تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

فيلمٌ تسجيليّ فرنسيّ عن حياة الشاعر العراقي صلاح الحمداني

"بغداد ـ باريس" سيرة شاعر

صلاح سرميني من باريس

السينما العربية مُتقوقعةٌ على ذاتها بموضوعاتها، وجغرافيّتها (كلامٌ خطرٌ، ومُثيرٌ للجدل). منذ بداياتها، وحتى اليوم، لم نشاهد فيلمًا روائيًا، أو تسجيليًا قصيرًا، أو طويلاً (ماعدا القليل جدًا منها) يتخطى حدود الهموم الشخصية ـ المُغرقة في ذاتيّتها أحياناً ـ أو العامّة، وجغرافية بلد  الإنتاج، وكي أُطمئن المُعترضين، أؤكد بأنه أمرٌ تشترك فيه سينمات وطنية كثيرة لا يهمّها ماذا يحدث خارج حدودها، على العكس تماماً من أخرى(وطنيةٌ أيضاً) ثقيلة التاريخ، والإنتاج، مثل فرنسا التي تعتبر الكون كلّه تيماتٍ مُمكنة لمُنتجاتها السينمائية، والتلفزيونية، ولهذا، سوف نجد بأنّ الأفلام الأجنبية التي تطرقت لقضايانا المصيرية أكثر عددًا مما صوّرته السينمات العربية مُجتمعةً، وما التقطته كاميرات العالم عن العراق يتحلّى بالتعددية السياسية، والفكرية، ويفوق كمًا، ونوعًا ما أنتجه السينمائيّون العراقيون أنفسهم.

(بغداد ـ باريس، سيرة شاعر) فيلمٌ تسجيليّ فرنسيٌّ (54.40 دقيقة) من إنتاج عام 2008، وإخراج الفرنسية (إيمانويل لاغرانج)، واحدٌ من تلك الأفلام الكثيرة التي اهتمّت بالآخر، بدون الاتفاق، أو التعارضَ معه، ولكن، فقط، بهدف إثارة الجدل حوله، ومحاولة إيجاد أرضية تفاهم مشتركة.

اللقطة الافتتاحية للفيلم قريبةُ بما يكفي، أصابعٌ تسحب محفظةً، ومن ثمّ صندوقاً حديدياً، بدايةً، فكرتُ بأنّ الشخصية الرئيسية للفيلم، الشاعر العراقي "صلاح الحمداني"، سوف يفتحهما، ينبشهما، ويستعيد ذكرياته من خلالهما.

لم يكن الأمر كذلك، ما شجعني على الاستمرار بالمُشاهدة باطمئنان، إذّ حالما أخرجت تلك الأصابع كتباً كثيرة كتبها "الحمداني" خلال فترة منفاه الثلاثينيّة.

بدأ الفيلم بصمتٍ، لازمةٌ شعريةٌ بامتياز، ماعدا بعض مُؤثراتٍ مُتوارية في شريط الصوت، وصدى موسيقى مخنوقة يتعالى تدريجياً، ويختلط مع صرير عجلاتٍ حديدية، وتتداخل صور الكتب التي تُراكمها الأصابع واحداً بعد الآخر مع أطيافٍ سريعة لاختراق قطارٍ للصورة، حالما تنتقل المخرجة من اللقطات الكبيرة إلى واحدةٍ عامة، أسلاكٌ كهربائية، وقضبانٌ مُتشعبة، قطارٌ يزحف نحو وكره، ثعبانٌ حديديّ رصاصيّ اللون، رمز الحركة، الزمن المُنقضي/أو القادم، كما السفر، الغياب، والعودة.

إنها محطة الشمال (Gare du Nord) في باريس، وخارجها، تتباهى الشوارع بأشجارٍ مُصطفة على الجانبيّن مُزينة بمصابيح كهربائية مُلونة.

في تلك اللحظة بالذات، يُشير التعليق (بصوت المُخرجة) إلى الفترة الزمنية للتصوير، السبت 30 من شهر ديسمبر2006، اليوم السابق للاحتفالات برأس السنة الميلادية، والتي تزامنت وقتذاك مع حلول عيد الأضحى .

خطةٌ دراميةٌ مدروسةٌ لإظهار التناقض الفظيع بين طقوسٍ اجتماعية/جماعية، وحالةً من الوحدة الإبداعية، التيمة الغالبة على الفيلم.

كان ذاك التاريخ، حداً فاصلاً بين عامٍ، وآخر، هناك من يرغب بأن يمضي بأسرع وقتٍ، وآخرون يتشبثون بأعمارهم الماضية، يتأرجح الزمن ما بين عاميّن، كما الكاميرا التي تلتقط شذراتٍ من مكانيّن، وزمنيّن مختلفين، يتصارعان بحبٍّ، وجفاءٍ في العالم الداخلي، والخارجي لـ"الحمداني": الوطن، وبلد الإقامة/المنفى، ماضياً، وحاضراً(يبدو لي بأن الفيلم تفادى المُستقبل).

تراكم الكتب في لقطةٍ واحدة كبيرة، حتى وإن انسابت إلى الفيلم بدون قصدٍ، هي وسيلةٌ جماليةُ إستعارية تُشير ضمنياً إلى انقضاء السنوات الماضية، مفردةٌ سينمائيةٌ استخدمها السابقون زمن السينما الصامتة بطريقةٍ مختلفة، ومازلنا نشاهدها من وقتٍ إلى آخر في هذا الفيلم، أو ذاك : المزج بين لقطاتٍ مُتعاقبة، وأصابع تُراكم الكتب واحداً بعد الآخر.

أعرف بأن "صلاح الحمداني" باريسيٌ منذ أن وطأت قدماه أرض الغربة، وأكثر من ذلك، يسكن بعيداً عن "محطة الشمال"، وهذا يعني، بأنّ المخرجة تعمّدت تتابعاً درامياً مدروساً منذ لحظات كتابة السيناريو، أو خلال التصوير، وتخيّرت بأن تُراكم مفرداتها بطريقةٍ سردية شعرية، وتبدأ رحلتها اليومية مع "صلاح الحمداني" في فترةٍ فاصلة ما بين عاميّن.

ولكن، حالما نعرف بأننا فعلاً أمام تاريخٍ حاسمٍ، ومفصليّ، هو اليوم الذي أُعدم فيه الرئيس العراقي السابق "صدام حسين" شنقاً، ويبدو بأن المخرجة اختارت كلّ عناصر فيلمها بعناية، حتى ذاك التعليق بصوتها الذي تتحدث فيه عن حدث الساعة، وكأنّ المتفرج يعرف "صلاح الحمداني" مُسبقاً، وهي بدايةٌ غير تقليدية للكشف عن عوالمه.

اختارت المخرجة التواري خلف الكاميرا التي وصلت إلى المحطة، ومن ثم تجوّلت في باريس، ومع لقطاتها البانورامية للمحلات المُصطفة على جانبيّ الشوارع، بدأت تُمهدّ للشخصية المُحورية، ومازالت اللقطات تتمازج مع أصابعه يكتب أشعارًا، مُوحيةً بأنها تريد أن تتعرّف/أو نتعرّف على "صلاح الحمداني" الشاعر أولاً، والمنفيّ المُعارض للنظام العراقي السابق ثانيًا.

هي تحكي عنه بطريقةٍ حميمة، وكأنه قريبٌ جداً منها، تنطق اسمه الأول "صلاح"، وتتوقف عنده بعض الثواني قبل أن تُكمل حكايته:

ـ يعيش في باريس منذ 32 عاماً (حتى تاريخ التصوير في عام 2006) لاجئٌ سياسيّ، ....

ومازالت لقطاتها كبيرةٌ تتمازج فيها أصابع الشاعر تكتب بالعربية، والفرنسية، تختلط بصورٍ ضبابية لشارعٍ بغداديّ تصطفّ على جانبيه نخلاتٌ عاليات.

لقد تخيّرت درامياً أسلوب الرحلة، الانتقال من مكانٍ إلى آخر من أجل اللقاء معه، وهو الذي سوف ينقلنا لاحقاً إلى بغداد، فتختلط الرحلة الرمزية للمُخرجة مع تلك الحقيقية التي عاشها "الحمداني" في عام 2004، وصوّر لقطاتٍ منها سوف تتوازى مع الرحلة الباريسية في فتراتٍ مُتقطعة من المدة الزمنية للفيلم، وتتمازج معها أحياناً.

تتجوّل كاميرا المخرجة في شوارع باريس المُنتظرة للعام الجديد، يُرافقها نُواح موسيقى، والسيناريو يُؤجل ظهور "الحمداني"، ويُمهدّ له بلقطاتٍ قريبة جداً لوجهه، وبالكاد نرى عينيّه الساكنتيّن، كان علينا الانتظار قليلاً كي نسمع أخيراً صوته مصحوباً بدندنةٍ خفيفة على العود، صياغةٌ سينمائيةٌ تقترب من الحكاية، وتبتعد عنها في مراتٍ أخرى لصالح الجانب الريبورتاجي في الفيلم.

المخرجة في رحلة بحثٍ رمزية (نعرف بأنّ تحضيراتٍ دقيقة سبقت التصوير) عن "صلاح الحمداني" الذي يُقاوم حيازة هاتفٍ محمول (بالإمكان تحويل فكرة البحث إلى فيلم قائم بذاته)، ويقدمه المونتاج قطعةً، قطعة في لقطاتٍ قريبة جداً.

في البداية، فكرتُ بأنّ الصدفة وحدها(والسينما تكتشف لغتها، وتُجددها من خلال الصدف الجمالية)، وربما الرغبة هي التي جعلت المخرجة تختار بأن نتعرف على "صلاح الحمداني" في أحد صالونات الحلاقة يقصّ شعره، ولكن، بالإصغاء إلى أشعاره التي نسمعها صوتياً، فهمت بأنها كانت ركيزةً جوهريةً للأسلوب الجماليّ الذي تخيّرته، والذي قادها إلى نظم نصف قصيدة (النصف الآخر ريبورتاجيٌ تماماً) تكشفت من خلال الطريقة المونتاجية في تقديمها له : أصابعه، فمه، خصلات شعره المقصوصة،...

اكثر من ثلاثة دقائق من الفيلم انتظاراً للتعرّف إلى الشخصية الرئيسة، عيناه المُكتئبتان حزينتان حدّ البكاء.

هاهي الكاميرا أخيراً تتابع "الحمداني" في جولةٍ إسترجاعية يحكي عن الماضي، وهي بالأحرى تتابعه من الخلف، ومن الجانب، ويبدو بأنها تُحاذر إظهار الحزن الغارق ألماً في عينيّه.

وسوف يكون المترو الباريسي لازمةً بصريةً/صوتية يحتفي بها السرد الفيلميّ من وقتٍ إلى آخر، وظلال المارة مثل أشباحٍ فوق جسرٍ، يختفون، ويظهرون في حركةٍ سريعة، لقطةٌ شعريةٌ فاصلة ما بين عالميّن، وأسلوبيّن في الكتابة السينمائية:

ـ الأماكن الخارجية تتوافق مع الأسلوب السينمائيّ الشعريّ.

ـ الأماكن الداخلية في منزل "صلاح الحمداني"، ومكتبة المستشفى حيث يعمل، والحوارات المُباشرة مع الكاميرا/المخرجة تتوافق مع الأسلوب الريبورتاجيّ .

ومع ذلك، من المُفيد الإصغاء إلى ما يقوله المنفيّ الذي أصبح شاعراً:

ـ ...كان الهمّ الأكبر، بالنسبة لي، كيف أترك بغداد، وعندما وصلت إلى باريس، أصبح شاغلي الأساسيّ كيف أعود إليها.

في عام 2004 عاد الشاعر إلى بغداد في زيارةٍ قصيرة، صوّر مقتطفاتٍ منها بكاميرا فيديو رقمية، استخدمت المخرجة بعضها بحذقٍ، وقدمتها في موعدها المونتاجيّ المُناسب تماماً.

تُطعمّ  فيلمها بتلك اللقطات المُوجعة المأخوذة في حارةٍ بغدادية شعبية قديمة (تشبه كثيراً الحارات الدمشقية)، وفيها نرى "صلاح الحمداني" مُحاطاً بأناسٍ يتحركون، ويؤشرون للكاميرا بأصابعهم، وهو في حالة ابتهاجٍ، وفرح، يبتسم، ويضحك.

اللقطات جيدة تقنياً، تقدمها المخرجة بما تحويه من أصواتٍ طافحة بمُؤثرات الحارة، والأحاديث المُختلطة، والصراخ، على العكس تماماً من اللقطات التي صوّرتها المخرجة في شوارع باريس، وهي غالباً مُنتقاة، ومُصفاةٌ من مؤثراتها الصوتية بما يُناسب النفسَ الشعريّ للفيلم.

يتجسّد في الفيلم إذاً عالميّن على مستوى الزمان، والمكان:

ـ باريس، المنفى، الوحدة، السكون، اللقطات القريبة جداً، الصورة المُتشظيّة للشخصية الرئيسية، الحدّ الأدنى من الأصوات المُحاذية لحدود الصمت، والموسيقى المُتوارية في الصورة.

ـ بغداد، الوطن، الحارة الشعبية، الجماعة، العائلة، اللقطات العامة، الضجيج، صدى ترديد القرآن من مذياع، الحوارات المُتشعبة، الابتسامات، الضحكات، القبلات، الأحضان، لحظات الالتباس بعد 30 عاماً من الغياب، وبراءة الأطفال الفضولييّن بطلباتهم المعهودة في لحظات تصويرٍ مُماثلة : صوّرنا عمّو ... صوّر، صوّر...

ومن المُفيد أيضاً الإشارة إلى أفراد العائلة، وهم يتوجهون بابتساماتهم، وضحكاتهم، وتعليقاتهم، إلى الكاميرا، وكأنها "الحمداني" نفسه.

ـ شلونكم، آني أحبكُم، آني "مائدة" عمتكم، أتمنى أشوفكم، مشتاقتلكم هواية، "صلّوحي" هلا، آني أموت عليكم...

"صلاح الحمداني" في لقطاته التي صوّرها في بغداد، يختلف تماماً عن "صلاح الحمداني" الذي نشاهده في باريس، حيث تخيّرت المخرجة زوايا مُحددة تُظهره إما خيالاً في مرآةٍ كبيرة في مقهى، أطيافاً شبحية في منزله، أو قطعةً، قطعة، وكأنها تجمع أجزاءه المُبعثرة في منفاه.

وكم كنت أتمنى بأن يحافظ الفيلم على سينمائيّته، ونفًسَه الشعريّ، ويُقلص ما أُمكن من أسلوبه الريبورتاجيّ، وخاصةً تلك التي يتحدث فيها "صلاح الحمداني" بشكلٍ مباشر إلى المخرجة/الكاميرا(وصلت المدة الزمنية لتلك اللقاءات إلى حوالي 29 من أصل 55 دقيقة).

بدونها، أتخيّل الفيلم قصيدةً سينمائيةً تتسامى مع أشعار "الحمداني" التي يُلقيها بصوته المسرحيّ الخشن (مثلّ صلاح الحمداني في السينما، والمسرح) المصحوب بأنين نغمات آلة موسيقية شجيّة. 

 تكشف الكاميرا أرجاء منزله في لقطاتٍ متوسطة متتالية، وتتفادى استخدام الحركات البانورامية، شغوفةٌ بالمكان، والسكون، واللوحات، والصور المُعلقة على الحوائط، وهي عندما تدرك بأنها منتشية بصوته، وهو يلقي أشعاره، تقدمه في أطيافٍ شبحية، يروح، ويجئ من غرفةٍ إلى أخرى، ولكنها لا تستمر، وتقطع ذروة الانتشاء حين تعود إليه في لقطةٍ متوسطة هي جزءٌ من مشهدٍ تمّ تقطيعه، وتوزيعه على طول المدة الزمنية للفيلم.

ولحسن الحظ، لا تتمهل كثيراً عنده، وتعود مرةً أخرى إلى الجانب الشعريّ في الصورة،  والصوت، ودائماً في لقطاتٍ كبيرة تجمع شتات الجسد، والروح، وربما تكون تلك اللقطات التي تتداخل فيها أشعار "الحمداني" بالفرنسية، والعربية من أجمل لحظات الفيلم، وهي تُمهد الطريق نحو مكانٍ آخر .

وعلى الرغم من الجمال، البهاء، والصفاء الذي تتباهى به مقبرة " Père-Lachaise"، إلاّ أنها، بالمُقابل، لا تخفي جانباً سوداويًا مُوحشًا، ومُقبضا، وتُضفي على الفيلم إحساساً طاغياً بالموت، لم ينفع معه المنفى هروباً، ولا الشعر مُنقذاً من نهايةٍ مُؤجلة، ولكنها حتميّة .

"صلاح الحمداني" في لقطةٍ متوسطة أمام قبر المخرج المسرحيّ "فيكتور غارسيا" يتحدث عن ذكرياته معه، وتمثيله لدور "أنكيدو" في "ملحمة جلجامش" التي عُرضت على "مسرح شايو" عام 1979.

هنا، وعلى الرغم من الأهمية المعلوماتيّة القصوى، تشدّ المخرجة أسلوبها إلى الجانب الريبورتاجي، وهي لم تنتبه/أو انتبهت إلى ظهور الميكرفون في طرف بدلته، وأكثر من ذلك، عندما تؤكد حضورها الصحفي خلف الكاميرا، وتُوجه له أسئلةً عابرةً كنت أتمنى تفاديها مونتاجياً، واستبدالها باختياراتٍ سينمائية تتوافق مع عظمة المكان جمالاً، وقدسية، في تلك اللقطة بالذات، تقترب الكاميرا من وجه "الحمداني" أكثر بدون تغييّر زاويتها، فنشعر بحركتها، وتُعيدنا قسراً إلى الحالة الريبورتاجية.

ولكنها، حالما تعود إلى أسلوبها الشعريّ، وخصوبة الحياة مطراً في لقطاتٍ قريبة جداً, ودندنة خجولة لآلةٍ موسيقية، ومتابعة بانورامية جانبية/ومن الخلف للشخصية الرئيسية، بينما يُعيدنا شريط الصوت إلى الماضي من خلال خبر إذاعي، وبالتحديد شهر أبريل من عام 2003 يُذكرنا بحادثة اعتداءٍ جسديّ تعرّض لها "صلاح الحمداني" من طرف مجموعةٍ متظاهرين احتجاجاً على غزو العراق.

وكي لا يختلط الأمر على القارئ، والمُتفرج، يشرح "الحمداني" موقفه:

ـ إنني ضدّ الاعتداء على العراق من طرف القوات الأمريكية، والانكليزية، ولكنني، بالمُقابل، ضدّ "صدام حسين"....

وفي ختام تلك اللقطات التوثيقيّة المُستعارة من برنامجٍ تلفزيونيّ، تُعيدنا المخرجة إلى أسلوب التحقيقات التلفزيونية، وكان بإمكانها تفادي ذلك التأرجح  بالاستغناء مونتاجياً عن الأسئلة التي طرحتها مباشرةً على "صلاح الحمداني":

ـ حسناً، كان ذلك في عام 2003، ما هو شعورك، وأنت تشاهد هذه الصور من جديد ؟

ستّ دقائق تقريباً، وهي أطول فترةٍ زمنية تراخت فيها الكاميرا أمامه، وتركته يتحدث عن تلك الحادثة.

منذ مشهد المقبرة، أصبحت المخرجة مُغرمة بطرح أسئلة أكثر مباشرة، وضوحاً، وتقريرية.

وبعودتها إلى "الحمداني" في شوارع باريس، تمنح الإيحاء باختلاط الأزمنة، والأمكنة، وكأنه يرى شوارع بغداد من منفاه من خلال مونتاج متوازي هي من أكثر اللقطات توافقاً مع الحالة المُنشطرة التي يعيشها "الحمداني".

في تلك اللحظات، تنحو الموسيقى في اتجاهٍ آخر أكثر اقتراباً من التراث الموسيقيّ العراقي الشعبي، حيث ضربات طبلة في إيقاعٍ متكررٍ رتيب.

وحدها السينما، وعن طريق المونتاج، التحام اللقطات، تعارضها، تصادمها، أو توافقها،.. تمتلك القدرة الإبداعية على الإيحاء بتباعد، وتقارب الأمكنة، والأزمنة من بعضها حتى التمازج، وأعتقد بأن كلّ منفيّ، أو مهاجر يعيش هذا الانصهار الذهنيّ الدائم بين الوطن، والمنفى، أو بلد الهجرة.

اللقطات التي صوّرها "الحمداني" في بغداد، أو على الأقلّ، تلك التي اختارتها المخرجة لتطعيم فيلمها، هي لقطاتٌ حانيةٌ، حنينيةٌ، صادقةٌ، ومُوجعةٌ.

وبين قوسين، أشير بأنّ معظم التحقيقات التلفزيونية التي رافقت بعض العراقيين العائدين إلى الوطن بعد الغزو (التحرير)، امتلكت جانباً فضولياً منحرفاً (البصبصة): بكاءٌ، نحيبٌ، عويلٌ، وضياع،..

وطفحت بعض الأفلام التسجيلية بالتكلف، والزيف: تقبيل الأرض، يعقبها مباشرةً نظرةً سياحيةً مُتعالية، وكأنّ المخرج العائد يردد في داخله: "الحمد لله لأنني أعيش في بلدٍ أجنبيّ، كم أنا محظوظ،....

ونبشت أفلامٌ أخرى الماضي المُتمثل بالنظام السابق(ديكتاتورية، إعدامات، مذابح، سجون، معتقلات، أنفال، قطع آذان،...)، واجترّت كلّ مفردات التحقير، والذمّ المُتداولة، واصطنعت بطولاتٍ وهمية إلى درجةٍ فاقعة، وصلت أحياناً إلى حدّ الكذب العلنيّ (في أحد التحقيقات التلفزيونية الفرنسية، عثر أحدهم على ملفه الأمنيّ وسط مكانٍ مدمرّ كان ـ على حدّ قوله ـ مقراً للمُخابرات، أو الأمن، سجناً، أو معتقلاً) .

يا الله...

وأظهرت بعضها الجنود الأميركيين المُخلّصين مصحوبين بعراقيين، يتجولون بعشقٍ، ورعونة في شوارع بغداد، أو يجولون في سياراتهم المُصفحة، ودباباتهم، ويبتسمون للكاميرا، أو على أكثر تقديرٍ، يطلبون رخصة التصوير، فيحتدّ المخرج مُعترضاً ـ أليسَ بطلاً ـ ويستلّ سيفه من غمده، أقصد جواز سفره الأجنبيّ، ويرطن بإنكليزيةٍ تشوبها لكنةٌ عراقيةٌ واضحة لم تمحيها باريس، لندن، برلين، مدريد، أو كوبنهاغن،..

I am a European citizen, you do not have the right to prevent me from filming in my own country

أنا مواطنٌ أوروبيّ،  ليس لك الحقّ بمنعي من التصوير في بلدي.

وعلى طريقة المخرج الفلسطيني "إيليا سليمان"، أتخيّل إجابة الجندي الأمريكي : طزّ فيك.
والحقيقة التي لا تقبل المُجاملة، لم أجد في لقطات "صلاح الحمداني"، وفيلم "إيمانويل لاغرانج" أيّ نزعةٍ من تلك "البطولات الملحمية"، حيث أظهرت الجانب الإنسانيّ منه، وحالات الافتخار، والانكسار، إنه منفيٌّ مناهضٌ للنظام السابق، قاوم الديكتاتورية شعراً، ويتحلى بالصلابة مثل: أنكيدو، غارسيا، كامو، وسيزيف،....

 ولولا علاقتي القديمة بـ"صلاح الحمداني" منذ منتصف الثمانينيّات، ومعرفتي بسلوكه المُختلف تماماً عن بعض رافعي راية معارضة النظام السابق، والذين تاجروا بها حتى العظم، والخيانة، لما صدقته أبداً.

كان اختيار المخرجة لبعض اللقطات التي صوّرها "الحمداني" في بغداد دقيقاً، لم تجنح إلى إظهار الحالة الميلودرامية في رحلته، ماعدا لقطةً واحدةً مُؤلمة تلك التي جمعت "الحمداني" مع أحد أصدقاء الطفولة، ويبدو بأنه لم يتعرّف عليه بعد، فيجرّه "الحمداني"، ويحتضنه، عندها يتفطنّ الصديق، ويضرب بكفه على صدغه، وتنفرط دموع الاثنين بكاءً رجولياً، خجولاً، وبدوري، لم أستطع التحكم بمشاعري (وأنا المُدمن أفلاماً هندية).

تكشف اللقطات الأخرى المُتبقية جانباً إنسانياً فريداً، تُوحي للمتفرج بأن "صلاح الحمداني" لم يغبّ عن عائلته يوماً واحداً، وخاصةً تلك التي جمعته بأمّه المُثقلة بملابسها السوداء، ونظارتيّها الكبيرتيّن، صامتةٌ، هادئةٌ، صلبة، جبارة،.. ورُبما كانت رغبة "الحمداني"، و/أو المخرجة  الابتعاد ما أُمكن عن البكاء، والعويل المُتوقع في لقاءاتٍ مُماثلة بعد غيابٍ طويل.

بدوري، وفي حالة اللقاء مع شخصيةٍ ما في فيلمٍ تسجيلي، أميل إلى الصوت من خارج الصورة، وهو ما حدث في المشهد الذي يدور في فناء المستشفى حيث يعمل "الحمداني" أميناً لمكتبته، وحسنا فعلت المخرجة بـ"تحريره" من الأماكن الداخلية، ولكنها للأسف، حالما تركته يتحدث إلى الكاميرا مباشرةً كي تعود من جديدٍ إلى أسلوب التحقيقات التلفزيونية.

وفجأةً، تبيّن لها جماليات المكان، فعادت لتصويره يهيم في فناء المستشفى، طيفاً في حركةٍ بطيئة، يصحبه صدى فحيح بعيد، وهو الأمر الذي نسيت أن تفعله في المقبرة.

ومن المُؤسف أيضاً بأنها أدخلته إلى المكتبة، وعادت إلى دور الصحافية تُوجه له الأسئلة من جديد، كي تُرافقه فيما بعد إلى شارع " Faubourg Saint Denis" في الدائرة العاشرة،  وبالتحديد إلى ممرّ " Brady"، في تلك اللحظة، توقعتُ مباشرةً، وأنا المُهاجر مثله، والعاشق للأحياء الهندية، بأنه سوف يتحدث عن رائحة التوابل، ولكن، ....بأسلوبٍ ريبورتاجي (ماذا أفعل بك يا إيمانويل ؟).

ومن ثم تعود إلى المزج مابين لقطاتٍ صُورت في بغداد، وأخرى في باريس تتوافق بشكلٍ ما مع ذاك الشارع، وممراته، الأمّ حاضرةٌ فيها صورةً، صمتاً، وشعراً، حباً، احتراماً، وتبجيلاً، والأبّ غائبٌ .

مركبٌ سياحيّ يتهادى في نهر السين، يلتقي بقارب صيادٍ عراقيّ يرمي شبكته، ينهل من خيرات دجلة، المترو الباريسي يتسابق مع السيارات المُنهكة في شوارع بغداد.

بالوصول إلى أعالي هضبة " Montmartre" حيث كنيسة "القلب المقدس"، بدأتُ أشعر بنوعٍ من التحفظ إزاء اختيارات أماكن التصوير، حيث، وبشكلٍ عام، لا أجد ضرورةً قصوى بأن يمسح الفيلم جغرافياً كلّ الأماكن التي تحبها، أو ترتادها الشخصية الرئيسية، إلاّ إذا كانت  تتضمّن قدراً كبيراً من الأهمية في علاقتها بتيمة الفيلم، كحال المقبرة، المستشفى، أو مقهى الحيّ،...حتى وإن التقطت الكاميرا هناك بعض اللقطات الجميلة، والتي جعلها المونتاج تتناغم بشعرية: طيورٌ، ملاهي الأطفال الدائرية، مياه إحدى القنوات، لقطةٌ كبيرةٌ لعينيّ "الحمداني"،....

وكم تمنيتُ حقاً بأن ينتهي الفيلم عند تلك اللقطة المُتوسطة، وفيها يتنزه "الحمداني" (بطلبٍ من المخرجة طبعاً) في مركبٍ يعبر إحدى القنوات المائية، يتقدم نحو نفقٍ حتى تتحول الصورة تدريجياً إلى شاشةٍ سوداء،  ولكن، بعد تلك اللقطة الدالة، السوداوية ـ رُبما ـ، الشعرية بامتياز، تعود المخرجة مرةً أخرى إلى الحوار المُباشر مع "الحمداني"، ومن ثم إلى شوارع باريس، وتنطلق تلك التيمة الموسيقية التي يغلب عليها ضربات الطبلة تغازل ترنيمات العود.

ولكن، أخيراً، تحقق جزئياً ما كنت أتخيله، فقد أنهت المخرجة فيلمها (بغداد ـ باريس، سيرة شاعر) بمرور سيارة عابرة يُحدث إظلاماً مُفاجئاً للصورة.

هل انتهت سيرة شاعر ؟

لا، أبداً، إنها بدأت للتوّ، منذ اللحظة التي سوف يبحث القارئ عن الفيلم لمشاهدته....

البطاقة الفنية للفيلم:

العنوان العربي: بغداد ـ باريس سيرة شاعر

العنوان الفرنسي: Baghdad – Paris, Itinéraire d'un poète

تصوير، صوت، مونتاج (بالتعاون مع إلكي هارتمان)، كتابة، وإخراج : إيمانويل لا غرانج.

تصوير لقطات بغداد : صلاح الحمداني، بشير عزيز ياسين.

موسيقى تصويرية : أحمد مختار، جوسيس روهل.

إنتاج : La Huit PRODUCTION

البطاقة التعريفية للمُخرجة:

Emmanuèle Lagrange، حاصلة على شهادة الدراسات المُعمّقة، ماجستير في السينما من جامعة السوربون، عملت في مجال المونتاج منذ عشرين عاماً قبل أن تقدم على إخراج فيلمها التسجيليّ الأول في عام 2005، ويحمل عنوان :

 ...P't'être bien qu'c'est importon (رُبما تكون المُكالمة مهمة).

(الترجمة الأقرب إلى الدقة للعنوان، وهي الجملة الأخيرة من كلمات أغنيةٍ بعنوان Le Telefon، لحنها، وغناها Nino Ferrer "15 أغسطس1934-13 أغسطس 1988"، ويرددها الأطفال الذين صورتهم إيمانويل لاغرانج في فيلمها ) .

بغداد – باريس، سيرة شاعر، هو فيلمها التسجيلي الثاني.

*حقوق نشر صور المخرجة محفوظة للمُصور© Michel Sfez

*حقوق نشر صور الفيلم محفوظة للمخرجة © E. Lagrange

إيلاف في

17/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)