بعيداً من
الإشكالات المهنية أو السياسية التي يطرحها إعلان الإعلامية مي شدياق،
توقيف برنامجها «بكل جرأة» عن البث على محطة «ال بي سي»، يطرح هذا الإعلان،
في جوهره، أو في الشكل الذي جاء فيه، جملة من القضايا التي تتعلق بنمط
العيش والتفكير الذي باتت التلفزة تمليه علينا، نحن معشر الناس العاديين،
منذ ما لا يقل عن ربع قرن. ولعل من أبرز هذه القضايا واحدة تذكر بفيلم بكّر
أكثر من أي عمل آخر، في التسلل الى قلب المهنة التلفزيونية ليتحدث عن
تأثيرها، ليس فقط على المتلقي، بل على الإعلامي نفسه. هذا الفيلم هو «نتوورك»
الذي حققه الهوليوودي العريق - الآتي أصلاً من العمل التلفزيوني - سدني
لاميت عام 1976. ففي هذا الفيلم جعل لاميت بطله، وهو مقدم برامج تلفزيونية
وداعية اجتماعي ناجح، يعلن نهايته بعد نهاية برنامجه، مباشرة على الشاشة.
طبعاً بعد «نتوورك» توالت أفلام كثيرة، توجه سهامها الى التلفزة من هذه
الناحية، بحيث يمكن القول إن السينما اكتشفت هنا، نقطة الضعف الأساسية في
الشاشة الصغيرة: أهلها. ومن هنا لا بد أن نشير مرة أخرى الى كيف أن الحياة
تقلد الفن، في حالة مي شدياق. بيد ان السؤال الأساس ليس هنا، انه في
الجوهر: ماذا يحدث حقاً، حين «يكتشف» الإعلامي، ويقرر أن يكشف للآخرين، أنه
أيضاً انسان من لحم ودم وأعصاب ومشاعر؟
ان
المطلوب عادة من رجل الإعلام العام (أو امرأة الإعلام في حالتنا هذه) ان
يضع دائماً على وجهه قناعاً يمنع مشاعره من الظهور، خصوصاً إذا كانت هذه
المشاعر تنمّ عن تناقض بين موقف الإعلامي وموقف القناة التي يعمل فيها، أو
إذا كانت تنم عن موقف سلبي للإعلامي من بعض ضيوفه إذا كان المعني برنامج
حوار سياسي (أو غير سياسي). وهذا القناع هو الذي يطلق عليه، عادة، اسم
«موضوعية» (سواء أكانت ساخنة أم باردة). وتحت شعار هذا القناع يصار عادة
الى تبرير كل شيء، بما في ذلك الضرورات الإعلانية، أو إرضاء أصحاب العمل أو
مسايرة اتجاه سياسي وما الى ذلك. فما الذي يحدث، ذات لحظة حين يكف الإعلامي
عن أن يكون قادراً على وضع القناع؟ ماذا يحدث حين يسقط أخيراً في يده، ولا
سيما إذا كان حساساً - أي انساناً طبيعياً -؟ بكل بساطة أمامه اختيارات
عدة: إما أن ينسحب بهدوء، وأما أن يرضخ، أو أن يواجه مستنداً الى رأي عام
قد يكون قادراً على دعمه - ولا سيما حين يكون ثمة مجال لأخذ الرأي العام
هذا في الاعتبار، كأن يكون ضامناً لنجاح المحطة وقيمتها التجارية. وفي
يقيننا أن الحل الأفضل دائماً هو المواجهة، هو خلع القناع ورميه جانباً،
وتحديداً أمام ملايين المتفرجين، وذلك بكل بساطة لأنهم هم المعنيون بالأمر
أولاً وأخيراً، طالما أن القناع يوضع من أجلهم... وكي يثــنوا على
مــوضوعية هي في نهاية الأمر مزيفة. وفي النهاية ومهما كانت النتيجة، فإن
تلك اللحظة تبدو كفيلة بأن توفر للمحطة وجمهورها، لحظة إنسانية قوية، حتى
وان عجزت عن إحداث أي تغيير.
الحياة اللندنية
06/02/2009 |