تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

قصة بنجامين العجيبة

قيس قاسم

ولد عجوزاً ومات طفلاً

كثيرا ما يشطح خيال الناس بعيدا، فيفكرون في أشياء مستحيلة الحدوث  كعودة عقارب الساعة الى الوراء، وانقلاب دورة الحياة، لتبدأ من نهايتها، فيولد المرء عجوزا ثم يمضي به العمر حتى يصبح طفلا فيموت! ولأن مثل هذه الأفكار هي محض خيال، فقد انشغل الأدب والفن في تصويرها. وكانت السينما الأجرأ بين الفنون في خوض مغامرة تحويلها الى «واقع بصري»، نصدقه لساعات وننسى غرائبيته. في خضم متابعتنا لحكاية من نسج خيالنا البشري، حكاية، تجري أحداثها أمام أبصارنا، فنذهب معها بعيدا الى  حد تصديقها، مثل حكاية بنجامين العجيبة وكيف ولد عجوزا، في الثمانين من العمر، ثم راح مع الوقت يصغر ويصغر حتى عاد رضيعا ومات! حكاية عجيبة، كتبها الروائي الأميركي ف. سكوت فيتزجيراد حولها الى السينما أريك روث وأخرجها دافيد فينشر.

تبدأ قصة بنجامين العجيبة في غرفة مستشفى حيث ترقد عجوز على سرير الموت، تسرد لابنتها حكاية صانع الساعات الأعمى، الذي صنع ساعة عجيبة تجري عقاربها الى الوراء. الساعة التي أخذت من وقته سنوات، أرادها ذكرى لموت ابنه في الحرب. لقد حضر مراسيم تدشينها في إحدى محطات القطارات على يد الرئيس الأميركي روزفلت. شعر الجميع يومذاك بمن فيهم الرئيس بالحرج. فالساعة بحركتها المعاندة للزمن السوي، عبرت عن احتجاج الأب الأعمى لفقدان أبنه في حرب لم يخترها. رافقت حركتها صور افتراضية لحياة الجندي، وهي تعود الى الوراء. لقطات بطيئة صورت مستقبل حياته، بافتراض سيرها وفق تطور سليم: كأن يرجع من الجبهة ويعود الى بيته وعمله ويتزوج و... و! انه مجرد افتراض وخيال. فالرجل الأعمى سيغيب فجأة، والأرجح إنه وضع حدا لحياته بعد انتهائه من صنع ساعته الأخيرة. لقد دخل عرض البحر بقارب صغير ولم يعد أبدا.

من هذا المدخل البانورامي لفكرة العجيبة. فالمرأة العجوز، وبعد جرعة كبيرة من مهدئات الآلام، ستطلب من ابنتها، أخراج مخطوطة قديمة من حقيبتها وقراءتها. تقرأ حياة بنجامين منذ بدايتها، من يوم مولده الذي صادف لحظة الإعلان عن نهاية الحرب العالمية الأولى في العام 1918، في اللحظة التي خرج الناس فيها الى الشوارع ليعبروا عن فرحتهم بالخبر، وضعت سيدة من مدينة نيو أورليان مولودا مشوها، وطلبت من زوجها قبل وفاتها أن يجد له مكانا في هذا العالم. وبدلا من هذا، قرر الأب التخلص من المولود، فاتجه نحو النهر، ليرميه فيه. وبسبب صخب الشوارع وحشود الشرطة يعدل الأب عن فكرته فيسرع الى رميه أمام عتبة أحد منازل رعاية المسنين. في هذا المكان ستكتب للطفل، الغريب الشكل، حياة جديدة. راعية المأوى السوداء «كويني» ستصبح أمه، وسيصبح بنجامين اسمه. وستتضح حالته: لقد ولد هذا الكائن عجوزا، وهذا هو مرضه بالتحديد، مرض يولد الإنسان فيه طاعنا في السن، وبدلا من أن يكبر، مثل بقية البشر، فإنه يصغر ويصغر حتى يعود طفلا. ولأنه سينشأ في مكان للمسنين فلن يجد حرجا كبيرا بينهم. فهو جسمانيا عجوز مثلهم، والفارق انهم يغادرون الحياة مسرعين، فيما هو يستقبلها ببطء.

محطات

في الثمانين عاما، التي عاشها بنجامين، محطات كثيرة، شخصية وعامة، ونحن نلاحقها. نلاحق معها تواريخ وأحداثاً شهدها القرن الماضي، تركت آثارها عليه وعلى الولايات المتحدة الأميركية، موطنه. أهمها على المستوى الشخصي علاقته بالطفلة ديزي التي تعرف عليها في بيت العجزة، حين جاءت لزيارة جدتها. وقتها كان عمر بنجامين 12 عاما وهي خمس سنوات. لقد تعلقا ببعضهما البعض، وبعد سنوات سيكتشفان أنهما يحبان بعضهما البعض فرقتهم محطات وجمعتهم غيرها، لكنهما ظلا مخلصين الواحد للآخر حتى اللحظة الأخيرة. فالسيدة التي ترقد على سرير الموت إنما هي نفسها ديزي، والمذكرات التي تقرأها ابنتها كارولين (الممثلة جوليا أورموند) لها إنما هي جزء من مذكراتها، أو تاريخ علاقاتها المكتوب مع بنجامين. لقد فرقتهما السنوات الأولى إذ لا يعقل نشوء علاقة بين عجوز سبعيني وطفلة. وجمعهما منتصف العمر حين بلغ كل منهما عمر الأربعين تقريبا. صارت ديزي راقصة بالية شهيرة في نيويورك، بينما جرفت أمواج الحياة بنجامين معها، صعودا وهبوطا. فمن ميناء نيو أورليان، سيبحر الى المحيط المتجمد وسط العواصف الثلجية، على سطح مركب. وفي باريس سيحل. وفي مورمانسك سيتعرف على تيلدا سوينتون، السباحة عابرة المانش. وفي زمن الحرب العالمية الثانية سيشارك في مقاتلة السفن اليابانية وسط المحيط. وبعد رحلة طويلة سيعود الى المكان اياه، الى دار المسنين وقد غادره الكثير من معارفه. كل هذه الحياة يعرضها لنا المخرج دافيد فينشر بطريقة طرية وسهلة. الطراوة هي ميزتها الأساس. فرحيل الناس كان يجري من دون تصعيد درامي، حتى عودة والده واعترافه به كإبن شرعي، أورثه كل ما يملك، وموته سيجرى بطريقة طرية. ومع حسناتها، فإن المبالغة فيها أساءت الى الفيلم كثيرا، خصوصاً مشهد موت والدة بنجامين بالتبني، حين مرره بشكل بارد، وكأنه مشهد لتشييع جنازة «عبدة سوداء» في زمن الرق الأميركي. وما يسجل على الفيلم، جديا، الإطالة الزمنية للمرحلة الرومانسية التي عاشها بنجامين ودايزي (الممثلة كايت بلانشيت). فبعدما أصبح غنيا وبعد تعرضها لحادث سير، وعودتها من نيويورك أفرط الشريط في متابعة حياتهما العاطفية وأكثر من حوارات بينهما لم تضف جديدا اليه، بل أثقلت جزءا من ساعاته الثلاث التي سردت حياة بطلها (الممثل براد بيت). وربما، يكمن هنا، سر ابعاده عن جوائز الأوسكار الأخيرة، بعدما رشح لنيل الكثير منها، وأهمها كانت جائزتي أفضل ممثل وممثلة. فأداء برات كان مذهلا. لقد لعب دورا هو الأصعب له منذ اشتغاله في السينما، كما نظن. تطلب تجسيد دور كائن مر جسده في بمراحل انتقالية شديدة التغير، قدرة تمثيلية كبيرة. ففي المعيار السينمائي، حمل أي ممثل لـ«قناع وجه» الشخصية التي يلعبها خلال ساعات طويلة، هو اختبار حقيقي لقدرته التعبيرية التي يتطلب تشغيل جسده مضاعفا لايصال الحالة النفسية الى الشخصية. كما ان جلادته في تحمل الماكياج الصعب والمعقد تحتاج هي الأخرى الى فهم مسؤول للدور.

وكما صرح براد بيت، فقد كان مقررا في عقد عمله، الجلوس أمام الماكير لمدة 3 ساعات يوميا فقط! لكنها امتدت الى خمس ساعات (حصل الفيلم على جائزة أفضل ماكياج فني في الأوسكار). وبدورها نفذت الممثلة بلانشيت دورا مركبا عبرت فيه عن حالات متغيرة لمسار امرأة تغيرت حالاتها النفسية وفق مراحل زمنية متباينة. ديزي الراقصة غيرها ديزي العاشقة والزوجة، وهي مختلفة كليا في أيامها الأخيرة حين عاد بنجامين، بعد زمن طويل، اليها.

والعلاقة المختلة بسبب اختلال نموه، تطلبت اداءً تمثيليا استثنائيا منهما، لقد عبرت بلانشيت عن قوة مشاعرها بشكل رائع في المشاهد التي يقرر بنجامين تركها مع ابنته، لأنه لم يكن يريد ان تربي زوجته طفلين، هو وابنتها. وفي اللحظة التي تقرر رعايته طفلا، حتى وفاته، عبرت، الممثلة بلانشيت عن أحاسيس امرأة محبة وأم لرجل ولد عجوزا ومات بين يديها طفلا رضيعا، أفضل تعبير. وعلى المستوى الإخراجي، حرك فينشر برات بطريقة رائعة. لقد عرفه سابقا وأناط به دور البطولة في فيلميه «نادي القتال» و«سبعة». وأضفت خبرة كاتب السيناريو اريك روث بعالم الاختلاف أهمية الى الفيلم. فروث كتب سابقا الفيلم المثير «فورست غامب». كل هذه العناصر أهلت فيلم «حالة بنجامين بوتون العجيبة» من دون شك، لأن يصبح فيلما مميزا، لم تنقص أهميته خسارته بعض جوائز الأوسكار.

فالفيلم الجيد تحدده عوامل كثيرة وآخرها الجوائز.

الأسبوعية العراقية في

15/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)