ما الملحمة إلا هذا النسيج الدرامي التي تحاول عبره جماعة بشرية استعراض
بطولات بعض أفرادها، تلك الجماعة ترى أنها استحقت عبر تضحيات أبنائها
القياديين الأفذاذ أن تنال مجدا وجب الإشادة به استنهاضا لعزيمة الأجيال
القادمة، واستخلاصا للعبرة والحكمة الشعبية التي تُقطر وتُصفى فتكون بذلك
مداد الماضي ورواء الحاضر وإلهام المستقبل.
الناقد والمنظر الماركسي جورج لوكاتش حين ذهب إلى أن "الرواية هي ملحمة
البرجوازية" أرخ بذلك لانتهاء زمن الملحمة بالمفهوم القديم، وأوضح أن الصنف
الفني المعروف بالرواية نشأ في رحاب صعود البرجوازية كطبقة ليكون تجلى
ثقافي لصعود تلك الطبقة، ومن ثم تتجلى في النسيج الروائي كافة التناقضات
والتناحرات الداخلية لتلك الطبقة.. إذن الرواية وفقا له ليست هي الملحمة
لكنها -أعني الرواية- استعارت من الملحمة ما يعبر عن اللحظة التاريخية
المعاصرة لنشأة الرواية فحسب.
سطع هذا المعنى في ذهني بعد مشاهدتي لفيلم "إبراهيم الأبيض"، فهو يحمل
مذاقا ومزاجا ملحميا يصعب التعامي عنه، فحتى ونحن نغض النظر إجرائيا عن
القيم الاجتماعية العامة التي يمثل الفيلم بجثمانها المسجى في تراب يتصاعد
غباره وسيظل في تصاعد حتى ما شاء الفن.
أما القيم الاجتماعية طريحة الغبار فهي ما تواضعت عليه الجماعة المصرية
بوصفه قيما وأعرافا وتقاليد وآدابا عامة، وإما انتهاكها بفعل حركة الواقع
فهو وضع تفرضه تطورات مجتمعية اقتصادية سياسية أمنية تخرج عن حدود مقالنا
النقدي, لكن تلك التطورات فرضت نفسها على أرض الواقع، ومن ثم تسربت تدريجيا
إلى فضاء الفن؛ حيث الواقع أحد مدخلات أو أحد مصادر الاستلهام الدرامي كما
هو معروف, وبقول آخر تظل تلك التطورات أو التغييرات بمأمن من تسليط الضوء
عليها حتى تقحمها الفرصة المواتية في فضاء المنتج الثقافي والفني
والإعلامي.
أما الفرصة المواتية فهي قد تكون ظهور جيل جديد من المبدعين قد يلتئم في
القريب فيشكل تيارا, أو ظهور تقنيات فنية أحدث، تقلل تكاليف الإنتاج وتسمح
بالتوغل في مجتمعات الهامش دون تكاليف إنتاجية خرافية, أو نجاح سوابق فنية
قريبة محليا ودوليا، تتناول فئات وجماعات خارج دائرة صنع القرار السياسي,
أو حتى ظهور موضة فنية مهووسة بتناول ما هو هامشي أو طرفي أو مستثنى أو
منبوذ من قبل المركز, أو تداخل بعض من هذا ببعض من ذاك.
البطل الجديد
"العشوائي" هو البطل الجديد الذي تنامت سواعده في الأعوام الأخيرة كتتويج
للعوامل الفنية السابقة وسط استنكار كثيرين بكون الفن هو شكل من أشكال
الوعي، ومن ثم يحمل رسالة توعية مجتمعية أو تنموية، وعليه يجب أن يخفف من
نبرة الإعجاب المتصاعد، والذي يصل لحد الترويج للعشوائي بوصفه هذا المستبعد
المنسي المتسرب من مسئولية الدولة وهيلمان السلطة المركزية.
غير أن استنكارا من هذا النوع يجابه باستنكار مضاد بكون الفن هو مستوى من
مستويات الوجود، ومن ثم يحمل هاجس الصدق في التعبير وأمانة الرصد ونزاهة
التمثل، ومن ثم ليس عليه إلا استحضار الحالة، أما تقييمها ونقدها وتعديلها
وتغييرها، فهي أدوار ووظائف ومسئوليات أحرى بمن غفل عنها أن يتولاها، بدلا
من الدفع بالتهمة المتواترة بنشر غسيلنا غير الناصع دون تحمل مشقة تنظيفه
بيد المنوط به غسيله من الأساس.
"العشوائي" هو مجتمع دراما "إبراهيم الأبيض" ومن العشوائيات يستقي عباس أبو
الحسن كاتب الفيلم مادته الدرامية؛ حيث ثبتت أصول حقيقية لشخصية مسجل خطر،
عرف بهذا الاسم وجسد شكل من أشكال البطولة ضمن نطاق وقيم الجماعة الشعبية
التي عاش وسطها.
القصة تتناول حياة الصبي الذي شاهد أبيه يقتل مهانا بيد سيدة وصفها هو بعد
ذلك بـ"الحية"، قتلت تلك السيدة هذا الأب محاطة بأتباعها جزاء وفاقا؛
لتطاول صغيره إبراهيم على ابنها المصاب بإعاقة عقلية, غير أن قسوة التنكيل
بالرجل، والتي أفضت إلى موته تم رأبها بتبني زوج القاتلة لإبراهيم الصغير،
والذي عمل لدى الرجل وتبادل اللعب مع صغيرته لعبا أكثر من ماجن -وفقا
لتوصيفنا نحن الأخلاقي-فما كان من الأب إلا واعتدى على الصغير ليقتله
الصغير، ويفر هاربا ويصير بذلك المجرم/البطل/المسجل.
حبكة الفيلم لا تسمح لنا بتتبع الحدث بتلك البساطة, إنها تبدأ من حيث يطارد
البوليس إبراهيم الأبيض محاولين القبض عليه متلبسا بحيازة مخدرات, ليفلت هو
منهم بعد مطاردة شرسة ما تكاد تنتهي حتى ينتبه هو ورفيقه إلى كونه قد فقد
بضاعته, ويشتبه هو في كون البضاعة قد سرقها (شيبة) أحد صبيان المعلم عبد
الملك زرزور سيد قومه وسط انشغال إبراهيم بمطارديه وانشغالهم به، فلا يجد
هو مناصا من الذهاب إلى منطقة الزرازير واستخراج بضاعته لتدور أقوى
المواجهات بينه وبين قبيلة القتلة ولنا هنا أكثر من وقفة.
التشابه
"العشوائي" ليس مادة الاستلهام الدرامي لعباس أبو الحسن المؤلف فقط, لكنه
مادة الاستلهام لمروان حامد مخرج الفيلم كذلك، وربما بشكل أقوى, فالدراما
هنا حكاية قد أحكيها فيصيبك الملل من متابعتها، ليس لعدم احتوائها على
مثيرات، لكن لتشابهها مع كثير مما نسمع ونقرأ في صفحات الحوادث والفضائيات،
فصارت تلك بضاعتها، أضف إلى ذلك ربوتوار سينمائي لا يبدأ بعفاريت الأسفلت،
ولم ينته بحين ميسرة، ولن ينتهي بدكان شحاته، لكن ضمن بهو التماس الممتد
أمامك ينبغي علينا مع ذلك القبض على خصوصية كل تجربة.
والخصوصية هنا هي ملحمية يستشعرها مروان حامد ويسربها لمتلقيه, فالقتال
الدموي يتسع له المجال، والتغلب على المألوف في الجهد الإنساني وتجاوزه
لعبة يستمرئها مروان مع بطله، وإن كنا في السابق اعتدنا الضحك على البطل
الذي يقتل "مية وألف" فهنا البطل يفعل، ولكن بمنطق بصري يسوغه فلا سقطة
تأتي دون جهد، ولا تراجع دونما إجبار، ولا كر إلا بعد فر.
والتقطيع والموسيقى في الخلفية يؤطر كل ذلك كما لو كنت تستمع لبطولات أبو
زيد الهلالي والزناتي خليفة، أضف إلى ذلك أن الجهد العضلي الذي يبذله أحمد
السقا في دور إبراهيم الأبيض يجعلنا أخيرا نصدقه، خاصة بعد أن أحاط نفسه
بعناصر مقوية للفيلم بعد أن علم أنه "ليس بالضرب وحده يحيا الفنان".
"عبد الملك زرزور" سيد قومه, ذئب ما نال الزمن منه مناله بعد, فالشيخ
المتماسك والذي جسده محمود عبد العزيز، رجل وازن بين الحكمة والمقدرة مما
وسده عرش أرضه، ومحمود عبد العزيز مخضرم آخر يضيف من زاده أو ذاته للجيل
الجديد في التجارب المشتركة ويضيف الكثير, وهو يضاف بذلك لمحمود يس الذي
أعاد كتابة اسمه في فيلم الوعد.
هكذا فعل محمود عبد العزيز وبين يديه شخصية مميزة لوحش يسوس قومه، ويسن
القوانين ويبرز أنيابه عند الضرورة، في لقطته الأولى ينهي القتال الدائر
بين رجاله وإبراهيم الأبيض برصاصات يطلقها في الهواء ويعقب عليها بكلمة يكن
لها وقع أشد "حد ليه شوق في حاجة؟!".
يجلس ليحكم بين رجاله وغريمهم وينصح الشاب بأن أخذ الحق صنعة وأصول، وأن
التصدي لقبيلة ليس من الصنعة في شيء، وعدم الرجوع لعظيمها ليس من الأصول في
شيء كذلك، ويعفو عن انتهاك الشاب لأرضه بأن يأخذ لنفسه المخدرات ويدعو
الشاب نفسه لأن يروجها لصالحه، ثم يذكر قولا مأثورا تداوله المرحوم (شيبة)
فتكون تلك إشارة بقتل المذكور، فيتم الأمر بهدوء قاتل.
شجرة
تتصاعد دراما الفيلم بكون الكبير قد ضم الشاب إلى رجاله، فتتصاعد غيرة
أبناء الرجل منه وتصل لحد ائتمارهم به دون استئذان الأب, لكن قدرة الشاب
تمكنه من الخروج من "الخية" التي تعقد له, فيباركه الزعيم لكونه شجرة أثمرت
في داره، ولا ينبغي قطعها قبل الاستفادة من ثمرها.
الرجل يستخدم حكمته الفطرية، وخبراته الحياتية، والمأثورات الشعبية
والدينية في إقرار سيطرته, غير أن التوتر الدرامي يتفجر مع معرفة نقطة
ضعفه، إنها الفتاة التي تعهدها بعد موت أبيها ولم يقربها، ذلك أنه عاهدها
بكلمته ألا يقربها إلا برضاها.
وتتعقد الأحداث حين تنشأ العلاقة العاطفية بينها وبين إبراهيم, وتتعقد أكثر
حين تعلم أنه هو من قتل أباها, وتتعقد أكثر حين تتبدى الكراهية الممقوتة
بينه وبين أمها، ومع موت الأم تستجمع الفتاة سمها وتوافق على الزواج من
الزعيم مع استمرار الوعد بألا يقربها، وتخطط للإيقاع بالشاب على يد أحد
رجال البوليس المرتشين من عملاء زوجها.
وكما هو باد فإن امتزاج مصالح الزعيم بالأمن وبذوي النفوذ، واختلاط الحب
بالكراهية بالواجب بالمسئولية العائلية يجعلنا نقترب من أفلام المافيا
العالمية بمنطقها الذي لا يدين العصابة بوصفها عصابة، بل يرخي المجال
الدرامي العام، ويحتذي صدقا فنيا أكثر منه أخلاقيا؛ ويرصد للقيم والجماليات
من داخل تلك المنظومة ذاتها ولا يؤثمها بالفساد أو الإفساد.
مشاهد الحب في قطار السكة الحديد المركون الصدئ.. انفراد البطل بنفسه في
ثنايا هضبة قذرة.. سرقته لثمار على عربية في بساطة.. قتله للعديد بضراوة
ماجنة.. سرقته لسيارة للخروج مع حبيبته.. ترويجه للمخدرات وتعاطيها..
إرهابه لرجال الأمن في أحد الملاهي وتثبيتهم -حسب التعبير المتداول- ليلعب
هو وحبيبته بأحد الألعاب, وشاية حبيبته به للأمن ليس إعلاء للواجب على
العاطفة، بل انتقاما لأمها, خيانتها الزوجية لزوج بقي على عهدها ولم يمسسها
بغير مشيئتها.. جذبها للطعام من أمام ضيوفها واستثارها به.. سرقتها لأموال
تخص حبيبها المسجون وارتدائها لذهب أمه.. لدينا رصيد من الأفعال الخسيسة
والمتدنية لا يضبطها حتى رادع علاقة الصداقة أو عهد الأخوة أو ميثاق
الرجولة أو العيش والملح.. نحن أمام انفلات من ربقة دوام أي قيمة أو عهد أو
واجب.. حتى ضمن أطر المنظومة المجتمعية ذاتها.. زوجها مثلا كبير القوم
يعاهدها بعدم قتل حبيبها ويقتله ويقتلها.. بعد أن يصرح بأنها هانت عليه ما
دام هو قد هان عليها؛ لتمتزج دماءهما في مشهد يؤرخ لحبهما المريض.
إذن الحبك الدرامي للأحداث ليس من نقاط قوة الفيلم بحال، وانبهار المؤلف
الواضح بدراما العشوائي ينبغي أن يتجاوزها، فهو قد أثبت مقدرة في بناء
الشخصيات، وتجلت براعته أكثر في الحوار أو في انتخاب والتقاط ما يناسب
فيلمه من حوار جمعه ميدانيا بلا شك, وسنده مروان حامد الذي هو شريف عرفة
"جيله" إن صح التوصيف.
أخيرا أقوى ما استند إليه كيان الفيلم وهو التمثيل, محمود عبد العزيز
بجسارة الخوض في مناطق أدائية غير مروضة، ويرتادها بتمكن، غير هياب،
استعاره من عبد الملك زرزور أو أعاره إياه.
هند صبري المجتهدة في تشرب سموم أمها في الفيلم سوسن بدر، وإعادة فرزها
بطريقتها، ثم خشونة وغلظة وقلة ذوق لم تفلت منها لتصل لحدود المبالغة
الكاريكاتورية.
وعمرو واكد الذي كشف عن حنجرة مرنة استطاعت اللعب بصوت مصطنع طوال الفيلم
لم يسقط منه ولو مرة، وأخيرا أحمد السقا الذي لم يستسلم للموهبة المتوسطة،
ويصمم على أن يصقلها بالاجتهاد حتى في التفاصيل الخارجية للشخصية، بدءا من
طريقة السير لا يتركها بلا شغل في اجتهاد محمود.
تجربة مثلت العشوائي بصدق فني، وهي الأكثر حدة حتى الآن، وعلى القادم ألا
يزيد الجرعة، وإلا تحول التمثيل لتمثل، أو تحول العناق لاعتناق.. والبقية
تأتي.
كاتب وناقد فني.
إسلام أنلاين في
02/06/2009 |