كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

المخرج الرحالة الذي دفع ثمنا باهظا لإيمانه بأفكاره

توفيق صالح: ذهبت لفرنسا لدراسة الفلسفة

ولكن السينما خطفتني

مختار أبو سعدة

توفيق صالح

   
 
 
 
 

* أقمت في سوريا لعلي أحقق فيها ما لم أحققه في بلدي!

* عندما اتهمني وزير الداخلية السوري بالشيوعية وأصدر قرار ترحيلي!

* وفاة عبد الناصر دفعتني لـ «المخدوعون» .. الفيلم الذي منعوه في سوريا بحجة ضعف المستوي

«لا كرامة لنبي في وطنه» هذا المثل ينطبق بالفعل علي «توفيق صالح» المبدع الذي دفعته أفكاره التقدمية وثقافته الموسوعية - منذ أن أصبح مخرجا- إلي الاصطدام دوما مع الرقابة في معظم مشاريعه السينمائية .. مثلما اصطدم مع معظم منتجي أعماله!

حيث كان يحاول اقناعهم دوما بضرورة خوض تجارب سينمائية جريئة .. وظل توفيق صالح يتساءل بينه وبين نفسه عقب أن أوشكت معاركه الفكرية المتعددة أن تدفع به للجلوس في المنزل دون عمل، وماذا بعد؟ كيف الهروب من أيادي الرقباء المرتعشة بل كيف الهروب من «بعبع» الموزع الخارجي والداخلي الذي يخيم علي جيوب المنتجين بل ويهيمن علي عقولهم! موج هادر من الأسئلة أخذ يتلاطم - يمينا وشمالا- في جنبات رأسه .. دون أن يجد أي إجابة تنشله من دوامة حيرته وغزارة اسئلته !! واثناء استغراقه في مشاهدة الصورة السينمائية المظلمة التي أصبح عليها!! فإذا به يتلقي خبر وفاة «حماته» التي تمتد جذورها للأردن .. ولم يكن أمامه سوي اصطحاب زوجته والمسارعة لتقديم واجب العزاء هناك.. ولأن لـ«زوجته» أقارب كانوا من أصل سوري فقد قررا التوجه لدمشق من أجل الاطمئنان علي الأهل والأقارب .. وفي أحد الأيام حيث كان «ساهرا» في أحد مقاهي «سوريا» الشهيرة .. فإذا بشخص يندفع تجاهه ويحتضنه بقوة من واقع مشاهدته لأعماله السينمائية الأولي في مصر، وقبل أن يغادر هذا الشخص السوري المقهي ألح علي «توفيق صالح» في  ضرورة التقائه في صباح اليوم التالي لدي رئيس المؤسسة السورية للسينما .. ورغم الدهشة التي ارتسمت علي وجهه لحظتها! إلا أنه سارع في صباح اليوم التالي لمؤسسة السينما في دمشق .. وإذا بالقائمين علي هذه المؤسسة يطلبون منه عمل فيلم سينمائي .. فما كان منه سوي أن وافق وهو يقول بينه وبين نفسه «طالما أنا غير مرغوب في أفكاري داخل بلدي واصطدم دوما بالجميع! فما المانع في خوض هذه التجربة والإقامة في سوريا لعلي أحقق فيها ما فشلت في تحقيقه داخل بلدي»! ولم يكن هذا العمل السينمائي سوي فيلم «المخدوعون» باكورة أعمال توفيق صالح خارج مصر الذي ما إن التقيته حتي بادرته متسائلا وأنا أترقب ملامح وجهه النبيل .. أعتقد أن المناخ السوري وقتها كان أفضل من المناخ المصري علي الأقل من وجهة نظرك!!

ـ ارتسمت علي وجهه ابتسامة ممزوجة بالسخرية وهو يقول - أبدا .. أنت لا تعلم أنني ظللت لمدة عامين قبل أن أقدم أي عمل هناك - أحارب دفاعا عن أفكاري ووجهة نظري .. فقد رفضت الرقابة في سوريا «فكرة» كنت قد تقدمت بها عن «المجتمع السري» علما بأن سعد الله ونوس كان قد اشترك معي في كتابتها، ثم يتنهد توفيق صالح طويلا وهو يقول كأنه يحمل علي عاتقه معاناة لا حدود لها والمؤسف أن الرقابة هناك لم تتوقف عند رفض فكرة «المجتمع السري» فحسب بل سارع أحد أفرادها بالذهاب لوزير الداخلية السوري متهما إياي بالشيوعية .. وكان نتاج هذا الاتهام أن طالبتني الداخلية وقتها بمغادرة سوريا فوراً! ولحظة أن وصل الأمر لرئيس مؤسسة السينما اتصل هاتفيا بوزير الثقافة السوري .. وظل يلح عليه بضرورة التمسك ببقائي .. علي أن أتعهد بتقديم أفكار سينمائية أخري تتواءم مع طبيعة الحياة في سوريا .. وبالفعل ظللت مقيما هناك لكني كنت أتعرض دوما للرفض المطلق كلما تقدمت بإحدي أفكاري السينمائية! وللخروج من النفق المظلم الذي اوقعتني فيه أفكاري السينمائية التحررية .. فكرت في عمل يجسد جليا حقيقة القضية الفلسطينية وسارعت بالفعل بتقديم فكرة فيلم سينمائي يحمل اسم «عرس فلسطيني» وقوبل هذا العمل بالرفض مبررين هذا الرفض بأن تكاليفه الإنتاجية ضخمة جدا .. صحيح أن هذا العمل كان سيصبح مكلفا جدا .. حيث كان يتضمن مشهدا يستغرق عرضه علي الشاشة أكثر من ثماني دقائق.. وهو مشهد يجرف كل مخيمات اللاجئين .. لكن صدقني لو تم تنفيذ هذا العمل وقتها لساهم كثيرا في تفهم العالم كله حقيقة القضية الفلسطينية.

·         قلت لتوفيق صالح وأنا مشفق عليه من الصعوبات التي تعرض لها طيلة حياته ليتك تحدثني عن ظروف إخراجك لفيلم «المخدوعون» في سوريا!

- رمقني بعينيه للحظات قبل أن يقول: حالة الرفض المتكرر من قبل القائمين علي مؤسسة السينما في سوريا .. كانت قد أصابتني بـ«الزهق».

ولم يكن أمامي وقتها لعلي اتخلص من هذه الحالة الكئيبة .. سوي السير وحدي في شوارع سوريا كنت أتجول في عاصمتها وأنا أترقب ناسها ومعالمها ومبانيها .. وفي أحد الأيام وأثناء سيري بين مقاهيها استوقفتني ثورة الناس التي كانت تجلس علي المقاهي! ولم تكن هذه الثورة سوي لتبادل إطلاق النار بين الفلسطينيين والأردنيين والتي سميت فيما بعد بمذبحة أيلول الأسود.

ثم يمتعض وجهه وهو يقول: أنت لا تعلم مدي الحزن الذي انتابني وقتها لهذا الحدث .. خاصة عندما تلقيت خبر وفاة عبد الناصر .. أصبحت طريح الفراش، أصبت وقتها بحالة «فوبيا» خوفا علي مصير بلدي بل مصير الوطن العربي كله .. لكل هذه الأشياء لم أفكر في شيء عقب أن التقطت أنفاسي ونهضت من فراشي سوي في عمل فيلم «المخدوعون»! علما بأن هذا الفيلم كان في حقيقة الأمر رواية للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني.

والمؤسف أنني فوجئت وقتها عقب أن فرغت من تصويره بقرار من قبل وزير الثقافة السوري بمنع عرضه مبرراً هذا بأن الفيلم دون المستوي!

و أثناء الدهشة التي تملكتني تجاه قرار الوزير التقيت مع الصديق التونسي «طاهر شريعة» وهو بالمناسبة  مؤسس مهرجان قرطاچ - وأقنعني - عقب أن علم بما تعرض له المخدوعون بضرورة عرض الفيلم في مهرجان «كان» ونجحت بالفعل في فك أسر المخدوعون من سوريا عقب حملة صحفية تجاه وزير الثقافة ولاقي العمل نجاحا كبيرا في مهرجان كان.

ثم يضحك ضحكة ممزوجة بالمرارة وهو يقول: لدرجة أن الجميع في فرنسا أشادوا بسوريا علي جرأتها في تناول هذا العمل! وقد لا تعلم أن هذا العمل عرض فيما بعد في مهرجان قرطاچ بتونس وحصل علي الجائزة الذهبية عام 72 مثلما حصل علي جائزة حقوق الإنسان من مهرجان «ستراسبورج».

·         قلت لتوفيق صالح والدهشة - مرتسمة علي وجهي - أعتقد أن قوة تحملك هذه المعاناة طوال سنوات عملك في السينما تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنك تضع السينما في مخيلتك منذ  أن كنت طفلا!

- ارتسمت علي وجهه ابتسامة لها معني وهو يقول أبدا .. أنا أمنيتي كانت في دراسة الفلسفة في إحدي جامعات فرنسا لدرجة أنني عقب حصولي علي شهادة التوجيهية من مدرسة فيكتوريا بالإسكندرية .. كنت أضع في مخيلتي ضرورة السفر لباريس والالتحاق بالسوربون لدراسة الفلسفة .. والمدهش أنني سافرت بالفعل إلي هناك لدراسة ما أتمناه وأضعه في مخيلتي منذ الصغر.

·         بادرته متسائلاً وأنا أترقب تعبيرات وجهه الباسم: إذن ما الذي دفعك إلي تغيير مجري حياتك 180 درجة!!

- أجابني بصوت خفيض كأنه يحدث نفسه: ما أصابني لم يكن أبدا يخطئني .. وما أخطأني كان من المستحيل أن يصيبني!

جريدة القاهرة في

08.06.2004

 
 

صافي ناز كاظم تكتب عن صديقها القديم

توفيق صالح

... رجل في الشمس

تعرفت عليه عن طريق صلاح جاهين عام 56، ولم أشاهد أياً من أفلامه إلا بعد 22 فبراير 99 عقب حصوله علي جائزة الدولة التقديرية

رغم صداقة قديمة تربطني بالفنان توفيق صالح، ترجع ربما لعام 1956 أو عام 1957 عن طريق صديق غالٍ مشترك هو صلاح جاهين، إلا أنني لم أكن قد شاهدت أيا من أعماله حتي زيارتي له يوم الاثنين 22 / 2 / 1999 لتهنئته بجائزة الدولة التقديرية في الفنون لعام 1998. وقد يبدو هذا الأمر غريبا إلي درجة الاستنكار، لكن الظروف التي تحكمت في مسار حياة توفيق صالح ومسار حياتي تبرر بقوة هذا النقص غير اللائق في التواصل. فاتتني مشاهدة فيلمه الأول «درب المهابيل»، الذي أخرجه عام 1955 ـ في عرضه الأول لأنني وقتها لم أكن أذهب لمشاهدة أي فيلم عربي، حيث كنت مكتفية بما تعرضه سينما الأندلس الصيفية المقامة أمام عمارتنا بشارع العباسية، وكنا نشاهد كل أفلامها العربية مجانا من كل شرفات ونوافذ شقتنا المطلة علي شاشاتها بوضع لوج ممتاز ـ وفاتني أن أشاهد «صراع الأبطال»، الذي أخرجه عام 1961 و«المتمردون» عام 1966 لأنني كنت في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة متصلة من عام 1960 حتي عام 1966ـ ولا أعرف سببا واضحا في ذاكرتي منعني من مشاهدة فيلمه «زقاق السيد البلطي»، عام 1967، و«مذكرات نائب في الأرياف» عام 1968 ـ أما فيلمه «المخدوعون» الذي أنتجته سوريا عام 1971 عن رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، وحصد لها العديد من الجوائز في مهرجانات السينما العالمية، فقد ظللت ألح علي توفيق صالح أن يمكنني من مشاهدته وهو يسوف طيلة معاصرتي له فترة وجودنا سويا في العراق بين 1975 ـ 1980، وبالطبع لم أشاهد الإنتاج العراقي لفيلمه «الأيام الطويلة»، الذي يعد اخر أفلامه حتي الآن. والحمد لله أصبح عندي الآن فيديو يمكنني من مشاهدة المتاح مما أريد مشاهدته، وهكذا، بعد أن أعارني توفيق صالح نسخا من أشرطة أفلامه المنقولة عن برنامج «ذاكرة السينما»، لسلمي الشماع، جلست أسبوعا أشاهد كل ليلة فيلما في مهرجان خاص أقمته لنفسي لمشاهدة كل أعمال توفيق صالح دفعة واحدة.

وذكرني هذا المهرجان الخاص بما كان يحدث أيام دراستي في جامعة نيويورك حين كانت تقام بحي الجامعة، في سينما متخصصة لعرض روائع وعلامات الفن السينمائي ـ مهرجانات شاهدت فيها «مهرجان شارلي شابلن»، كل أفلامه، مهرجان «جريتا جاربو» كل أفلامها، مهرجان «انجمار برجمان» كل أفلامه حتي حينه «مهرجان أنتونيوني». «مهرجان فلليني»، «مهرجان كازان»، «مهرجان أفلام الفن الرائدة» مثل «السماء فوقنا والأرض تحتنا»، و«دكتور كاليجاري».. إلخ.

أهمية تلك المهرجانات أنها تكدس في الإحساس الوعي المكتمل بالفنان وهمومه المستوطنة وقضاياه المتسلطة أو «متسلطاته»، إذا أردنا اختصار المصطلح ـ فماذا تكدس لدي عند مشاهدتي مهرجاني الخاص  لأفلام الفنان المبدع الأمين توفيق صالح؟

داهمتني في البداية حالة من الدهشة الحزينة أمام كل هذه الهموم المستعادة. كيف تأتي أن ما كان «بائدا» بقيمة «السلبية»، و«المرفوضة» و«المحتج عليها»، و«المطالب بإدانتها»، والعمل علي التصدي لها حتي لا تعود، أصبح «حاضرا» من جديد، بوقع حثيث ثقيل يريد أن يستحكم ويسجل هو إدانته لمن أدانه وقاومه؟

في «درب المهابيل» ـ 1955 ـ حدوتة بسطاء يواجهون شظف العيش، وقصة حب شريفة يعوقها الفقر عن الاكتمال بالزواج، وحق يتم انتزاعه من صاحبه بنوازع الطمع الشرسة الكامنة في الطبيعة البدائية، ويعيد «صراع الأبطال»، 1961 ـ طرح أزمة الفقر كوباء، متخذا عام 1948 والعهد الملكي المستباح ساترا تدور في  زمنه مشاكل الوطن المزمنة، طارحا الخلاص في بؤرة الوعي غير المزيف لجذور الأوبئة والأمراض والمعاناة. ويبدو البطل في «يوميات نائب في الأرياف»، ساخرا سخرية الذي سبق له الحلم والتفاؤل بمستقبل أفضل ثم ضعضعته شبكة الفساد، فأحني رأسه واحتضن مثاليته متسائلا بغصص المرارة: ما هو العدل؟ ما هو القانون؟ نص أم روح؟ وهل للقانون بنصه أو روحه قوة تحقق العدالة وزمامه بيد الظالمين؟ تساؤلات توفيق الحكيم مسجلة عام 1935، وتوفيق صالح مسجلة عام 1968، ولاتزال التساؤلات تؤرقنا. ومع «المخدوعون» ـ عام 1971 ـ تصبح الرؤية أكبر من مأساة «رجال في الشمس»، إنها حقا الخداع والخديعة والخادعون والمخدوع بإرادته يمشي متحركا في سراب الصحراء حتي الاحتراق مجازفا لعله يجد البديل عن مذلة السكون وقلة الحيلة والجوع والأرض المسلوبة والتساؤل العريض أيهما أفضل، اختيار الموت أم حياة بعد اجتثاث الرجولة؟ بل هو التساؤل: أيهما يكون الموت حقا؟

تعتمد سينما توفيق صالح علي قدر كبير من الصمت الذي ليس هو الخرس، بل خلق التواصل النفسي المشحون بين المشهد والمتفرج، حين تكون اللفتة ونظرة العين وكدر الوجه أو بسمة الشفاه هي المعبر الأبلغ أمام لا جدوي الكلمات. يختار وجه برلنتي عبدالحميد في «درب المهابيل»، و«راوية عاشور»، في «يوميات نائب في الأرياف»، ومساحات الصحراء الشاسعة وأفق الشمس البيضاء اللاهبة وجذوع النخل وهاماتها العالية قمما نحو السحاب في «المخدوعون» وجموع الفلاحين الواقعة تحت الحصار في «صراع الأبطال»، حركة وتخبطات الفزع لقطيع يهيم بلا قيادة ينشد الفرار من دون أن يدري كيف وإلي أين. قليلون الذين يحترمون الصمت ويفهمونه ويدركون طيات تربته وثراءها، أما النادر فهذا الذي يعرف إدارته ويجيد طرحه ويدرك ضرورته الموظفة لإنطاق الفن السينمائي لغته الفريدة، وهذا القليل وهذا النادر هو لب أسلوب الإخراج عند توفيق صالح.

تأخرت عليك كثيرا يا توفيق جائزة الدولة التقديرية، كما تأخرت أنا في مشاهدة أفلامك، لكن لا بأس، لا عزاء للفنانين إلا بالفن، شكرا لك، وسلامتك!

جريدة القاهرة في

08.06.2004

 
 

مقال نادر ساخر يروي فيه تجربته مع توفيق صالح في إنتاج وكتابة الفيلم الجميل «درب المهابيل»

عبد الحميد جودة السحار يكتب:

مخرج يعتنق المذهب الحنبلي

* درب المهابيل أقسي تجربة سينمائية عشتها .. وخسرنا بسببها 11 ألف جنيه .. وحصل مخرجها علي جائزة الإخراج

* أثبت توفيق صالح أنه مخرج عبقري .. ولكن أقسمت بسببه ألا أعود إلي السينما مرة أخري

كنا نجتمع صباح يوم الجمعة في كازينو أوبرا وقد وفد علينا كثير من الفنانين والكتاب وكان ممن يترددون علينا توفيق صالح، كان عائدا من باريس وكان يبدو هادئا وبدا من أحاديثه أنه مثقف يتذوق الأدب.

وعلمت أن توفيق صالح يشترك مع نجيب محفوظ في كتابة سيناريو «درب المهابيل» وعجبت من أن توفيق لم يفكر في قصة من قصص نجيب المنشورة، وما دار بخلدي في ذلك الوقت أنه سيكون لي علاقة بهذا الموضوع.

وفي ذات يوم فاتحني أحد الأصدقاء في أن أحاول أن أفعل في السينما ما فعلته في الكتابة، فقال لي إنك ساعدت علي نشر كتب كثير من الكتاب الذين أصبحوا معروفين في عالم الأدب فلماذا لا تحاول نفس التجربة مع السينمائيين المثقفين؟

ورفضت الفكرة من أساسها فشتان بين نشر قصة وإنتاج فيلم وعاد الصديق يزين لي الموضوع ويؤكد لي أن توفيق صالح عبقرية ينبغي إتاحة الفرصة لها ورفضت ولكن صديقي محمد محمد فرج اشترك في الحديث وعرض استعداده للمشاركة وحمل تبعات الموضوع علي أكتافه العريضة.

قلنا إن الخبرة السينمائية تنقصنا ، فقيل لنا إنه سيشترك معكم بماله أحد العاملين بالحقل السينمائي وحدد لنا ميعادا لمقابلة الشريك الجديد وذهبنا إلي كازينو أوبرا وقابلنا الرجل.

كان يشد أنفاسا من مبسم الشيشة وقد ارتدي ثيابا نظيفة وبيد أن هيئته ما كانت توحي بأنه يملك مالا، وقيل لي إن كل أغنياء الحرب مثله إنه سيدفع لكم نصيبه قبل أن يبدأ العمل.

وتحدث الرجل في ثقة الخبير قال إن ثلاثة آلاف جنيه كافية لإنجاز المشروع ولم أصدق، ولكن ما أكثر الذين تبرعوا لاثبات صدق الأرقام التي قدمها الخبير.

وذهبت لمقابلة الشريك العزيز ولما قابلته راح يحدثني عن عظمة روايتي «همزات الشياطين» وأنه يفكر جديا في إنتاجها للسينما، ولما سألته عن نصيبه في رأس المال قال لي إنه أرسل إلي البلد ليبيعوا العجول وسيصل إليه المبلغ غدا، وتواعد مع صديقي محمد محمد فرج علي أن يذهبا معا لاستديو الأهرام للتعاقد علي إيجار البلاتوه.

وذهبا ووقعا العقد وبعد أن عاد صديقي سألته هل دفع الشريك شيئا؟ قال لا إني دفعت خمسمائة جنيه وسيدفع الشريك نصيبه عندما تصل إليه اثمان العجول من البلد.

ووقعنا في المصيدة ورحنا نبحث عن أناس طيبين من أصدقائنا ليشاركونا في المشروع ، وعثرنا علي صديقين حددا نصيبهما بألف جنيه لا يزيدانه مليما مهما كانت الظروف.

كنا قد اتفقنا علي إنتاج «درب المهابيل» وكنت أعلم أن توفيق قد كلف بعض أصدقائه من الأدباء بكتابة الحوار.

وقال صديقي فرج: لن أوافق علي أن يكتب الحوار أحد غيرك، وكلم توفيق وقال له إني سأكتب الحوار فلم يعترض توفيق بل رحب بالفكرة.

بدء عمل المهابيل

عرف نجيب أننا اشترينا قصة وسيناريو «درب المهابيل» فراح يقص علي قصة قريبه الذي دخل هذا الميدان وخرج منه مفلسا محطما، وأسدي إلي النصح أن نبعد عن هذا العمل الذي لا طاقة لنا به، وما كنت في حاجة إلي نصيحة كنت علي يقين من أننا وقعنا وانتهي الأمر.

كان توفيق صالح دمث الأخلاق حلو الحديث، ولكن ما إن بدأت في كتابة الحوار حتي وجدت الأمر يختلف تماما، تغيرت الصورة التي في ذهني عن العبقري الذي قبلنا المشروع من أجله، كان يشطب الحوار بقلمه الأحمر دون أن يناقشني فيه .. لم أكن أعلم سبب اعتراضه ولم يكن يحدثني عما يريد.

وكنت أعيد الكتابة وكان توفيق الحاكم التركي الذي يلهب ظهري بالسياط ولا ينطق حرفا، لقد عذبني توفيق بما لم أعذب به طوال حياتي وأحسست بصدري يضيق وذهبت إلي صديقي وشريكي في الفيلم محمد فرج أرجوه أن يعفيني من هذا العذاب، وأقسم إنني كنت أحس أيامها بآلام أشبه بآلام الذبحة الصدرية.

ولم يدفع الشريك الموعود شيئا، كل ما تمخضت عنه محاولاتنا معه أنه وعد أن يشترك معنا بخبرته.

الاستعداد للمهابيل

وأصر توفيق علي أن تبني حارة كاملة وكان إصراره شديدا لا يقل  في ضراوته عن شطب كل نكتة في الحوار، ولم يقتنع أبدا بأن الحارة المصرية لا تكون حارة مصرية إذا لم يسدها خفة الظل، وراح يشكوني لأصدقائنا بأني أحاول أن انكت في الحوار كأنما قد خدشت كرامة صلاة جنائزية.

وبنيت الحارة في فناء ستوديو الأهرام وجاء يوم التصوير ولم يكن للفيلم مدير إنتاج وطلب توفيق 24 بسكليت وأصر علي أن تظل في دكان العجلاتي سواء أكان التصوير في الدكان أم بعيدا عنها، وقلنا له: ألا يجوز أن تكون بعض العجلات قد أجرت؟ ورفض هذا العرض وأجرنا 24 بسكليت طوال أيام التصوير وأمرنا لله.

ومر اليوم الأول وعشرات الممثلين في الانتظار ولم يتم تصوير لقطة واحدة.

وكان بطل الفيلم «قفة» ترافقه معزة وقد أجرنا المعزة واستمر التصوير ستة أشهر، وحملت المعزة واضطررنا أن نستعين بـ«دوبلير» للمعزة في المشاهد الأخيرة، ولن أقص تفاصيل ما جري أثناء تصوير هذا الفيلم حتي لا أعيد إلي ذاكرتي مشاهد يقشعر منها بدني.

كان أمر التصوير يحدد موعد بدء التصوير في أغلب الأيام بمنتصف الليل، وكان العمل يجري دون نظام واضطررنا إلي أن نبحث عن شركاء جدد يلقون بأموالهم في البالوعة التي فتحت وأبت أن تسد.

11 ألف جنيه

كنا قد عزمنا أن ننهي الفيلم دون أن نلجأ إلي أموال الموزعين، وانفقنا أحد عشر ألف جنيه ولكن نظرا لطول مدة التصوير فقد نفد المبلغ وبقيت بعض المشاهد دون تصوير واضطررنا إلي أن نلجأ لشركة الشرق للتوزيع.

كان من المقدر أن ألفين من الجنيهات تنهي الفيلم ولكن دخول شركة الشرق في الموضوع جعل العاملين في الفيلم يطلبون رفع أجورهم لأن إخراج الفيلم استغرق وقتا أطول من أي فيلم آخر، وسافر أحد ممثلي الفيلم الرئيسيين إلي الإسكندرية ورفض العودة قبل أن يسلم له المبلغ الذي طلبه.

ورضخنا لكل الطلبات ودفعت شركة الشرق سبعة آلاف من الجنيهات وتسلمت الفيلم ، وأحب أن أقرر أن الفيلم لم يغط هذه الآلاف السبعة حتي الآن حسب الحسابات التي قدمتها لنا شركة الشرق وخسرنا أحد عشر ألفا من الجنيهات.

وانتهي الفيلم ولا أدري حتي الآن كيف انتهي، فقد اختلف المخرج مع المونتير وترك العمل، وجاهد الصديق محمد فرج حتي أصبح الفيلم حقيقة واقعة وعرض في سينما ريفولي، وانهال النقد ولم يذكر ناقد واحد الفيلم بكلمة طيبة، وكتب صديقنا يوسف السباعي مقالا يقطر سخرية قال «المهابيل وراء الكاميرا».

وعشنا في مأساة كلما تذكرت السينما أفزع وكلما وقعت عيناي علي توفيق صالح ارتجف رعبا، كان يخيل إلي أنه سيلهب روحي بسياطه التي لا تعرف الرحمة علي أن هذا الشعور الشخصي نحو تجربة «درب المهابيل» لا يمنعني من أن أقول إن توفيق صالح قد أثبت بعد ذلك أنه مخرج من الدرجة الأولي، فهو من ألمع المخرجين عندنا وأكثرهم كفاءة وإن كان في عمله «حنبليا» متعبا إلي أقصي حد .

جائزة «للمهابيل»

كان صديقي محمد فرج مؤمنا بالفيلم ومؤمنا بمخرجه حتي إنه قال لو قدر لي أن أخرج فيلما آخر لأسندت إخراجه إلي توفيق صالح، ولكن الجماهير أعرضت عن الفيلم وضاعت أموالنا، وأقسمت ألا أعمل بعدها في السينما أبدا  كانت تجربة «درب المهابيل » أقسي تجربة عرفتها.

وتقدم توفيق صالح بالفيلم لنيل جائزة الإخراج، وحدث أن نال الجائزة الثانية وقبض خمسمائة جنيه في الوقت الذي كانت الصحف تطاردنا لتحصيل ثمن الإعلانات التي رفض الموزع أن يدفعها.

وحدث أن ديكورات الفيلم استمرت في فناء الاستديو ستة أشهر، وطالبنا الاستديو بدفع ستة آلاف جنيه ثمن إيجار الأرض وهددنا برفع قضية، ولما كان بعض شركائنا من التجار الذين يخشون علي سمعتهم فقد دفعنا للاستديو المبلغ، وقد كرهت أصحاب الاستديو ومديره كراهية شديدة فقد كان المدير متعنتا متعجرفا، وأقول الحق لقد كنت أكثر فرحا يوم أمم استديو الأهرام فإن ما سرق منا عاد إلي الدولة.

جريدة القاهرة في

08.06.2004

 
 

حكايات عصفور السينما

من الوداعة إلي الرعب: كيف نصالح توفيق صالح؟

عمرو خفاجي

* من هو توفيق صالح؟

 ـ هذا السؤال البسيط في الصياغة، القاسي في المعني والدلالة... هو للأسف الشديد، في حد ذاته الإجابة الجاهزة والمتكررة عند الكثير من محبي فن السينما... كلما ذكر اسم هذا الرجل في جملة مفيدة... وهنا يجب الاعتذار للرجل «توفيق صالح»، وللكثير من محبي فن السينما.. لأن أحدا لم يعمل ما يجب عمله حتي يعرفوا من هو توفيق صالح!

* نعود مرة أخري للسؤال: من هو توفيق صالح؟

 ـ حينما نحاول صياغة إجابة دقيقة، لا تحمل بين طياتها أية ملامح للحنان، كرد فعل عكسي لقسوة وجبروت السؤال نقول إنه ـ في حد ذاته ـ مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ السينما العربية رغم قلة عدد أفلامه الروائية، «سبعة أفلام» وكذلك التسجيلية والقصيرة «سبعة أفلام» خلال ربع قرن من الزمان.. وهو أيضا في حد ذاته مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ تعليم وتدريس فن السينما... مرحلة بدأت منذ الكثير من السنوات، ومازالت ممتدة حتي الآن.

* وعلي ما يبدو أن الأسئلة بسيطة الصياغة، قاسية الدلالة هي قدر هذا الفنان السينمائي الكبير.. فعندما تجاسر المركز الثقافي السوفيتي منذ ما يقرب من عشرين عاما «أواسط ثمانينيات القرن الماضي»، وقام بعرض معظم أفلام توفيق صالح خلال أسبوع من الصعب أن يغادر الذاكرة لروعته وجماله... وللاكتشاف السينمائي المذهل بالنسبة لجيل لم يكن قد شاهد توفيق صالح وأفلامه... وكان يحمل بداخله ذات السؤال القاسي «من هو توفيق صالح» في هذا الأسبوع شاهدنا الجرأة الفنية في «زقاق السيد البلطي»، والتحريض السياسي الجريء في «صراع الأبطال»، و«المتمردون» والمواجهة التاريخية المصيرية في «المخدوعون»، وحرفنته الإخراج والقدرة علي ابتكار صورة مغايرة في الفيلم القصير المذهل الجمال «القلة».. رغم كل ذلك، وبعد أسبوع من التصفيق الحار لروعة هذه الأفلام.. كان السؤال البسيط في الصياغة، القاسي في المعني والدلالة: سؤالا ـ وقتها كان أهم من الأفلام ـ سؤالا يقول بلغة آمرة: متي يعود توفيق صالح للسينما؟!

كان طرح مثل هذا السؤال، يكفي لطرد كل الوداعة التي تحتل ـ دائما ـ وجه هذا الفنان الذي يشبه العصفور في حركاته الرقيقة الدقيقة ليكتسي وجهه بالرعب... ويطير مثل العصفور الخائف بعيدا عن الإجابة.. أو عن أي أسئلة مشابهة قد تهاجمه... ليغرد علي أي غصن يختاره.. الألحان التي يطمئن لتغريدها.. حتي لو لم يكن هذا الغصن هو حلمه.

* متي يعود توفيق صالح للسينما؟ كان هو سؤال العودة الذي لم تطرحه عليه مصر.. إلا بعد سنوات من عودته.. ولم تطرحه إلا مع أسبوع أفلامه في المركز الثقافي السوفيتي.. أما هذا العصفور المغرد. فلم يجب إلا منذ سنوات قليلة عندما كرمه المهرجان القومي للأفلام الروائية وقال صراحة إنه يخاف من الأحلام، وحينما يشعر بأي شيء مختلف يلوح له.. يجهض هذا الشعور علي الفور.. وبسرعة شديدة...يدرك هو مغزاها.... ويومها يوم التكريم قال إنه فكر فعلا في لحظة من اللحظات أن يعمل سواق تاكسي.. لأنه بعد خمس سنوات من عودته لم يتصل به أحد.. ولم «تدعه» وزارة الثقافة لأي نشاط من أنشطتها السينمائية... حتي هؤلاء الذين ارتبط بهم فترة طويلة قبل مغادرته مصر... تجاهلوه تماما... والمدهش أن هذه اللحظة من اللحظات التي فكر فيها في العمل كسائق تاكسي... كانت نفس اللحظة التي داهمه فيها السؤال: متي تعود للسينما يا أستاذ توفيق؟!

نعود للأسئلة... هل كان توفيق صالح لا يرغب فعلا في الوقوف خلف الكاميرا من جديد؟... هل كان يحاول إجهاض مشروع أي فيلم يرغب في صنعه كما اعترف مؤخرا؟ أنا شخصيا لدي إجابة عن هذا السؤال..

والإجابة هذه المرة بسيطة وواضحة، ولا لبس فيها: لا لأنه باختصار شديد كان يملك رغبات عامة في فن السينما كان بداخله الفيلم الحلم.. وهوكما يقول: أحلم بأن أصنع فيلما يحتوي علي صورة مختلفة بمكان ذي طبيعة متسعة، وكان أيضا يمتلك رغبات سينمائية دقيقة مثل رواية صديقه الروائي الكبير نجيب محفوظ «يوم قتل الزعيم»، وكان قد اشتري حقوقها... وشرع بالفعل في كتابة السيناريو لها.. كعادته في غالبية أفلامه.. وكالعادة.. لا يعرف أحد لماذا توقف هذا المشروع وكانت هناك أيضا رغبة سينمائية عارمة لدي توفيق صالح لإنجاز فيلم عن «عصر المسيح»، وكان يوسف شاهين يرغب في إنتاج هذا الفيلم.. وهنا أيضا لا أملك إجابة عن تعثر هذا المشروع.

* هذا السؤال متي تعود للسينما يا أستاذ توفيق؟

ـ طارد عصفورنا المدهش كثيرا... وأحيانا شعرت أن هذا السؤال مثل طلقة البارود.. التي يكفي صوتها لطيران العصافير بعيدا... فذات مرة وأثناء دورة من دورات مهرجان قرطاج السينمائي... وهو المهرجان الذي منح جائزته الكبري «الطانيت الذهبي»، لتوفيق صالح عن فيلمه «المخدوعون»، أما الدولة التي تنظمه «تونس»، فقد منحته الوسام الثقافي وهو أكبر أوسمتها الفنية... كان توفيق صالح يعيش في تلك الدورة بمدينة تونس.. بروح ومشاغبة الأطفال... وبالقدرة علي الطيران مثل العصافير.. فمن الواضح أنه كان علي موعد مع السعادة دائما في تلك المدينة.. إلا تلك الليلة التي دعتنا فيها الإعلامية التونسية الكبيرة كلثوم السعفي علي العشاء في بيتها... احتفالا بتوفيق صالح، وبالسينمائي التونسي الكبير الطاهر الشريعة... ليلتها.. تحدث الشريعة بشجن خافت عن جبريل ديوب مخرج بوركينا فاسو الكبير.. والذي كان يعتبره الشريعة أحد أعمدة السينما الإفريقية لكن قدرة هذا السينمائي التونسي علي المرح كانت كبيرة... خاصة أن صاحبة الدعوة غيرت دفة الحوار عن أشجان جبريل ديوب... ووسط المرح والصخب سأل أحد الحاضرين بكل براءة متي تعود للسينما يا أستاذ توفيق؟ هنا لم أسمع السؤال.. بل سمعت صوت طلقة البارود... وبالفعل طار العصفور توفيق صالح من السهرة... طار المرح.. ورحلت  شقاوة الأطفال واختفت سعادة تونس... وبقي  لدينا توفيق صالح آخر... لم نعتد عليه منذ وصولنا إلي تونس وقتها «1996» واضطررنا جميعا للعودة... إلي الحزن علي جبريل ديوب.

* نعود للأسئلة.. الأسئلة التي كانت قدر هذا المخرج الكبير... أسئلة عرف كيف يجيب عن معظمها... فهو عرف لماذا سافر إلي فرنسا لدراسة السينما... هو عرف لماذا عاد.. وكان يعرف أيضا لماذا رفض أن يعمل مساعد مخرج في مصر.. كان يعرف لماذا تتبدل نهاية أفلامه.. كان يعرف لماذا يتصالح مع نظام عبدالناصر.. رغم قسوة هذا النظام عليه.. وعرف جيدا لماذا غادر مصر في السبعينيات والفرار من نظام السادات، توفيق صالح يعرف جيدا.. لماذا سافر إلي سوريا... ولماذا رحل منها.. ويعرف أيضا لماذا سافر إلي بغداد.. وهو يمتلك أيضا إجابة دقيقة وحقيقية عن تقديمه لفيلم «الأيام الطويلة»، لكنه لم يعرف أبدا لماذا لم يعد إلي السينما؟ ولم يعرف أيضا لماذا عاملته مصر بهذا الجفاء.. رغم تكريمها له مؤخرا.

* لماذا لم يعد توفيق صالح إلي السينما؟ هذا السؤال، أو طلقة البارود تلك التي سمعتها في السهرة التونسية التي غادرنا فيها العصفور... عثرت علي جزء من الإجابة عنه داخل إحدي قاعات العرض بمعهد السينما في مصر منذ ثلاث سنوات تقريبا... كان يشاهد مشروعات تخرج تلامذته... وبعد نهاية العرض جلس علي سلم المعهد مرحا يمتلئ وجهه بالوداعة، طاردا لأي رعب يشاكس في تلامذته.. فرحا بهم.. ينظر إلي أعلي وكأنه يحلق في سماء المعهد سعيدا.. ويعود إلي ذات الغصن.. يتحدث مع تلامذته وكأنه يناقش كبار المخرجين.. ثم يعود ويحلق وهكذا عرفت أن هذا المعهد.. هو عش ذلك العصفور الذي يختفي فيه من السؤال المرعب.. متي تعود يا أستاذ توفيق للسينما؟

* نعود للأسئلة.. لأن قدر هذا المخرج الكبير هو قدر الأسئلة الصعبة.. والسؤال هذه المرة: لماذا لا يعرض التليفزيون المصري أفلام توفيق صالح؟ لماذا لا تهتم أنشطة وزارة الثقافة بسينما توفيق صالح؟ أليس من حق أجيال جديدة أن تشاهد أفلام هذا الرجل ـ الذي هو في حد ذاته مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ السينما المصرية والعربية.. لماذا لا تهتم وسائل الإعلام بهذا المخرج وبأفلام هذا المخرج.. أم أنه من «المخدوعون»؟

الإجابة عن الأسئلة الأخيرة ستريحنا من تلك الإجابة السخيفة... التي تتمثل في ذلك السؤال البسيط في الصياغة، القاسي في المعني والدلالة:

* من هو توفيق صالح؟

ـ وعرض أفلام توفيق صالح في التليفزيون المصري.. هو بداية في الإجابة عن ذلك السؤال الذي يشبه طلقة البارود.

* متي يعود توفيق صالح للسينما؟

جريدة القاهرة في

08.06.2004

 
 

د. رفيق الصبان يكتب عن صاحب «المخدوعون»:

سر عبقرية مخرج الأفلام الستة

أين يكمن السر.. في بقاء اسم توفيق صالح حتي اليوم في قائمة كبار المخرجين المصريين، رغم توقفه عن الإخراج منذ فترة تفوق الثلاثين عاما.. ورغم قلة عدد الأفلام التي أخرجها؟!

سؤال يراود كل من ينظر إلي مسيرة هذا المخرج الكبير الذي استطاع أن يحتفظ برنين اسمه وألق تواجده السينمائي.. رغم هذه العزلة الفنية التي اختارها لنفسه.. ورغم محاولة ابتعاده عن الأضواء الباهرة التي تصر حتي اليوم علي الإحاطة به.. وعلي وضعه في المكان البارز من السينما المصرية الذي احتله منذ فيلمه الأول (درب المهابيل) وحتي آخر أفلامه المدهشة «المخدوعون» الذي أخرجه في سوريا.. في أوائل السبعينيات.

هذه المكانة البارزة.. والاحترام العميق الذي أحاط بـ«توفيق صالح».. مرده إلي أسباب كثيرة أولها: أهمية الأفلام التي أخرجها فنيا وفكريا.. ثانيا: أسلوبه السينمائي المتميز الذي يعد علامة فارقة بين جميع السينمائيين زملائه في هذا الدرب الطويل.. وثالثا: الثقافة الفنية والأدبية الرفيعة التي يتمتع بها هذا المخرج الذي تلقي علومه السينمائية في فرنسا.. واستطاع أن يستفيد فنيا وفكريا من كل يوم عاشه في عاصمة النور.. وأن يغترف من «نهر السينما» أعمق وأعذب موجاته.

لم أعرف مخرجا في مصر.. شملت مشاهداته السينمائية.. عيون الأفلام السينمائية الكبري من جميع البلاد، وجميع الاتجاهات كـ«توفيق صالح».. الذي لم يكف منذ أن كان طالبا في إسكندرية، وطالب العلم السينمائي في فرنسا.. عن اللحاق بأي فيلم كبير، والسعي إلي اكتشاف مفاتيح كبار المخرجين والتعرف علي أسلوبهم وطريقتهم في التعبير وزاوية النظرالتي يتأملون بها الدنيا.

وقد تجلي ذلك بوضوح عندما خرج توفيق صالح من دائرة التأمل والعلم إلي حقل التجربة والاحتراف.. في اختياراته التي كان معظمها يعتمد علي أصول أدبية عرف المخرج الحساس كيف يخرجها من دائرة الورق.. إلي دائرة الطيف والنور.. دون أن يخل بمرماها الثقافي وبعدها الفكري.

في «درب المهابيل» فيلمه الأول الذي انطلق كالشهاب.. وحمل اسم مخرجه إلي أعلي مكانة يتمناها مخرج يطرح عمله الأول علي النقاد والجماهير.

«درب المهابيل» كان قصة قصيرة كتبها نجيب محفوظ.. الذي تربطه بـ«توفيق صالح» صلة صداقة متينة وحارة.. بدأت ومازالت تربط بين الفنان الأديب فنان الكلمة وفنان الأطياف المتحركة.

في هذا الفيلم الأول ظهرت واضحة معالم أسلوب سينمائي سيزداد قوة ورسوخا مع الأفلام التالية، ووضوح هم اجتماعي كبير يثقل علي صدر السينمائي.. وعرف كيف يعبر عنه من خلال صور تتحرك وتنطلق وتثير وتصرخ.

«درب المهابيل».. كانت قصة المال والجشع والأحلام المجهضة وعالم الهامشيين والفقراء.

ورغم تعدد شخصيات القصة والفيلم استطاع توفيق صالح أن يمسكها بعقد متين متلألئ، وجعلنا نعايشها ونعايش أحلامها وأحزانها وطموحاتها الصغيرة.. وبقعة السواد الصغيرة الكامنة في قلب كل منا والتي تمتد أحيانا كرقعة الزيت لتلقي بظلها علي القلب كله.

وطاقة الأمل الصغيرة.. التي تحاول جاهدة أن تقف في وجه الزحف الأسود الهجمي.. ولعل النهاية العبقرية التي اختارها توفيق صالح لهذا الفيلم الأول.. كانت كافية لأن تجعل من المخرج الذي يقدم أول أفلامه.. واحدا من أكبر الآمال التي كانت تسعي نحوها السينما المصرية ذلك الحين.

الهم الذي حاول توفيق صالح أن يمسك به في «درب المهابيل» امتد عملاقا متسارعا ليعبر عن نفسه من خلال خلفية سياسية أضافت إلي الخلفية الاجتماعية بعدها الحقيقي في «صراع الأبطال» الذي اشترك في كتابة قصته ثلاثة سينمائيين مخضرمين هم: عبدالحي أديب وعز الدين ذو الفقار ومحمد أبو يوسف.. ولكن رغم قوة هذه الأسماء الثلاثة ورصيدها السينمائي السابق.. استطاع المخرج الشاب الذي يقدم فيلمه الثاني أن يجعل من «صراع الأبطال» فيلمه هو وأن يرتبط اسم الفيلم باسمه.. بصورة مطلقة لا جدال حولها.

وارتسم ظل الخلفية السياسية التي كانت ولاتزال تؤرق خيال وضمير مخرجنا الكبير في «المتمردون» قصة صلاح حافظ.. التي اصطدم فيها توفيق صالح لأول مرة.. بأجهزة الرقابة التي لم يعد يخفي عليها القيم والمبادئ التي يدافع عنها المخرج الثائر.. والتي لم تكن تتناسب بحدة نقدها، وصراخها الصادر من أعماق القلب والتي لا تتناسب كثيرا مع ما كانت الدولة والأجهزة الرسمية تنشده من السينما.. ولكن توفيق صالح رغم الأسلاك الشائكة التي بدأت تحيط بأدوات تعبيره.. استطاع أن يوافق علي بعض التنازلات البسيطة التي رأي (وهو علي حق) أنها لا تسيء إلي الرسالة التي يود أن يوصلها للناس من خلال فيلمه، وأن مستشفي المجانين الذي تدور فيه أحداث قصة صلاح حافظ.. وهو مكان مأهول لا يعجز أي مشاهد للفيلم أن يتعرف علي هويته أن يخطئ في تحديدها.

وجاءت قصة «يوميات نائب في الأرياف» قصة توفيق الحكيم المضئية.. والتي أطلق عليها أغلب مخرجي مصر صفة أنها لا تصلح للسينما.. ولكن توفيق صالح الأديب الذي اختلط سحر الكلمة عنده بسحر وقوة تأثير الصورة.. وجد أن هذه القصة التي تعتبر من أهم وأجود ما كتب الحكيم تعبير صادق.. عما يريد قوله في السينما.. وبما أن مسيرة توفيق صالح السينمائية دائما.. هي هذا التحدي المستمر الذي يطرحه توفيق صالح علي نفسه من أن أي عمل فكري مهما كانت نوعيته صالح لأن يكون مادة سينمائية، إذا عرفنا كيف نوجه إليه النظرة الصادقة والتفسير السليم.

وجاء أخيرا «السيد البلطي» الذي أخرجه توفيق صالح في العام نفسه الذي أخرج فيه رائعة الحكيم والمأخوذ عن قصة صالح مرسي.. ضربة محكمة وجهت إلي فن توفيق صالح وفكره إذ لعبت أيد كثيرة في الفيلم ومونتاجه السينمائي.. فأضاعت معالم فيه كان يعتبرها المخرج أساسية ومركزية.. كما تدخل مقص الرقيب هذه المرة بقسوة غير معتادة.

فما يمكن قبوله من مخرج آخر.. لا يمكن قبوله من توفيق صالح.. لأن اتجاهه الفكري والسياسي والإنساني.. أصبح عنوانا مميزا.. وإذا كانت بعض الرموز التي عبر عنها توفيق صالح سينمائيا في أفلامه الأولي.. قد فاتت علي نظر الرقيب.. فإن الموقع الذي احتله توفيق صالح في الضمير السينمائي المصري من خلال أربعة أفلام فقط أصبح يجيز للرقابة أن تنظر إلي أية لقطة في فيلمه وإلي أي كادر نظرة خاصة تختلف عن النظرة التي اعتادت أن تنظر فيها إلي أفلام المخرجين الآخرين.

صدمة «البلطي» كانت أكبر من أن يتحملها القلب الكبير.. الذي آثر بعدها أن يختار موقعا آخر وأرضا أخري.. ليخرج آخر أفلامه العظيمة «المخدوعون» عن قصة لـ«غسان كنفاني» الأديب الفلسطيني الشهيد الذي يروي فيه ببساطة عميقة آسرة.. حكاية عدة أفراد فلسطينيين يحلمون بالهرب من أرض بلادهم الخضراء التي تحولت إلي جحيم.. فلا يجدون في الوسيلة التي اختاروها للدخول خلسة إلي جنة أحلامهم النارية.. إلا وسيلة للموت البطيء القاتل. لم يعرف أديب كـ«غسان كنفاني» أن يعبر عن مأساة جيل النكبة كما عبر عنها في هذه القصة البسيطة التي تحولت لتكون مرثية شعرية نادرة في أدبنا الحديث.. دون صراخ لا طائل تحته ونحيب غير مستحب.. ودموع ليس هنا مقامها.. إن العذاب والشجن البديع والآهة المحروقة والدمع المحتبس.. والجسد الشاب الفتي الذي يسلق بنار الأمل والتجاهل والكراهية والنكران.

ولا أعتقد أن مخرجا في العالم العربي كله.. كان بإمكانه أن يقدم معادلا سينمائيا لهذه القصيدة الشعرية المتوحشة المليئة بالدم والنار والأمل والثورة المكبوتة.. كما فعل توفيق صالح.. حيث جعل من كل مشهد من مشاهد الفيلم.. بيتا شعريا له مقامه وله وزنه وله إيقاعه.. وله تأثيره الطاغي علي كل من يراه.

ولا أعتقد أيضا.. في مجال الأدب الذي نقل إلي السينما.. أن هناك تجربة أكثر ثراء وأكثر متعة وأكثر فهما دقيقا من هذا الفيلم الذي صنعه توفيق صالح بأوتار قلبه.. وغذاه بنظرة صافية تأملية جعلت من الصورة السينمائية آخر الأمر شهادة وتاريخا.

هذا الفيلم الذي أخرجه توفيق صالح بعيدا عن مصر.. كان رؤية مصرية صادقة لقضية حارة مازالت تحرق الضمير المصري والعربي حتي هذه اللحظة.

بعده.. اختار توفيق صالح الصمت.. ثلاثين عاما من الصمت.. الصمت الاحتجاجي الصمت الذي يتهم.. والصمت الذي يقول أكثر مما تقوله آلاف الكلمات.

الصمت الناجع.. النبيل.. الشامخ، والذي ترافقه نظرة متكبرة علي الواقع السينمائي الذي نعيشه وأزماته التي تمر بنا.

توقف توفيق صالح عن التعامل مع السينما كطيف.. ولم يكف عن التعامل معها كعشق ومدرسة وتجربة.. وراءه فيما يدور حوله.. شغفه الهائل بالسينما وتطوراتها ومتابعة أفلامها.. علاقته المستمرة والدائمة والمليئة بالثمار مع شباب السينما وعشاقها ومنظريها.. لقد خرج من حقل المعركة.. ليقف وقفة المراقب المتأمل.

لأحكامه قيمة لا تناقش.. ولآرائه دوي وثقل يجبر علي احترامها والعمل بها، ظلت السينما عالمه الأثير.. وهل يمكن أن تكون إلا كذلك هواءه الذي يتنفسه.. والعالم الممتد الذي يلقي عليه نظراته المبتكرة الواثقة والخجول في الوقت نفسه.

ظله السينمائي يزداد.. امتدادا وتأثيرا.. وأفلامه الستة تزداد كالذهب والماس ألقا وقيمة مع الزمن.. ووجوده السينمائي نفسه أصبح رمزا كبيرا في حياتنا الفنية والثقافية.. رمزا نفخر به.. ونرفعه عاليا.. لأننا إذ نرفعه فوق هاماتنا.. نكون في نفس الوقت قد رفعنا من أنفسنا ومن قيمتنا ومن احترامنا للفن السينمائي الذي نزاوله.

جريدة القاهرة في

08.06.2004

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)