مرةّ
رابعة تتطرق سينما سام مانديس للحلم الأميركي
الذي يطارده أينما حلّ. بلغة متولّهة وملمّة، يصنع دراما ممعنة في الواقعية
عن عجز
الحياة، في أحايين معينة، حيال عبث المصير. انه فيلم قاسٍ عن
هذا الحلم الذي يدمّر
العيش الهانئ والسعيد، أكثر مما يساهم في بنائه، والذي سبق أن صوّره في
"جمال
أميركي" (1999). الحياة وهمٌ بوهم وهباءٌ بهباء، وهذا ما يصر "طريق ثوريّ"
على
تبيانه. الثنائي ليوناردو دي كابريو وكايت وينسليت، وجهاً
لوجه، بعد 12 عاماً على
انطلاقتهما العالمية المدوية في "تايتانيك"، لكن الآية تنقلب، فتموت هي
ويبقى هو
هذه المرة، ولا عزاء من الحسرة التي تصيب المُشاهد!
على
النقائض والتضادات يشيد
المخرج البريطاني المغمور فيلماً ميلودرامياً قاسياً ومحبطاً يخالف
الايديولوجيا
الطهرانية التي يعتنقها جزء لا بأس به من السينما الأميركية والمجتمع
الأميركي،
ومعهما معظم المجتمعات الحديثة التي تخنق تطلعات الفرد وتقمع
أحلامه الى حدّ
تحويلها واجبات تثقل كاهله. وعلى رغم ان الشريط يطلّ من على هذه المنصة
الأميركية،
بيد ان أهميته كامنة في انه يلمس العالمية في نظرته واطروحاته.
يتعمق مانديس في
طبيعة العلاقات المكلومة والممزقة والخبيثة التي يعيشها الأميركيون، راصداً
حال
المجتمعات الاستهلاكية، القائمة على العرض والطلب، والتي حشرت نفسها في سجن
شاسع من
المظاهر الكاذبة، عبر حكاية بسيطة وغير معقدة تجري في أواسط
الخمسينات من القرن
الفائت، تفضح حال الاكذوبة الجماعية (مادة مناقشة لدى مانديس للمرة الرابعة
على
التوالي) والنفاق العام الذي ضرب فئات المجتمع، منذ ذلك الحين
الى الآن. نكرر أنهما
آفتان ليستا حكراً على الأميركيين فقط، وهما تفتكان بكل أشكال طموحات
الانسان
القديم والحديث، التي تتبدى يوماً فآخر خرافية متهاوية تحت وطأة الواقع
والعيش
المحبط.
لا يملك
ابريل وفرانك (وينسليت ودي كابريو)، بعد سنوات عدة من الزواج
أثمر منه ولدين، الاّ أن ينسجما مع الروتين الذي انزلقا فيه،
رويداً رويداً، من دون
أن
ينتبها الى ذلك، كحال معظم الأزواج الذين يصبح الشغف خلفهم. وما ان تذهب
السكرة
وتجيء الفكرة، حتى تصبح وقائع العيش السئم والمتعب والمشلّع والممزّق وذي
الرتابة
القاتلة، لا تُحتمل، وخصوصاً من جانب أبريل التي كانت، في
مرحلة ما قبل لقائها
فرانك، تخطط لحياة أكثر حرية خالية من القيود الاجتماعية الرتيبة
والالتزامات
الاخلاقية، أكان ذلك تجاه الجار أم العائلة أم الأقارب أم البيئة. لكن ما
يحصل معها
هو أنه سيكون لها مصير مخالف تماماً لا بل نقيض ما كانت تحلم
به في صباها المتمرد،
والذي، للحق، لا نرى منه شيئاً، باستثناء ما يقال عنه على لسان الشخصيتين.
في
دراما تحفل بنماذج تختزل فئات وأجيال وطبقات تؤلف مجتمعاً
"مثالياً"، يرتب النص
مكاناً لأبريل وفرانك تحت شمس النجاح الأميركي، الذائع الصيت في العالم،
بما بات
يُعرف في لغة شكسبير بالـSucces
story، أي صعود سلالم القدرة الشرائية ونيل تقدير
الآخرين
وامتلاك كل مقومات العيش الهانئ، بالمعيار الأميركي: منزل في الضاحية مؤلف
من
طبقتين وحديقة، طفلان جميلان، مع شرط أساسي هو أن يكون الثنائي من أصحاب
التفوق
جمالاً وذكاءً. طبعاً، هذا كله، وربما أكثر، يتوافر لدى آل
ويلر. بيد أن الرتابة
ستغتال هذا كله بدم بارد، ويتحول الجمال الأميركي شيئاً سقيماً. اذ، هناك
غصة
أصلاً، خلف هذه الستارة الجميلة المظهر. فأبريل لم تفلح في ان تكون ممثلة
المسرح
التي كانت تشتهي أن تكون، وبدلاً من ذلك أمست ربة منزل تمضي
نهاراتها في غسل
الصحون، فيما ورث فرانك من أبيه مهنة الموظف الوضيع الذي يقبع خلف مكتب
وضيع وزملاء
وضيعين.
أمام هذا
الواقع الرتيب، لا يملك الثنائي الا ان يتصالح معه، تفادياً
لمحيط مستنفر على الدوام، ونظرات الناس، وكلامهم، وموقفهم
ازاءهما. لكن سيأتي يوم
تقرر فيه ابريل أن تواجه الحتمية، فتقترح على زوجها أن يضعا، يداً بيد،
حداً
للاكذوبة الاجتماعية التي يعيشانها، ادعاء فوق ادعاء، ومسايرة فوق مسايرة،
ومراعاة
لشعور الآخرين وتوقعاتهم. يأخذان قرار الذهاب الى باريس، وهي
المدينة التي كان
فرانك زارها أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما كان يؤدي خدمته العسكرية.
لكن فور
اعلان مشروعهما، سيكونان عرضة للهزء والتهكم. ويناصبهما الكل الضغينة
والعداء، حتى
لو لم يشهروا ذلك، اذ ليس ثمة مجال للخروج على المألوف في مثل
هذه البيئة. جراء هذه
الحالة، سيبقى الحلم بالرحيل ملك العينين. ولا نكشف هنا سراً كبيراً اذا
قلنا إن
الثنائي، في المحصلة النهائية، لن يسافر الى باريس، والقصة ستأخذ منحى
تراجيدياً،
فيما سيبقى مانديس مراقباً من بعيد الأقدار الخائبة والملعونة
في هذه الأميركا حيث
لا
شيء مستحيلا، وحيث كتب تينيسي ويليامز حكايات مشابهة لحكاية فرانك وأبريل،
قبل
أن
يأتي المدعو جاك كرواك من حيث لم يكن ينتظره أحد، ليقترح احتمالات أخرى
للعيش
والصمود في وجه القوالب الاجتماعية الجاهزة.
يعبّر
الفيلم عن كل المكوّنات التي
يأتلف معها المجتمع الاميركي أو يرفضها رفضاً قاطعاً. لكن ينبغي عدم نسيان
السياق
الذي تجري فيه الحوادث: أميركا منتصف الخمسينات التي لم تكن قد
عرفت بعد الرموز
الجديدة للثورة الثقافية، من الهيبي الى البيتنيك والهارلي دافيدسون وحبوب
منع
الحمل والجنس السريع وودستوك! ما يصوره مانديس هو مرحلة كانت تضيّق الخناق
على رواد
حركة التحرر ـــ وفرانك وأبريل من هؤلاء ـــ علماً أن السينما
الأميركية قد عبّرت
جيداً، انذاك، عن هذا الواقع، سواء من خلال نظرات متماهية أو محرضة. نذكر
جيداً
"عربة
تدعى الرغبة" (1951) لايليا كازان، المقتبس من مسرحية لويليامز أو "عملاق" (1956)
لجورج
ستيفنز مع جيمس دين. كل هذا الجو الخانق والموبوء بالتقاليد والأعراف
(لا
يزال ضاغطاً في الشرق، بمستويات متفاوتة)، ثم الخشية من النظر في عين
الآخر،
سيجعل الثنائي يعيش صراعاً داخلياً هداماً، وتمزقاً كان من الصعب تصوره في
بداية
تعرفنا اليهما، على رغم أن المخرج يضعنا في المزاج الذي ستؤول
اليه الأحوال حتى قبل
صعود الجنريك.
في شق
كبير منه، يعتمد نصّ مانديس على دراماتورجيا مسرحية من حيث
غوصه العميق في بسيكولوجيات الشخوص، ورصد حوادثه في أطار مكاني
واحد أو اثنين، لكن
متكرر، ونهوضه على المواقف والحوارات، وخلوه من زوايا التصوير العريضة،
ودوران معظم
حوادثه في فلك العزلة والتهميش. كان ثمة حاجة الى مخرج له باع
في المسرح ويعرف
جيداً المقلب الآخر للحلم البهيّ، فقط من أجل تلك المشاهد الطويلة التي
تصوّر رد
الصاع صاعين بين فرانك وأبريل، وأيضاً من أجل أفلمة رواية ريتشارد ياتس
(1926 ــ
1992)،
"طريق ثوريٌّ"، ـــ التي لم تمر من دون لفت الانتباه لدى صدورها
عام 1961
ـــ لأن الأمر يتعلق في المقام الأول بإدارة مسرحية متعمقة لممثلين يعتمد
أداؤهما
على التحولات النفسية المتنقلة من الغضب الى الرضا فالاصرار والجنوح الى
الهستيريا.
ولا نستطيع الاّ أن نرفع القبعة الى كل من دي كابريو ووينسليت، لترفعهما عن
كل
أشكال
الاستعرائية في الاداء المطلوب منهما، مع أن ما ينم من النص في بعض المواقف
كان يمكنه أن يتسم بالخفة. دي كابريو ووينسليت يرتميان فعلاً في حضن
الفيلم. وهما
محوطان أيضاً بطائفة من الأدوار الثانوية ترفع الفيلم الى مصاف
أعلى. البعض يأتي من
خبرة وعراقة واسعة في المهنة، وهي حال كاتي بايتس في دور السيدة غيفينز.
بيد أن
الاكتشاف الأكبر في صفّ الممثلين الثانويين هو مايكل شانون، التجسيد الأبلغ
للخراب
والتمزق الناتجين من عدم القدرة على الخروج من عباءة الوالدين
وسلطتهما، لتحقيق
الذات والطموحات. بأرفع درجات الصرامة والارتياح في الاداء يقدم شانون
دوراً لا
يُنسى.
ولا بدّ
من ان نلحظ هنا أولاً دور مدير التصوير روجر ديكنز، وثانياً
الموسيقى التي تشكل تعاونا جديدا مع توماس نيومان، الذي ألّف
قطعة اقرب الى
اللازمة. ولعل المرام الأبعد من مجرّد القصّ وعرض الشخصيات، تقديم تلك
الصورة
الناجزة للمجتمع الأميركي، واظهار أن الرحيل، الرحيل المجاني البلا هدف،
ليس فقط ما
يسعى اليه الشبان والشابات من أفريقيا وآسيا القصوى من الفقراء
والحالمين. أياً
يكن، ما من شيء أنبل من فكرة الرحيل وعدم الالتفات الى الخلف، وهي الفكرة
التي وهبت
السينما أحد أجمل انجازاتها في السنة الماضية: "في البرية" لشون بن. نريد
أن نصدق
أن لا فرق كبيراً بين مانديس وبن.
يتصدى
مانديس للحلم الأميركي (نقول ذلك
مجدداً)، من دون أن يلعب على الرموز والاستعارات، في فيلم يمتلك حدية
كبيرة، لقول
كلام شديد التوتر في الرحيل، لا يزال منطقياً وجريئاً في راهننا، وخصوصاً
بعدما قيل
عنه الكثير. كمن يريد توجيه تحية الى جمالها الهوليوودي الآسر،
يمنح مانديس دور
ابريل الى زوجته كايت وينسليت، المشعة بتسريحتها الجديدة وشعرها المنسدل
الناعم،
وهي، في الواقع، الشيء الوحيد ذو المعنى في الفيلم، والشيء الوحيد الذي
سيبقى بعد
نهاية الفيلم، وسط تشابك الوجوه الشاحبة والضنكة. بعد ثمانية
أعوام على "جمال
أميركي"، يعود مانديس بفيلم يجمع تيمته الأثيرة من دون أن ينشد لسينماه
تبديلاً من
حيث وجهة النظر التي يلقيها على واقع أميركي مضطرب، اذ ان
الماضي والحاضر عنده
متلازمان. مع "طريق ثوريّ"، وعلى رغم نهايته الملفلفة (المفروضة عليه؟)
يغدو مانديس
صنيع سينما تنفي الرجاء والمثالية وتتبنّى النظرة المتشائمة
الى مجتمع في سقوط حرّ
لا
تشفع به أي محاولة للخلاص، سوى، ربما، الرحيل...
()
Revolutionary Road
ــ يُعرض
في "سينماسيتي" و"غراند ــ أ ب ث" و"كسليك".
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
الاكذوبة الجماعية في
سينما مانديس
أبطال يحترقون على نار
خفيفة ومبدع يبطئ من عملية الاحتضار
عندما
أنجز البريطاني سام مانديس، 44 عاماً، "درب
الضياع"، قبل ثمانية أعوام، برهن ان عمله الأول السابق، "جمال أميركي" لم
يكن
مصادفة، وانه، اذا كان كافياً لمخرج من طراز اورسون ويلز ان
يقدم فيلماً واحداً ("المواطن
كاين") ليصبح على هذه الشهرة التي عرفناها عنه، فإن عملين فقط من سام
مانديس كانا كافيين ليؤسس لمشروع سينمائي واضح المعالم، وليمد
السينما الأميركية
بجديد. لرؤية مانديس الى العالم، فضل كبير على هذا التحديث، (على رغم الشكل
الكلاسيكي) ليس على الانسان الأميركي فحسب، بل على المحيط الذي يجب عليه
التأقلم
معه. اللافت ان هذا التأقلم، في حال حصوله، يحمل، بحسب مانديس،
أخطاراً كبيرة، لأن
ما
اكتشفناه في "جمال اميركي" يبدو كتحول في جديد مانديس وليصبح "حالة مزمنة".
فهو
انتقل الى مرحلة يمكننا وصفها بـ"الخصوصية" في مساره، ونعني الميل الذي
يكشفه عبر
تورطه في فضح "الاكذوبة الجماعية" ليرينا "الوجه الآخر
للعملة"، هذا اذا لم يذهب
مباشرة الى الهدف، اي ان يجعل المشاهد شريكاً له في رحلته التلقينية في
اتجاه ارضي
يتحول فيها الحلم الى كابوس! هذا الانتقال من حالة الى اخرى،
سنشهده بدءاً من "درب
الضياع"، وهو في الاساس رواية غرافيكية للكاتب ماكس آلن كولنز، مر بين ايدي
كبار
المحترفين في هوليوود، قبل ان يعهد بإخراجه الى مانديس الذي
رأى فيه عملاً شخصياً
يمتلك بصمة مخرجه، أكان ظاهرياً ام ضمنياً.
غالباً ما
وضع مانديس العلاقات
الانسانية ذات الازدواجية المعقدة في المقام الأول، ومن ثم راح يتأمل ما
يحصل،
عندما تغدو هذه العلاقات في مهب الريح. فمناخات أفلامه برمتها، وعددها 4
الى اليوم،
تتمحور على العنف البسيكولوجي الذي ينشأ من جراء فقدان صلة
الوصل بين الأب والابن.
بين جيل وآخر. بين المهيمِن والمهيمَن عليه. وبما ان لكل رد فعل فعلاً ما،
يغوص
مانديس دائماً في صميم "العائلة" (بالمعنى المافيوي في "درب الضياع") ليمضي
في وصف
الاجواء، وليعرّفنا الى الشخصيات، مع كل ما يتضمن هذا الوصف من عرض
للتقاليد
والاعراف، ومن ثم لينحاز تدريجاً الى احد الكاراكتيرات، الذي سرعان ما
سيتبين انه
العمود الفقري للفيلم. فهذه الشخصية اشبه بجلاّد يُرغَم على ان
يضع نفسه في صفوف
الضحايا. وهو يحمل ملامح مايكل ساليفان (توم هانكس). مايكل ليس الا حاجباً،
ورجلاً
مأجوراً يعمل لحساب جون روني (بول نيومان الذي يسجل آخر عودة مهمة له قبل
الرحيل)،
رئيس المنظمة المافيوية الايرلندية ومقرها في شيكاغو (في اول الثلاثينات)،
في زمن
الانهيار الاقتصادي. ان بين هذين الرجلين اكثر من علاقة رب
العمل بالأجير، كون
الأول يتعامل مع الثاني وكأنه ابنه الروحي.
للأجير
هذا، الذي يبدي ولاء كبيراً
لمعلمه، عائلة يسهر عليها، ويسعى للنأي بها عن انعكاسات مهنته غير النزيهة.
هذه
الحالة الهادئة تبدأ في التدهور، عندما يسعى مايكل ساليفان جونيور (تايلر
هوتشلين)،
وهو الكبير ما بين ولدي مايكل ساليفان، الى معرفة الحقيقة، حول طبيعة عمل
والده...
غني عن القول ان فضول هذا الابن سيكلفه غالياً، واغلى مما يتصوره العقل. من
هذه
اللحظة
ستنقطع الصلات التي تربط الكائنات بعضها ببعض، وسيبدأ العد العكسي في
انتظار
اللحظة الحاسمة، وصولاً الى نقطة اللاعودة. هذه الدوافع مجتمعة، ستدفع
مايكل الى
جمع امتعته، لمباشرة مشوار يتحول فيه الندم والفداء والشعور
بالذنب، الى رفاق
دائمين. هذا الأب الهادئ والحكيم، الذي سيصبح ضحية الغيرة، كان يعتبر نفسه
مجبراً
على اختيار الطرق غير السليمة، تاليا يرى ان كل ما يحصل له هو نتيجة
لخياراته، ويعي
في المقابل انه يجدر به ان يكافح بشراسة ليأتي بالخلاص لروح
ابنه.
من ابرز
الأسئلة
التي يطرحها مانديس في هذا الفيلم: هل يمكن رجلاً عاش حياة "سيئة" ان يسترد
ما
فقده، من خلال ابنه؟ وما هي طبيعة "الارث" الذي سيتركه مايكل ساليفان
وراءه، إذا
رحل من دون ان يعطي الصورة النظيفة والنقية عن عالمه الداخلي؟
هذان من بين عشرات
التساؤلات التي يوحيها الفيلم، والتي تخضع لقيود النوعية التي ينتمي اليها،
بقدر ما
يتمرد عليها، كونه لا يتردد في ان يتخلص من وصف "الاوساط المافيوية" مفضلاً
على ذلك
ملاحظة
مسار رجل يعي بين ليلة وضحاها، ضرورة وضع حد للعنف البسيكولوجي.
كان
يمكن هذا الفيلم ان يأتي في اطار اكاديمي بكل مكوناته، لو منحت
عملية الاخراج لغير
مانديس الذي عرف كيف يقول ما لديه، وبأسلوب بصري مذهل، وقرّب الفيلم، في
بعض
مقاطعه، من اللوحات التشكيلية. الى ذلك عرف كيف ينقل احساس المكان والزمان
الى
المشاهد، من دون الوقوع في فخ "الجمالية للجمالية"، كما ان
السيناريو الذي جاء على
نحو كبير من الصلابة، حمل الوصلات الترفيهية، واللقطات المؤثرة، والمشاهد
الحوارية،
واخرى تقطع الانفاس، مثل ذلك المشهد الذي تابعنا فيه عملية التراشق
بالاسلحة تحت
المطر، من دون ان نسمع اصوات الطلقات النارية. فالاسلوبية التي
يتمثل بها مانديس،
تفرض عليه ان يبتكر الجديد في كل مشهد، وان يصور الحادث من زاوية هي الأفضل
في
اعتقادي.
مانديس،
الذي يتلو غيباً المناهج الشكسبيرية، لم يوظف معرفته الحميمية
بأعمال الكاتب المسرحي الانكليزي ليضعها تالياً في ظروف وأوضاع
ومواقف في منتهى
القسوة. فأبطاله يحترقون على نار خفيفة، وهو يبطئ من عملية موتهم، فيحتضرون
شيئا
فشيئاً. ما يصوره مانديس ليس الا عملية الاحتضار هذه، واذا اظهر الفيلم عدم
مبالاة
حيال الماضي، فهو في المقابل ابدى اهتماماً بمستقبل افراد
يتخاصمون على السلطة،
واللافت في الرؤية العبثية التي يفرضها مانديس على عالمه هذا، هو الرفض في
ان تنتقل
الذاكرة من جيل الى آخر، وهذا الرفض يذهب بمانديس الى حد ان
يبعد الشخصيات جميعها
عن
"ساحة المعركة" وبشكل نهائي، وبحيث لا يبقى سوى شخص واحد، ستعلّمه التجربة
ان
يرى، ولكن ايضاً الا يتكلم عما رآه.
خارج الكادر
السينما في مخالب السياسة
ما من شيء
أسوأ من
الأنظمة العربية سوى الفنانين التابعين لهذه الأنظمة. أبلغ مثال على ذلك:
عادل امام، الملقب بـ"الزعيم". مواقفه السياسية الملتوية والملتبسة
والداعمة لحسني
مبارك، لا تنم عن أي زعامة حقيقية وقادرة، لأنها مواقف تمالئ
رجال السلطة في بلاده،
من
أجل بعض الرضا والرحمة من أصحاب النفوذ، الذين يسهلون عبور البلاهة
والانحطاط
الى السينما المصرية التي، في الواقع، لم تعد تهم الاّ بعض أنصار الخفة
والسذاجة.
فالفنان الذي أحبه الجمهور العربي الواسع، بلا قيد أو شرط، وظل وفياً له في
حلوه
ومره، من
المغرب الى المشرق، أثبتت تصريحاته المتتالية أنه مع توريث الحكم في
بلاده، وانه، خلال الحرب الأخيرة على غزة، لم يؤيد انعقاد أي قمة من أجل
محاولة
انقاذها، وهذا كله طبعاً يدل على "شجاعة"، بالمفهوم المهني،
لأنه يضع نجوميته
وشعبيته في دائرة الخطر فيما الشارع العربي في حالة غليان. لم يتذكر إمام
أن يحفظ
"خط
الرجعة"، الاّ عندما أصدر أصوليون فتوى بإهدار دمه.
السلطة
والفن لا
يتعايشان،
اذ يفقد الثاني، في رعاية الاولى، هذه القدرة الاسطورية على الصدام وقول
كلمة "لا". كان بريسون يقول انه ليس جائزاً صنع سينما اذا لم يكن للمخرج ما
يعاديه.
لم يعد
توظيف السياسة الرسمية في سبيل الفن الوطني "ربّيحاً" اليوم، وخصوصاً بعدما
أصبحت هذه الأنظمة تواجَه بالأحذية من جانب الجمهور العريض، وبعد انكشاف
اكذوبتها،
شيئاً
فشيئاً. والحال هذه، ما العمل بالنسبة الى أمثال عادل إمام الذين ليسوا
قادرين على الانضمام الى المعسكر المقابل لهذا النظام، ما دام هذا المعسكر
(الاخوان
المسلمون في هذه الحالة)، هو مع اطاحة كل أشكال الحرية
الفردية. عندما يصل الفن الى
هذا المستوى من الرداءة والخفة، يبقى الانخراط في السياسة وسيلة لتحقيق
الذات
والتعويض عن الفراغ. ولا يُلام من يمكث حائراً على ضفاف سلطتين، واحدة
رسمية
وتحميه، وثانية شعبية مدين لها بصيته. على الأرجح لم يحن زمن
الاختيار بعد، لأن
نتيحة الحرب لم تُحسم.
من حقه أن
يبقى صامتاً، وخصوصاً اذا لم يكن في
جعبته ما يستحق أن يُقال. لكن ألم يكن من الأفضل لو ارتجل كلمة عن ضحايا
القنابل
الفوسفورية في غزة؟ أتكلم عن آري فولمان، المخرج الاسرائيلي
الذي نال الاسبوع
الفائت، جائزة "غولدن غلوب" لفيلمه "فالس مع بشير"، وهو الادرى من غيره بـ"المسخ"
الاسرائيلي الذي يذبح ويهتك ولا يلتفت حتى الى الخلف. هو الأدرى لأنه روى
هذا كله
في
شريطه التحريكي الذي كان له علينا وعلى الجميع وقع الصاعقة. هو الادرى
والأكثر
كفاية لأن ما عاشه جندياً تائهاً في أدغال العنف، خلال اجتياح
الجيش الاسرائيلي
بيروت ومذابح صبرا وشاتيلا، أراد تصحيحه سينمائياً، عندما وجد أنه صار
قادراً على
أن يشتري نفسه ويتعظ بأفعاله. كانت كلمته لتكون مدوية، لو
جاءت، وخصوصاً من على مثل
هذه المنصة، لأن صاحبها "مجرب" وليس "حكيماً". هذه الكلمة نأمل أن تلفظ
خلال
الأوسكار، ولو كانت متأخرة، اذ يبدو أن فيلم فولمان الأوفر
حظاً لنيلها! غريب!
وحدها
السينما الأميركية تتفاعل سريعاً مع المستجدات، والباقي يمعن في التفكير
والتأمل الى أن تمر القاطرة!
منذ
يومين، أصبح أوباما رئيساً لأميركا
وهو صار سيد في البيت الأبيض. غادر بوش ومعه إلهام سينمائيين مسيسين
سيبحثون عن
مصادر أخرى لشن حروبهم، وما أكثر هذه الحروب في بلاد شاسعة مثل أميركا. بات
مايكل
مور يتيماً في غياب عدوّه اللدود، وصار مطلوباً من أوليفر
ستون، باسم ماضيه المجيد،
أن
يغرف من ينبوع آخر، والمستحسن رأفة بنا أن يبقى على مسافة من القادة
والحكام،
بعد اخفاق فيلمه عن دبليو، الذي بات في حاجة الى اضافة أو وصلة
Update
كي يكون
أكثر
وفاء
لمساره بعد حذاء منتظر الزيدي. ممثلون كثر، من اللونين، ابدوا ارتياحم الى
تسلم أوباما زمام الحكم: روبرت دو نيرو، سكارليت يوهانسون، جورج كلوني،
مورغان
فريمان، فوريست ويتيكر، أوصوا معجبيهم بدعم أوباما، ايماناً
منهم بأنه "المخلص"! لا
أفهم ما الذي يحمل مواهب من هذه الطينة على الانخراط بالسياسة، بدلاً من
الترفع
عنها، ومراقبتها من بعيد، ومن ثم محاسبتها؟ أهو اليأس أم الملل أم شيء آخر؟
أسوأ ما
يمكن أن يحصل هو أن يقترن الفن بالشعبوية، وأن يبلغ فنانون
مرتبة عالية من الضجر
واليأس، الى حدّ أن يبقوا منتظرين خروج الأمل من عيني الحاكم.
ثمة
خطة لاعادة رومان بولانسكي الى الولايات المتحدة وتبرئته
انطلاقاً من معطيات جديدة.
31
سنة مرت
منذ فرّ المخرج اليهودي في ليلة بلا ضوء قمر، من البلاد التي كادت تسجنه
لفترة كانت كافية بأن تقضي عليه وعلى فنّه. التهمة أشهر من أن ننساها: تحرش
جنسي
بفتاة قاصر ارتكبه صاحب "تشاينا تاون". على رغم أن عائلة
الفتاة التي باتت على
مشارف الخمسين اليوم، أبدت رغبتها في حل المشكلة ودياً، ها ان الملف يشق
طريقه
مجدداً الى القضاء الأميركي، بذريعة أن القاضي الذي تولى القضية (والمتوفى
اليوم)
لم يكن عادلاً آنذاك. مما لا شك فيه أن من العدل أن يحظى المخرج الكبير
بفرصة ثانية
للدفاع عن نفسه، على رغم أنه أبدى رغبة في أن يُقفل هذا الملف نهائياً.
اللافت في
هذا الموضوع أن من أعاد أحياء الملف هو فيلم أنجزته مارينا زينوفيتش عنوانه
"رومان
بولانسكي، مطلوب ومرغوب". فهل تتيح السينما، كوثيقة وبرهان،
لبولانسكي، أن يذهب الى
الولايات المتحدة ويعود بالأوسكار التي ربحها عام 2003 غيابياً، ولم
يتسلمها قط؟
مرة أخرى يبدو أن لا شيء مستحيلاً خلف الاطلسي، وخصوصاً عندما يقترن
بالارادة
السياسية!
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
22
يناير 2009 |