ضمن فعاليّات 'النادي
السينمائي' في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق وتحت إشراف كل من الناقد د.
أسامة
غنم والمخرج أسامة محمد، عُرض فيلم فاتح المدرّس من إخراج الثلاثي السوري
عمر
أميرلاي، محمد ملص، وأسامة محمد، كمحاولة لتلمس حضور الفن
التشكيلي كموضوع
سينمائي... لكن حضور ذاتية 'المدرّس' الطاغية، والتي انسحبت على جماليات
لوحاته،
أطاح بالفن التشكيلي وطبيـــعة حضــــوره كموضوع سينمائي، لنكون أمام
ســـاعة من
الزمن تقــــريباً مع حياة فنان تشـــكيلي، صُنعـــت بحب
وحــــرفية حرفية..وفي هذا
الســـياق ذكـــر 'أميرلاي': (كنا ثلاثة، ولم نستطع الإحاطة بالمدرّس خارج
مرسمه...).
إذ وقبل قرابة الخمسة عشر عاماً بدأ ثلاثة شبان مشروعهم الشخصي، في
محاولة منهم لتوثيق سينمائي يضم عشرة أسماء من المبدعين الذين أسسّوا من
خلال عملهم
لثقافة المرحلة الوطنية منتصف القرن الماضي. فكانت البداية مع
'نزيه الشهبندر'،
تلاه فيلم 'المدرّس' ومن بعده تفرّق الزملاء في مشاريعهم الشخصية، ولم
يقدموا
الأجزاء الباقية من هذا الحلم الثقافي الجميل. وهو ما تساءل حوله الكثيرون
في
المناقشة التي أعقبت عرض الفيلم، لكن محمد ملص يرى أنّ المشروع
لم يمت، بل تمّ
استكمــاله بشكـــل فردي في عمله 'مقامات المسرة' الذي وثق فيــــه
للفــنان
الموسيقي الراحل 'صبري مدلل'، وكذلك في عمل زميله 'عمر أميرلاي' عن الكاتب
المسرحي
'سعد
الله ونوّس'.
أمّا حول الحميمية التي سكنت مشاهد الفيلم، ولدى سؤال 'أميرلاي' عن رأيه في حياد المخرج الذاتي من
موضوعه الفني أو إن كان يُفضل المعرفة
الشخصية بهذا الموضوع، أجاب: 'أنا لا أؤمن بالموضوعية'..
وهكذا كان الفيلم
خمسين دقيقة من الحضور المكثف للمدرّس مُتحدثاً بصدق وقوة شديدين عن علاقته
بوالدته
تلك المرأة ذات الأثر العميق في شخصيته وحياته، كما تحدّث عن بعض الهزائم
والفجائع
الشخصية التي لحقت به في صور وموت أطفاله، لكن الأهم كان حديثه
عن تشخيصاته
لألوانه، فالأخضر في أحد درجاته لون 'وقح'، والأحمر مستبدٌ يكسر هو من
سيطرتهِ في
اللوحة بإضافة القليل من الذهبي أو الأسود مثلاً، أما الأزرق فيكاد يكون
لونه
المفضل، ويُفضل- حسب تعبيره- استخدامه مع الانفعالات القوية،
وليس الأحمر كما هو
سائد.. ويبقى سيّد الألوان الأبيض 'فهو ليس بلون، بل مجموعة ألوان..'.
هذا
الحديث الدقيق هو النافذة التي يمكننا ومن خلالها فهم العالم اللوني
للمدرّس، الذي
اشتهر بقوّة حضور ألوانه.. أمّا أحاديثه الذاتية الطابع وخاصة في الربع
الأخير من
الفيلم، حين تحدث بجرأة عن نرجسية الفنان، والتشوهات الخبيثة للنفس
الإنسانية، فقد
كانت علامة تساعدنا في قراءة شخص المدرّس الذي طغى بذاتيته حتى
على أعماله.. أو
هكذا ظهرت في الفيلم المعمول قبل قرابة الثلاثة عشر عاماً، حيث اتبع كل
مقطع كلامي
بتعرّف - بدا تقليدياً من ناحية التقديم الفني أو البصري إن صح القول- على
واحدة من
لوحاته، وكأنّ المدرس يشرح سر هذه اللوحة أو تلك..
جمالية فيلم 'المدرّس' أو
'الشهبندر'
ليست في الموضوع بذاته، والحديث عن تقنيات هذا الفيلم، أو تلك التقنية،
حديث طويل ومحكوم بضعف الإمكانات المالية والتقنية التي كانت متوفرة للشباب
الثلاثة، لكن البارز هو جمالية المحاولة التي شتتها الزمن،
فكانت مغامرة في المستوى
الإنتاجي من جهة وعمل تطوّعي من قبل المخرجين من جهة ثانية.. شباب لم يكن
همهم بناء
مجد شخصي، بقدر ما كان عملهم التوثيق لماضٍ وذاكرة تندثر أمامنا يوماً إثر
يوم..
فجيل اليوم الذي لم يلتق بأيّ من هذه الأسماء سيكون بمقدوره التعرّف عليها
عبر هذه
الأفلام، والتعرّف عن قربٍ شديد إلى روح غابت خارج الزمن، لكن أثرها ورؤاها
لا زالت
حاضرة ومؤثرة فينا...
القدس العربي في
05/03/2009 |