تلفت يوسف بك وهبي ـ الممثل المصري المعروف باسم «يوسف وهبي» ـ حوله
بسرعة وتطلع إلى جمهوره بنظرة الخبير في ثوان معدودات، ثم همس بثقة لزميله
الواقف إلى جواره على خشبة المسرح: لا تخش شيئاً، سوف اجعل الجمهور يشتعل
تصفيقا..! وفي خلال ثوان معدودات كان وهبي لوى عنق الحوار المسرحي الذي
يردده لسانه ليقول: ألا فليسقط الاحتلال! واشتعل الجمهور الذي كان مصابا
بالكسل في تلك الليلة من مطلع الأربعينيات في مسرح يوسف وهبي، ليصفق ويهتف
بل قام عن مقاعده يصرخ باسم مصر المستقلة ويوسف وهبي!
رواية تناقلها نقاد المسرح ومعاصروه في ذلك الزمان وسجلتها الصحافة
المصرية في وقتها، حول براعة يوسف وهبي في اقتناص التشجيع من الجمهور.. ذلك
الجمهور الذي كانت القضية الوطنية لا تبرح دائرة انشغاله في زمن احتلال
بريطانيا لمصر (1882 ـ 1956)، فبرغم ان المسرحية التي شهدت هذا الموقف كانت
عاطفية، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالقضية الوطنية إلا أن وهبي ادرك
ان الناس لن تصحو من نومها على مقاعد المسرح وتتحول إلى الحيوية والتجاوب
والتصفيق الا بعبارة وطنية حماسية من هذا النوع. ولم يجد وهبي غضاضة في
هذا، فهو ـ مثل جمهوره ـ كان يتمنى أن يزول الاحتلال ولا بأس في استثمار
هذه الحاسة الوطنية في تصفيق مسرحي!
على ان تعاطي يوسف وهبي ـ في هذا الموقف تحديدا ـ مع السياسة لايعني
ان الرجل كان فقط يستغل القضية الوطنية لصالح التصفيق الذي يعشقه كل فنان،
وانما هو مؤشر على وجود السياسة في داخل صلب الفن والعمل الفني وشأن الفنان
ومكانته في مصر منذ وقت بعيد، ربما يستخدمه للتصفيق حينا، وللتعبير عن مبدأ
أو موقف حقيقي في معظم الأحيان.
هكذا شأن الفنان في مصر مع الملف السياسي في كل زمان، منذ زمن
الاحتلال البريطاني وإلى زمن العدوان الإسرائيلي على غزة، ومن أزمنة السلم
إلى أزمنة الحروب المصرية الأربعة ضد إسرائيل، في حقبة الاشتراكية الناصرية
وفي حقبة الانفتاح وصولا أيضا إلى حقبة العولمة! السياسة تنتقل إلى الفنان
ـ فيما يبدو ـ من أدوار خلقت له شعبية وزعامة، أو صنفته سياسيا من دون قصد
منه، فتحول ـ تدريجيا ـ الى سياسي رغم انفه..مشهد متكرر في الفن المصري،
وان كان متجددا وشديد الحيوية مع اسم عادل إمام الذي لقبه جمهوره والوسط
الفني ايضا بلقب «الزعيم». وإلى جوار اسم عادل إمام أسماء من الماضي وأخرى
من الحاضر معاصرة له، يبدو أن أدوارها تماهت مع هويتها الفنية فلم يعد
أصحابها مجرد فنانين وإنما اعتبرهم الناس سياسيين محترفين!
[ وطن في السماء
قبل ثلاثة اسابيع، أطلق عادل إمام تصريحات تمثل رأيه في مجزرة غزة من
الناحية السياسية، وعقّب عليها صديق عمره ـ في دمشق ـ دريد لحام. لحام
انتقد امام، وإمام رد بأنه فوجئ برأي لحام وعاتب عليه لأنه لم يشاوره قبل
ان ينتقد آراءه، وبين الاثنين صداقة تمتد لما يربو على ثلاثين عاما وبينهما
مشروعات فنية مؤجلة، لعل اهمها شريط سينمائي يحمل عنوان «وطن في السماء»،
يدور حول فكرة الوحدة العربية وامكانية تحقيقها، وهو الشريط المتفق عليه ـ
كفكرة ـ بينهما قبل سنوات بعيدة غير انه لم ير النور الى اليوم.. وبين عادل
إمام ودريد لحام امور أخرى متشابهات ومتنافرات ايضا!
أهم هذه المتشابهات، هي ان عادل إمام ودريد لحام كلاهما ينظر الى
الآخر بوصفه فناناً ـ سياسياً من الدرجة الأولى، كلاهما اطلق تصريحا حاسبه
عليه الجمهور والنقاد، وان وقعت ازمة اقليمية أو دولية طولب بان يدلي برأيه
ـ علناً ـ فيها، وان جدت على مجتمعه في مصر أو في سوريا ظاهرة كان عليه ان
يعبر عنها بفنه، فضلا عن علاقة صداقة قديمة بين الاثنين!
لكن المتنافرات ايضا واضحة بين هذين الصديقين القديمين. فلحام ربما
يكون ملتصقا سياسيا بـ»البعث» في سوريا منذ مدة طويلة، فيما رفض عادل إمام
عضوية الحزب الوطني الحاكم في مصر عدة مرات عرضت عليه فيها، كما رفض الترشح
البرلماني أو الحصول على مقعد ـ بالتعيين ـ في مجلس الشورى، اي ان عادل
إمام رفض الارتباط ـ الرسمي ـ بالنظام، وفضل ان يعقد معه علاقة صداقة
لاتخلو من خلافات اذا تطلب «الفن» تلك الخلافات!
عموماً لكل من الصديقين قناعاته وانتماءاته والتزاماته، غير ان عادل
إمام في مقابل الحفاظ على لقب الزعيم الذي منحه اياه الجمهور وتقبله منهم
النقاد وأكدوه (وهو لقب اكتسبه امام من مسرحيته الزعيم في مطلع التسعينيات
والتي امتد عرضها كبقية مسرحياته لسنوات متعددة حتى التصق به اللقب خاصة مع
اهتمامه السياسي المستمر. كما اطلق اسم الزعيم على مسرحه بشارع الهرم غربي
الجيزة على الضفة الاخرى من نيل القاهرة)، وهو ادرك ـ ربما ـ ان حصوله على
تميز بعضوية الحزب الحاكم أو بتعيين في مجلس الشورى، سوف يضعف زعامته
الشعبية، فالناس انما منحته اللقب لأنهم يرونه معبرا عنهم ـ هم ـ وليس عن
النظام!
[ السياسي
التصاق عادل إمام بالاشتغال بالسياسة ـ سواء من خلال الفن أو من خلال
الالتحام المباشر بعوالم السياسة ـ أمر له تاريخه الطويل نسبيا.. في بداية
نجوميته التي ظل طوال الستينيات يحفرها ويؤسس لها بادوار مساعدة الى جوار
النجوم الكبار لأكثر من عشر سنوات، لم يكن يبدو على عادل إمام اهتمام سياسي
بعينه، وان كان صرح بعد ذلك بسنوات طويلة انه كان مؤمنا حتى النخاع
بالمشروع الناصري الذي ظهر إمام كثمرة له في الستينيات، ابنا للطبقة
المتوسطة ولايحمل وسامة نجوم هذا الزمان. والمرحلة الناصرية توفرت فيها
معادلات جديدة لشكل النجم ومواصفاته المعنوية ايضا..حتى ان محمود المليجي
صار نجما في شريط «الارض» في العام 1970 مع المخرج الكبير الراحل يوسف
شاهين. وعادل إمام هو انضج ثمرة لهذه النظرة (الواقعية) ان جاز التعبير
لمواصفات النجم وهي افراز الستينيات، وهكذا اشتعل حلمه بالنجومية في ظل
ايمانه بفلسفة النظام الناصري والتي عبر عنها في تصريحاته كثيرا بعد رحيل
ناصر بسنوات، حتى صنفه اليسار المصري ـ لفترة ليست بالقصيرة ـ فنانا
ناصريا!
من هذا المنطلق ظل عادل إمام ـ بعد ان تاكدت نجوميته في السبعينيات
بمسرحيات من طراز «مدرسة المشاغبين» و»شاهد ماشافش حاجة» ـ يهوى دور البطل
الشعبي القريب اكثر من الطبقات الفقيرة أو في احسن الاحوال المتوسطة..معبرا
باشرطته السينمائية ومسرحياته عن افكار مضادة للانفتاح الاقتصادي في
السبعينيات، والفساد والاستبداد.. مغلفا هذا التوجه بالضحك والكوميديا
مبتعدا عن الصيغ الخطابية المباشرة في الكلام عن السياسة.. تاركا اياها
لحواراته الصحافية، وهو ـ الى اليوم ـ ليس له شريط سينمائي واحد يحوي
عبارات سياسية مباشرة أو مواقف سياسية فجة أو تحوي خطبا وعظات!
صورة البطل الشعبي هي التي جعلت عادل إمام مؤثرا جدا بعد ذلك في
التسعينيات ومفيدا لكل الاطراف: الناس الذين عشقوه وجعلوه نجم النجوم،
والدولة التي كانت تخوض حربا شرسة ضد الارهاب الديني المسلح الذي شهد اقصى
مد له من أواخر الثمانينيات وحتى اواخر التسعينيات، وهنا ـ فقط ـ حصل
الالتقاء بين عادل إمام ـ الزعيم السياسي الشعبي ـ وبين عادل إمام الذي
تربطه صلة صداقة مع النظام، ونجح عادل إمام في الجمع بين المتناقضين من دون
ان يسقط من على الصراط لمرة واحدة!
أشرطة مثل «الإرهابي» 1994 أو «طيور الظلام» 1996، كشفت الارهاب
الديني وبصور غير مسبوقة، ونتج عنها تهديد عادل إمام في حياته واطلاق فتاوى
تكفيره على ايدي امراء هذه الجماعات واصحاب الفتاوى فيها، وهو لم يكتف بذلك
وانما ذهب الى قلب الارهاب المسلح في اسيوط ـ بوسط صعيد مصر ـ في اواسط
التسعينيات مع مسرحه ليعرض هناك برغم خطورة ذلك على حياته وحياة فرقته، من
هنا اكتسب عداء هذا التيار الى اليوم! ايضاً اكتسب عداء الاسرائيليين اولاً
بكونه من اوائل الفنانين المصريين الذين دعموا وساندوا مقررات نقابات
الفنانين في مصر بمقاطعة اسرائيل ورفض التطبيع بعد كامب دافيد (1979)، ثم
بتكرار تجسيد هذا المعنى ذاته في اشرطته السينمائية ومسرحياته وصولا الى
شريط كامل ضد التطبيع وان كان مغلفا بالكوميدي هو «السفارة في العمارة» قبل
ثلاث سنوات!
وتبدو صورة عادل إمام اليوم اقرب الى فنان يجره الاخرون الى احتراف
السياسة جرا، مستثمرين نجوميته في تصريحات سياسية تلقى الرواج الصحافي
والاحتفاء الاعلامي، وهو يرى ان السياسة والفن وجهان لعملة واحدة، لكنه
يرفض احتراف السياسة والكثيرون يحاولون تصنيفه سياسياً ويعجزون. خصومه
يقولون انه مع الدولة، وعشاقه ـ وهم اغلبية كاسحة ـ يرون انه لا يصدر الا
عن ارائه وافكاره هو، وفي كل الحالات فان عادل إمام يظل الفنان المصري
الاكثر التحاما بالفكرة السياسية شاء ام ابى، والفن هو الذي حول عادل إمام
الى السياسة، فتماهت شخصية الزعيم وشخصيته ولم يعد ممكنا معرفة اين يبدأ
عادل إمام السياسي واين يبدأ الفنان.. كلاهما واحد!
[ ناجي العلي
ليس عادل إمام وحده الذي دخل الى عوالم السياسة عبر ادواره الفنية،
ثمة اخرون من جيله ومن اجيال سابقة عليه..لكنهم ليسوا ملتصقين بالعمل
السياسي ولا يحاول الناس جرهم اليه على غرار حالة عادل إمام التي تبدو
الاكثر استثنائية. هم على ادق التعبيرات فنانون مسيسون بفتح الياء أو
بكسرها.. فأما الياء المفتوحة، فوراءها انهم فنانون لديهم وجهات نظر سياسية
محددة ولم تطرأ عليها التغييرات منذ زمن، والرأي العام يحاسبهم وفق ذلك..
وهم عبروا عنه في معظم اعمالهم الفنية، حتى التصقت صورتهم الذهنية لدى
الناس بصورتهم كسياسيين في اعمالهم الفنية. واما الياء المكسورة فلأنهم
عمدوا الى اكساب اعمالهم بعدا سياسيا في غالب الاحوال، كونهم يؤمنون بان
السياسة لا يمكن ان تنفصل عن العمل الفني!
لعل من ابرز هؤلاء نور الشريف، وهو ـ كعادل إمام ـ صنف يسارياً معظم
الوقت وناصري الهوى على وجه التحديد. وبرغم ان نور يرفض هذه التصنيفات
القاطعة، لكن اعماله هي التي اوحت للناس بذلك..وخصوصا بعد شريطه السينمائي
الشهير «ناجي العلي» 1991، والذي تناول سيرة ذاتية لفنان الكاريكاتير
الصحافي الفلسطيني الشهير ناجي العلي الذي اغتيل في لندن عام 1987، وكان
معروفا بمشاغبته السياسية وربطه قضية فلسطين بقضية الديمقراطية في العالم
العربي. واحتفظ نور الشريف ولاسيما بعد هذا الشريط بعلاقات قوية وحضور جذاب
في مختلف العواصم العربية، وهو يخاطب في حواراته الصحافية وكأنه سياسي
محترف ويطلب اليه ان يجيب على اسئلة لا يجيب عليها سوى السياسيين، وهو وان
كان يميل مثل عادل إمام الى عدم المباشرة في الزج بالسياسة داخل العمل
الفني، لكنه في الوقت ذاته يبتعد بمسافة كبيرة عن الضحك أو تقديم السياسة
في عمل خفيف الظل، مفضلاً ان يكسب اعماله عمقاً ما، يجعلها اقرب الى المثقف
المصري والى الطبقة الوسطى، ولم يلعب على وتر البطل الشعبي الا قليلا! وها
هو يعد مسلسلاً ـ هذه الايام ـ يحمل عنوان (ماتخافوش) عن الصهيونية
العالمية وكيف تسلط تهمة العداء للسامية على رقبة اي اعلامي يكشف حقيقتها
على الفضائيات اليوم!
[ فارس بلا جواد
غير ان «محمد صبحي» يبقى الفنان المسيس الاعلى صوتاً في مصر منذ
فترة..هو ليس غير مباشر مثل عادل إمام، وليس ميالا الى اطروحات نور الشريف
التي تشبه اطروحات المثقفين على مقاهي وسط البلد، صبحي يتشابه مع عادل إمام
في فكرة الخلفية الكوميدية الساخرة للسياسة، ومع نور الشريف في اكساب
اعماله عمقا ثقافيا ما، لكنه يختلف عنهما في ان اعماله المسرحية
والتليفزيونية تبدو عالية الصوت جدا، وممتلئة في كثير من الحالات بالخطاب
المباشر الذي يصل الى الهتافات احيانا..وهو لون يجد من يضغي اليه بين صفوف
الجمهور المصري والعربي الغاضب الآن!هذه هي الصيغة التي جعلت صبحي فنانا
مسيسا اقرب الى المزاج الشعبي غالبا، ولعل مسلسله الشهير فارس بلا جواد
يمثل حالة مهمة في هذا السياق.
فالمسلسل احتل مكانة كبيرة شعبيا عند الجمهور، لكن قطاعا من المثقفين
والمؤرخين ودارسي التراث اليهودي والمهتمين به لم يوافقوا صبحي على فكرة
ادخال بروتوكولات حكماء صهيون الى احداث المسلسل، كونها مشكوكا فيها من
الناحية العلمية والتاريخية. وبرغم ان من بين هؤلاء المؤرخين والمثقفين من
لا يمكن التشكيك في وطنيتهم، الا ان صبحي كان شديد العنف في الهجوم عليهم،
واتهمهم باسوا التهم فضائيا وصحافيا، فآثروا الا يعودوا الى مناقشته..ايضا
النقاد الذين عابوا على مسلسلاته ـ مثل «عايش في الغيبوبة»، و»أنا وهؤلاء»
ـ الخطابة الزاعقة فيهم لقوا منه العنف نفسه، مع انه خلاف فني بحت..وصبحي
هو اول ممثل مصري يكرس مسرحية كاملة للهجوم على اميركا «ماما امريكا» في
التسعينيات، وهو ايضا اول من هاجم شخصية الديكتاتور في مسرحيته «تخاريف» في
اواخر الثمانينيات، وهي قضايا جعلت اليسار المصري يلتف حوله ويصعده في تلك
المرحلة، لكن صبحي كف منذ فترة ليست بالقصيرة عن تناول هذه القضايا متجها
الى القضية الفلسطينية وقضية الوحدة العربية بالاساس في معظم اعماله
الاخيرة! وصارت معظم تصريحاته وحواراته الصحافي منها والفضائي متعلقة
بالسياسة وهو يبدو فيها منفعلاً عالي الصوت تماماً كما يبدو في اعماله
الفنية!
[ «أحلف بسماها وبترابها»
الذين عرفوا العندليب الاسمر الراحل ـ الخالد ـ عبد الحليم حافظ،
اكدوا انه لم يكن مجرد مطرب بارع في اللون الوطني في الخمسينيات والستينيات
وحسب، وانما كان سياسيا محترفا في العصر الناصري، وان كان لم ينطق بكلمة
واحدة في السياسة سرا أو علنا!
التصق حليم بالناصرية وهو صوتها الغنائي والشعبي لا شك في ذلك ولا
جدل، وشكل ثنائيات في الاغنية الوطنية مع صلاح جاهين ومع الابنودي من
الشعراء ومع كمال الطويل والموجي وعلي اسماعيل ومحمد عبد الوهاب بالطبع في
التلحين الوطني..ومن عرفوه اكدوا ان هزيمة حزيران ـ يونيو 1967 ذبحته ذبحا،
وانه حين قرر ان يغني في بداية كل حفل من حفلات بعد الهزيمة اغنيته الوطنية
الشهيرة(أحلف بسماها وبترابها)، لم يكن هذا بتوجيه من القيادة السياسية كما
اشيع..وانما بقرار حليمي بحت..وكان حليم اذا انفعل يقسم بعروبته وهو قسم
ليس للتظاهر أو النفاق، بدليل انه اقسم به في مجالسه السرية قبل
العلنية..وكان حليم يذهب الى ناصر في بيته ليغني لاولاده وهو امر ثابت من
معاصري الاحداث، كانت لحليم مكانة حميمية بين ابناء الزعيم الراحل، الذي لم
يجد غضاضة في ان يزور حليماً في المستشفى مع اول ازمة مرضية تداهمه في
العام 1955 مع انه لم يكن بعد نجماً كبيراً!
ظل حليم صوتاً للثورة، ولعب دورا حاسما في تجييش مشاعر جيل كامل في
الستينيات لصالح الناصرية التي كان يعتقد فيها ولا يعمل معها فقط، وكانت
معه مجموعة مؤمنة بنفس الافكار..بل ان قطب هذه المجموعة صلاح جاهين كان
رائد عبدالحليم حافظ نحو هذا التوجه. وفيما استطاع حليم ان يتجاوز الهزيمة
ويحتفظ بذاته وينجو من الاكتئاب، كان صلاح جاهين يدفع الثمن من حياته
اكتئاباً، اذ ظل اسيرا لهذا الاكتئاب منذ 1967 وحتى وفاته بعد ذلك بعشرين
عاما، ولم يفلح معه اي علاج حتى هذا العلاج الذي تلقاه في موسكو 1972، وعاد
من هناك اكثر اكتئابا، وبداء البلهارسيا التي تفتت الكبد رحل حليم الناصري
والذي باح في مجالسه والسادات في الحكم انه بكى على ناصر يوم وفاته 28
ايلول ـ سبتمبر 1970 كبكاء الناس على رحيل ابائهم، وباح حتى اخر ايام حياته
بانه ناصري ومن ابناء الثورة وان كان حليم ـ بلباقته المعهودة ـ لم يعلن
ذلك لكي لا يغضب السادات الذي لم يستعن به لتجييش مشاعر الشباب حوله،
فالسادات كان يعلم ان حليم فعل ذلك في عصر ناصر عن قناعة وليس بتكليف
فقط!وبداء الاكتئاب رحل جاهين الذي ظل مكسورا بهزيمة حزيران 20 عاما!
في مقابل نموذجي حليم وجاهين المؤمنين حتى النخاع بالثورة وزعيمها،
فان ثمة ثنائيا فنيا عصيا على التكرار لم يهادن اي نظام سياسي، وظل معبرا
عن اليسار المصري ـ في اقصى حالاته شغبا وتمردا ـ هو ثنائي الشاعر احمد
فؤاد نجم والعازف والملحن والمغني الراحل الشيخ امام. فهما دخلا المعتقلات
في كل العصور وفي عدة بلدان عربية ـ لا مصر وحسب ـ وظلا هائمين مشردين
يدفعان ثمن مواقفهما التي يتحد فيها الفن مع السياسة اتحادا تاما، وتتحول
معها الاغنية الى منشور سياسي صارخ بالتمرد، وتصير معها الكلمة والنغمة
طلقة بارود من بندقية ساخنة الفوهة.. ولم يعرف الفن المصري حالة كحالة نجم
ـ امام الى اليوم، ونظن انه لن يعرف مثلها، كونها نتاج ظروف تاريخية لعصر
معين كانت الاغنية فيه تنير طريقا وتشعل ثورة وتجيش جماهير وتوطد انظمة أو
تطيحها!
المستقبل اللبنانية في
08/03/2009 |