تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

روما .. كيف بناها فلليني

مقداد عبدالرضا

ترى لماذا يموت السحرة وهم اشد بقاء من نحن البشر العاديون ؟ ان يرحل البشر العادي فذاك سبب في غاية المنطق والقبول، لانهم خلاف مايفعله السحرة من انجاز، ماذا نكتب على قبر الساحر، وماذا سنكتب على قبر الانسان العادي ؟ الساحر لايحتاج الى شواهد، انها تلامسنا ابدا، اما الانسان العادي، فقد كان رحمه الله وينتهي الامر، طيبا كان ام شريرا، روما فلليني كتاب مضى وقت على صدوره، لكن قراءته تبقى ابدا ملهمة للكثير من المكتشفين ،،  فلليني ،،هذا المهووس بروما، طفل غر، مراهق، رجل شتام، محب، خبيث، حالم.

(اريد ان اكون في مكان انتمي اليه، روما تذكرني بشقة استطيع ادعاء ملكيتها والانتقال من غرفة الى اخرى) باصابعه يجس قلب روما، يجسه بقلبه، بضجته، قلب روما المعمر، يالهذه القدرة على حب المكان، الم يقولوا (الوطن الام) و (الوطن البيت) ؟ الاتتدحرج الحياة من بين اصابعنا حين نكتشف ان لها وجها واحدا ؟ لا بل تمحى ، ،عيون ،،  عيون في كل مكان، عيون في الاصابع، خلف الرأس عيون، في القلب، العقل، في الهواء ،،عيون ،،  عيون ،،

- نحن نولد حتى نعاني

مافائدة الحياة دون معاناة ؟ ماذا افعل في الفردوس (سوى انني اجلس فيه من الصباح الى المساء اعد فيهما اصابعي) ؟ ،،انا ابن الضجة فيها اغوص واحترق، اخون، احب واسعد،

- غالبا مااسال نفسي لماذا عملت فلما عن روما ؟ حسنا، من وقت لاخر اتلقى عروضا لتحقيق احد الافلام، التلفزيون الامريكي دعاني مثلا للسفر الى التبت او الهند والبرازيل لعمل نوع من الاستطلاع الغرائبي حول الاديان والسحرة، كان عرضا مغريا وافقت عليه دون تردد، لكني كنت اعلم مسبقا انني لن اغادر مكاني، عملت فلما عن روما لانني فيها احيا، انني احب هذه المدينة، وحدها تكفيني، تعادل المدن كلها، لاحاجة للسفر بعيدا كي يكتشف الانسان ماهو غرائبي وعجيب ولا متوقع، منذ ذلك الوقت جاءتني فكرة روما وهي تتكشف تحت يد انسان غريب، مدينة في متناول اليد وفي الوقت نفسه بعيدة كل البعد مثل كوكب مجهول مهمتنا اكتشافه ،،هاهو العمر يبدأ بالضوء، كتل من الضوء، المرأة تجلس فوق المقعد المقابل تلعب بالحلم، كنت طفلا، كنت ضوء، راحت المرأة في اغفاءة عميقة، يداي تتحسسان الضوء، للحظات حملني الضوء الى اصقاع البعيدين والسرمديين، سلالم هائلة تقود الى سلالم، ممرات تفضي الى شوراع لانهاية لها، فوق الابواب الضخمة ترى لوحات تحمل كتابات مبهمة، مكتب المياه، محكمة الغابات، في الداخل جدران غاصة باوراق يستحيل بلوغ منتهاها، خلف المكاتب جلس اقزام يسلكون انوفهم ويثرثرون في سماعة الهاتف، يتنقلون جيئة وذهابا في حركة حيوانية، لابد ان يتبادر الى ذهنك صورة قطيع القردة وهي تقفز وتزعق مقتحمة الهياكل المهجورة في كتاب المستنقعات، عرائس الماء تغسل الطرقات، تطهير حقيقي حينما يكون الماء لانهائي، جسدك لانهائي، الذين في الاعالي هم الفيضانات، في كل مرة تكتشف نوع من اللذة بين الماء والجسد، عالم من الجبال يعلو ويهبط في رقصة تكاد من لذتها ان تتسرب الروح ،،الممثل يصرخ .

- اين سيارة الفيراري ؟

سلك يفصل الجسد عن الرأس، يطوح الرأس بعيدا ،،كرة ملونة تحلق عاليا في الفضاء ،،لايجاري الطبيعة ولايقبل بانجازات البشر، كبرياؤه يدفعه الى صياغة جديدة لكل شيء، في مسرح العرائس الذي كان يديره صنع مدنا وغابات وهضابا، نزعة طفولية للتملك، عرائسه هو، افلام فلليني ماهي الا عرائسه، للحصول على بعض المعلومات لايتوانى بالاتصال باحد محبي روما القديمة ،،يتمتم في الهاتف .

- انا فلليني

وهذا اعلان كاف لفتح كل المصاريع امامه، عندما يواجه احدى العقبات يلجأ الى وسائل متطرفة، يبعث باحد (العنيدين) ليتوسل الى الشخص القادر على منح رخصة التصوير في متحف او فيلا او اى مكان اخر محضور الدخول،

- اذا رفضتم منحي رخصة التصوير سيطردني فلليني من العمل، عندي خمسة اطفال، انتم لاتعرفونه انه لايمزح ...

ملل سيحطم قلبي، جسدي يقيم داخل جسدي، هوذا المأزق، اتلقى التعليمات مثلما تفعل الحيوانات، اي تاريخ ؟ ليس امامي سوى التاريخ، يستقر فلليني اخيرا على المنتج الذي يقبل المشروع ،،ارتوري فاسيل، رجل صقلي جشع، ثور صغير بعينين براقتين يتهالك على الفلم ويتم التوقيع، لكن فلليني لايعلم نحو اية بلية يتجه، يتورط المنتج بهدة فترة في فضيحة مالية في سويسرا، البلية تعم ادارة الانتاج، وذات يوم وفي جو العطالة والتكهنات المتضاربة يتوقف العمل في القلم، لكن هل سيتوقف فلليني ؟

- لو قدر لاي كان ان يحكم على الفلم هكذا بالانتهاء فجأة لتقدمت امام الكاميرا قائلا ،،  سيداتي سادتي، هناك الكثير مما يمكن اضافته، لكن لم يعد لدينا نقود وشكرا ...

شعب فلليني يتقلص من (2500) الى (500)،،  كان الجميع يطارده ،، 

- دور صغير ارجوك .

- ابتسامة فقط .

امرأة تهاجمه وتتهمه بانه استدعاها لمرت عدة دون نتيجة ..

- العدالة موجودة ياسيد فلليني ،،ساجعلك تدفع ...

اللصوص هم في العادة جماعة يسهل تمييزها، ابدا لايحاولون التستر، يرتادون بعض المقاهي في روما القديمة، انهم يجيدون اداء ادوارهم على احسن وجه، التقاطيع، الحركات، المفردات الشعبية، كل شيء جاهز، فلليني غالبا مايحتاجهم في افلامه، وهم يحبونه، يفعلون الشيء المستحيل لاسترجاع الاشياء المسروقة، شريطة ان لايتم ابلاغ الشرطة، لكن من اراد ان يبلغ سيفوت الفرصة عليه ويعتبر متحالفا مع العدو، عندها عليه ان يتدبر امره وحده ويتحمل تبعات النتائج، انها القاعدة، اللصوص في روما اكثر احتراما للقواعد، يتحدثون عن السجن حديثهم عن فندق بنجوم خمسة (الطعام جيد ،،اذا اردتم اسعادي ارسلوني الى سجن فيتيربو ،،انه الافضل )، في السجن يتمتعون بالراحة، يعيشون حياة منتظمة وصحية، يلتقون صدقاء وتعقد صداقات جديدة ،،

- بعد انتهاء الفلم قاموا بدعوتنا الى العشاء في مطعم صغير يقع خلف المسلخ وتغطي جدرانه جلود العجول، احدهم كان يرتدي بدلة رسمية، حي المسلخ يذكر بفتحة بوابة (بيا )، بيوت واطئة، عمارات كهنوتية، مدارس، اديرة، اشجار سامقات، جادات تدفع للتأمل، المسلخ يعتلي هذا كله، هناك تجد جرذان المجاري المتخمة بالدماء، اكثر سمنة من القطط وحتى الكلاب السائبة، رائحة الموت تدفع بك الى الهرب، حول حلبة اقيمت وسط ساحة صغيرة، جمهور غفير يشاهد مباراة ملاكمة، المشاهدون يحرضون الخصمين ..

- مابك، هل تنام واقفا ؟

- هل انتما مخطوبان ام ماذا ؟

الجمهور ينفجر ضاحكا ،،سائحة متحمسة بثوب السهرة تختلط بجمهور المتفرجين، اخرى ترتدي الاحمر تكشر عن اسنانها بطريقة سادية .

- اقتله ،،اقتله ..

احد الخصمين يقع على الارض، يحاول النهوض دون جدوى، المنتصر يقفز في ارجاء الحلبة نحو الاعلى، مدربه يضع المنشفة فوق كتفيه، المشجعون يقتحمون الحلبة ويحملون المنتصر مهللين وسط صراخ وزعيق الجمهور، رجل ساخط يصيح ويحتج ..

- انت لاعب رديء، لقد ربحت بفضل الحظ .

احد انصار الملاكم يجيبه بغضب ..

- انه بطل ،،بطل ...

- اغلق فمك، بامكاني الانتصار عليكما معا ،، 

وسط الفوضى الشاملة يفقد المصور آلة التصوير .

- الكاميرا، لقد سرقوا الكاميرا مني،

 تحت المطر الغزير ومن قلب روما نستمع الى اصداء وعويل ،السيارات ،الرتيب والمتوالي، الركاب ينتظرون سجناء داخل سياراتهم، امرأة تسوي مكياجها، رجل يقضم اظافره بانفعال، رجلا شرطة يقودا شابا الى عربتهم، مركب المتظاهرين الشباب وهم يحملون لافتات ،، 

- الراسماليون، البرجوازيون، نهايتكم وشيكة،

اثنان من سيارات التشريفات السوداء تحملان لوحة الفاتكان تمران ببطء، كاردينال عجوز يرافق دبلوماسيين من الصين، بين الحين والاخر يضيء البرق هذه الرؤيا المدوخة ... في البريد تنهال على فلليني الرسائل احتجاجا وتأييدا،

- اعيش قلقا دائما لانني ادرك بانني موهوب ولااحد يلاحظ ذلك .

فتاة من مقاطعة بولونيا ترسل صورتها عارية وترفقها مع خصلة من شعرها لتبين مقدرتها التمثيلية ،،احدهم يحتج ..

- السيد فلليني، علمت من خلال مجلة (اوجي) انك تعمل فلما عن روما، ومن ضمن ماعلمت ايضا انك انت الاخر مستعد ان تبصق على روما الفاشية، قد يكون ذلك سهل في الوقت الحاضر لكنه حتما سيكون اقل سهولة فيما بعد، على كل حال فمنذ ثمانين عاما لايفعلون سوى هذا، ليس بدافع المثالية، بل بدافع الارتزاق والتصالح مع الذات، لكن حاول قليلا ان تعرف ان الانسان الذي يتفق الجميع على وصفه بالقوة والذي يمتلك ميزة العمل في بلد تسوده الحرية المطلقة وهي ميزة ليست قليلة الشان، حاول ان لاتفعل كما الاخرين، ضع في فيلمك ال (50%) من الناس الشرفاء الذين عاشوا تلك الفترة، انت لاتعلم ان نزلاء السجون هذه الايام لم يتعلموا حمل السلاح او تعاطي المخدرات في صفوف منظمة الطلائع الفاشية، اذا اعتقدت حقا بعدم امكانية ذلك فحاول ايضا استغلال موهبتك في صنع فلم صغير للاطفال مثل تلك الافلام التي نراها في التلفزيون والتي يصنعها الامريكيون بالمئات وتمتاز بقدر كبير من الاعجاب الى جانب اهميتها التعليمية، انها اقل تكلفة من ترهاتك، اذا نجحت كم من عبارات الاعجاب والاستحسان ستنهال عليك ...

- احيانا ارى الاشياء مثلي طاعنة في السن، سقطت اسنانها وابيض شعر زجاجها، وانتفخت بطون الاوراق، واصفرت اقدام الطفل الذي ولد توا ..

البلاتوه تغطي مساحته غيمة من البخور تضفي شعورا خفيفا من الدوران ،،اتسائل، هل حقا ان البخور ينشط الهذيان ؟ لن استغرب ذلك البتة، فالبخور نوع من انواع المخدرات ..

كل افلام فلليني تدور وسط اجواء ضبابية يكتنفها الغموض والشك ووحدانية المعنى، احيانا يكون الضباب عبارة عن غازات خانقة يضطر فلليني والاخرون لارتداء كمامات واقية، عبر تطبيقه لمبدأ التباين، فمثلا يستطيع ان يمنح الجزار دور كاتب في مجلس الشيوخ، انه الطريق الاقصر لبلوغ الحقيقة، بمفردها استطاعت اللوحات ان ترسم حدود ذلك الفضاء الجنائزي بالكامل بعد ان علقت بالحبال، في المركز منصة على شكل حدوة حصان صنعت من الخشب الملمع، حولها جمهور مؤلف من تماثيل خشبية كعرض الملابس، رهبان وراهبات، تخال نفسك في متحف الشمع، هاهو الكاردينال بلحمه ودمه بل وعظمته، انه ضيف شرف الاستعراض، انه ممثل كهل يحتفظ به فلليني منذ شهور ويحيطه بعناية خاصة بانتظار لحطة التصوير، كان يرفض الاشتراك في الفلم مدعيا المرض، لكنه وافق بعد ان ذهب فلليني اليه واصطحبه الى مدينة السينما (تشينا تشيتا) حيث انزله في جناح خاص وتحت اشراف طبيب، كان المسكين يجر قدميه بصعوبة ليصل الى الاستديو، يقوم بعمل المشهد ليعود الى النوم، لكن في المقابل يكفي ان تلوح نظرة منك اليه حتى تكتشف سبب اصرار فلليني عليه، لايوجد كاردينالا اكثر كاردينالية منه، وجه شاحب منهك، فم صغير ينقبض بابتسامة مصطنعة، قامة طويلة يكملها ثوبه الاحمر الطويل، يده الضخمة ذات الاظافر المقلمة بعناية والمجعدة بشكل ملحوظ، فلليني يدير كل شيء مثل قائد اوركسترا محنك، راهبتان صغيرتان تبدآن عزف مارش للمصاحبة الموسيقية ليبدآ ظهور اول العارضين، طلاب المدرسة الاكليركية فوق دواليب التزلج، راهبات بثياب البعثات التبشيرية، اساقفة في عرض لزركشات بليدة باهتة تبلغ درجة الخواء الكامل، هياكل خشبية تحمل قطع القماش المقصب التي عادة مايرتديها الرهبان فوق صدورهم، دروع، غفارات، قلنسوات، الضيوف النبلاء يجهشون بالبكاء، ان ضياع الكنيسة لايتم هكذا دون الم، وهذه المهزلة، استعراض محاربين قدماء تكللهم الهزيمة، راهبات وقساوسة يعبرون التاريخ وهم يتقافزون بغبطة مفتعلة، كان الزجاج يدعوني لوجبة كبيرة من الالتصاق ،،الصداقة ،،انا ،،الزجاج، الماء يضرب سطح الزجاج، حبات ماء تتراقص فوق الزجاج، هذه المرأة ترفع سماعة الهاتف وتزول رقما نسيته منذ زمن، من وقع الماء يتكسر الزجاج، الهاتف يحمل الاف الصور

- لقد سرقوا الكاميرا مني ،،  ,

يصرخ فلليني .....

الإتحاد العراقية في

07/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)