ماذا يحدث
خلف الأبواب الموصدة ، وهل الإضاءة الخافتة خلف الستائر المسدلة تدل على أن
الأسر التي تعيش في تلك البيوت تعيش حياة هانئة؟ هذا ما يحاول أن يبحثه
فيلم"الطريق الثوري" (Revoutionary Road)
بطولة ليوناردو دي كابريو وكايت وينسلت ، وهو من إخراج المخرج الأمريكي سام
ميندز. وقد فازت وينسلت عن دورها في هذا الفيلم جائزة "غولدن غلوب" كأفضل
ممثلة لعام ,2008 ويذكر أن جوائز "غولدن غلوب" تعتبر محطة مهمة قبل
الأوسكار ، إذ تكشف أن الأفلام ستكون ناجحة في جوائز الأوسكار التي ستوزع
في هوليوود هذا الشهر. وقد عبرت وينسلت عن سعادتها إذ جاء فوزها بعد خمس
مرات تم فيها ترشيحها من قبل.
يحكي
الفيلم المستوحى من رواية للكاتب ريتشارد باتس تحمل نفس الاسم ، قصة الشاب
(ليوناردو) والفتاة (كايت) اللذين يلتقيان صدفة في مكان عام ، ويتبادلان
النظرات ، ثم حوار مقتضب ويرتبطان ، وينجبان ولدا وبنتا ، يعمل الزوج مندوب
مبيعات في إحدى الشركات ، وقد ورث هذه الوظيفة عن أبيه الذي أفنى فيها عمره
، أما الزوجة فإنها درست الدراما ، ولكنها فشلت في أن تكون ممثلة.
يبدأ
الفيلم عملياً في أحد المسارح حين تخفق (كايت) على المسرح وتجر خيبتها إلى
غرفة تغيير الملابس ، ويلحق بها زوجها محاولاً أن يقلل من حزنها ، ومع أول
حوار يدور بينهما في السيارة أثناء طريق عودتهما إلى البيت ، يتضح حجم
الجحيم الذي يعيشانه ، فهي تتهمه بأنه ليس رجلا ، وهو يتهمها بأنها فاشلة
وليس بوسعه أن يتحمل مسؤولية فشلها.
الحوار
الذي دار بينهما حاد ، لدرجة توحي انهما من المستحيل أن يستمرا مع بعضهما ،
أما طفلاهما في البيت فهما مجرد ديكور ، فلا يوجد مشهد واحد يجمع الزوجين
مع ابنيهما ، وكأن في هذا إشارة إلى أن الأبناء لمجرد انهم أبناء لا يصنعون
الحياة ، أو بالأحرى لا يضيفون جديداً على الحياة إذا كان الحطام النفسي قد
نال من الوالدين. الحياة ، كما عبرت عنها الزوجة محض فراغ يبعث على الملل ،
غير أن الزوج يحاول أن يلغي هذا الانطباع ، ويؤكد أن الحياة أسرة ووظيفة ،
ودردشة مع زملاء ، ويمكن أن يتخللها علاقات نسائية عابرة.
هذه
الصورة القاتمة التي يعيشها الزوجان ليست متبلورة لدى الجيران الذين يظنون
أن عائلة ويلر هي عائلة سعيدة ويمكن أن تكون حتى أسرة نموذجية ، وهذا ما
يدفع صاحبة البيت لأن تستأذن عائلة ويلر لكي تحضر معها ابنها المريض نفسياً
والذي يعالج في إحدى المصحات النفسية لعل نموذجية العلاقة الزوجية تساعد
ابن الجيران (جون) في محنته النفسية. وجون بالمناسبة درس الرياضيات في
باريس وحصل على درجة الدكتوراه ، ولكنه عاد مضطرباً ، غير متوازن. علينا أن
نلاحظ هنا أن حضور ابن الجيران (جون) ليس عابراً ، ودراسته في باريس ليست
مصادفة ، فثمة ما له علاقة بفكرة الفيلم سنأتي إلى إيضاحها لاحقاً.
يتبلور
لدى الزوجة لمواجهة رتابة الحياة اليومية فكرة جديدة سرعان ما تعرضها على
زوجها ، وفحواها أنها نجحت في ادخار مبلغ من المال يكفيهم لمدة ستة اشهر
دون عمل ، وأنها حصلت على تأشيرة سفر إلى باريس ، حيث بإمكانها أن تعمل
هناك فيما يتفرغ الزوج للكتابة والقراءة والتفكير بما يمكن أن يفعل. تظن
الزوجة أنها بهذا يمكن أن تخرج من إطار الرتابة التي تعيشها ، وستتمكن من
مساعدة زوجها لتغيير وظيفته والعمل في مجال اكثر حيوية. يتحمس الزوج ، بل
انه يخبر الجيران ، وزملاءه في العمل ، ويفاجأ في غمرة ذلك أن المسؤول عنه
في العمل معني به ، وان لديه استعدادا أن يعيد النظر في راتبه وامتيازاته
المالية إذا أعاد النظر في الموضوع.
تكمن
المفاجأة في الفيلم بمشهد يجمع الزوج والزوجة وهما يمارسان الجنس ، إذ
يلاحظ انهما يفعلان ذلك وهما واقفان ، وذلك بناء على طلب الزوجة التي ترفض
أن تنام مع زوجها في الفراش ، وفي مشهد آخر وأثناء حفلة صاخبة تتقرب الزوجة
من رجل يعيش في الجوار ، فتشرب معه بشكل متتالي ثم ترجوه أن يمارس معها
الحب داخل السيارة.
الفكرة
اتضحت تقريبا ، فالزوجة الحالمة بالهرب إلى باريس تعاني أزمة نفسية ، فهي
تريد كل شيء أن يتم بسرعة ، حتى الجنس تمارسه على عجل ، وما باريس إلا
واحدة من أفكارها السريعة حيث تظن أنه بتغيير كل شيء ، والسفر إلى بلد جديد
، قد يدخل ذلك السكينة إلى داخلها ، وهي لا تعلم أن من لديه أنين من الصعب
أن يتوقف حتى لو هرب إلى ابعد نقطة في الكون. هذا ما نستدل عليه من شخصية
ابن الجيران (جون) الذي لم ينله من باريس إلا فقدانه لعقله بعد أن عجز عن
التكيف لا في باريس ، ولا في أمريكا.
يتأزم
الموقف في الفيلم حين تكتشف الزوجة أنها حامل ، وقد يعيق هذا سفرها ،
فالزوج يصر أن يوّلد طفله في موطنه ، كما أن العرض المغري الجديد الذي
تقدمت به شركته تجعله يعيد النظر في عملية السفر. وهنا تقوم قيامة الزوجة
وتبدأ المشاكل بينهما ، ويلاحظ الزوج تدريجيا أن زوجته مريضة نفسيا ، وان
الأجدى أن يعالجها بدل أن يجاريها بترك عمله ، والسفر معها إلى بلد لا
يعرفه. غير أن هذه النتيجة التي وصل إليها الزوج تأتي متأخرة بالنسبة
للزوجة التي باتت عاجزة تماما عن التكيف مع محيطها. وفي ليلة ينشب عراك
شديد بين الزوجين ، يتلاسنان بكلام جارح ويوشك الزوج أكثر من مرة أن يصفعها
، وينامان على هدير لا يتوقف في قلبيهما المتعبين.
في الصباح
تصحو الزوجة هادئة على غير عادتها ، تعد وجبة الإفطار لزوجها وتشيعه إلى
باب البيت بعد أن كانت قد أودعت طفليها عند إحدى صديقاتها ، وحين يخلو لها
المكان ، تقوم بعملية إجهاض فاشلة تدفع حياتها ثمنا لها.
هذه هي
قصة الفيلم وفحواها الدعوة إلى التكيف مع الحياة ، وماذا يحدث إذا ضاقت بنا
التفاصيل اليومية ، وفقدنا القدرة على التكيف مع أنفسنا ، ومع أبسط
تفاصلينا. هذا ما نستدل عليه اكثر في المشهد الأخير بالفيلم حين تقول صاحبة
البيت لزوجها أنها كانت مخطئة في حبها الشديد لعائلة (ويلر) فقد لاحظت بعد
أن أخذ الزوج طفليه وسافر إلى مدينة أخرى ، أن ثمة بقعا على جدران البيت في
الداخل ، وان التسوية تقطر ماء ، أي أن الزوجة لم تكن معنية بنظافة وترتيب
بيتها.
لقد اعتبر
"الطريق الثوري" من أهم ثلاثة أفلام أمريكية ما زالت تعرض حتى الآن في دور
السينما العالمية والأردنية ، وسجل للفيلم طرحه الهادئ لقضايا نفسية داخلية
، والأداء اللافت لـ ليوناردو دي كابريو وكايت وينسلت ، وهما بالمناسبة
بطلا فيلم "تايتانك" ذائع الصيت. وقد فازت كايت وينسلت بجائزة "غولدن غلوب"
كأفضل ممثلة لعام 2008 عن دورها في هذا الفيلم ، وبالطبع فإن هذه الجائزة
ترشحها للفوز بأوسكار ,2009
ناقد
سينمائي أردني
الدستور الأردنية
06/02/2009 |