين، وليس على <<إعادة الاعتبار>> إليهم. لو فعلت هذا لبدا الأمر كأنه حركة إنسانوية غير لطيفة أبدا. <<باب الشمس>> جزء من حياتي وعملي، حكيت فيه <<الحدوتة>> كما هي. هناك أسلوب معيّن قصدته منذ البداية، ونوع من الموسيقى اعتمدته، لأني لا أروي خيالا ولا أنجز فيلما وثائقيا ولا أكتب تاريخا. مُشاهد أوروبي سألني لماذا لم أستخدم موسيقى شرقية. أنا لا أصنع فولكلورا. أنت تعرف أسلوبي وأفلامي.

تساءل الناقد الفرنسي جاك ماندلبوم عن سبب عدم إظهاري الإسرائيلي أو اليهودي في الفيلم. لنترك الإيديولوجيا جانبا: لا يوجد فيلم حرب جيّد قدّم الطرفين المتحاربين. دائما هناك جانب واحد أو طرف واحد. خذ مثلا <<الرؤيا الآن>> أو <<سترة حديدية كاملة>>. إنها أفلام روت حكاية جانب واحد فقط، وطرحت سؤالا أساسيا هو: كيف تحافظ على أخلاقيتك وآدميتك في هذا الآتون؟ هذا ما أردت أن أفعله في <<باب الشمس>>: إنجاز فيلم عن نفسك وعن صورتك عن نفسك. هنا تظهر أهمية الرواية، في هذا الإطار تحديدا. وأيضا أن تقدّم صورتك هذه عن نفسك ليس بالرموز أو الاستعارة أو الكناية، بل من خلال شخصيات وأفراد.

الفلسطينية بلكنات أخرى

·         تعاونت مع ممثلين عرب حاول كل واحد منهم أن يقدّم اللهجة الفلسطينية.

هيام عبّاس وصلاح كوكش كانا يُدرّبان الممثلين على اللهجة وكيفية نطق الكلمات والمفردات. ما فهمناه أن هناك لهجات معقّدة في كل قرية. مثلا: اللهجة المستخدمة في فيلم <<عطش>> لتوفيق أبو وائل هي لهجة أهالي منطقة أم الفحم، حيث أنهم يشدّدون على القاف وال<<تش>>. في قرى الجليل لهجات كثيرة وأساليب مختلفة في نطق الحروف والكلمات. لذا، قرّرنا في <<باب الشمس>> أن يتكلّم الرجال بالقاف والنساء بال<<آ>>، باستثناء أم حسن (نادرة عمران) التي تكلّمت بلهجة بدوية لأنها امرأة بدوية غريبة.

لكن، لماذا كان هناك مثل هذا التدريب؟ السبب بسيط: لأن الممثلين الفلسطينيين الجيّدين جميعهم موجودون في إسرائيل، ويستحيل مجيئهم إلى لبنان وسوريا (حيث صُوّر الفيلم). أصلا، واجهتنا مشكلة مع نادرة عمران ومحتسب عارف (الشيخ إبراهيم)، لأنهما أردنيان من أصل فلسطيني، وهذا يتطلّب أذونات خاصّة. أضف إلى ذلك كلّه أن الفيلم حسّي جدا، مما يعني أن عددا كبيرا من الممثلين الفلسطينيين يرفض مشاهد الحب والعلاقات الحميمة والأحاسيس، إما لأنهم لا يعرفون وإما لأنهم يرفضون القبلة. إحدى الممثلات قالت إن الفلسطينيين محافظون ولا يوافقون على مشاهد كهذه. لكن، كيف أنجبت النساء أولادهنّ؟ أبالروح القدس؟

إذا، هناك أكثر من مشكلة على هذا الصعيد. لكن المعيار الأهمّ في اختيار الممثلين بالنسبة إليّ هو: هل أصدّقهم وأراهم في أدوارهم أم لا؟ بصرف النظر عن المنطقة التي يأتون منها.

ما أردت تفاديه تماما من بداية المشروع هو الممثل المصري. الذين تعاونت معهم تكلّموا الفلسطينية بلكنات لبنانية أو سورية أو أردنية. لا بأس. لكني لا أقتنع باللكنة المصرية في اللهجة الفلسطينية. إذا سمعت كلمة فلسطينية مضغوطة باللكنة المصرية فإني مضطر لإيقاف التصوير. أما تعاوني مع الممثلين المصريين باسم سمرة وماهر عصام فمختلف، لأن الأول أدّى دور ضابط استخبارات فلسطيني تدرّب في مصر، فطلبت منه أن ينسى اللهجة الفلسطينية ويُعطيني اللهجة المصرية، والثاني يتحدّث المصرية لأنه عاش مع العمّال المصريين الذين جاءوا إلى المخيّم، وهو لا يتردّد عن القول في لحظة انفعال أن أبو عمّار نفسه يتحدّث باللهجة المصرية.

·         ماذا عن الدوبلاج؟

إن خيار الدوبلاج جريمة. حقّقت دوبلاجا فرنسيا وأخرجته. تعاونت مع ممثلين رائعين. هذا حقيقي في اللغات كلّها. لكن، هناك الانفعال الحقيقي الذي يقوله النص. أشعر بحسرة إذا لم يظهر في الفيلم، والدوبلاج لا يستطيع أن يقدّمه كما هو.

·         قلت إن الأهم بالنسبة إلى اختيارك الممثلين كامن في مدى رؤيتك إياهم في أدوارهم.

المشكلة الكبرى كانت في شخصية يونس. بالنسبة إلى الآخرين، شعرت بهم من النظرة الأولى تقريبا: حين التقيت ريم تركي رأيت نهيلة. شمس موجودة في حلا عمران. باسل خيّاط أعطاني خليل سريعا. في خلال مرحلة العمل، لم أر يونس لا في الرواية ولا في السيناريو. لم أفهم لماذا هو بطل. أصلا، لديّ مشكلة مع هذا الجيل، جيل مؤسّسي الثورة والقومية العربية، وهي مشكلة سياسية وعاطفية بمعنى ما. رأيت أهمية الدور الذي لعبوه، لكني عرفت الكوارث التي خلّفوها أيضا. منذ البداية، رفضت أن يؤدّي باسم سمرة هذا الدور، لأني لا أصدّقه، ولأني أسمع اللهجة المصرية دائما. لم أرد أن يؤدّي الدور ممثل جسمه فارع ووجهه طاغ، لأنه سيقتل الناس من حوله وسيقتل خليل. لو أتيت بشخص فارع وقوي البنية لصار الفيلم بطوليا، وأنا لست في وارد إنجاز فيلم بطولي. مرّ بعض الوقت ولم تتوضح الأمور أمامي إلاّ بعد أن استعدت الممثلين المصريين في الخمسينيات والستينيات، كأنور وجدي وعماد حمدي وشكري سرحان ورشدي أباظة وعمر الشريف. لذا، أردت ليونس أن يكون مختلفا، فالتقيت عروة النيربية. إن وجوده في الفيلم سمح للنساء ولخليل أن يتواجدوا من دون التضحية بيونس.

لو أدّى باسم سمرا شخصية يونس لوقعت في غلطة سياسية كبيرة وليس فقط سينمائية. كنت دخلت في العالم الخاص بالذين يتحسّرون على التجربة القومية والبطولات، وأخذت الفيلم إلى هذه المنطقة التي رفضتها بقوّة.

السفير اللبنانية في

11.09.2004

 
 

"باب الشمس" مرآة لماضٍ فلسطيني لا يمضي

بيروت - ابراهيم العريس

مساء اليوم الخميس, وبعد يوم من افتتاح "أيام بيروت السينمائية" في مكان آخر من العاصمة اللبنانية, يشهد مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين في الضاحية الجنوبية - الغربية لبيروت, تجربة سينمائية فريدة من نوعها. هي عبارة عن عرض في الهواء الطلق, وبالمجان, للقسم الأول من فيلم "باب الشمس" للسينمائي المصري يسري نصر الله. كان هذا الشريط عرض للمرة الأولى خلال الدورة السابقة لمهرجان "كان" السينمائي - خارج المسابقة الرسمية - ثم في مهرجان معهد العالم العربي في باريس, انضم منذ ذلك الحين الى اللائحة - التي باتت غنية اليوم - والتي تضم, منذ أكثر من ثلاثة عقود, أفلاماً عدة صورها فنانون عرب عن القضية الفلسطينية.

وكان الفيلم (أكثر من أربع ساعات ونصف الساعة) عرض بكامله في التظاهرتين السابقتين, مثيراً ردود فعل متفاوتة بين من ثمّن قيمته الفنية, ومن غلّب قيمته التاريخية. وكذلك بين من اكتشف فيه جديداً, على صعيد الحكي عن القضية الفلسطينية, وبين من لم يجد فيه أي جديد يفاجئ. ولكن في الأحوال كلها كان ثمة اجماع على اهمية عمل يسري نصر الله, كمخرج, لا سيما من خلال ابداعه الملحمي في تصوير قسم كبير من الجزء الأول من الفيلم (المشاهد الرائعة وشبه الوثائقية حول هجرة الفلسطينيين من ديارهم السليبة الى لبنان), وان كان الجانب الروائي المتخيل من الأحداث بدا مرتبكاً يحمل الكثير من التشابك ويقل أهمية عن الجانب التاريخي - الوثائقي.

ومهما يكن فـإن عرض القسم الأول من الفيلم, مساء اليوم في مخيم شاتيلا, يحمل أكثر من دلالة, إذ أنه يأتي في مناسبة الذكرى الثانية والعشرين لمجزرة صبرا وشاتيلا, ويأتي عرضه في المكان نفسه الذي شهد تلك المجزرة الإجرامية الرهيبة ليذكر بسقوط مئات الفلسطينيين واللبنانيين المرتبطين بهم, تحت سمع القوات الاسرائيلية وبصرها. ومن ناحية ثانية تأتي دلالة العرض من أن الجانب "الوثائقي" من الفيلم يتحدث تحديداً عن فلسطينيين لجأوا الى لبنان, ما يعني أن كثراً من متفرجي هذا المساء سيمتد الفيلم أمام أعينهم وذاكرتهم وحنينهم, كمرآة مضخمة, وان كان سيصعب على معظمهم أن يروا في بقية الأحداث والشخصيات, صورة حقيقية لمعاناتهم وما عاشوه وعايشوه... لكنهم سيكونون قادرين على تبنيه تماماً وجعله من الآن وصاعداً جزءاً من ذاكرتهم... أوليس في هذا, أيضاً, جزء من سحر السينما حين يحققها فنان ارتبط هو نفسه بالقضية وبمكانها, ذات يوم حين لجأ الى لبنان آخر سبعينات القرن الفائت هارباً من ظلام آخر؟ يسري نصر الله, اللاجئ المصري السابق, قال لنا انه يعتبر عرض هذا المساء واحداً من تجارب حياته الأكثر جمالاً ورعباً ومسؤولية في الوقت نفسه, هو الذي ينتظر بقلق وشغف ردود فعل أصحاب القضية على فيلمه, بعدما عايش خلال الشهور الماضية ردود فعل المتعاطفين وغير المتعاطفين.

الحياة اللبنانبة في

16.09.2004

 
 

يسري نصر الله افتتح العروض العربية لـ"باب الشمس" في بيروت وتحدث إلى "المستقبل":

رسالة الفيلم السياسية ان الطريقة الوحيدة لمواجهة إسرائيل هي الاشتغال على أنفسنا لنكون أحلى وأكثر إنسانية وجاذبية منهم

ريما المسمار

قدم المخرج المصري يسري نصر الله فيلمه الجديد "باب الشمس" في افتتاح مهرجان "ايام بيروت السينمائية" الثالث اول من امس بينما انطلقت عروضه التجارية بتوزيع "كريستال فيلمز" في الصالات المحلية مساء امس. والمشروع المقتبس عن رواية الياس الخوري (سيناريو نصر الله والخوري ومحمد سويد) يقع في جزءين يبلغ طولهما اربع ساعات ونصف الساعة. على ان عروضه التجارية ستقدم كل جزء على حدا. أمس انطلقت عروض الجزء الاول "الرحيل" على ان يعقبه الثاني، "العودة"، في مرحلة لاحقة. الفيلم من انتاج محطة "آرتي" الفرنسية الالمانية إلى مساهمات من جهات أخرى، عُرض في مهرجان "كان" الماضي ويشكل افتتاحه في بيروت فاتحة عروضه العربية. صُوِّر بين لبنان وسوريا والاردن بفريق عمل كبير ومجموعة ممثلين من جنسيات عربية مختلفة في مقدمهم نادرة عمران، حلا عمران، باسل الخطيب، ريم تركي، عروة النيربية، دارينا الجندي إلى مجموعة كبرى تضم اسماء كثيرة.

"المستقبل" التقت المخرج في حوار حول العمل.

* * *

·         متى فكرت للمرة الاولى برواية "باب الشمس" وبعمل فيلم منها؟ قبل عرض "آرتي" أو بعده؟

ـ عندما قرأتها للمرة الاولى وقت صدورها عام 1998. فكرت في داخلي لو أنني استطيع ان أحوّلها فيلماً. ولكن ذلك لم يتعدَ التمني وسرعان ما صرفت النظر عن الموضوع ليقيني من ان الانتاج العربي لن يتحمس لاخراج مشروع من هذا النوع. وهذا ما حدث بالفعل في ما بعد. الجهة العربية الوحيدة التي شاركت في انتاج الفيلم هي المغرب. أما ما تبقى من هيئات وشركات وتلفزيونات عربية لم تشارك. المساعدة كانت على شكل اتاحة الفرصة لنا لنصور في سوريا ولبنان والاردن. بالعودة إلى الرواية، لم أعد إلى التفكير فيها كمصدر لفيلم سينمائي الا في العام 2000 عندما جاءني المنتج الفرنسي هامبير بلزان بمشروع وصفه بـ"الخرافي" وهو رغبة جيروم كليمان وبيار شوفالييه في محطة "آرتي" في انتاج فيلم عن فلسطين أو الاحرى عن عائلة فلسطينية في شكل "ساغا" )َّفهف(. كان رد فعلي الاول الرفض السريع لإحساسي بأن الموضوع مركب، أقصد انني مصري ومصر وقعت معاهدة سلام مع اسرائيل. وركب في رأسي فوراً التصور انهم، اي في "آرتي"، لا بد يفكرون في مشروع عن قصة حب بين اسرائيلية وفلسطيني بأبعاده حول السلام وكل ذلك "الكلام العبيط". رفضت. ولكن الرواية عادت إلى ذهني، فأعدت قراءتها على الفور واتصلت ببلزان وقلت له انني موافق على المشروع شرط ان يكون عن رواية "باب الشمس" وان يوافق الياس الخوري على تحويلها وان يشارك في كتابة السيناريو. "يا كده با بلاش". بعد أسبوعين، تقابلنا، هامبير وشوفالييه وكليمان وأنا، في مؤتمر في بيروت. عرضت عليهم المشروع واوضحت انني لن اعمل فيلماً عن السلام اذا كان هذا ما يفكرون فيه. كنت عدائياً بعض الشيء فنظر الي أحدهم قائلاً: "نريدك ان تصنع فيلماً جيداً، سوى ذلك أفعل ما تريده." من تلك اللحظة، اصبحت لدي السيطرة الكاملة على المشروع من السيناريو وحتى اختيار كل تفصيل. بدأ العمل مع الياس ومحمد سويد في أيار 2001 لمدة ثلاثة اشهر ومن ثم ثلاثة أشهر أخرى إلى أن انتهى السيناريو في تشرين الثاني من العام نفسه. المشكلة الاولى التي واجهتنا هي استحالة التعاون مع ممثلين فلسطينيين لعدم قدرتهم على دخول سوريا ولبنان والاردن. عندها، توجهت انظاري إلى الاردن والممثلين الفلسطينيين المقيمين في الخارج. هيام عباس كانت مشاركتها محسومة في دور "ام يونس" وكذلك نادرة عمران كانت من اوائل الممثلين الذين وقع الاختيار عليهم ولعبن دور "أم حسن". المشكلة الثانية كانت العثور على "يونس" لأنني منذ قرأت الرواية لم افهم لماذا هو بطل. وبالنسبة الي، لم تكن صورة البطل المقدام المغامر بأكتافه العريضة هي المطلوبة لأنه عندها كان سيطغى على الشخصيات الاخرى وسيشعر المتفرج بأنه امام فيلم نضالي. شيئاً فشيئاً بدأ طاقم الممثلين يكتمل. بدأنا التصوير في أيلول 2002 وحتى كانون الثاني 2003 انتهى الجزء الاول. وعدنا في أيار 2003 لنصور الجزء الثاني وحتى تموز.

·         ذكرت أن الفيلم يعكس علاقتك بفلسطين...

ـ وعلاقة محمد والياس أيضاً....

·         هل كان عندك في مرحلة ما ذلك الاحساس الذي يلازم مخرجين كثر بـ"الواجب" تجاه صنع فيلم عن فلسطين؟

ـ إطلاقاً بل ان ذلك كان كابوساً. فكرة الواجب منفرة جداً بالنسبة الي. ولكن يمكن الحديث على الواجب بعد الاحساس بالموضوع والتعمق فيه. إنما علاقتي بالسينما لم تكن يوماً قائمة على الواجب ولا حتى علاقتي بالقضايا العامة. بل هو الاحساس بالشيء الذي يحركني. ثم ان قضية فلسطين قائمة منذ ولادتي والعرب يحملونها على رأسهم ويدورون بها. ولكن إحساسي بأنني استطيع ان اتناولها كما أريد وانني استطيع ان أقول أشيائي الخاصة عنها، إلى وقوعي على رواية "باب الشمس"، كل تلك أنضجت المشروع واثمرت الفيلم. أضف إلى ذلك، انني للمرة الاولى أجد ان ما ارغب فيه ممكن تحقيقه اي اجتماع "الرغبة" و"الامكانية". عرض "آرتي" ذاك كان مذهلاً. فبدونه لم يكن المشروع ليتحقق إذ ان العرب لن ينتجوا فيلماً بهذه الامكانيات عن فلسطين ما لم يكن خطابياً ونضالياً والاجانب لن يغامروا به ايضاً.

·     عمل من هذا النوع يقوم على التاريخ وعلى واقع يتفكك ويتركب كل يوم، هل كان ممكناً بدون مصدر ادبي جاهز؟ اقصد، هل سهّل وجود الرواية عمله؟ وهل فكرت في لحظة انه كان يمكنك ان تؤلف سيناريو لو لم تنوجد الرواية؟

ـ ليست مسألة سهولة لأن الرواية صعبة. ولكن بالنسبة الي، كانت فكرة العمل مع محمد سويد والياس خوري مثيرة جداً وفوق ذلك وُجدت الرواية. ولكن حتى من دونها، كنا سنطلع ثلاثتنا بشيء حتماً.

·         إلى أي حد أسهمت العلاقة بين ثلاثتكم خلال الكتابة إلى إعادة طرح النقاش حول نص مكتوب ومكتمل؟

ـ هذا ما حدث بالفعل. فنحن من جهة كنا امام رواية مركبة وصعبة وجميلة ومن جهة ثانية كنا مدركين اننا لا نستطيع أخذ كل شيء لم يكن ممكناً نقل الرواية كاملة كما لم يكن الهدف ان نخر امامها ساجدين كنص كامل لا يُمس. متابعة النص بشكل حرفي لم تكن واردة والياس كان أول المبادرين إلى وضع الرواية جانباً والسعي إلى الخروج بنص درامي موازٍ لها. فهو كتب الرواية وقال ما يريده ونالت شهرتها ولم يكن همه إثبات شيء. لذلك كان التحدي بالنسبة إلينا ان نخرج بسيناريو جيد.

·     في العادة، أول ما يواجهه السينمائي عند اقتباسه لرواية أو أي عمل أدبي هي كيفية تحويله صورة. "باب الشمس" تقوم على الصورة اصلاً وعلى أزمنة متداخلة وحكايات متشعبة. بهذا المعنى هي نص سينمائي إلى حد بعيد. كيف كان التعاطي مع هذا الجانب؟

ـ عندما نكون أمام رواية كبيرة، فإنها تتحول جزءاً من حياتنا كأنها تجربة عشناها، بالنسبة الي وإلى محمد على الاقل لأن الياس هو كاتبها. عندها، يمكن إعادة إخراجها من ذواتنا في شكل درامي واختيار التفاصيل والحكايات التي تخدم النص الدرامي الجديد.

·         تستهل الفيلم بحكاية "شمس" و"خليل". هل ذلك من قبيل قلب الادوار وطرح التساؤلات حول من يكون البطل؟

ـ انطلقت من جملة موجودة في الرواية وهي كيف يمكن الشخص ان يحكي حكاية من دون ان يحكي حكايته هو. صياغة هذه الجملة درامياً كانت وراء هذا الخيار للقول ان "خليل" لم يأتِ من المشروع وان لديه قصة وقصته عظيمة. وفي مكان آخر في الرواية، ثمة ذكر لأن اقامة "خليل" في المستشفى هي بهدف اختبائه. نحن لممنا هذه التفاصيل وجمعناها لنصوغ خطاً درامياً. هناك أيضاً تركيز على فكرة أن "يونس" بطل لأنه عاشق وليس لأنه مقاتل، و"خليل" عاشق ايضاً فيستطيع ان يحكي حكايته مثل "يونس". ولكن في النهاية، تشبثت بالاشياء التي تشبه أفلامي من دون ان أضيق عوالم الشخصيات والفيلم، أي التركيز على فكرة الفرد والجماعية والفرد والتاريخ الحاضرة في أفلامي كلها ومحاولة الفرد ان يجد لنفسه مساحة بعيداً من ضغط التاريخ والجماعة بحيث لا يفقد فرديته. في هذا الفيلم، نجد الموضوع الذي المقموعين بسببه منذ خمسين سنة. الافراد غير موجودين في القضية الفلسطينية. لذلك، تشكل "باب الشمس" استثناءً لأنها تقوم على أفراد وأفراد أقوياء. وهذا ما جذبني اليها بالدرجة الاولى، إحساسي بالحرية الكاملة في التعامل مع الفرد فيها وتفجير فرديته. لعل اقوى الافراد في افلامي هم في "باب الشمس".

·     ربما احساسك هذا بقوة الافراد مضاعف هنا لأن صوغهم يتطلب تكسيراً للصورة المنمطة التي لا أعرف الفلسطيني خارج القضية الفلسطينية..

ـ تماماً. ثمة مفارقة في ان هذا الفيلم يقدم شخصيات فردية قوية بينما هو يتناول موضوعاً وقضية كبيرين. "نهيلة" شخصية رهيبة وكذلك "يونس" لا سيما في المشهد الاخير حيث يشرح لها كيف انه لم يعد يرغبها بعد ان رمته بالحقائق مقررة ان تتوقف عن التمثيل.

·     في الجزء الاول، نفس كلاسيكي ملحمي لا يشبهك كثيراً. انه يشبه فلسطين الاسطورة والصورة. لماذا لم تحاول كسر الاسطورة مفضلاً ان تنقاد خلفها؟ وهل استخدام أسلوب سينمائي مغاير لأسلوبك هو للتعبير عن بعد ذاتي من فكرة الاسطورة؟

ـ لا أعرف تماماً كيف اشرح هذا الميل او علاقتي بتلك المرحلة. ولكن ما حاولت فعله في الجزء الاول هو سرد تأسيسي أعتقده ناقصاً في صورتنا عن أنفسنا وتاريخنا. "باب الشمس" كمشروع كامل يمكن إمساكه بقواعد أفلام "الويسترن" والحروب: كيف يمكن للفرد ان يحيا في ظروف غير انسانية ويرتكب اموراً غير انسانية وفي الوقت عينه ان يبحث عن الانسانية في داخله. وهذه الافلام تقوم على شيء سياسي هو تقديمها الحكاية من جانب ابطالها. في "القيامة الآن" مثلاً، لم نشاهد ماذا يفعل الفييتناميون. الهدف ليس إنجاز فيلم محايد بل غارق في ذاتيته. من هنا، كنت أصنع فيلماً ذاتياً وأحاول البحث في تلك "الحدوتة" الكبيرة عن الافراد وعن تمردهم وعن بحثهم عن تميزهم وانسانيتهم. والاهم من ذلك كله الخروج من إشكالية الجلاد والضحية لأنها إشكالية سلطة. بالنسبة الي، الضحية لا تقوم على اية اخلاقية لأنها ترد على الوحشية بالوحشية. لا أفهم الآن كيف اننا في حرب لبنان كنا ندين أفعال الكتائب والقوات ونبرر لمن نتعاطف معهم جرائمهم بحجة انها انتقام. لم أعد استطيع قبول ذلك اليوم. لذلك، يجذبني إلى الياس خوري انه حين يكتب لا يعرض وحشية الآخر بل يبحث عن انسانيته هو. هذا هو المشروع ككل. اما الجزء الاول فهو بحث "خليل" عن الاب، عن صورة الاب. وهو بحث مبني على الحكايات المتناقلة عن فلسطين وعما حصل في النكبة. بهذا المعنى، الجزء الاول هو تجسيد للخيال راعيت فيه هذا الخيال لأنني اردت ان يذكر بأفلام الخمسينات، كأن المتفرج يشاهد حلماً او يستمع لحكاية جدته. وأردت من خلال هذه الاسلوبية ان اجد نفسي ايضاً، لذلك لا اوافق كثيراً على أن الجزء الاول لا يشبهني. فهناك تفاصيل الكاميرا وكيفية تقديم الحلم وغيرها تشبه تفاصيل من افلامي الاخرى... أما الجزء الثاني فيرد على الاول ويتصادم معه. إنه بحث عن الام وعثور "خليل" على نفسه أو إعادة تركيبه لذاته كفرد. وهو محاولة تحديد ماذا حل بالفرد بعد انتهاء الحدوتة وخوضه الحرب الاهلية وحرب المخيمات وتجربة الاشتراكية و..و.. الجزء الثاني لا ينقصه الحلم بتاتاً ولكنه لا ينجح بدون الاول. علي الاعتراف بأنني شعرت بمتعة غامرة في قول حكاية كما في الجزء الاول. كنت بحاجة لفعل ذلك والمتفرج أيضاً يحتاج إلى مشاهدة الحكاية الاولى.

·     في الجزء الاول، يكثر الكلام على الحكايات والقصص المروية من أكثر من وجهة نظر وكأن هناك "كذب" كثير محيط بالموضوع الفلسطيني. بينما في الجزء الثاني، صورة صادمة عن فلسطين...

ـ كذب كلمة كبيرة. لنقل الخيال. أنا موافق. ولكن دعيني أقول شيئاً: فلسطين ليست هي الحاضرة بل الفلسطينيون. ثمة جانب حاولت التعبير عنه وربما يأتي في صلب سؤالك. فقد وضعت نفسي مكان الفلاحين في الجزء الاول لأنقل لاوعيهم بأمور كثيرة. كانوا يعيشون حياة بسيطة، يزرعون اراضيهم ويزوجون بناتهم صغيرات السن وتلك قسوة... ولكن وعيهم بحيواتهم وبفلسطين لم يكن موجوداً. في المشهد الذي يسألهم المعلم ما هي بلدكم ويجيبونه "عين الزيتون"، ينهرهم قائلاً ان بلدهم "فلسطين" فيرددون وراءه الاسم إنما من دون وعي.

·         هل هذا انحياز لمقولة احدى الشخصيات ان الوعي بفلسطين جاء بعد فقدانها؟

ـ تاريخياً هذا صحيح. فلسطين كانت بلداً تحت الاحتلال العثماني وجزء من سوريا الكبرى وعندما بدأت الحركة الوطنية الفلسطينية الهادفة إلى إعادة تعريف ماذا يعني فلسطيني، كان ذلك في منتصف الثلاثينات. وذلك ما حصل أيضاً في مصر حيث كانوا حتى الثلاثينات مازالوا يناقشون قانون الجنسية المصري، أي ماذا يعني مصري؟ ولكن الفارق ان النكبة في فلسطين قطعت كل تلك الافكار، مؤجلة الوعي بفلسطين إلى ما بعد النكبة. فهؤلاء الفلاحون كانوا خارج العالم المعاصر إلى أن هجم عليهم ذلك العالم وطردهم. لذلك اقول ان ما تسمينه كذباً اسميه أنا حكايات وهي بمثابة الاساطير التي تحتاج اليها كل هوية لتتعرف بها على نفسها. ولكن في موازاة ذلك، الجزء الاول يرد أيضاً على الاكاذيب الاسرائيلية القائلة بأن فلسطين كانت صحراء وبلا تاريخ قبل مجيئهم، إنما من دون أن يكون نضالياً. الدفاع عن خيال الفلسطينيين عن فلسطين هو حق وهو جزء من تأسيسهم لأنفسهم.

إلى أي حد كنت واعياً لضرورة تجنب تقديم "الفيلم" عن فلسطين؟ بمعنى آخر، تحمل الرواية والفيلم عناصر الحكاية التاريخية من أولها إلى آخرها. ألم تخف من الوقوع في فخ الحكاية الفلسطينية المطلقة؟

ـ لم يكن خوفاً بل وعي كامل لتجنب فكرة الفيلم المطلق أو الكامل عن فلسطين. في الاساس، لم أكن لأتجرأ على صنع هذا الفيلم لولا وجود سينما فلسطينية وتجارب خاصة لسينمائيين فلسطينيين من أمثال إيليا سليمان ونزار حسن وسواهما ممن عبّروا عن أنفسهم كأفراد. وجود اولئك يشجعني على عمل فيلمي الخاص عن فلسطين.

·     تستهل الجزء الثاني بلقطات فيديو من دون أن تلجأ إلى شرحها على غرار ما في الرواية. فهل هذا نوع من إعلان أولي وموقف من حيث اعتبار الجزء الثاني رداً على الاول؟

ـ هذا صحيح لأنني اردت ان اضع المتفرج منذ اللحظة الاولى أمام أسلوب مختلف. لذلك بدأته بمشهد فيديو ومن ثم مظاهرة وبعدهما مقابلات واقعية مع الناس. انه الإحساس بخشونة الجزء الثاني وبتأثيرات اليوم حيث خرجنا من الاسطورة وأصبحنا في حكاية خليل وصورته وحكايته. من هنا تتكرر حكاية "شمس" انما بإضافات لأن "خليل" هو الذي يحكيها الآن أي أنه يحكي افتتانه بها ويضيف التفاصيل التي تعزز صورته كعاشق. هذا ما يحتاجه "خليل" ليستطيع ان يتماسك من جديد. الفيلم يركز على هذه الناحية من إعادة تركيب الحكاية من جديد لتشكيل الذات من جديد. هنا يأتي رفض الشخصيات في الجزء الثاني لـ"التمثيل" اي رفضها ان تكون صورة عن نفسها او حكاية عن نفسها يطغى الخيال عليها. يرفض "خليل" ان يكون قصة لأنه يريد ان يعيش. وتتوقف "نهيلة" عن تمثيل دور زوجة البطل لأنها تعبت من ان تكون صورة لشيء غير ملموس. بعضهم اعتبر ذلك تعبيراً عن انهزامية الشخصيات، بينما أنا أراه انحيازاً للحياة ومراجعة الانسان لنفسه.

·         بين "خليل" و"يونس" تبادل لملامح البطولة ولكن كليهما في نهاية المطاف "بطل ـ مضاد".

ـ هما ليسا خاسرين ان كان هذا ما تقصدينه.

·         كلا بل قصدت انهما ليسا بطلين بالمعنى التقليدي للبطولة.

ـ هذا صحيح لأنني منذ البداية كنت مدركاً لخطورة الاتيان ببطل ذي مواصفات جسدية طاغية. ولكن اللحظة الوحيدة التي أرى فيها "يونس" بطلاً هي عندما يقرر الا يفجر "الكيبوتز" لأن في تلك اللحظة يتطور وعيه بإنسانيته. وكذلك الامر بالنسبة إلى "خليل". لحظات بطولته هي محاولته في كل مرة القيام من صدمته والبدء من جديد، أي اعادة بناء نفسه.

·         بهذا المعنى تبدو ميالاً إلى اعتبار "خليل" البطل الحقيقي؟

ـ حتماً "خليل" هو البطل. وهذا ما جعلنا نغير النهاية. فبدلاً من ان يأتي شبح "نهيلة" فقط، يأتي شبح "نهيلة" و"شمس" معاً لانقاذ الرجلين اللذين يعشقانهما. وبدلاً من ان يقف "خليل" على قبر "يونس" ويبكي كما في الرواية، يخوض نفس الطريق لتي كان يسلكها الاخير لأنني لا أرى نفسي، كما الياس ومحمد، واقفاً على قبر عبد الناصر مثلاً نبكيه. ليس هذا تصوّري لمستقبلي. لهذا يعود "خليل" إلى أين؟ لا أعرف. سواء اسمها فلسطين او اسرائيل او العفريت الازرق.

·     يبدو الواقع الفلسطيني اليوم بما يفرضه من حالة خاصة في تشكله وتفككه المستمرين، يبدو بعيداً من الافلام الا من حيث نقله أو تسجيله. أو أن الكلام على فلسطين ينهل من الماضي. "باب الشمس" ليضلً يتوقف عند منتصف التسعينات. فهل تعتقد ان محاولة رسم صورة عن هذا الواقع هي حتماً محاولة في الماضي؟

ـ كلا. حتى وقوف الفيلم في منتصف التسعينات هو توقف درامي وليس عجزاً عن رسم صورة للحاضر. ولكن السبب هو إحساسي ان شيئاً لم يتغير منذ ذلك الوقت الا المزيد من الانهيار. لماذا لا وجود للانتفاضة والانتحاريين؟ لأن الحالة اليوم مخيفة مع انهيار مؤسسات المقاومة الفلسطينية من دون ان ينبني بديل بعيداً من القنابل البشرية. لا حكم عندي على كل ذلك ولكنه ليس ملهماً بالنسبة الي البتة ان يفجر ولد في الخامسة عشرة نفسه. في الفيلم وجهة نظر سياسية تتلخص برفض مقابلة البربرية والوحشية الا بشيء حضاري أو نموذج ما حضاري، بما يفتح شباكاً امام العالم يؤكد على إمكانية حفاظنا على انسانيتنا برغم كل الرعب والوحشية. اذا كان لا بد من رسالة سياسية في الفيلم فهي ان الطريقة الوحيدة لمواجهة اسرائيل هي ان نشتغل على انفسنا لنكون أحلى واكثر انسانية وجاذبية منهم.

·         هل قررت منذ البداية ان الجزءين سيكون احدهما مختلفاً عن الآخر؟

ـ في البداية، لم أكن متأكداً من أن الرؤية التي في رأسي للجزء الاول ستنجح أم لا. ولكن صدقي أو لا، الجزء الاول تركب في عشرة أيام وبعدها أصبحت حراً تماماً في الجزء الثاني لأنني كنت مدركاً إلى أي حد أريده أن يكون مختلفاً عن الاول.

####

"باب الشمس" في مخيم شاتيلا

ريما المسمار

في محاذاة الطريق التي سارت عليها "أم حسن" وغابت في أفقها الى الأبد في واحدة من لحظات "باب الشمس" وفوق مثوى مئات الشهداء، انتصبت امس شاشة العرض في ساحة شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا، "المقبرة الجماعية" كما نعرفها ويعرّفها اهالي المخيم. لم تكن الشاشة هناك بهدف استعادة صور المجزرة في ذكراها الاليمة الرابعة والعشرين. فصور المجزرة الممسوحة على يافطات عريضة مرتفعة في ثلاث جهات، تعيد الى الزائر الذكرى وتعرّف الوافد للمرة الاولى على غيض من فيض وحشيتها وتمعن في حفرها أعمق في ذاكرة اهالي المخيم "كي لا ينسوا". أحيى امس اهالي شاتيلا ومعهم اهالي مخيمات مارالياس والمية مية وعين الحلوة ذكرى المجزرة التي تصادف في السادس عشر من ايلول/سبتمبر بصور مختلفة، صور للحكاية التي نعرفها ونسمعها، صور للرحيل والشتات والعودة وغيرها من العناوين اللصيقة بالقضية الفلسطينية. ولكنها قبل اي شيء صور وليدة مخيلات افراد، عاشوا تجاربهم الخاصة إزاء القضية الفلسطينية والمقاومة ورسموا صورهم الذاتية عن فلسطين واختبروا هزائمهم الداخلية ايضاً في مراحل لاحقة. انها صور الياس الخوري ويسري نصر الله ومحمد سويد، صاحب رواية "باب الشمس" ومخرج الفيلم المقتبس عنها والمشارك في كتابة السيناريو تباعاً. صورتروي حكايتهم مع فلسطين وعلاقتهم بها في فيلم يقع في اربع ساعات ونصف الساعة، عُرض امس في مخيم شاتيلا جزؤه الاول فقط، "الرحيل". في ساحة المقبرة، رُصفت الكراسي امام شاشة سينمائية ارتفعت في احدى جهاتها الى حيث توافد اهالي المخيم وسواهم من الضيوف ومن افراد فريق الفيلم. أجزاء كثيرة من العمل صُوّرت في مخيم شاتيلا منتصف العام 2002 ومجموعة غير قليلة من الاهالي شاركت في التمثيل وفي تقديم المساعدات. الى كل اولئك ومعهم اهالي مخيمات مارالياس وعين الحلوة والمية مية حيث صُوِّرت مشاهد اخرى، أهدى امس المخرج نصر الله الفيلم وسط حضور متحمس، حرّكه استهلال العرض بالنشيد الوطني الفلسطيني ومن بعده اللبناني. على المنصة التي ارتفعت قليلاً امام الشاشة دعت دارينا الجندي، المشاركة في الفيلم ممثلة الشركة الموزعة "كريستال فيلمز"، نصر الله والخوري وسويد لتسلم جائزة رمزية أرسلها أهالي "بيت لحم" تكريماً لهم وسلمها اليهم أطفال اتشحوا بالكوفية السوداء والبيضاء. نصر الله الذي بدا متأثراً باللحظة وبالمناخ وفوق كل شيء بتحقيق نصف امنيته بعرض الفيلم على جمهور فلسطيني بعد تعذر عرضه اولاً في فلسطين، شكر اهالي المخيم على مساعدتهم لاتمام العمل معتبرا ان "هذا الفيلم لكم" داعياً بعض الممثلين الذي كان حاضراً مثل ريم تركي وعروة النيربية وحلا عمران. وعلى وقع هدير الشارع الخارجي واصوات الاولاد وترقب الكبار والشيوخ، علا صوت "يونس" في المشهد الاستهلالي "برتقال فلسطين لازم ناكله وناكل الجليل وناكل فلسطين..." لتبدأ من هناك حكاية "الرحيل".

المستقبل اللبنانية في

17.09.2004

 
 

مهرجان "أيام بيروت السينمائية" مستمراً في "أمبير صوفيل"

ندوة فلسطين والصورة بدونهما

نديم جرجورة

عُقدت، مساء أمس الأول السبت، الندوة الأولى في إطار الدورة الثالثة ل<<أيام بيروت السينمائية>>، التي تنظّمها <<جمعية بيروت دي سي>> لغاية السادس والعشرين من أيلول الجاري في صالتي سينما <<أمبير>> في <<مركز صوفيل>> في الأشرفية، وهي بعنوان <<فلسطين الصورة، صورة فلسطين>>، التي أدارها المحلّل السياسي سمير قصير، وشارك فيها المخرج الوثائقي عمر أميرالاي والزميل بيار أبي صعب، الذي حلّ بديلا من الروائي الياس خوري، بسبب اضطرار الأخير <<للسفر إلى أوسلو لمواكبة صدور ترجمة نروجية لإحدى رواياته>>، كما قال قصير. واستوحى منظّمو الندوة عنوانها من جملة وردت في الفيلم الأخير لجان لوك غودار <<موسيقانا>>، في سياق تحليله العلاقة بين مشهدين سينمائيين، مفادها أن صورة اليهود القادمين بحرا إلى فلسطين أدخلتهم في المتخيّل/الروائي (Fiction)، في حين أن صورة الفلسطينيين المغادرين بلدهم عن طريق البحر أيضا أدخلتهم في الوثائقي. استُهلّت الندوة بعرض فيلم <<لقاء سريع مع جان لوك غودار>> (40 د.)، أنجزه غسان سلهب خصيصا بالندوة، تحدّث فيه صاحب <<موسيقانا>> عن الصورة والحدث والسياسة والسينما والثقافة وفلسطين وإسرائيل وغيرها.

غودار الحاضر

ثلاثة أخطاء شكّلت النتيجة النهائية للندوة: كيفية استيحاء فكرة الندوة، إدارة الجلسة والحوار، آلية جزء من النقاش. ذلك أن تعاطي <<جمعية بيروت دي سي>> مع فيلم غودار بكونه فيلما عن فلسطين، (مما استدعى بحسب منظّمي الندوة التطرّق إلى ثنائية الروائي/اليهود والوثائقي/الفلسطينيين) أساء إلى <<موسيقانا>> بإلغائه كل ما طُرح فيه من أسئلة متعلّقة بالأقليّات والصُورة وعلاقتها بالحدث والحروب والتفاصيل الإنسانية وغيرها، وأساء إلى الندوة بتفريغها من النقاش النقدي الجدّي والسويّ الخاص بثنائية فلسطين والصورة، بإغراقه (أي النقاش) في جدل حول ما قاله غودار، وليس حول فلسطين والصورة. تمثّل الخطأ الثاني بسوء إدارة الندوة، بالسماح بانحراف مسار النقاش فيها تماما عن الخطّ المرسوم له مسبقا، عندما تحوّل الجدل (غالبا ما كان <<بيزنطيا>>) إلى تحليل لما قاله غودار في الفيلم القصير، ولما تضمّنه فيلمه الأخير من قراءة حول فلسطين والصورة، هي جزء من قراءة أشمل عن العلاقة القائمة بين الحدث والصورة والأقليّات. أفضى هذا كلّه إلى الخطأ الثالث: آلية جزء من النقاش وليس النقاش كلّه، لأن بعض الحضور سعى إلى إعادة الحيوية النقدية إلى مناخ الندوة، بكلام رصين عن غودار والصورة (وإن غابت فلسطين عن كلام هؤلاء)، مستعينا بجدّية ما قاله أميرالاي وأبي صعب (وإن لم يوافق هذا البعض على كل ما قالاه)، في حين أن إدارة الندوة أخفقت في اقتناص هذه اللحظات الجادّة، وفي منع الفوضى من أن تستولي على الغالبية الساحقة من الحوارات.

التباسات

يتحمّل منظّمو الندوة مسؤولية اقتباسهم عنوانها من الفيلم، من دون الانتباه إلى أن فلسطين والصورة موضوع أهمّ وأكبر من جملة غودار المجتزأة من فيلمه الجميل هذا، الذي صنعه صاحبه بحساسيته المرتبكة والتباساته البديعة المتحكّمة، غالبا، في نظرته إلى كيفية <<صنع الصورة وقراءة المادة>>، وهو موضوع (أي <<فلسطين والصورة>>) يستحقّ ندوة (وربما أكثر من ندوة) من دون أي ذريعة، حتى ولو كانت الذريعة جملة لغودار نفسه. ويتحمّل مدير الندوة مسؤولية أكبر، بسبب عجزه عن تثبيت مسار النقاش والتزامه العنوان الموضوع مسبقا، سامحا بتحويل اللقاء إلى ما يشبه <<جلسة محاكمة>> بدأت بغودار وانتهت ببعض المنتدين والحضور. فإذا بفلسطين والصورة تغيبان عن ندوة خاصة بهما، وإذا بالندوة تنفتح على كلام لم يخلُ من عصبيّة وحدّة، ابتعد معظمه عن السياق الأصليّ. ذلك أن الزميل قصير لم يُدِر ندوة متعلّقة بثنائية فلسطين والصورة، بل بجلسة خاصة به وببعض السينمائيين، إذ ظلّ يدعو السينمائيين إلى مناقشة غودار متجاهلا وجود أناس آخرين لا شكّ في أن لديهم ما يقولوه بخصوص غودار نفسه، والسينما وفلسطين وغيرها من العناوين العامة. وإذا به يلقي خطاباته المطوّلة ويطرح أسئلة عامة ظلّت معلّقة في الفراغ، إذ لم يستطع أن يحرّض أحدا على ضرورة الإجابة عن السؤال الأهمّ: العلاقة القائمة بين فلسطين والصورة. وأنهى الندوة بتعليق لا علاقة له بها وبتفرّعاتها المختلفة، إذ توقّف عند مقالة نقلتها الصحيفة السورية <<البعث>> عن إحدى الصحف التونسية تضمّنت اتّهاما لفيلم <<الطوفان>> لأميرالاي بالعمالة للصهيونية. من جهته، <<استفزّ>> عمر أميرالاي منذ اللحظة الأولى الحضور، ومن بينهم <<غوداريون>> أصيلون، بقراءته النقديّة الحادّة مسار غودار وعلاقته بالسينما والصورة وفلسطين، بينما دافع بيار أبي صعب عن غودار وتاريخه النضالي والسينمائي وانتمائه إلى الثقافة الأوروبية ونظرته إلى العرب وفلسطين. يُذكر أن اتهامات مبطّنة دارت بين المشاركين أنفسهم في الندوة، وبين المشاركين وبعض الحضور.

السفير اللبنانية في

20.09.2004

 
 

وفاتشي بولغورجيان في "أيام بيروت السينمائيّة":

"جسد"... تجهيز فيديو يرصد الزمن المعلّق بين خرائب طيبة

بيار أبي صعب

"جسد" هو عنوان تجهيز فيديو يقام في إطار "أيّام بيروت السينمائيّة" التي تنتهي هذا الأحد برصيد إيجابي هو نتيجة رؤية فنية وثقافيّة متماسكة استندت إليها سياسة البرمجة. وقد ارتأى المهرجان أن يقدّم, خارج سياق عروض الأفلام (من سينما وفيديو), معرضاً للثنائي كاترين كاتاروزا وفاتشي بولغورجيان, يستمرّ حتّى مساء السبت في مبنى سينما "إسترال" المغلقة منذ سنوات, في شارع الحمراء. هذه القاعة قامت جمعيّة "بيروت دي سي" (منظمة المهرجان) باعادة اكتشافها, وبعدها سيتولّى الثنائي مصطفى يمّوت (زيكو هاوس) ورولا قبيسي احياءها, على امتداد ثلاثة أشهر, من خلال برمجة موقتة ولافتة... تجربة زائلة أخرى في هذا الحيّ الذي احتضن نهضة السبعينات في لبنان, قبل أن تنتقل رخصة السينما الى استثمار تجاري مطلع العام المقبل, ويموت بذلك مكان ثقافي آخر في بيروت, المدينة التي كلّما ضاق فضاؤها العام بالحياة الثقافيّة, خسرت شيئاً اضافياً من روحها وهويّتها ومعنى وجودها.

احتلّ كل من كاترين كاتاروزا وفاتشي بولغورجيان القاعة العلوية التي كانت خراباً, فوق صالة السينما, وعملا شهراً ونصف الشهر على تحويلها فضاء يليق بتجهيز الفيديو الذي يقدمانه, وهو جزء من مشروع أشمل وأكبر حول ثنائيّة الجسد/ المكان, يتطلّب فضاء خـاصاً ومزيداً من الوقت والامكانات المادية. والجزء الذي شاهدناه من المشروع, محاولة لالتقاط أطياف المدينة, بعد الطوفان. المدينة التي تبحث عن ملامحها بعد الحرب, وتحاول استعادة جسدها المشلّع من الركام. من هذا "الركام" انطلقت كاترين كاتاروزا, إذ وقعت بعيد "انتهاء" الحرب, على جزء من شريط سينمائي بين أنقاض أحد المباني, حينما كانت تصوّر فوق خرائب وسط بيروت.

كانت حال الشريط سيئة جداً, ما جعل ترميمه مستحيلاً... وهذا بالضبط ما أغرى الفنانة وشجعها على خوض رحلة البحث في الوجدان الجماعي عن تلك الصور الممحوّة, وتحوّلاتها في المخيّلة, وتأثيراتها في المشاعر. مع شريكها فاتشي بولغورجيان لجأت إلى التقنيات الرقمية لتسجيل الصور المطبوعة على الشريط, واحدة بعد الأخرى. ثم تمّت اعادة تركيبها لبثّها على طريقـة جهـاز العـرض السينمائي (35 ملم), أي بسرعة 24 صورة في الثانية. وأتت النتيجة مذهلة: ملامح الفيلم ضاعت كلّها, ولو ان صوراً قليلة من أصل شريط طوله 80 متراً, أمكنها أن تشي - بمساعدة الترجمة العربية أيضاً - بهويّة الفيلم الأصلي. لكن الأمر لا يهمّ الفنانة أبداً, وهي تتفادى ذكر العنوان أو الاحالة إليه, لئلا تشوّش آلية "القراءة" لدى الملتقّي.

تجريدية تأثيريّة

ما يهمّ كاترين وفاتشي الآن, هو تلك النتيجة الجديدة, بعد التحوّلات. تلك البقع والتكونات والألوان التي بـذلا جهـداً للحفاظ على طابعها الأصلي. خربشات الزمن وبصمات السنوات المجنونة, إذ تعبر أمام بروجكتور الفيديو. فإذا بها أطياف منفلتة, ومشاعر دفينة, تتفجّر... حال عنف وصخب وغضب, وتواتر للاشكال المجرّدة التي تبدو لوحات تشكيليّة بألوانها الوردية والخضر والبنية والصفر الميالة الى الكريم,... وسرعان ما تتخذ حضوراً "تصويرياً" وملامح ملموسة في عين المتفرّج... لدى عبورها على الشاشة. إنّها جسد المدينة! نحن أمام "تجريدية تأثيريّة" التي يفضل الثنائي تسميتها "هايبر أبستراكشن", في موازة لـ"الهايبر رياليزم"...

وهذه الصور أوّل ما يطالع المتفرّج لدى دخوله الغـرفـة المعتمة التي توزّعـت شاشات متواجهة على جدرانها البيض, قبـل أن يجد نفسه في الفخّ: مشاهداً, وشاهداً, وجزءاً من المشهد في آن معاً. من مكبرات صوت مخفيّة في الجدران تطالعه مؤثرات صوتية غامضة, أقرب الى ضجيج غير محدد الملامح للوهلة الأولى... قبل أن تروح الأذن تتميّز الأصوات, كلما اقترب المتلقّي من هذه الشاشة أو تلك. يستسلم في البدء للشاشة الأولى, تجرفه حركتها, وسرعـان ما يستحضر من ذاكرته تلك الصور الراسخة االتي كانت تلتقطها الطائرات المغيرة في الحرب العالمية الثانية, إذ تعبر فوق برلين المدمّرة, فتكرج أمامنا صور الأبنية المتصدّعة والأحياء التي استحالت خراباً, كما يمكن أن نراها من السماء, من مكان محايد وفوقي, خلال لحظات العبور السريع. هذا الخراب العظيم نفسه, يعيدنا - من خلال لعبة التداعيات - الى جراح راهنة. تومض صور الحرب على العراق, قبل أن تستقرّ بنا مجدداً في بيروت. من الجدار ينبعث صوت خافت, أصمّ, لآلة تدور... آلة سينما منسية في الطفولة؟ مطحنة الحياة التي تتغذّى من أجسادنا؟

وفي موازاة ذلك المشهد العصبي والعنيف, تطالعنا على الجدار المقابل, حركة صعود وهبوط بطيئة حتّى لا تكاد تلحظ, لكاميرا فوق جزء من جسد بشري, تتغلغل في شعاب الجلد... خطوط ومسام وشرايين... حفر وتكوينات شبه جيولوجية على منبسطات زهرية اللون. حالة هدوء وسكينة تدخلنا الى منطقة حسية وشعورية حميمة: الخاص إذاً في مواجهة العام. بعد طول تحديق, واصغاء لصوت طائرة مروحية ينبعث من الجدار, تتخذ تلك المساحة شكل أرض, بأخاديدها وتعرجاتها, وآثار الزمن عليها. الأرض دائماً هي, تكاد تشكّل هاجساً في شغل كاترين كاتاروزا وفاتشي بولغورجيان. كامتداد مجازي للجسد أو العكس بالعكس. كاستعادة للنصّ الممحو, عبر سبر أغوار اللاوعي, ورصد الانعكاسات الوجدانية والنفسية والانفعالات على الجسد, في علاقته بالفضاء العام بين انصهار معه أو خروج عليه... بين مشهد متصدّع, ممحو, وصور مفككة, ثم مركّبة, وصوت محوّر ملتوٍ ممغوط. الجسد الفردي, الجسد الاجتماعي, الجسد المدينة.

"المجرى الثابت"

الجسد؟ أي جدلية الغياب/ الحضور, الانقطاع/ التواصل, الصخب/ السكينة, الخراب/ الترميم, الجمود/ الحركة... والشاشة الثالثة تعبّر بامتياز عن تلك الثنائيّات. لقطة مقربة, تتكرر الى ما لا نهاية, لقدم نسائيّة, تنزل درجاً آلياً. الدرج يتحرّك, والحذاء النسائي الأسود الذي لا نرى سواه, إضافة الى طرف جوربها, أيضاً يتحرّك. المرأة تهبط الى الأسفل... لكنها تبقى تراوح مكانها في حركة بطيئة (سلو موشن), تنذر بشيء سيحدث, لكن ماذا؟ إنّه "المجرى الثابت" بامتياز. إذا جازت استعارة عنوان رواية معروفة للكاتب المغربي إدمون عمران المليح... الى أين تمضي هذه الزائرة الغريبة؟ أية وجهة؟أيّة عزلة؟ أيّة قصة ممحوة؟ أية ملامح؟ أي جسد؟ أو لعلّها دليل غامض, تهبط بنا الى قبو الذكريات الاصم, الى أحط دركات القلق والخوف, وربما النسيان حيث الامحاء, وسكينة مرتقبة؟ ومن الجدار نسمع صوتاً بشرياً, لرجل ربّما... الصوت يكاد يبتلعه الصدى... يصلنا بعض الكلمات, نثار كلمات بالعربية... من مونولوغ أوديب عند أبواب طيبة. نوع من الكولاج لجمل من نص سوفوكل. فجأة تحضر الاسطورة الاغريقية, نستعيد نبوءات ترزياس الضرير... الطاعون الذي ضرب مدينة طيبة... نزعة تدمير الذات, تلك القوة العمياء التي تقود جماعة الى الانتحار... الخراب الذي لم تشف منه بيروت.

على الجدار الرابع والأخير, في مواجهة القدم الهابطة على الـ"اسكالايتور", صورة لـ"جدار". جدار الفيديو يجمل ندوب الحرب وآثارها وجراحها. عليه يتراقص ضوء شاحب لمصباح كهربائي يحتضر على الطريق. يتحلل الضوء الى تكويناته القزحيّة من أخضر مائل الى اصفرار. وأحياناً نرى فوقه ظلالنا حينما نعبر في القاعة من جهة إلى أخرى. كل شيء يتحلل ويتآكّل هنا. الأصوات والصور والكلمات. في تجهيز كاترين كاتاروزا وفاتشي بولغورجيان, محاولة لمقاربة العدم, لرصد ذلك الشيء الخفي الذي يختصر التجربة المدينية في بلد عاش حال تمزّق. من خلال الخطاب الاجتماعي والذاتي للجسد الخارج من الحرب الى حال من انعدام الوزن والترقّب الفظيع.

السفير اللبنانية في

20.09.2004

 
 

آخر "أيام بيروت السينمائية" تكمل بعروض متنوعة وندوة

أفلام روائية طويلة ترتكز على قيمة التجربة وعروض وثائقية قديمة وجديدة تفتح نافذة على مسيرة مخرجيها

ريما السمار

مساء الاحد الثامنة والنصف، يختتم "أيام بيروت السينمائية" دورته الثالثة في سينما امبير­صوفيل من حيث أطلقها قبل عشرة أيام بعرض افتتاحي لشريط يسري نصر الله "باب الشمس". تستمر الأنشطة حتى اليوم الأخير بعرض اضافي مفاجىء أُعلن عنه أول من أمس لفيلم "بحب السيما" لاسامة فوزي الرابعة بعد ظهر الاحد، وبعروض اليوم الجمعة: ندوة مع مخرجين عرب حول "الهوية في الافلام العربية المعاصرة" (الرابعة بعد الظهر)، "أغنية الألفية" لمحمد زران (السادسة والنصف)، "الف يوم ويوم" لفريديريك لافون (الثامنة والنصف) وليلة افلام قصيرة (العاشرة ليلاً)؛ وعروض غداً السبت: "رسائل إلى فرانسين" لفؤاد الخوري و"أزرق رمادي" لمحمد الرومي (الثالثة بعد الظهر)، "أرض النساء" لجان شمعون (الخامسة ب.ظ.)، "خيط الروح" لحكيم بلعباس (السادسة والنصف مساءً)، "ما يطلبه المستمعون" لعبد اللطيف عبد الحميد (الثامنة والنصف) و"كليفتي" لمحمد خان (العاشرة والنصف ليلاً)؛ وعروض بعد غد الاحد: أفلام طلاب (الخامسة بعد الظهر)، افلام تجريبية (السادسة والنصف مساءً)، حفل الختام بعرض فيلم "فودكا ليمون" لهينر سليم (الثامنة والنصف مساءً).

* * *

شهدت الدورة الحالية لـ"الايام" إقبالاً جيداً، تفاوت بين اوقات العروض وطبيعة الافلام. فبديهي ان تلقى العروض المسائية (السادسة والنصف والثامنة والنصف) إقبالاً أكثر كثافة لتوافقها مع ارتباطات العمل. ومن الطبيعي ايضاً ان تحظى الافلام التي سبقتها سمعة ما إلى الجمهور سواء أبعروضها في مهرجانات أخرى او بموضوعها بجمهور اوسع. على ان برمجة الافلام عموماً لم تخضع لتفضيلات سائدة من تقديم الروائي على الوثائقي او فيلم لمخرج معروف على فيلم لآخر مغمور. ولعل ذلك ما أشاع إلى حد بعيد جواً سينمائياً خالصاً، حيث لا تصنيف او تفضيل او تنافس بما مهّد الطريق لسعي المنظمين إلى فتح حوار بين السينمائيين انفسهم وبينهم وبين الجمهور. في الباحة الخارجية الصغيرة لسينما أمبير ـ صوفيل، تضيق الكراسي والطاولات في معظم الاحيان على الحضور، فيفترش الاخير بضع درجات فاصلة بين مساحتي الباحة او الدرج الخارجي في الهواء الطلق. والملاحظ ان عدداً غير قليل من الحضور يشاهد عروضاً متواصلة بما يدلل على رغبة ما بالاكتشاف لديه تفوق احياناً السمعة المسبقة للعمل التي قادته في الاساس لمشاهدته دون غيره. تتزامن في احيان كثيرة العروض في الصالتين. في الاولى، تُقدم الافلام الجديدة وفي الثانية الاعادات او البرامج الاستعادية (retrospective). ولئن بدا أحياناً ان الاولى، أي الافلام الجديدة، تحظى بإقبال أكبر، فقد ثبت العكس لاسيما مع اربعة افلام وثائقية للمخرجين السوريين عمر اميرالاي وأسامة محمد، يعود انتاجها إلى سبعينيات القرن الماضي. وفي حين تكتفي معظم المهرجانات السينمائية عموماً بتقديم الافلام الجديدة في كل دورة، تحرص "الايام" في خلال عمرها الشاب على تحقيق شيء من التواصل سواء مع الجمهور او المخرجين. وتلك عملية نادرة في المهرجانات العربية التي تمنح الاولية لحداثة الانتاج وعرضه الاول إذا أمكن. أما متابعة مخرج ما ومحاولة رسم خط بياني لجيل شاب من خلال جمع أعماله في اطار واحد يسمح باللقاء والنقاش والتلاقي، فذلك امر يلزمه التنزه عن الشروط المهرجانية السائدة. بهذا المعنى، تحاول "الايام" تحقيق ذلك التواصل عبر تقديمها سينمائيين من خلال مجموعة افلامهم. فأسامة محمد مثلاً الذي حضر في الدورة السابقة لـ"الايام" العام 2002 بفيلم روائي طويل "صندوق الدنيا"، الثاني له بعد "نجوم النهار" واربعة عشر عاماً، يعاود الظهور في هذه الدورة انما بفيلم قديم هو مشروع تخرجه من المعهد السينمائي الروسي (VGIK). من المثير بمكان، ان يقع المهتم على هذا الفيلم ليعيد تركيب صور المخرج لامساً ملامح من فيلميه الروائيين مكثفين في الشريط الاول. وربما كانت تلك حال سينمائيين كثر غالباً ما تحتوي افلامهم الاولى على خلاصة مركزة لافكارهم وأسلوبهم، بما يجعل السينما مساحة لتطوير الادوات واللغة اكثر منها لتطوير الافكار. أي أن الجانب الفني الابداعي يغدو الأهم والدافع ربما إلى اكتشاف دواخل النفس والذهن. من هنا شكل "خطوة خطوة" لمحمد نافذة على سينماه التي على الرغم من انتاجها القليل مازالت تحتفظ بخصوصية تتجلى في هذا الشريط الوثائقي بعمق. فهنا عودة للمخرج إلى قرية سورية نائية لمعاينة الحياة فيها. من المزارعين إلى الطلاب وربات البيوت، يرسم الفيلم بدايةً صورة لقرية عادية، يعيش أهلها من كدهم اليومي. ولكن المفارقات لا تلبث ان تظهر في المنهاج التعليمي وفي ضيق الافق اما الجيل الشاب في ظل تربية تعليمية صارمة وسلطة أبوية وسياسية. تنبع أهمية "خطوة خطوة" من حمله خصائص المكان الطالع منه بما يحوله لغة تخاطب يفهمها الكل على خصوصيتها. وتالياً فإن محمد بالتقاطه تلك الروح إنما يصنع صورة في الحاضر والمستقبل. أي أن الفيلم في حين خروجه كان صورة لواقع وبعد كل تلك السنوات مازال صورة لم تفقد قيمتها. لعلها القيمة الاستشفافية لمستقبل جيل وبلد هي التي تضعه في مصاف الاعمال التي لا تموت كصورة تحتزن الزمن في حركته. في الاطار الاستعادي عينه، عُرض لاميرالاي "الحب الموؤود" و"فيلم تجربة عن سد الفرات" و"إلى معالي الوزير بنازير بوتو". شرح المخرج ظروف إنجاز الفيلم الاول حيث طُلب اليه عمل فيلم عن النساء، فاختار القاهرة لأنها، بحسبه، شهدت الحركات النسوية الاولى وأولى ملامح التحرر والمطالبة بالمساواة. على تلك الخلفية، يرسم شريط اميرالاي صورة لمجتمع تنغلق العلاقات فيه بين الرجل والمرأة على المقدسات والسرية والجهل. يقابل نماذج من الفتاة الثلاثينية المضربة عن الزواج بسبب من ميل الرجل إلى السيطرة والمحامية التي تعاني من كبت في علاقتها الزوجية على الرغم من قصة الحب التي ربطتها بزوجها قبل الزواج و"ام محمد" الخادمة المطلقة مرتين وهناك ناديا الجندي التي تشرح وجهة نظرها حول الاغراء في مجتمع محافظ... إلى رجال منهم من لم يتزوج لغلاء المعيشة ومنهم من يفكر بالزواج ثانية لأن زوجته لم تعد تطيعه كالسابق... صورة مليئة بالتناقضات تسحق الفرد تحت وطأة الاعتبارات الدينية والاجتماعية. اما "فيلم تجربة" فيكتسب معنىً أعمق بعرضه مع "الطوفان" الشريط الوثائقي الجديد لاميرالاي. كلا الفيلمين يتناول سد الفرات. الاول يصور مراحل من تشييده بأيدي أناس مزارعين وصيادين. بينما يتناول الثاني قرية على ضفاف "بحيرة الاسد" الناتجة عن السد بعد نحو ثلاثين سنة على تشييده. يترك المخرج في الاول كاميراه مشرعة على ورشة عمل ويبقيها على مسافة من الحدث كأنما يحافظ على حيادية مشوبة بالأمل، الامل الذي رافق المشروع. الفيلم المفتوح هو بمثابة وثيقة غير مكتملة كأنها تنتظر النتائج. ولكن المخرج يؤكد بعض النقاط في إبراز العلاقة بين الآلة والانسان والتشديد على دور الاخير في تحقيق المشروع­الحلم كأنما في دعوة إلى عدم نسيانه والتشديد على ان المشروع له. لعلها قراءة لا تخلو من تأثير الفيلم الثاني "الطوفان". إذ ان الصورة السينمائية لاتنفك تستدعي صوراً وتجارب بصرف النظر عن وجود علاقة واقعية بينها. بهذا المعنى، يشكل "الطوفان" عودة إلى ذلك الانسان الذي شارك في بناء السد للإطلاع على أحواله بعد كل تلك السنوات وربما لينهي المخرج فيلمه "التجربة" الذي تركه موارباً في حينه تماماً كاحتمالات مشروع غير مكتمل. مرة ثانية، يضع المخرج كاميراه على مسافة من الشخصيات والمكان. انها قرية "الماشي" التي يتناولها عينة يرسم من خلالها صورة عن بلد بأسره في ظل حكم حزب البعث. هناك، يقارب النسيج الاجتماعي والتفاصيل اليومية التي تربط الانسان بأرضه في ظل نصب السلطة­بحيرة الاسد­وسلطة الحزب الواحد. أراد أميرالاي من خلال "الطوفان" تسجيل وثيقة من هذا الزمن عبر اختياره "عينة" كما يقول في افتتاحية الفيلم "من مجتمع البعث" ومحاولة الإمساك بالخيوط المحركة لماكينة السلطة ولأثر الاخيرة في المجتمع. يمثل قرية "الماشي" في البرلمان شيخ العشيرة دياب الماشي أقدم نائب في البرلمان السوري ويدير مدرستها الابتدائية ابن اخيه ومسؤول الحزب في القرية. والاخير بمثابة سلطة تنفيذية من خلال موقعه الذي يتيح له إعادة صياغة أفكار الحزب ونشرها في الاجيال الصاعدة. في المدرسة، يستقبل الاطفال كل زائر ومعلم بتحية طلائع البعث ويرددون الشعارات الحزبية عن ظهر قلب. مثل افلامه السابقة، يقوم "الطوفان" على اسلوب الكشف البطيء والمتراكم. فهو ليس فيلماً بطولياً مجاهراً بعدائيته للسلطة ولا نضالياً في عدائه النظام لأن همه الاساسي تسجيل اثر الأخير في الناس. بل انه صُور بإذن من السلطة الرسمية وككل همه إبراز النقاط الاساسية في خطابها وماكينتها الحزبية. وفي ذلك، لا يفعل سوى ان يترك الشخصيات تتحدث امام الكاميرا من دون تلقين او تحريف لتكتمل في النهاية صورة انسان خاضع للخطاب الواحد، مسحوق الفردية. ومن استماتة الشخصيات في إظهار ولائها للسلطة، يخرج أميرالاي بوثيقة نموذجية تصب في صميم بحثه عن اثر السلطة في المجتمع والانسان. من هنا تنبع أهمية الفيلم كوثيقة وتتمثل صدقيته في انتمائه إلى مكانه وزمانه. بل انه يتجاوز ذلك إلى قول كلمته في الصورة وشروط صناعتها في ظل تلك السلطة. إذ أن الفيلم في شكله الظاهر وعدم إفصاح مخرجه عن آرائه امام الشخصيات يكاد يكون شكلاً من اشكال انتاج الصورة الواحدة في مجتمع السلطة الواحدة. من هنا، يصب الفيلم في إطار سينما سياسية لا تدّعي البطولة بقدر ما تقوم على قسط وافر من نقد الذات والحاضرمشوب بالقلق والخوف على المجتمع لا التشفي.

أفلام روائية

اتبع منظمو المهرجان اسلوباً خاصاً في اختيار الافلام الروائية الطويلة لعرضها في البرنامج. فهم اعتمدوا مقياس "التجربة"، اي ما يمثله العمل على صعيد التجربة لمخرجه بالدرجة الاولى وفي محيطه أيضاً. من هنا مثلاً كان اختيار "كليفتي" لمحمد خان انطلاقاً من ان تجربته الاولى بكاميرا ديجيتال، اتاح له العودة بفيلم شخصي بصرف النظر عن قيمته الفنية. فالقيمة هنا تكمن في الحرية التي منحتها له التجربة وقدرته من خلالها على التفلت من شروط السوق الخانقة لاسيما بالنسبة إلى جيله المنقطع منذ مدة طويلة عن الانتاج. فمن خان إلى خيري بشارة وداود عبد السيد، يبدو الافق مسدوداً عليهم في الصناعة السائدة. والفيلم مشروع قديم لخان ولكنه ترافق مع تفكير المخرج بالديجيتال كحل بما يفسر طريقة كتابته وتصوريه بما يتلاءم مع الوسيط الجديد. انه فيلم تدور معظم أحداثه في الشارع ويتركز حول شخصية أساسية لشاب (باسم سمرة) صفته "الدجال" أي انه يقوم بألاعيبه لكسب عيشه مع حفاظه على حيز أخلاقي يمنعه من السقوط التام. في إطار شبيه، عُرض الفيلم المصري ايضاً "أحلى الاوقات" الاول لمخرجته لهالة خليل. على الرغم من انه عمل بالكاد يخرج على الصناعة السائدة، إلا أنه، وكما شرحت مخرجته في النقاش الذي تلى العرض، شكل تجربة جديدة بالنسبة إليها من حيث انه أدخلها السوق بعد انتظار طويل ورفض من قبلها في تقديم عمل جماهيري. إذاً، فإن قيمة الفيلم تكمن على صعيد علاقته بمخرجته وتصالحها مع السوق من دون التنازل التام عن القيمة الفنية وبحسب ما قالت. والعمل رومنسي خفيف، يقدم ثلاث شخصيات نسائية مكتوبة بحساسية الا ان خروجه من النمط الكوميدي السائد، لا يجنبه الوقوع في نمط آخر هو ذلك الشكل من الافلام الذي يقدم قصته وشخصياته في قالب محكم وينتهي بها إلى مصائر تضمن جماهيريته كما هي حال تجربة اخرى سبقته "سهر الليالي" لهاني خليفة. ومما لا شك فيه ان التجربة تشكل حالة خاصة في علاقتها بجسم سينمائي صناعي تجاري لا نظير له في البلدان العربية الاخرى مما يجعل من فيلم كـ"أحلى الاوقات" تجربة تنتمي إلى السائد اكثر منها إلى المستقل انما بشروط تحافظ على شيءٍ من اللمسة الشخصية في العمل.

من جهة ثانية، يأتي "الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء" من مكانٍ آخر في السينما المغربية، مكان غير خاضع لشروط الانتاج الاجنبي ولا معادلات السينما الجاهزة. فهو يتحدث أولاً في جزء كبير منه باللغة الامازيغية ويقوم على خط روائي متشعب، لا يشهد الكثير من الاحداث الكبرى. بل ان المتغيرات تقع في داخل الشخصيات نفسها. يتناول الفيلم ثلاث شخصيات لرجال شباب، تركوا قراهم وعائلاتهم من أجل كسب العيش في الدار البيضاء. ولكن كلاً منهم معلق بأمل ما: "سعيد" بزوجته وولديه والثاني بجواده الذي يعني له الكثير والثالث بحذاءٍ باهظ الثمن يسيطر على فكره وحياته. يصوّر الفيلم بحس عالي المدينة والقرية، محتفظاً بإيقاع كل منها في اللقطة وحركة الكاميرا. والمحور هنا فكرة تتكرر مع الشخصيات وهي سحق المدينة للناس تحت وطأة العمل والسعي إلى تأمين المعيشة. على هذا المنوال، يذهب المخرج محمد عسلي إلى تصوير كل شخصية بينما تفقد احلامها شيئاً فشيئاً في المدينة وتفقد تالياً انسانيتها. تتمثل مشكلة الفيلم في دورانه في دائرة مقفلة وحول فكرة واحدة، تتكرر في الاسلوب والخطاب. بهذا المعنى، تصبح نهايات الشخصيات معروفة، انما يساعد على تتبعها اسلوب المخرج ولغته السينمائية العالية.

بإيقاع مماثل، يصور هينر سليم "فودكا ليمون"، فيلم الاختتام، وبلغة سينمائية عالية تنهل من أماكن عدة لترسم في نهاية المطاف خصوصيتها. فالمخرج الكردي الأصل يصور فيلمه في أرمينيا في قرية نائية تغطيها الثلوج وتنأى بها أكثر عن معالم الحياة وادنى متطلبات العيش. مرة اخرى، يبرز موضوع الهجرة بسبب انعدام فرص العمل في البلد الام. عائلات مبتورة، يعيل الاب فيها نفسه ببيع قطع من أثاث بيته وثياب زوجته المتوفاة، وابنة في بيت آخر تتحوّل مومساً بينما توهم امها بعملها عازفة بيانو في فندق ورجل يزوج ابنته مقابل ان يجد له صهره عملاً في الخارج. يصور المخرج عبثية الحياة هناك حيث يقطع اثنان مسافة يومية في الصقيع لزيارة قبري زوجيهما كأنما الوحدة لم تبقِ لهما من انيس سوى الموتى. برغم ذلك، يحافظ الفيلم على حيوية شخصياته وتشبثها بالحياة وبالامل وان كان بيانو يخفف من وطأة الحياة اليومية القاسية.

وفي مقابل إعداد الافلام الوثائقية الفلسطينية، عُرض الفيلمان الروائيان: الطويل "في الشهر التاسع" والقصير "كأننا عشرون مستحيلاً". في الاول، يعود المخرج علي نصار إلى أسطورة سائدة بوجود رجل يختطف الاطفال ويبيعهم إلى اليهود. ومن خلاله يروي قصة حب مستحيل رفض ان يموت وآخر ممكن لم يتمكن من الاستمرار. يخبر نصار حكايته في زمنين من دون ان يميز بينهما الا من حيث تغيير طفيف في الشخصية الاساسية. أما المكان ومعالمه فلم يتغيرا. وحكايتا الحب اللتان تضحي إحداهما بنفسها من اجل الاخرى كناية عن واقع برمته حيث هناك دائماً من يضحي بشيء من اجل شيء آخر. هكذا ضحى "أحمد" بقصة حبه مع خطيبته ليتزوج من امرأة اخيه الهارب والمختبىء في لبنان بعد ان حملت منه خلال زياراته السرية التي تسلل بها إلى القرية. على أن محاولة مزاوجة الواقع والاسطورة لم تأتِ بثمارها فعلاً إذ بقي الفيلم وعاءً لحكايات أكثر منه صورة لها.

أما شريط آن ماري جاس "كأننا عشرون مستحيلاً" فيتخذ اسلوباً مضاداً لمعظم الافلام الفلسطينية التي تصور الواقع. فهي تأخذ حالة يومية متكررة وتقدمها في اطار روائي متخيل كأنها تعلي السينما وتفصل بينها وبين الواقع. وفي ذلك طرح غير متداول حول ينفي ان تكون السينما نقلاً للواقع على حساب لغتها وادواتها وان كانت تشبه هذا الواقع إلى حد مخيف. هكذا، تصوغ المخرجة حكايتها حول مخرجة وفريق تصوير (كلهم ممثلون وهناك من يلعب دورها هي)، ينتقلون في باص صغير من منطقة إلى اخرى بهدف تصوير فيلم. على أحد الحواجز الاسرائيلية، يُجبرون على العودة بينما يستبقي الجنود اثنين من الفريق. برغم واقعية الحالة، فإن المخرجة تصورها بكاميرا سينمائية وتقوم بالعمل اللازم على الصورة والصوت لتشبها الواقع لا لتتطابقا معه بما يبرر في احيانٍ كثيرة افتقار المخرج إلى اللغة وتمكنه من ادواته بحجة ان "الواقع" يفرض نفسه.

وثائقيات

يدخل "زوروا العراق" لكمال الجعفري من باب الحرب العراقية الواسع والمشرع أمام الكل ليستقر في زاويته الخاصة من حيث يرى الاشياء بعين متفردة وبما يؤكد نظرية إمكانية مواكبة الاحداث الساخنة من وجهة نظر خاصة. الفيلم المصور في سويسرا ـ مكان اقامة مخرجه ـ قبيل اندلاع الحرب، يصور وكالة سفر عراقية عند زاوية احد الشوارع، أقفلت منذ بداية حرب الخليج الاولى ومع ذلك بقي الاسم والمكان. الكاميرا تراقب المكان وتسأل المارين عن معلوماتهم او مشاهداتهم المتعلقة به ولكل روايته الخاصة وتحليله. غموض جميل موحي يلف اسلوب تحقيق الفيلم، اراده المخرج عاكساً للموضوع. ولعله بعد مرور وقت اضافي، بات يحمل دلالات أكثر إلى الموضوع حيث صورة صدام حسين المرمية بين اوراق على الارض. حالة فوضى عارمة توحي بأنها وليدة اللحظة في حين انها لم تتغير منذ سنوات طويلة، دليل على ان بعض الاماكن يحيى في خراب. شريط ديميتري خضر "أطفال الارز" هو الآخر ينتهج اسلوب التحقيق وإنما بشكل حقيقي. فهو بحث عن أصول شاب لبناني الاصل، تبنته عائلة هولندية قبل اندلاع الحرب الاهلية ولم يكن قد جاوز الستة اشهر بعد. والشاب، على ما يذكر الفيلم، واحد من اطفال كثيرين في لبنان عُرضوا للتبني في مرحلة بين اواخر الستينات واواخر السبعينات وأُطلقت عليهم تسمية "أطفال الارز". يلاحق الفيلم الشاب "آرثر" في بحثه عن اصول عائلته، محاولاً العثور على خيوط من خلال الدوائر الرسمية ومن ثم حكايات الناس عن المستشفى الذي وُلد فيها والمقفلة الآن. وبعد فشل كل المحاولات، يلجأ إلى وضع اعلان تلفزيوني يتضمن صورة طفل، طالباً ممن يتعرف اليه الاتصال على رقم يظهر على الشاشة. وبعد مرور بعض الوقت من دون ان يرد اي اتصال، يعود الشاب ادراجه ويهم المخرج بانهاء فيلمه ولكن اتصالاً من سيدة تدّعي انه ابنها، يفتح للشريط وللشاب طريقاً اخرى. يتضح ان السيدة مصرية الأصل، تعمل بائعة يانصيب وتروي كيف انها حملت بالطفل على اثر اعتداء رجل عليها وكيف انه اخذ منها الطفل بعد اشهر من ولادته واختفيا. ينقسم الفيلم في اتجاهين: الاول يسمع حكاية الام ويسجلها والثاني يعرضها على الشاب على شاشة امامه. لا يصدق الاخير انها والدته بحجة انه لم يشعر بشيء تجاهها. فيتقرر عندها إجراء فحص للجينات ليتضح انها بالفعل ليست امه. برغم ذلك تطلب ان تراه، فتجتمع به أمام كاميرا المخرج وتصر على احساسها بأنه ابنها وتسأل ان كانت نتائج الفحص الطبي أكيدة. يمتاز الشريط بنبض حقيقي واقعي وبعلاقة تتولد أمام الكاميرا بين الشخصيات. وبالنبض عينه يسدل الستارة على حكاية مكملة: الشاب يعود أدراجه إلى هولندا بعد ان تعرّف بفتاة لبنانية يتزوج بها والمرأة تعود إلى حياتها العادية إنما بجرح مفتوح كانت السنوات قد تكفلت بمداواته لبعض الوقت. حكاية تنتهي هنا واخرى تبدأ من المكان عينه.
رحلة اخرى تخوضها لميا جريج في فيلمها "هنا وربما هناك" الذي تنطلق فيه في رحلة على خط التماس أيام الحرب، لتسأل من يقابلها ان كان يعرف احد في محيطه خُطف خلال الحرب. لا تتوخى المخرجة من بحثها ذاك التوصل إلى حقائق بشأن المخطوفين أو إلى كشف اسرار، بقدر ما تهدف إلى إعادة رسم خارطة لبيروت المجزأة ولعلاقة بأهلها. أمام الكاميرا، يستعيد الناس تركيب ذاكراتهم او استدعاءها. فهناك من يفشل وهناك من يقرر الا يتذكر وهناك من يبني ذاكرة جديدة من صور قديمة لتتموه فكرة الحقيقة الواحدة وترتسم بدلاً منها حقائق نسبية بحسب الاشخاص. تمسك المخرجة بصور فوتوغرافية لنقاط محورية في بيروت الحرب وتعود إلى المكان عينه لتعاينه بين واقعه اليوم وصورته بالامس. كأنما لتقول ان الواقع يتشكل من عدة وجوه وطبقات على مر الزمان وان تلك الوجوه تتراكم ولا تمحي.

المستقبل اللبنانية في

24.09.2004

 
 

أيام بيروت السينمائية تُختتم بـ"فودكا ليمون" المشبع بالحياة

"بحب السيما" و"كلفتي" عنوانان للبؤس اليومي

نديم جرجورة

تختتم <<جمعية بيروت دي سي>> الدورة الثالثة ل<<أيام بيروت السينمائية>> بفيلم <<فودكا ليمون>> للمخرج هينر سليم، الثامنة والنصف مساء غد الأحد، في الصالة الأولى لسينما <<أمبير>> في <<مركز صوفيل>> في الأشرفية. علما أن اليومين الأخيرين يشهدان عروضا لأفلام ذات تنويع فني وجمالي ودرامي جيّد، أبرزها (إلى جانب فيلم الختام) فيلمان مصريان هما <<بحبّ السيما>> لأسامة فوزي و<<كلفتي>> (الدجّال) لمحمد خان، و<<في كازبلانكا الملائكة لا تحلّق>> للمغربي محمد عسلي، بالإضافة إلى فئتي <<أفلام طالبية>> و<<أفلام تجريبية>> وعدد من الأفلام الروائية والوثائقية.

هنا قراءة نقدية خاصة بثلاثة أفلام هي: <<كليفتي>> (العاشرة والنصف مساء اليوم السبت) و<<بحبّ السينما>> (الرابعة بعد ظهر غد الأحد) وفيلم الختام <<فودكا ليمون>>.

حسنا فعلت <<جمعية بيروت دي سي>> باختيارها <<فودكا ليمون>> لاختتام الدورة الثالثة ل<<أيام بيروت السينمائية>> مساء غد الأحد. فهذا الفيلم إنساني جميل، مشغول بشفافية باهرة تخفي وراءها كَمّا هائلا من المشاعر والتفاصيل الذاتية والانفعالية، ومصنوع بلغة سينمائية سلسة في سردها الحكاية ورسمها الشخصيات والعلاقات وتصويرها مناطق الذات والروح والطبيعة. والمخرج هينر سليم، المولود في العراق في العام 1964، استفاد من مجموع التراكمات الثقافية والاجتماعية والتربوية التي اكتسبها من أصول متشعّبة (الكردية والأرمنية والعراقية)، ومن ميله الفني إلى الرسم والشعر، فأنجز فيلما بدا مزيجا بديعا لهذه التشعّبات، وقدّم حكاية مُشبعة بالصُور والموسيقى والسرد المحبوك بسيناريو متين ذي إيقاع هادىء يخفي في طياته غليانا نابعا من مأزق الروح في مواجهة القدر، ومن أزمة الجسد في واقع الفقر والعزلة والوحدة.

الفرد وعوالمه

لا يختلف اختيار فيلم الختام عن آلية اختيار فيلم الافتتاح. ففي الخامس عشر من أيلول الجاري، بدأت الدورة الثالثة ب<<باب الشمس>> ليسري نصر الله، كأن <<جمعية بيروت دي سي>> رغبت في إعلان موقف فني وإنساني أرادته تعبيرا عن جزء ما من موقعها الثقافي اللبناني والعربي. وفي السادس والعشرين من الشهر نفسه، تُختتم هذه الدورة ب<<فودكا ليمون>> لهينر سليم، كإعلان ثان عن موقف فني وإنساني أيضا، عكس أزمة الفرد في داخل الجماعة، وإن في مجتمع إنساني آخر. فالفرد، في الفيلمين، بات المحور الجوهري للحكاية والبناء الدرامي والفضاء الجمالي والحبكة الفنية. ومأزق هذا الفرد بعلاقته بذاته والآخر صورة إضافية عن التشابه بين الفيلمين، وإن اختلف <<باب الشمس>> عن <<فودكا ليمون>> في أسلوب الإخراج وكيفية السرد وآلية العمل ونمط المعالجة. لا أبغي من هذه المقارنة إلاّ التوقّف عند سمات إنسانية أثارت فيّ سؤال الفرد في عالم متّسع للقهر والموت والوحدة، من دون أن يتخلّى هذا الفرد عن عشقه للحياة والتمرّد. لا أرغب في جعل المقارنة تغييبا للقيم الفنية والجمالية والدرامية الخاصة بالفيلمين، بقدر ما أردتها لحظة تأمّل جديد في قدرة السينما على خلق الحيّز الأفضل والأجمل لمعاينة معنى الصورة المرتبطة بالإنسان وما/من يحيط به، وفي قوتها (السينما) أيضا وهي تُعيد صوغ الحكاية من نبض الواقع والذاكرة والغليان الانفعاليّ والروحيّ.

يبدأ <<فودكا ليمون>> بمشهد لا يخلو من غرائبية مُحبّبة سرعان ما تفتح الباب أمام فضاء الحكاية وناسها: في قرية غارقة في بياض الثلج، تجرّ إحدى السيارات سريرا تمدّد عليه عجوز جيء به إلى جنازة كي يعزف ورفاقه بمزاميرهم لحنا وداعيا لزوجة هامو. يُمكن لهذا المشهد أن يوهم الجمهور بإمكانية الدخول في عالم غريب وسحريّ وأسطوريّ للغاية، قبل أن يستعيد الفيلم سياقه الواقعي، بسرده حكاية هامو العجوز الفقير الذي بدأ في مطلع الفيلم مرحلة جديدة في حياته. لوهلة، بدت الحبكة مشغولة بسرد الحكاية الفردية لهامو كرجل معدم ينتظر مالا من ابنه المهاجر إلى باريس، وكأرمل لا ينفكّ عن زيارة قبر امرأته راويا لها خبريات القرية والناس والعائلة. غير أن المجتمع القروي الفقير أطلّ على المشهد من خلال المتابعة الدقيقة ليوميات هامو وعلاقاته وشخصيته وعشقه للحياة على الرغم من كل شيء. مجتمع معدم ينوء تحت وطأة الفقر والقهر والبرد، لكنه مشبع بحسّ الحياة. أناس منكسرون ووحيدون، وعلى الرغم من هذا فإنهم متمسّكون بشيء من فرح العيش.

في زياراته اليومية لقبر امرأته، التقى هامو بسيدة تزور هي أيضا قبر زوجها الراحل. وفي سرد مبسّط وهادىء، روى الفيلم نشوء علاقة جميلة بينهما سادها صمت كثيف بكثافة الثلج المحيط بهما، وزيّنها أداء جيّد لممثلين اختبروا لغة الجسد والحركة للتعبير عن شخصياتهم المرسومة بشفافية ومصداقية. في المقابل، فإن العجوزين العاشقين فتحا (معا أو كل بمفرده) آفاقا واسعة كشفت بؤس اليومي والإنساني، وانكسار الروح والجسد، والرغبة في الخروج إلى رحابة الدنيا والحياة من خلال الحبّ.

بؤس التزمّت

يصلح البؤس اليومي والإنساني عنوانا آخر ل<<بحبّ السيما>> للمخرج المصريّ أسامة فوزي، الذي أنجز سابقا <<عفاريت الإسفلت>> و<<جنّة الشياطين>>. ذلك أن الفيلم <<ناقش>> مأزق الفرد (هنا أيضا يتّخذ الفرد مساحته الإنسانية الكبيرة كقيمة إنسانية واجتماعية) في إطار واقعي قاس نتج من التزمّت الديني والالتزام الأعمى بتعاليم كنسية صارمة. أثارت الكنيسة المسيحية في مصر ضجّة كبيرة حول الفيلم متّهمة إياه بالتعرّض سوءا لتعاليمها وطقوسها وتقاليدها، ورفعت بحقّه دعوى قضائية بعد مطالبتها السلطات المعنية بعدم السماح بعرضه، مع أن <<جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية>> في مصر أجاز عرضه، وبعض المثقفين والسينمائيين المصريين <<دافعوا>> عنه. عُرض الفيلم في عدد من صالات القاهرة لأسابيع عدّة، بعد أعوام أمضاها في رحلة الولادة الصعبة، إنتاجا وتصويرا وعمليات فنية وتوزيعا ونقاشا حاد أحيانا عن الحسّ النقدي الموضوعي في مقابل تشدّد أحمق وتزمّت أعمى.

خارج هذا الإطار من التعصّب الأصوليّ المسيحي في التعاطي مع فيلم إنساني عكس شيئا من واقع الحياة اليومية المستمدة من نتائج التربية الصارمة والتفسير المجتزأ والمنقوص للتعاليم الدينة والروحية وللتفاصيل الإنجيلية، فإن <<بحبّ السيما>> فيلم جريء لا يخلو من هنات فنية وتقنية ودرامية قابلة لنقاش موضوعي وسوي (أكتفي هنا ببعضها قبل أن يُعرض للجمهور غدا الأحد). لا شكّ في أن الفيلم جميل على مستوى الحكاية والتفسير الدرامي لمشكلة التزمّت والصرامة في التربية الاجتماعية المبنية على أسس دينية جافة ومنغلقة. كما أنه جريء في تشريحه القاسي عالما مشبعا بالتزلّف والخديعة والنصب في العلاقة الملتبسة والمنقوصة القائمة بين الإنسان الفرد وربّه جرّاء ضغط التربية. غير أن <<بحبّ السيما>> مليء بلغة خطابية مباشرة ألغت أهمية الصورة في تفسير بعض سلوك وتصرّفات ومناخ إنساني وتجاوزت ضرورة الاعتماد على الأداء وبناء الشخصيات في تقديم جزء أساسي من الحبكة. في حين أن استخدام راو (بصوت شريف منير) قدّم الفيلم وقصته، وسرد بعض الملاحظات والمشاهدات، بدا تقليدا باهتا لنمط عاديّ لعلّه يعكس <<نقصا>> ما في مخيّلة ابتكار الصُوَر.

إنه فيلم نقدي ومجادل. إنه تعبير عن موقف إنساني إزاء سطوة الدين وسلطة الكنيسة. إنه قراءة حادّة لقوة التزمّت والصرامة والأصولية في تدمير الذات وإلغاء الحسّ الإنساني السليم منها. إنه رفض مطلق لآلية التحكّم الديني المسيحي بالفرد والجماعة. هذا كلّه مهمّ للغاية، ليس فقط لأن البشرية جمعاء تعيش لحظة تاريخية خطرة فرضتها أصولية إسلامية متخشّبة في عزلتها وغبائها وعنفها، وساهمت في تطويرها أصولية مسيحية متحجّرة وغبية تقود العالم إلى حتفه، بل لأن <<بحبّ السيما>>، باختصار، فيلم جميل: رفض محرّمات عدّة في سرده حكاية إنسانية نابعة من واقع وحقيقة. كسر المألوف السينمائي العربي في مخاطبة الله والدين وسلطة الكنيسة/الجامع، من دون تصنّع أو ادّعاء، بل بحساسية إنسانية محتاجة إلى تخفيف شيء من الخطابية المباشرة. صوّر تفاصيل حيّة وصادقة تُظلّل بشرا اعتادوا نمطا منغلقا في عيشهم وأسلوب تربيتهم. أعلن حبًّا واضحا للسينما، ومنها للفنون كلّها، في مواجهة تفسير خاطىء لأسياد السلطة الدينية جعل الفن حراما.

احتيال الفرد والجماعة

من ناحية أخرى، هل يُمكن القول إن محمد خان أراد، في جديده <<كلفتي>>، أن يرسم شيئا من أزمة الفرد في داخل الجماعة؟ أم إن المسألة لا تتعدّى رغبته في تصوير حالة إنسانية بدت طاغية في المجتمع المصري (والعربي أيضا)، تُختصر بالكذب والنصب والتضليل التي يُمارسها كثيرون؟ لعلّ محمد خان اكتفى بمعاينة حسية لواقع إنساني، بعيدا عن أي <<تحليل اجتماعيّ ونفسي ما>> يُمكن اعتماده في قراءة <<كلفتي>>، كما معظم أفلامه السابقة التي ارتبطت بالمجتمع والإنسان في تصويرها تفاصيل حيّة ونابضة بألف همّ وأزمة وحلم/وهم. لعلّ <<كلفتي>> لا يسعى إلى مناظرة نقدية حول العلاقة الجدلية بين المجتمع والفرد والجماعة والتربية والثقافة والعادات وغيرها. لكن ذلك لا يُلغي الجانب الاجتماعي من فيلم مكتوب بسلاسة درامية محبّبة روت مقتطفات عدّة من الحياة اليومية لشخصية مجبولة بالاحتيال، كشفت كم أن المجتمع مليء بأمثاله، وإن اختلفت الأساليب.

يُمكن التعاطي النقدي مع <<كلفتي>> انطلاقا من جانبيه الحكائي والتقني. ذلك أن محمد خان استعان بتقنية <<فيديو ديجيتال>> لتصوير الفيلم، رغبة منه في اكتشاف أفقها ومدى قدرتها الفنية والجمالية على تحقيق فيلم سوي وجميل. واختار النصب والاحتيال كي يُسلّط الضوء على بعض الخلل المعشّش في جسد المجتمع/الفرد وروحهما. لا تستقلّ التجربة التقنية عن تجارب أخرى تشهدها السينما العربية حاليا، خصوصا في بيروت والقاهرة. ف<<فيديو ديجيتال>> فتح آفاقا أوسع أمام السينمائيين للعمل خارج أطر إنتاجية صارمة، وبات أقدر على منحهم حرية أكبر في العمل. أما على مستوى المضمون، فإن شخصية النصّاب المحتال (باسم سمرة) استقطبت آفات اجتماعية عدّة ورسمت مسارها على مستويات الحبّ والعمل والعلاقات المختلفة. إنها شخصية شاب عاطل عن العمل وجد في ابتكار الحيل أداة عيش توفّر له حاجاته اليومية. وفي رحلته هذه صادف عددا من المحتالين والنصّابين، والتقى آخرين جعله بعضهم يُعيد طرح أسئلة الحياة والعيش والعلاقات العاطفية والإنسانية على نفسه. بدت بعض المقتطفات المصوّرة بشكل متتاليات يومية سلسة في صوغها فصول الحكاية، بمحافظتها على بساطة في السرد خلت من أي تصنّع أو ادّعاء.

السفير اللبنانية في

25.09.2004

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)