الهند العميقة من الداخل
الحكمة
الشائعة التي تقول ان «الحياة مدرسة» حولها السيناريست سيمون بوفيه الى قصة
سينمائية رائعة استحق عليها جائزة «غولدن غلوب» لأفضل سيناريو، اضافة الى
جوائز أخرى. عنوان الفيلم «المليونير المعدم» وهو يستحق أن يتوّج بالمزيد
من التقديرات والاهتمام الجماهيري به حقيقي.
يبدأ
الفيلم بمشهد تعذيب يجري في أحد مراكز الشرطة الهندية. أحد المحققين يسأل
المتهم عن الأساليب والحيل التي اتبعها للحصول على أجوبة برنامج «من سيربح
المليون». من خلال مجريات التحقيق سنمسك بأول خيوط الحكاية. الشاب، المتهم،
شارك في المسابقة وأجاب عن كل أسئلتها، وهو يقترب من الحصول على الجائزة
الكبرى وقيمتها 20 مليون روبية هندية. وان الشرطة استدعته لأن شكوى وصلت
ضده من مقدم الحلقة يشكك فيها بمصدر معلومات الشاب ويرجح انه حصل عليها
بطريقة غير شرعية. ولأنه متهم فقير ومعدم تكاد التهمة أن تتلبسه، وما كان
أمامه في هذه الحال سوى الرد على أسئلة المحقق وشرح مصدر كل جواب طرح عليه
في الحلقة. أجوبته ستشكل حياته كلها، وسوف يسردها بطريقة مدهشة يربط فيها
كل سؤال بمرحلة أو حدث عاشه بنفسه. وهكذا يتحول الفيلم الى أسئلة وأجوبة،
تشبه برنامج المسابقات، ونتابع، من خلالها، حاضر البطل وماضيه ضمن قصة ذات
مسارات متعددة، ومتحركة بين أزمنة مختلفة. والشريط، وهنا تكمن قوة
السيناريو، لا يمضي في سرد تقليدي لحياة جمال، بل يذهب الى أبعد منها ليرسم
صورة لبومباي والهند اليوم، عبر تنقلات مكانية تقربه الى حد ما من أنواع
«فيلم طريق» مع ان ملحميته هي الغالبة.
من بيوت
الصفيح خرج جمال وشقيقه سالم الى العالم. وكما كل الأطفال كان يلعب ويلهو
في حيّه العشوائي البائس. وكان، مثل غيره من الهنود، مولعا بالسينما
والممثلين. وفي احدى المرات زارهم أحد مشاهيرها، فطلب توقيعه وحصل على ما
أراد. سيتذكر جمال بعد حين اسم الأغنية التي يؤديها البطل واسم كاتب
كلماتها عندما يسأله مقدم البرنامج عنها. وعلى بؤسهم تأتيهم المصائب. في
أحد الأيام تهاجم حشود غاضبة من الهندوس الحي المسلم، فتحرقه وتقتل الأم،
فما كان أمام الأولاد سوى الهرب. سيتشردون في الشوارع، ينامون فيها ومن
نفاياتها يأكلون. يتعلمون قسوة الحياة واللعب عليها والغش فيها وستنضم
اليهما طفلة هاربة اسمها لاتيكا. وفي لحظة تجلّ سيطلق جمال على مجموعته اسم
«الفرسان الثلاثة». هذا الاسم سينقذه وينقله الى عالم الغنى، عندما سيكون
سؤال البرنامج الأخير والحاسم عن اسم الفارس الثالث في رواية الكسندر دوما.
وهكذا، وبهذا الأسلوب السردي نمضي مع جمال في رحلة حياته مع كل سؤال يوجهه
له معد البرنامج ومحقق الشرطة. وسنقرأ فصلا خاصا عن علاقة جمال ولاتيكا،
التي أحبها وكيف فرقتهما الأقدار.
بلغوا سن
الرشد، وصار كل منهم في مكان. جمال صار بائعا للشاي في مركز للاتصالات،
لاتيكا أخذتها عصابة وجعلت منها راقصة في مكان سيئ وسالم صار مجرما مع شلة
من الخارجين عن القانون وصار يملك المال. ولأنه كان دائم البحث، عن لاتيكا
فقد نجح في الوصول إليها. كانت هي كل ما يريد. وكان على استعداد للتضحية
بكل شيء، من أجلها، حتى التخلي عن الجائزة التي وصلت قصتها الى العامة
فخرجوا متحمسين له، ومتعاطفين مع قصته. انها قصتهم وقصة كل البؤساء، أو على
الأقل هكذا بدت للكثيرين منهم. أحلام الفقراء هي آمالهم العظام في ظل غياب
الرجاء. لقد نقلت الشاشات صورته وجمعت من حيث لا تدري، جمال بلاتيكا، حتى
بعد ان أصبح مليونيرا ظل مخلصا لها وطامعا بالزواج منها.
رؤية
عميقة
في المشهد
الأخير من الشريط يعيدنا المخرج الإنكليزي داني بويل الى الروح الهندية
التقليدية، حيث يجتمع الراقصون في المحطة حول جمال ولاتيكا، تعبيرا عن
مشاركتهم سعادتهما، كما يحدث دوماً في الأفلام الهندية. مشهد ختامي يبدو
نشازا في سياق الشريط العام، هذا إذا أبعدنا فكرة السخرية التي تقف وراءه.
إنها، بالتأكيد، سخرية مبطنة من الواقع البائس الذي يعيشه أبناء الهند،
الذين تصورهم السينما الهندية ببهاء وجمال وسعادة لا صلة لها بالواقع
الحياتي المعاش. من هنا تأتي أهمية فيلم «المليونير المعدم»، من رؤية مخرجه
لعالم الهند الواسع وتناقضاته. عالم يجمع أفقر سكان الأرض بأغنى رجالها.
تعالٍ طبقي محمي بأعراف اجتماعية تضمن احتفاظ كل طبقة بما ملكت. هذا الوضع
يجد تعبيره الدقيق في شخصية مقدم البرنامج المنحدر من أصول غنية. كان يسخر
من جمال ومن فقره أمام الجمهور علنا، وحاول حين أدرك قرب فوز المتسابق
بالجائزة أن يخدعه بالتلميح له بجواب خاطئ، لكن خبرة جمال الحياتية تجاوزت
لعبته الدنيئة. ومع هذا، وإيغالا في حسده وغيرته، اتصل بالشرطة واتهمه زورا
بالتلاعب. وعلى مستوى المشهد العام قدم لنا المخرج صورة الهند كما هي
بفقرها وحلاوة طبيعتها. بأجيالها الجديدة الطامحة نحو الغنى بكل الوسائل
كما فعل شقيقه عندما انضم الى رجال العصابات واغتصب صديقته، الى جانب
مراجعته النهائية لنفسه وتخليه عما كسب ليساعد لاتيكا على الهرب. إنها
تذكير بما تبقى من قيم حميدة، بدونها سيغدو المجتمع بأكمله غابة لا رحمة
فيها على الإطلاق. وعلى مستوى أخطر حرك داني بويل رماد الصراع الاثني
والمذهبي، وأظهر جذوته المتقدة أمام أعيننا، مع ما يحاوله البعض للتستر
عليه، قام بويل بواجبه كفنان مهمته عرض الواقع وترك مهمة بحث مشاكله على
المعنيين به. وإذا كان هناك سبب قوي لنيله جوائز كبيرة، فسيكون أحدها جرأة
مخرج إنكليزي على كشف مستور الهند، طبعا الى جانب المهارة الفنية التي حقق
بها فيلمه. لقد اختار أحلى المقاطع الموسيقية التي كتبت خصيصا له وأفضل
الممثلين، وبالدرجة الأولى الأطفال الذين أدوا أدوارهم بإتقان مذهل، خصوصاً
شخصية جمال الشاب التي لعبها الممثل ديف باتيل وفريدا بينتو التي مثلت دور
لاتيكا الى جانب روعة التصوير والمونتاج. باختصار انه خلاصة مجموعة من
المبدعين حققوا معاً فيلما فائق الأهمية.
الأرض هي
البداية
يحقق فيلم
الصور المتحركة الفنلندي- الدانمركي المشترك «نيكو، الطريق الى النجوم»
نجاحا جماهيريا، بتبوئه مراكز متقدمة في مبيعات شباك التذاكر العالمية.
الفيلم، الذي أخرجه مايكل هيغنر وكاري جوسونين، جاء مقنعا بكل المقاييس
وتمتع بقدر كبير من الإبهار البصري واتصف بطابع أوروبي: الحركة والبطولة
الفردية فيه أقل حدة من مثيلتها الأميركية، وقوة الألوان نابعة من الطبيعة
الشمالية المدهشة.
بطل
الحكاية، نيكو، حيوان الرنة (من فصيلة الغزلان، ومكان عيشها شمال
اسكندينافيا) يعاني من الوحدة والحزن لغياب أبيه. ومع ان والدته حكت له قصة
والده وكيف رحل مع فرقة زحافة بابا نويل الطائرة، التي أوكلت إليها مهمة
توزيع الهدايا على الأطفال في أعياد الميلاد لتجلب الى قلوبهم الفرحة، ومع
أنه سمع هذه القصة أكثر من مرة، فإنه ظل يحلم بملاقاة أبيه المجهول
ومرافقته في رحلاته العجيبة. وفي النهاية يقرر البدء برحلة البحث بصحبة
السنجاب الطائر يوليوس، الذي كان يعامله مثل ابن له تماما. كان عليه، ليحقق
حلمه، ان يتعلم الطيران وقبلها التغلب على الذئاب المتوحشة التي تحوم حول
القرية التي ستحط فيها، كما كان متوقعا، عربة بابا نويل وفريقه. بعد طول
سفر وعناء ينجح نيكو، أخيرا، في مهمته ويلتقي والده ليشترك معه في المعركة
الحاسمة ضد الذئاب.
حكاية
حيوان الرنة ممتعة وهادئة تبعث برسائل أخلاقية حميدة للأطفال، كما انها
تخفف من حدة الأحكام المسبقة على الجماعات، مهما كانت. فأحد الذئاب ستصوره
الحكاية طيبا تجمعه صداقة مع حمل وديع. سيعود نيكو في نهاية الحكاية الى
القطيع الذي نشأ فيه، لكن هذه المرة كبطل وواحد من أفراد عربة سانتا كلوز
الطائرة.
الأسبوعية العراقية
08/02/2009 |