كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

محمـود مرسـي‏..‏

عصفـور الجنـة والنـار

كمال رمزي

عن رحيل الاستثنائي

محمود مرسي

   
 
 
 
 
 
 

كان من المفروض أن يكون عنوان الكتاب الذي كتبه بعد لقائي مع محمود مرسي أثر تكريمه من قبل وزارة الثقافة الغابة ذلك أن محمود مرسي بغموضه ورهبته‏,‏ وبكثافته واستقلاله وطابعه الخاص‏,‏ وبسحره المتمثل في قدرته علي جذب اهتمام الآخرين‏,‏ وإثارة فضولهم‏,‏ يذكرك بالغابة‏..‏ فهو عالم كامل‏,‏ مبهم‏,‏ يمتليء بالظلال‏.‏ قد يبدو ساكنا‏,‏ هادئا من الخارج لكن ما إن تتوغل في أحراشه حتي تجد أشكالا وأنواعا وألوانا من الأشجار والكائنات‏.‏ نباتات تدفع عن نفسها الأذي بأشواك مدببة وثانية تضرب جذورها في الأرض بقوة‏,‏ وثالثة عملاقة‏,‏ تطمح قممها إلي استقبال أشعة الشمس‏,‏ ورابعة ضعيفة هزيلة‏,‏ تحاول أن يكون لها مكان صغير‏,‏ فوق أرض الغابة المزدحمة‏..‏ أما الكائنات‏,‏ فبعضها مسالم‏,‏ هاديء أليف وطيب ولطيف‏.‏ وبعضها الآخر عدواني‏,‏ وحشي الطباع‏,‏ بالغ الشراسة‏,‏ مفترس‏,‏ يثير الهلع والرعب في النفس‏..‏ ومثل الغابة يبدو محمود مرسي‏,‏ أحيانا‏,‏ كالحلم الجميل‏..‏ الناعم‏..‏ وأحيانا كالكابوس المروع‏,‏ الصاخب‏,‏ المفزع‏.‏ إنه طاقة من الحنان والمحبة والرحمة‏,‏ عندما يريد‏..‏ وقوة هوجاء‏,‏ مدمرة ستعصف بكل ما حولها‏,‏ فورا وبلا تردد‏,‏ عندما تنتابها الرغبة في البطش والعدوان‏.‏

الأهم في هذه الغابة‏,‏ صاحبها‏,‏ مالك مفاتيحها‏,‏ العارف بمداخلها ومخارجها‏,‏ المدرك لطرقها العلنية والسرية‏,‏ المتفهم لأجوائها‏,‏ المسيطر عليها تماما‏..‏ لذا فكرت أن يكون عنوان الكتاب الأستاذ فبفضل محمود مرسي‏,‏ وبسبب موهبته وثقافته ودرايته‏,‏ يمكنك أن تتوغل داخل دروب تلك الغابة المتشابكة المتشعبة‏,‏ المعقدة‏,‏ وأن تري كيف تحيا‏,‏ وتصارع‏,‏ وتموت‏..‏ ولكن محمود مرسي‏,‏ لا يشير أو يصف الغابة وهو معزول عنها‏..‏ إنه هو نفسه الغابة الحلم والكابوس‏,‏ الوداعة والشراسة‏,‏ الطيبة والشر‏,‏ وبالتالي غدا من الملائم أن يوصف بكونه عصفور الجنة‏..‏ والنار‏.‏

يتمتع محمود مرسي ببنيان قوي متين‏,‏ يذكرك في ضخامته برسوخ أشجار الغابة المعمرة‏,‏ التي تثبت ببقائها قدرتها علي الصمود والبقاء والمواجهة والاعتماد علي الذات‏.‏ القامة الطويلة‏,‏ المعتدلة‏,‏ تشي بثقة صاحبها في نفسه‏..‏ وجهه يتسم بوضوح الملامح والقسمات‏:‏ جبهة عريضة‏,‏ يعلوها شعر كثيف‏,‏ مجمد‏,‏ لا يستسلم بسهولة لأسنان المشط‏,‏ أسفل الجبهة حاجبان عريضان‏,‏ غزيران‏,‏ يعلوان عينين واسعتين‏,‏ غائرتين‏,‏ إما منتبهتان أو متأملتان‏,‏ حادتان يقظتان إشعاعهما ولونهما العسلي يجعلهما قريبتين من عيني الفهد حول كل عين دائرة داكنة تغزوها تجاعيد‏.‏ تدل علي أن صاحبها من الذين قضوا حياتهم في عناء متصل‏,‏ وانتقل من صراعات إلي صراعات‏,‏ عظام الصدغين بارزة‏,‏ مما أعطي نصف الوجه الأسفل شكل المثلث‏.‏ أنف يتسق مع ضخامة الرأس‏,‏ تفصله مسافة عن فم يتكامل مع العينين الحذرتين‏,‏ شفتان حادتان‏,‏ حاسمتان‏,‏ وأسنان صبغتها أدخنة السجائر باللون الأصفر‏,‏ إجمالا يعطي محمود مرسي إحساسا بالقوة وربما ـ علي الشاشة ـ بالخطورة‏.‏

ولكن وجه الممثل‏,‏ وما يبعثه من انطباع في نفس المتفرج‏,‏ ليس قدرا يكبل الفنان في أغلال أدوار معينة‏,‏ خاصة إذا كانت قدراته في حجم ووزن محمود مرسي‏,‏ الذي صقل موهبته الكبيرة بثقافة واسعة‏,‏ عميقة‏,‏ أتاحت له أن يجسد أدوار الوداعة بذات الدرجة من الاقتدار الذي يعبر فيه عن أقصي درجات الشراسة وأن يصل بمستوي التمثيل العربي إلي قمة من قمم الإبداع الخلاق وأن تصبح العديد من أدواره‏,‏ ليست للمتعة فحسب‏,‏ بل مجالا للتأمل والدراسة‏.‏

نيازي مصطفي‏,‏ أول من قدم محمود مرسي‏,‏ كممثل علي شاشة السينما‏..‏ والواضح أن المخرج المخضرم‏,‏ قرأ ما يمكن أن يظهره وجه محمود مرسي‏,‏ فمنحه دور سجين قوي الشكيمة‏,‏ لا يعتمد في إجرامه علي قوة البدن وحسب‏,‏ بل يراهن علي قدرته العقلية‏..‏

دور محمود مرسي‏,‏ في أول أفلامه أنا الهارب فتح له الطريق إلي كل من هنري بركات‏,‏ وكمال الشيخ‏,‏ فكل منهما التفت إلي قوة حضوره العقلي إن صح التعبير‏..‏ بركات في الباب المفتوح أسند له دور الأستاذ الجامعي المتخصص في الفلسفة‏:‏ واسع الثقافة‏,‏ جذاب الشخصية‏,‏ متحضر السلوك‏,‏ عذب الحديث‏..‏ لكن بعد أن تقترب منه بطلة الفيلم تلميذته التي تؤدي دورها فاتن حمامة وتدخل عالمه‏,‏ تكتشف أنها تتخبط في نسيج عنكبوت‏.‏

خطوة أخري‏,‏ يحققها محمود مرسي‏,‏ في مسألة السطو العقلي التي يؤديها بكفاءة لافتة للنظر‏.‏ في الليلة الأخيرة النفساني الاتجاه‏,‏ الذي أخرجه كمال الشيخ يتمكن من يتعامل مع بطلة الفيلم‏,‏ كزوجة‏,‏ بعد مصرع شقيقتها في غارة فوق مدينة الإسكندرية‏,‏ إبان الحرب العالمية الثانية‏,‏ وعقب إصابة البطلة ـ فاتن حمامة ـ بفقدان للذاكرة‏,‏ إن الرجل هنا‏,‏ بأعصاب من فولاذ‏,‏ وتفوق في القدرات العقلية‏,‏ ينجح في إقناع البطلة‏,‏ أنها شقيقتها‏,‏ زوجته‏,‏ ولكن عندما تبدأ الحقائق في التكشف يبدو محمود مرسي كذئب يداري جرحه‏,‏ متظاهرا بأنه مجرد حمل وديع‏.‏ وجدير بالذكر أن محمود مرسي يمكنه التعبير عن موقف مستتر‏,‏ من دون الإعلان المباشر عنه‏,‏ ذلك أنه يملك إمكانية هائلة للإيحاء بما يضمره ربما بلفته‏,‏ أو بنظرة‏,‏ أو بحركة صغيرة‏,‏ سريعة لكن قبل هذا كله‏,‏ أو بعد هذا كله‏,‏ ثمة رسالة يبعثها بطريقة مبهمة إلي المتفرج‏,‏ تجعل الأخير‏,‏ يدرك علي نحو ما‏,‏ ما يعتمل في أعماق الشخصية التي يؤديها محمود مرسي ولعل آية ذلك‏,‏ المشهد البديع‏,‏ الذي يقترب فيه محمود مرسي‏,‏ من فاتن حمامة‏,‏ الواقفة عند سور الشرفة‏,‏ وقد أعطته ظهرها‏..‏ هنا نحس في صمت محمود مرسي بالخطر‏,‏ وخلال لحظة قليلة‏,‏ ندرك أنه بيت أمرا إجراميا‏.‏ وما أن تلتفت له فاتن حمامة ويتبادلا نظرة واحدة حتي نوقن معها‏,‏ أنه كان يريد إلقائها من فوق سور الشرفة‏!‏

في لقاء معها‏,‏ نبهتني فنانتنا العريقة أمينة رزق‏,‏ إلي أن ثمة نوعين من الممثلين‏..‏ نوع يعاني من خمول روحي‏,‏ يؤدي دوره علي نحو فردي‏,‏ قد يكون مرضيا‏,‏ في حدود كونه ينفذ المطلوب‏,‏ ويقوم بواجبه‏..‏ ونوع آخر يتمتع بنشاط روحي‏,‏ علي درجة كبيرة من اليقظة‏,‏ يحس بالمشهد كله‏,‏ ويتفهم الشخصيات التي أمامه‏,‏ وبالتالي يتيح لهم‏,‏ بأدائه فرصة كي يعبروا عن أبعادهم علي نحو أعمق‏,‏ وأكثر اكتمالا‏..‏ ومحمود مرسي من هذا النوع إنه ممثل شداد‏,‏ بمعني أنه يشد أزر الممثل الذي أمامه يعطيه بسخاء ويأخذ منه‏,‏ ويجعله أكثر تألقا‏.‏

بهذا الكلام‏,‏ تضع أمينة رزق يدها بخبرتها علي أحد ملامح أسلوب محمود مرسي‏,‏ الذي تجلي معها في عصفور النار‏.‏

في المقابل‏,‏ قال لي محمود مرسي أحيانا أذهب إلي الاستوديو‏,‏ بمزاج غير معتدل‏,‏ من دون أن يكون عندي تصورات محددة عن الطريقة التي سأنفذ بها مشاهدي عندئذ‏,‏ يأتي دور زملائي في تنشيط طاقتي‏..‏ عندما كنت أمثل دور عبد الهادي في مسلسل زينب والعرش كان حسن يوسف ذلك الإنسان الجميل‏,‏ هو ملهمي في كثير من الأحيان تعبيراته بعينيه الصامتتين‏,‏ عن براءة ونقاء الشخصية التي يؤديها‏,‏ أعطتني مفاتيح العديد من المواقف‏.‏

وفيما يبدو أن مسألة الأخذ والعطاء سمة جوهرية في شخصية محمود مرسي‏,‏ تمتد من عمله كممثل‏,‏ إلي أنشطته الفنية الأخري‏..‏ أتذكر‏,‏ حين كان يدرس لنا مدارس الإخراج منذ أكثر من ثلاثة عقود‏,‏ في معهد الفنون المسرحية‏,‏ لم يكن يلجأ إلي التلقين ونقل المعلومات والمعرفة‏,‏ ولكن كان يتعمد إثارة التفكير والتأمل‏,‏ بهدف تنشيط عقل وخيال طلبته‏,‏ ويكتشف معهم‏,‏ ملامح هذه المدرسة أو تلك فمثلا يقرأ لنا فقرة عن طريقة إخراج جوردون كريج للمسرحيات‏,‏ ويقارنها بفقرة أخري عن طريقة أوولف آبيا‏..‏ وتكاد ستائر كريج‏,‏ المتعددة الألوان‏,‏ والتي يوليها شأنا عظيما‏.‏ أن تتراءي في عين خيالنا ونكاد نسمع حفيف عباءات أوديب ويوليوس قيصر بينما برتكبلات أو مكعبات ودوائر أدولف آبيا الخشبية‏,‏ تكاد تكون واضحة أمامنا‏,‏ وهاملت يصعد ويهبط عليها‏..‏ في تلك المحاضرات‏,‏ لا يصدر محمود مرسي أحكاما قاطعة‏,‏ جامعة مانعة‏,‏ تقبل أو ترفض هذا المنهج أو ذاك ولكن يترك حرية التقييم للمتلقين‏..‏ وأحيانا‏,‏ كان يقتنع ببعض الآراء‏,‏ عندما تكون سديدة‏.‏

ولاشك أن فترة اشتغال محمود مرسي بالإخراج‏,‏ جعلته أعمق تفهما وأشد اقتناعا‏,‏ بضرورة الأخذ والعطاء ومنحته قدرة هائلة‏,‏ علي تطبيقها‏,‏ في عمله كممثل والملاحظ أن العديد من ممثلينا وصلوا إلي أفضل مستوياتهم مع محمود مرسي‏.‏
أداء محمود مرسي المرهف‏,‏ بالغ الخصوصية‏,‏ أثر تأثيرا إيجابيا في النقد السينمائي للممثل‏,‏ والذي ظل لفترات طويلة‏,‏ يأتي في نهاية اهتمامات الناقد‏,‏ مفيدا في تقييمات عامة من قبيل تألق تفوق علي نفسه فشل نجح وربما يرجع إهمال نقد الممثل إلي عدة أمور منها‏,‏ صعوبة تحليل أسلوب الممثل‏,‏ وتحويله إلي كلمات مكتوبة علي الورق‏,‏ ذلك أن الأداء التمثيلي في الكثير من الأحيان‏,‏ متنوع الوسائل‏,‏ شديد التركيب‏,‏ محسوس أكثر من كونه ملموسا‏.‏ ولا يمكن إغفال الأثر السلبي لشغف الصحافة الفنية بالممثل وحياته وآرائه‏,‏ أكثر من أكتراثها بتفسير أسلوبه وتقييمه بالإضافة إلي أن اهتمام النقد الجاد بمضمون الفيلم‏,‏ ورسالته‏,‏ جاء علي حساب الالتفات إلي العناصر الفنية للفيلم‏,‏ ولغته السينمائية وفي مقدمتها التمثيل‏.‏

لكن محمود مرسي‏,‏ خاصة في أدائه للشخصيات المركبة التي قام بأدائها‏,‏ والتي تحتل المساحات النفسانية شطرا كبيرا فيها‏,‏ دفعت النقاد إلي تأمل أسلوبه وتصنيفه وإبراز خصائصه‏,‏ نعم بعض النقاد عبروا عن انبهارهم بأدائه في جمل طنانة إلا أن البعض الآخر‏,‏ حللوا أسلوبه علي نحو يجمع بين التذوق الصحيح‏,‏ والفهم العميق واستطاعوا صوغ هذا التذوق وذلك الفهم في عبارات ناصعة محكمة دقيقة تعتبر خطوة لها شأنها في نقد التمثيل السينمائي‏.‏ ولعل القاريء سيلاحظ العلاقة الطردية بين التقييمات النقدية لمحمود مرسي من ناحية‏,‏ والأدوار المركبة التي يقوم بها من ناحية أخري‏,‏ سواء علي المستوي الكمي أو الكيفي‏..‏ أنظر مثلا إلي عدد المقتطفات المتعلقة بمحمود مرسي وعقمها في أدائه لشخصية مرسي المعذب بهواجسه في زوجتي والكلب لسعيد مرزوق تجسيده لهزيمة عيسي الدباغ المرة‏,‏ في السمان والخريف لحسام الدين مصطفي‏..‏ من الممكن القول إن محمود مرسي أفاد النقد السينمائي في مجال التمثيل‏,‏ علي نحو ما‏..‏ كما أن النقد‏,‏ ثمن محمود مرسي بنزاهة‏,‏ تثمينا رفيعا‏.‏

علي العكس تماما‏,‏ من الألوان الساخنة‏,‏ الداكنة‏,‏ التي جسدها محمود مرسي قدم أيضا مجموعة من الشخصيات الإنسانية‏,‏ تبدو في رقتها وشاعريتها ودفئها كما لو أنها قوس قزح يمتد بألوانها الخلابة المطمئنة‏,‏ إلي آخر الأفق‏.‏

لذا فمن الممكن التأكيد علي أن الأستاذ بأسلوبه الموهوب‏,‏ الرصين‏,‏ الواعي قدم تجسيدا بديعا لغابتنا بكل كائناتها‏:‏ الأليف والوحش‏,‏ الحنون والقاسي‏,‏ العادل والظالم الواديع والشرس‏,‏ الجميل والدميم وياله من درس ثمين‏*

 

الأهرام العربي في

08.05.2004

 
 
 
 
 

قياس عبقرية محمود مرسي التمثيلية بـ «الفيزياء النووية»

د. صبحي شفيق

ذلك لأن محمود مرسي كلاسيكي الفكر يعرف كممثل كيف يحدد وضعه إزاء من حوله وتجاه العلاقات المكانية ويدرك كمخرج أي زاوية تصوير تحصره هو ومن معه إلا أن مشكلة محمود هي أنه لا يترك المنظور مفتوحا لتحدث «طفرة»، غير متوقعة من وجهة نظر الحس العام إلا أنها علميا، وحسب قوانين حساب ؟؟؟؟ لابد أن تتخذ حياتها المستقلة.

كلا لا أطرح لغزا، بل أسس علم تحريك الممثل، وعلم زوايا الكاميرا، وعلم السينوجرافيا، وكلها علوم وصلت إلي البحث عن عناصرها في الفيزياء النووية «لا تضحكوا»، وفي «الفوتونات»، ـ أي الخلايا الأساسية للضوء ـ وتطبيقاتها إضاءة، أو باستخدام الليزر.

كاد محمود مرسي يصل إلي ما نسميه حاليا «العلوم المتداخلة»، «Interdisciplinite» لكنه في إطار كلاسيكيته كان يتراجع ويخاف سلوكا، والغريب حقا هو أنه كممثل وكأستاذ تحريك ممثل كان يصل إلي قمة التعبير في أي مشهد سينمائي، في أي مسلسل تليفزيوني كان محمود من ناحية الأداء الدرامي، العنصر الفعال في المشهد، وجوده وأسلوبه في التعبير كان يفجر كيمياء الضوء والصدمات البصرية واللون، إنه كما في الكيمياء العنصر المفجر للطفرة «Ingnidlent».

لكي يصل محمود إلي هذه القمة لم يكن الطريق سهلا مفروشا بالورود كان أشبه بلعبة سباق الموانع كلما تخلصت من شبكة تمسك بقدميك تجد شبكة أخري، لكن محمود كان عصاميا سكندريا، فقد ولد بمنار الحضارات القديمة عام 1923 ومنذ المدرسة الابتدائية حتي نهاية الثانوية كان أهم عضو في فرق التمثيل المدرسية ورغم تفوقه في هذه البيئة الحافلة بكل نشاط فني، من رسامين ومغنين، وملحنين، وممثلين، إلا أن محمود كان يتطلع إلي ما وراء أفق البحر، ويحلم بتحقيق حلمه الكبير أن يتجه إلي لندن ويدرس أصول التمثيل علي أيدي أساتذة الدراما الفيكتورية بمسرح شكسبير وبالاولدفيك.

غير أن «الطفرة»، تحدث بالرغم منه وعيا، لكنها كانت تتفاعل داخليا فبدلا من دراسة المسرح ها هو يلتحق بمعهد الدراسات العليا السينمائية بباريس «ايديك»، «IDHEC» مدة الدراسة في المعهد عامان ولا توجد علوم نظرية ولا دراسات لجماليات التعبير البصري، السمعي، لكن توجد ورش عمل الهدف منها تخريج «أسطي»، صنايعي بالمعني الكلاسيكي لكلمة صنايعي، أي تعني «Techne».

ولا أدري لماذا لم يواصل محمود عمله كسينمائي بعد أن تخرج في المعهد بشعبة الإخراج السينمائي، فبعد «الايديك» يشده الممثل بداخله فيرحل إلي لندن ليدرس فن الممثل، ولكي يعيش يعمل بالإذاعة البريطانية «BBC».

مرة أخري طفرة غير متوقعة كان ذلك عام 1956 وأثناء العدوان الثلاثي الذي أعقب تأميم قناة السويس، قمنا بطرد كل من ينتمي إلي إحدي جنسيات الأعداء، ورد الأعداء بالمثل: في باريس ألقوا بالمصريين في الطائرات وكذلك فعل الإنجليز وعاد إلينا طليعة من المبدعين: الشاعر محمد البخاري، المخرج التسجيلي عبدالقادر التلمساني خريج الايديك، ومعه من خريجي نفس المعهد محمود مرسي وصلاح عزالدين وجلال الشرقاوي وغيرهم وغيرهم.

من 1956 حتي بداية البث التليفزيوني، في يوليو 1960 كان محمود مرسي يمارس الإخراج الإذاعي بالبرنامج الثاني «الثقافي حاليا»، وهي فترة من أخصب فترات حياته لأن من رسالة البرنامج الثاني ويرجع الفضل في إنشائه إلي الإعلامي سعد لبيب من رسالته تقديم مسرحية كاملة تخرج بالاستوديو بنفس أبعاد الإخراج المسرحي وبنفس المؤثرات كيف تعطي المستمع وهم مشاهدة المسرحية؟

هذا هو التحدي الأول الذي واجه محمود وعاد «العنصر الفعال»، يوصل كيمياء المشهد «كلمة ـ صمت ـ مؤثر صوتي ـ فراغ ساكن.. إلخ»، يوصلها إلي التناغم الكامل في بناء المشهد الدرامي.

إنها مرحلة «تجريب»، بلورت دراسة محمود للمسرح وللسينما، لتحدث ما نسميه الآن في عصر الإنترنت والإرسال عبر الألياف الضوئية بالمسرح التفاعلي، وبالسينما التفاعلية «Lnteractive Cinema» وأيضا التليفزيون التفاعلي المرسل من خلال الشبكة العنكبوتية «WEB - T.V».

أقول هذا كي ندرك ما تركه لنا محمود مرسي وما ينبغي علينا أن نكمله فهذا العصامي جعل من حياته نفسها حقل تجريب تارة يسعي إلي اكتشاف التعبير بالصورة السينمائية وتارة أخري يرتد إلي خشبة المسرح، فيكتشف أن السينما والمسرح يخضعان لمنظور واحد، وإن توزيع مساحات الديكور يصاحبها توزيع شخصيات الدراما حسب العلاقات التي تتولد علي التوالي مع تصاعد الحركة أي في كلمة «الميزانين».

في المسرح وأمام كاميرا السينما أو كاميرا الفيديو الممثل إيماءة، ونظرة، الإيماءة والنظرة، يسبقان الكلمة ويرسمان العلاقة بين من يتحدث ومن يصغي، ووسط هذه العلاقة التردد والصمت.

عندما بدأ محمود مرسي عمله كمخرج تليفزيوني، كان تحقيق ذلك هو أول درس في الإخراج التليفزيوني، فالتليفزيون فن لقيط: إنه شذرات مسرح، وهو أيضا شذرات سينما، لكنه ليس بمسرح وليس بسينما، والذين عملوا بالتليفزيون المصري لم يدركوا ذلك، بل وضعوا قاعدة هي أسوأ ما في تصوراتهم تقطيع المشهد حسب الحوار، فلان يقول كلمة، ضعه في لقطة مكبرة «كلوز»، الآخر يرد كلوز ثان إلخ إلخ، هذا الذي يتصورونه إخراجا من شأنه أن يحول المشهد إلي حركة  ماريونيت آلية، فنحن لا نري حركة ولا صراعا لكن عيوننا عالقة بمن يتحدث هو الذي يخبرنا بما لا نراه.

كان إخراج محمود مرسي التليفزيوني علي نقيض ذلك كان إخراجا وفي المعهد العالي للسينما وفي المعهد العالي للفنون المسرحية، كان محمود ينشئ جيلا جديدا من الممثلين والمخرجين الذين تحولت لديهم العلاقات المتداخلة في المنظور البصري إلي غريزة، وإلي أسلوب ذاتي.

وعندما انتقل محمود من الوقوف خلف الكاميرا إلي الوقوف أمامها، ولد في حياتنا السينمائية، نموذج جديد لممثل الشاشة الكبيرة وكان أداؤه التلقائي المحكم داخليا سبب نجاح أفلام مثل «زوجتي والكلب»، و«شيء من الخوف»، و«ليل وقضبان»، و«الشحات».

مع كمال الشيخ أستاذ «الديكوباج»، المحكم، كما مع مخرجين شبان وقتذاك، يخرجون أول أفلامهم الروائية، كسعيد مرزوق أو أشرف فهمي، كان محمود مرسي يلقي إشعاعا خاصا وجديدا يعطي للشخصيات المحيطة به هالة لم تكن تعرفها السينما المصرية من قبل.

وأقول ذلك عن تجربة فقد أبدي حماسا شديدا للعمل معي في أول أفلامي الطويلة «التلاقي»، والحق أنني كنت أخشي رفض كبار ممثلي ذلك الوقت فإذا بي أجد سهير المرشدي لا تقل حماسا عن محمود وكذلك مديحة كامل، رغم أن الفيلم يعرض ثماني شخصيات بالتساوي، ووقتها وإلي الآن تجد 90% من ممثلين لا يلقون سوي نظرة علي العمود الأيسر بالسيناريو حيث يقرأ اسم الشخصية مع  حوارها ويقلب السيناريو فإذا وجد أكثر من 80% من الصفحات تحمل هذه الشخصية يقبل العمل.

وأعترف بأن محمود صديق رحلة العمر كان حريصا علي عملي أكثر من حرصي عليه، فقد علمني كيف أكون صارما وحازما في تحريك  الممثل، وأذكر حدثين يظهران إلي أي حد كان محمود نموذجا للفنان الملتزم، كنت أصور عدة مشاهد ببلاتوه 2 باستوديو الأهرام وهو الاستوديو الذي عشت فيه ثمانية أعوام، منذ إنشائي الوحدة التجريبية وعماله، وإضاءة، وماشينت، يعرفون أسلوبي وزوايا تصويري كان ذلك في شهر رمضان الكريم، وكان استئناف التصوير بعد الإفطار بساعة ومرت الساعة ومحمود وأحمد خليل وثريا عبدالوهاب وعمر خورشيد بكافيتريا «شمس»، المواجهة «لبلاتوه 2» ولحظ محمود خلفي وأنا أنظر في ساعتي، فالساعة في حساب إنتاج آلاف الجنيهات، وقال لي محمود: أنت تعامل عمال الاستوديو بأسلوب أوروبي كلا هنا اعتادوا علي رد فعل غريزي، عندما تشخط وتثبت وجودك كقائد للعمل ستجد الاستوديو كله قد أضيء وكل عامل في موقعه، وليس من طبيعتي القيادة بأسلوب اللواء في الجيش... لكن لا مفر من أن أجرب. صحت «يا ولاد الـ..... يا ولاد الأبالسة، فين عمال الاستوديو»، وعلي الفور أضيء الديكور كاملا.

الدرس الثاني هو الصراحة والصرامة في التعامل مع النجوم في السيناريو كان دور مديحة كامل ممثلة شابة، خجول تشع انفعالات صامتة وكانت سعيدة بهذا الدورالذي يخرجها من إطار فتاة الإغراء اللعوب، لكنها جاءت وقت التصوير وقد صفت كوافير غريبا بدا شعرها كتورتة العروس، بضعة أدوار، وارتسم الغضب علي ملامحي لكنني كنت فريسة للخجل فلم يخرج صوتي وفجأة صاح محمود بأعلي صوت كله غضب «مديحة إنتي قريتي السيناريو.. كوافير»، اتفضل اعمل كوافير المدام».

من هذه التجارب تعلمت من صديق رحلة العمر وأعرفه وهو بالإسكندرية قبل ذهابه إلي باريس تعلمت منه أن تحريك الممثل لا فصال فيه: إما أن يرسم الشخصية كما حددها السيناريو وكما رسمها المخرج وإما يتحتم البحث عن بديل ولم أكن وحدي الذي جعل من هذا المبدأ منهجا لعمله بل كل من سار في طريق محمود.

وهذا هو عزاؤنا رغم رحيله ترك لنا منهجا وكما من الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية يجب أن تكون موضوع دراسات بمعاهدنا الفنية.

 

جريدة القاهرة في

11.05.2004

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004