في الأفلام عادة يصبح موت طفلة جميلة بالسرطان مأساة تقطع القلوب وتدميها
ولكن الأمر مختلف في هذا الفيلم يحيلنا إلي معان أكثر تتجاوز الطفلة والأم
والأب إلي الناس كلهم.. في الحارة أو خارجها وفي "عين شمس" الحي الذي
ينادينا وينادي مصر كلها.. لينتهي بك الأمر وأنت موجوع وحزين ومع ذلك لديك
شعاع من ضوء يؤكد أن هناك أملاً قادماً.. وربما لن يتأخر كثيرا.. "عين شمس"
هو اسم هذا الفيلم الذي بدأ عرضه منذ أيام في القاهرة بعد أن رآه الناس في
بلاد أخري وحصل علي جوائز مهرجانات عديدة ولم يبق إلا أن تراه مصر التي
يدور فيها ويطرح رؤيته لناسها.. وسبب هذا كله- أي التأخير- هو أن الفيلم
صور بكاميرات الديجيتال وفقا لميزانية صناعته المحدودة ولم يجد شركة
سينمائية مصرية تتحمس لتحويله إلي شريط سينمائي 35 مللي ليعرض في دور العرض
السينمائي في فقبل صناعه شاكرين عرض المركز السينمائي المغربي وحدث ووجد
اهتماما كبيرا خارج مصر التي أصبحت مشكلته الجديدة فيها هي أنه لم يحصل علي
موافقة الرقابة المصرية قبل تصويره.. أخيرا وافقت الرقابة.. ورأيناه لنري
جانبا مختلفا من التوثيق السينمائي لزمننا.. أو فلنقل صورة لمصر بأسلوب
وحكي بصري مختلف.. رتوش الصورة تكاد تكون صفرا ومع ذلك فهي ليست تسجيلا
للواقع وإنما رؤية له بعيون المخرج إبراهيم البطوط المرهفة ومن خلال
سيناريو شاركه في كتابته مخرج وكاتب آخر هو تامر السعيد وأضاف المصور
الموهوب هشام فاروق إبراهيم الإطار الذي يحافظ علي التوازن ما بين الحلم
والحقيقة وأيضا الوهم والحقيقة ففي قصص أبطال الفيلم تختلط الحقائق
بالاحلام بالأوهام كما يحدث لكل منا وقد استطاع المونتير "أحمد عبدالله"
إضفاء حساسية وتناغم علي العمل بأكمله بالرغم من طابع بنائه المختلف عن
البناء الدرامي التقليدي ومن أسلوب السرد وصوت الراوي الذي تخيل لنا أجزاء
من حكايات الناس الابطال ويتواري قليلا ليعود من جديد وكأنه مرشدنا إلي ذلك
العالم الذي قد نعرفه ولكننا لا ندريه تماما وبرغم أن حكايات الفيلم كاملة
الوضوح والقوة والشجن إلا أن المرشد أو الراوي هنا لم يثقل علينا وإنما خفف
أحزان المرض والموت خاصة موت الطفلة البطلة التي حملت الاثقال حين جسدت
الأمل في الانطلاق والرمز للمستقبل والقدرة علي الحلم وماتت بعد أن رأت
لأول مرة "وسط البلد" الذي كانت تطالب إباها بإلحاح بزيارته.. لم تجده كما
تخيلت لكنها تركت علامة لدي كل من عرفها في البيت والحارة والمدرسة وفي
المشهد الأخير من الفيلم تتجول الأم حنان والأب رمضان علي كوبري اكتوبر
ومعهما طفل جديد شقيق الفتاة التي رحلت.. أبطال "عين شمس" لابد أن تكتشف
أنك تعرفهم الأب السائق المثقل بهموم العيشة والذي يكمل التزامه بعمل ثان
مع مليونير مديون يمثل هو الآخر جزءاً من عالم مألوف لدينا ينتهي الأمر به
مهاجرا إلي إيطاليا حيث تقيم زوجته مع ابنه مكتشفاً أنه يحقق نجاحا أكبر
بربع مجهوده في مصر هاربا من المر ومن الاعتراف بأنه جزء من الأزمة وتاركا
الجميع في أحوالهم ينتظرون الفرج الذي وعدوا به مرارا خاصة من ممثلي
البرلمان وأخرهم رفع شعاره ليحصد أصواتهم "عين شمس مثلها مثل الزمالك سوف
تتعدل أوضاعها" قبل أن يختفي بعد النجاح يربط الفيلم ما بين الإنسان
والمكان والزمان ويؤكد علي تلاشي الفروق فالإنسان هنا في هذا المكان
المحروم من كل شيء لا تفيده المعلومات عن الماضي حيث كانت عين شمس هي قلب
الدولة المصرية وعزها ولا يفيده حتي الوعي طالما بقي بداخله ولم يتطور
والمصيبة حين تتحول إلي العكس معبرا عن عمق التدهور الذي طال الإنسان وليس
المكان فقط وهو ما نراه من إعطاء صاحب مزرعة دواجن حبوب منع الحمل لدواجنه
حتي تسمن سريعا ويبيعها ومن رفض الناس مشتركي وصلة الدش لرؤية برنامج عن
أخطار السرطان بثه الشاب الذي يفك التشفيرات ويبث لهم الماتشات.. الموسيقي
هنا عنصر مهم وخلاف في إطار هذه الدراما التي تجمع ما بين العام والخاص وهي
للفنان إبراهيم خلف كما أن التمثيل من أفضل العناصر بداية من ممثل دور
السائق رمضان هذا الممثل الذي يبدو وكأنه لا يمثل مع "حنان يوسف" في دور
الأم "حنان" وهي ممثلة رائعة أصبح تواجدها مقصورا علي الافلام القصيرة
مثلها مثل ممثل دور المليونير سليم بيه واسمه بطرس غالي وكذلك ممثلة دور
المدرسة فاطمة وممثلة دور الدكتورة مريم ابنة شقيقة المليونير التي ستكتشف
اصابة "شمس" وممثل دور كلبظ صاحب مزرعة الدواجن ومحترف الانتخابات أيضا
"نبيهة لطفي" في دور السيدة الوحيدة ساكنة البلكونة التي ترتبط بعلاقة
صداقة مع الطفلة شمس "حنان عادل" وهي طفلة موهوبة ولها حضور رائع علي
الشاشة أهمية هذه الاختيارات اللانمطية للممثلين والممثلات تأتي من قدرتهم
علي التحرر من قيود الدراما التقليدية وأساليبها والانطلاق في التعبير عن
نص وأسلوب مختلف وأكثر بساطة وصدقا يوجد تفاوت بين بعض أجزاء الفيلم وإطالة
في مشهد الفرح والرقص ولكننا في النهاية أمام عمل فني فيه شرف الحلم
بالاختلاف ومذاقه وفيه قدرة علي رسم صورة جديدة لأوجاع قديمة وأحلام عظيمة
ضاعت ولكن تبقت منها لمحات يتمسك بها رمضان وحنان وفاطمة وامثالهم في هذا
الوطن.
magdamaurice1@yahoo.com
الجمهورية المصرية في
14/05/2009 |