يعود إنتاج أول فيلم في مصر إلى عام 1927 حينما أقدمَ إبراهيم وبدر
لاما، وهما من أصل فلسطيني، على إخراج فيلم يحمل عنوان "قُبلة في
الصحراء". أما أول فيلم من إنتاج مشترك بين مصر وإيطاليا فهو فيلم
"الصقر" الذي أُنجز عام 1950 وهو من إخراج صلاح أبو سيف.
حينما زار صلاح أبو سيف إيطاليا عام 1950 صرّح قائلاً: "لا أظن
بأنّ الواقعية الجديدة في مصر كانت ثمرة التأثيرات الإيطالية.
والواقع أنّ هذا الأسلوب كان قد بدأ في مصر في فيلم "العزيمة" الذي
أخرجه كمال سليم عام 1939 " وقد باع قصته لشخص يُدعى ستولوف.
تتمحور قصة الفيلم حول شخص سيئ الحظ أضاعَ بقرته التي كانت مصدر
رزقه الوحيد. ويرى أبو سيف أن هذه الفكرة هي أساس فيلم "سارق
الدراجة" لدِي سيكا! غير أن الباحث محمد حسن يعتقد أن هذا الكلام
مبني على الظن وليست هناك حقائق تعزِّز هذا الادعاء. بينما يقول دي
سيكا بأن الكاتب الإيطالي الشهير تشزري زافاتيني هاتفه ليلاً حينما
كان منغمساً في قراءة كتاب جميل يحمل عنوان "سارقو الدراجات"
للكاتب الإيطالي لويجي بارتلوني وقد وجد في الكتاب مادة ثرية يمكن
نقلها إلى الشاشة. وهذا ينفي تماماً قصة البقرة الضائعة التي باعها
كمال سليم إلى ستولوف!
وعلى العكس من ذلك يرى الباحث محمد حسن أن فيلم "وضاع حبي هناك"
لعلي عبد الخالق قد اقتبس الموضوع بالكامل من فيلم "زهرة عبّاد
الشمس" 1970 لدِي سيكا حيث تودِّع البطلة صوفيا لورين زوجها في
محطة القطار ليلتحق بالجبهة. وكل الذي فعله علي عبد الخالق هو أنه
بدّل أسماء الشخصيات والأمكنة وأبقى على الثيمة نفسها! ثم يتوصل
الباحث إلى أن أكثر الأفلام المصرية مُقتَبسة من أفلام عالمية.
ويستنتج بأن "السينما المصرية ليست مصرية تماماً" باستثناء عدد
محدود من الأفلام التي نجت من التأثر أو الاقتباس المباشر سواء من
أفلام عالمية أم من روايات أدبية ذائعة الصيت.
يرى النقاد بأن فيلم "العزيمة" لكمال سليم هو أول فيلم واقعي مصري،
وقد استطاع المخرج أن يصوّر الواقع الاجتماعي للحيّ المصري وأن
يقدِّم الجزّار والفرّان في أدوار مهمة. ومما لا شكّ فيه أن كمال
سليم كان متأثراً بالواقعية الشعرية ويعرف جيداً أفلام رينيه كلير
ومارسيل كارنيه وجان رينوار لكنه لم يستمر بإخراج أفلام واقعية على
غرار "العزيمة".
بعد الحرب العالمية الثانية أنجز كامل التلمساني أول أفلامه "السوق
السوداء" 1945 وعالج فيه مشكلة الاتجار بقوت الشعب لكن الفيلم فشل
فاتجّه إلى الأفلام التجارية، علماً بأن علي أبو شادي والكثير من
النقاد السينمائيين يعدّون "السوق السوداء" البداية الحقيقية
للسينما الواقعية في مصر. وقد تجاوز فيه المخرج سينما التليفونات
البيض، وقصص الحب المكررة، والملاهي الليلية وما إلى ذلك.
المرحلة الأولى
برز في الخمسينات من القرن الماضي خمسة مخرجين سينمائيين مثّلوا
المرحلة الأولى من الواقعية المصرية وهم صلاح أبو سيف، توفيق صالح،
يوسف شاهين، هنري بركات وكمال الشيخ. وقد ترك كل واحد من هؤلاء
المخرجين الخمسة بصمة خاصة في تيار الواقعية المصرية حيث تأثر صلاح
أبو سيف بالواقعية الجديدة وأخرج "لك يوم يا ظالم" 1950 وهو مقتبس
عن رواية لأميل زولا لكن السيناريو رُفض لأن بطل الفيلم شرّير
فأنتجه على حسابه الخاص. ثم أنجز فيلم "الأسطى حسن" 1952 الذي كان
مرآة لحياة الفقراء المصريين. ثم توالت أفلامه الواقعية التي أرست
شهرته كمخرج واقعي مثل "ريا وسكينة" 1953، "الوحش" 1954، "شباب
امرأة" 1956، "الفتوة" 1997 وسواها من الأفلام التي يكون فيها
البطل هو الإنسان الفقير، المسحوق بعد أن كان البطل من الباشوات أو
الطبقة الثرية المترفة.
كان أبو سيف يختار موضوعات أفلامه بنفسه قبل أن يبدأ بكتابة قصة
الفيلم التي يستقي مادتها من الملفات التي نشرتها الصحف. وهذه
محاكاة واضحة للطريقة المتبعة في الأفلام الواقعية الإيطالية.
استمد أبو سيف موضوعات أفلامه من قصص حدثت على أرض الواقع ثم
نشرتها الصحف المحلية مثل قصة "ريا وسكينة" 1953 التي تتحدث عن
امرأتين تحملان الاسم نفسه وقد روّعتا الإسكندرية بقتل النساء
للاستيلاء على مصوغاتهن الذهبية. و "الوحش" 1954 الذي يتحدث عن
المجرم الذي روّع الصعيد والمعروف باسم "الخيط". و "الفتوة" 1957
الذي قرأ أبو سيف تحقيقاً في إحدى الصحف عن تُجّار الخضار وكيف
يديرون سوق الجملة.
استثمر أبو سيف تجاربه الشخصية في أفلامه كما هو الحال في "شباب
امرأة" 1956 عندما سافر إلى باريس، و "بين الأرض والسماء" 1959
عندما تعطّل به المصعد هو وزوجته.
يرى الباحث أن أبو سيف قد دخل مرحلة الإنتاج الغزير بعد فيلم
"الفتوة" حيث أنجز في المدة المحصورة بين الأعوام 1957 و 1968 ستة
عشر فيلماً تنوعت موضوعاتها بين الواقعية والوطنية والعاطفية
والغنائية. ومن أبرز تلك الأفلام "بداية ونهاية"، "القاهرة 30"
وهما من إنتاج القطاع العام. ومن الأفلام التي أخرجها "السقا مات"
و "حمّام الملاطيلي" رداً على نكسة حزيران حيث يعرض واقع الشعب
المصري وكيف كان حال الناس قبل النكسة. جدير ذكره أن اسم نجيب
محفوظ، أكبر كتّاب الرواية الواقعية في الوطن العربي، قد ارتبط
بأفلام صلاح أبو سيف. استعمل أبو سيف لأول مرة الممثل غير المحترف
حيث قدّم العديد من الشخصيات التي أصبحت محترفة مثل عماد حمدي،
نجوى إبراهيم، حمدي أحمد، عبد العزيز مكيوي، محمود ياسين، لبنى عبد
العزيز وغيرهم. كما كان صلاح أبو سيف متأثراً بالسينما الروسية
الرمزية فلا غرابة أن يستعمل الرمز في معظم أفلامه.
لا يختلف توفيق صالح كثيراً عن صلاح أبو سيف من حيث ريادته للسينما
الواقعية في مصر حيث سافر هو الآخر إلى باريس لدراسة السينما لكنه
ترك السوربون ودرس الرسم والفوتوغرافيا فسُحبت منه المنحة فقرر
العيش لسنيتن إضافيتين حيث شاهد الكثير من الأفلام والمعارض
الفنية. وحينما عاد إلى القاهرة أنجز سبعة أفلام روائية طويلة
أولها فيلم "درب المهابيل" 1955 الذي كتب له القصة والسيناريو نجيب
محفوظ. يعتبر هذا الفيلم من أشهر الأفلام الكلاسيكية المصرية ويعد
أنموذجاً رفيعاً للسينما الواقعية العربية. ثم توالت أفلامه الأخرى
مثل "صراع الأبطال" 1962، و "المتمردون" 1966، و "السيد البلطي"
1967 و "يوميات نائب في الأرياف" 1968 و "المخدوعون" 1973 وهو
إنتاج سوري عن القضية الفلسطينية، و"الأيام الطويلة" 1980. يعتقد
الباحث محمد حسن أن كل فيلم من أفلام صالح المذكورة أعلاه له مكانة
خاصة في تاريخ السينما المصرية، ويرى أن المخرج قد تزوّد خلال
المدة التي قضاها في باريس بثقافة سينمائية راقية نتيجة لمشاهدته
العديد من المدارس والاتجاهات السينمائية التي سادت ما بعد الحرب
العالمية الثانية وخاصة الواقعية الإيطالية الجديدة وكلاسيكيات
السينما الألمانية والفرنسية والأميركية.
برز يوسف شاهين في خمسينات القرن الماضي وأنجز 42 فيلماً من ضمنها
خمسة أفلام قصيرة. تنوع منجزه السينمائي بين أفلام اجتماعية
وسياسية وتاريخية وسيرة ذاتية. وقد عُرف كسينمائي حينما أنجز فيلمه
الأول "بابا أمين". ثم تعزز حضوره بفيلمه الثاني "ابن النيل" 1951
الذي تناول فيه الريف المصري. ثم عاد إلى الريف المصري ثانية من
خلال فيلم "صراع في الوادي" 1954 إلاّ أنه وقع في فخّ السينما
التجارية حينما اختتم الفيلم بنهاية سعيدة! أنجز شاهين فيلم "باب
الحديد" 1958 الذي يعتبر أهم الأفلام الواقعية في تاريخ السينما
المصرية. وقد وصل إلى قمة نضجه، كما يرى الباحث، في فيلم "الأرض"
1969 الذي تناول فيه قضية الفلاح المصري. ناقش شاهين في "العصفور"
1972، و "عودة الابن الضال" 1976 أسباب نكسة حزيران عام 1967. أما
مجموعة أفلامه التي تنطوي تحت موضوع السيرة الذاتية فهي على
التوالي "إسكندرية ليه" 1978، و "حدوتة مصرية" 1982، و "إسكندرية
كمان وكمان" 1990، و "إسكندرية نيويورك" 2004. وقد تأثر شاهين
بفكرة توظيف السيرة الذاتية بعدد من المخرجين الأوروبيين الذين
سبقوه إلى تجسيد هذا الجانب وعلى رأسهم فيدريكو فيلليني الذي
استطاع الحديث عن همومه وهواجسه الذاتية دون الابتعاد عن هموم
الوطن والمجتمع حيث يلتقي الهم الذاتي بالموضوعي فيؤلفان نظرة
ثاقبة للواقع الاجتماعي والسياسي.
يعتقد الباحث بأن شاهين لا يتحدث عن الواقع من منطلق النرجسية
وإنما يتحدث عن نفسه ليكشف من خلالها تناقضاته وهواجسه وأفكاره
وعائلته ومحيطه الاجتماعي. تتميز أفلام شاهين بانطوائها على إبهار
في الفكرة وإبهار في التصوير، خصوصاً في اختياره للكادرات، كما
يُعنى كثيراً بعنصر الأغنية التي لابد أن تكون ذروة لحدث درامي.
أما آخر أفلامه التي اختتم بها تجربته السينمائية فهو فيلم "هي
فوضى" الذي يعتبر من الأفلام الواقعية التي تعكس الفساد الحكومي.
وقد نال شاهين العديد من الجوائز المحلية والعالمية من بينها
التانيت الذهب، والدب الفضي، وجائزة الإنجاز العام من مهرجان "كان"
السينمائي الدولي.
يعتبر هنري بركات شيخ المخرجين المصريين بحق فقد أنجز ما يربو على
التسعين فيلماً. وكانت موضوعات أفلامه متنوعة غير أن أول أفلامه
الواقعية هو فيلم "دعاء الكروان" 1959 وقصة الفيلم مأخوذة عن رائعة
طه حسين التي تحمل الاسم ذاته. ويعد أحد الأفلام الكلاسيكية في
تاريخ السينما المصرية حيث أماط المخرج اللثام عن واقع التخلف
والقهر الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع المصري. أخرج "في بيتنا رجل"
1961 عن رواية لإحسان عبد القدوس، و "الباب المفتوح" 1963 عن قصة
للطيفة الزيات حيث يناقش فيه قضية المرأة، و "الحرام" 1965 عن قصة
ليوسف إدريس ويعتبر من أنضج الأفلام الواقعية في السينما المصرية
كما يعبِّر بصدق عن حياة العمال في الريف المصري. كتبَ هنري بركات
معظم سيناريوهات أفلامه غير أن روائعه الأربعة آنفة الذكر قد حفرت
اسمه في تيار الواقعية المصرية آخذين بنظر الاعتبار أن بركات قد
انتقل من غرفة المونتاج إلى الإخراج عام 1952 بعد أن اكتشفته
الممثلة المصرية من أصل لبناني آسيا داغر ليُخرج لها فيلم "الشريد"
عام 1942.
أما المخرج الخامس والأخير من المرحلة الأولى فهو كمال الشيخ الذي
أنجز فيلمه الأول "المنزل رقم 13" 1952 والذي اعتمد فيه أسلوب
التشويق والإثارة. وفي عام 1954 أنجز فيلم "حياة أو موت" وهو أول
فيلم مصري يصور بكامله تقريباً في شوارع القاهرة. يدور هذا الفيلم
حول فتاة صغيرة تذهب إلى الصيدلية لشراء دواء لوالدها المريض غير
أن الصيدلي يعطيها سماً قاتلاً ويظل يبحث عنها قبل أن تصل إلى
والدها. وهو يشبه "سارق الدراجة" لدي سيكا من حيث البحث في شوارع
روما. كما أخرج "اللص والكلاب" 1963 عن رواية لنجيب محفوظ. يتمحور
هذا الفيلم حول قضية محمود أمين سليمان الذي لقبته الصحافة بالسفاح
لارتكابه عدة جرائم. ويعتبر هذا الفيلم من كلاسيكيات السينما
المصرية. كما أخرج "ميرامار" 1961 عن رواية لنجيب محفوظ تحمل الاسم
ذاته. بدأ كمال الشيخ حياته السينمائية في غرفة المونتاج مثل بركات
لكنه سرعان ما غادرها إلى عالم الإخراج السينمائي. ونال العديد من
الجوائز في المونتاج والإخراج السينمائيين.
المرحلة الثانية
كانت السينما المصرية في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات تمرّ
بمرحلة أفلام المقاولات التي لا تمت للسينما بصلة فهي بعيدة عن
الحقيقة وتهدف إلى تحقيق الأرباح المادية الكثيرة حيث كان
المخرجون المصريون ينجزون أفلاماً للخليج العربي تستجيب لذائقة
الجمهور الواسع بحجة "أن الجمهور عايز كده" ومع ذلك فقد خرج في
الثمانينات جيل جديد يشكِّل امتداداً طبيعياً لجيل صلاح أبو سيف
وتوفيق صالح ويوسف شاهين وهؤلاء هم على التوالي محمد خان، عاطف
الطيّب، خيري بشارة، داوود عبد السيد، شريف عرفة ورأفت الميهي.
يرى الباحث محمد حسن أن ظهور الواقعية الجديدة لم يكن وليد
المصادفة فلقد كانت ظروف صناعة السينما المنهارة، واطلّاع المخرجين
على التيارات والاتجاهات السينمائية الجديدة في العالم، وحماس
المخرجين الشباب الذين كانوا تلاميذ للمخرجيين الواقعيين المصريين
القدامى هي التي دفعتهم لخلق تيار المرحلة الثانية حيث حاول
أقطابها أن يرسخّوا أساليبهم الفنية ويدمغوها ببصمتهم الخاصة بهم.
بعد عودة محمد خان من لندن التي درس فيها السينما وشاهد فيها
الكثير من الأفلام البريطانية والفرنسية والتشيكية والأميركية أخرج
عام 1978فيلم "ضربة شمس" حيث صوّر معظم الفيلم في الديكورات
الطبيعية وكان بداية لموجة جديدة اسمها "الواقعية الجديدة" أو
"السينما الجديدة" التي اهتمّت بالخروج إلى الشارع، وتصوير الناس
الاعتياديين، وتجسيد معاناتهم بواسطة الكاميرا المحمولة كما فعلوا
الواقعيون الإيطاليون الجدد آنذاك.
أنجز محمد خان فيلم أكثر من عشرين فيلماً من بينها "موعد على
العشاء" 1981 ثم تلاه بأفلام أخرى مثل "الثأر" و "مشوار عمر" و
"أحلام هند وكاميليا"، و "أيام السادات" و "بنات وسط البلد" و "في
شقة في مصر الجديدة". يقول الناقد علي أبو شادي عن هذا المخرج
المبدع: "فسينما محمد خان تخاطب عقل ووجدان الجماهير . . ولا
تتملّق غرائزهم . . وهي سينما راقية ونظيفة لا تخضع لمواصفات
الحدّوتة التقليدية بأفاقاها الضيّقة وإنما تتعامل مع الواقع
الرحب، تعيد بناءه من جديد لتخلق عالماً مماثلاً لا يحاكي الواقع،
بل يعلو فوقه ويتأمله، يصوغه بشكل فني ليطرح من خلاله رؤيته لما
يمرّ به مجتمعه متوغلاً في أحراش نفوس مجتمعه مقدِّماً لنا نماذج
تنبض بالحياة".
يركِّز محمد خان في معظم أفلامه على الناس البسطاء فلا غرابة أن
تكون الشخصيات نمطية لجهة انتمائها إلى الواقع. كما يهتم خان
بالتكوين واللون والدقة في التعبير. ويستعمل اللقطة العامة في كل
أفلامه وخاصة في الشواراع والساحات وهو ذات الأسلوب الذي يستعمله
أنطونيوني الذي تأثر به خان كثيراً وأفصح عن هذا التأثر أكثر من
مرة حيث قال: "تأثرت بأنطونيوني على وجه الخصوص فهو الذي دفعني إلى
تغيّير فكرتي القديمة عن السينما. فالسينما ليست مجرد حدّوتة تُروى".
كتب خان غالبية سيناريوهات أفلامه القائمة أساساً على الشخصيات
أكثر من قيامها على الحكاية، وشخصيات أفلامه بسيطة وعادية تمتهن
غالباً مهناً شعبية. يصرّ خان على التصوير الخارجي وفي الأماكن
الحقيقية بعيداً عن الأستوديوهات لتأكيد نزعته الواقعية الجديدة.
لابد من الإشارة إلى أن محمد خان كان ناقداً سينمائياً وقد أصدر
كتابين في هذا المضمار الأول عن السينما المصرية والثاني عن
السينما التشيكية.
على الرغم من أن عاطف الطيب لم يعش سوى 47 عاماً إلاّ أنه كان أكثر
مخرجي الواقعية الجديدة ظهوراً وانتشاراً. كما كان أكثرهم التصاقاً
بالجماهير لأنه قدّم صورة واقعية للمواطن المصري. ففي فيلم
"مقايضة" 1978 وهو فيلم قصير تناول فيه هموم الإنسان المصري البسيط
حيث يقوم فلاح مصري بمقايضة محصوله الذي حققه خلال عام كامل بجهاز
راديو! أما أول أفلامه الروائية الطويلة فهو "الغيرة القاتلة" وهو
مأخوذ عن مسرحية "عطيل" لشكسبير. أما فيلمه الثاني فهو "سواق
الأتوبيس" 1982 وهو من الأفلام الواقعية وأكثرها اقتراباً من الناس
ومعاناتهم. ثم أنجز "التخشيبة" 1984 وهو فيلم درامي اجتماعي يروي
قصة طبيبة تجد نفسها متورطة في تهمة لا أساس لها من الصحة. ومن بين
أفلامه المهمة الأخرى فيلم "الحُب فوق هضبة الهرم" الذي يتناول فيه
معاناة زوجين لم يستطيعا إيجاد شقة فيمارسان الحب تحت سفح الهرم
ويقعان في قبضة شرطة الآداب. أما فيلم "البريء" فيتناول المخرج بطش
السلطة في تعذيب النزلاء وقتلهم في المعتقلات وباستغلال جهل
المجنّد العسكري في تنفيذ الأوامر حيث اختصر بعض النقاد فكرة
الفليم "قمع الحرية بجهل الأبرياء".
يتوسع الباحث في شرح مضامين غالبية أفلام عاطف الطيب ومن بينها
"المزمار" الذي يتناول فيه أحد الشباب الذين يعرضون فكرة الزواج
على فتاة أحبها وصادف أنها تمتلك شقة في وسط البلد حيث تذهب مع
صديقها ورئيسها في العمل لرؤية الشقة فيتهمها أحد ضباط الشرطة
بالدعارة. أما "كشف المستور" 1994 فيتناول فيه موضوع الدعارة
المنظمة حيث تقوم المخابرات المصرية بإعداد فتيات يمارسن الجنس مع
الشخصيات الدبلوماسية كطعم للحصول على معلومات سرية بحجة خدمة
الوطن. لابد من الإشارة إلى فيلم "ليلة ساخنة" 1995 حيث يُصوَّر
الفيلم كله في التاكسي في ليلة رأس السنة. يخلص الباحث محمد حسن
إلى أن غالبية أفلام عاطف الطيب تحريضية وتسلّط الضوء على المواطن
المصري المسلوب حقه ويعاني من السلطة التي تنتهكه على الدوام.
خلال مشواره الفني خلق خيري بشارة بصمته الخاصة من خلال أفلامه
الواقعية التي تنطوي على شاعرية معينة. ففي "الأقدار الدامية" 1982
حاول تحليل الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مصر قبل حرب
1948. وفي "العوّامة 70" عرّى بعض أوجه الفساد في المجتمع كما جسّد
معاناة الجيل الذي عانى من نكسة حزيران. اختار الناقد علي أبو شادي
فيلم "الطوق والإسورة" 1986 من بين أفضل 27 فيلماً في تاريخ
السينما العربية. أما فيلم "أمريكا شيكا بيكا" 1993 فقد قدّم فيه
مجموعة الشباب الذين يقررون السفر إلى أمريكا بغية إيجاد فرص عمل
لتحقيق أحلامهم لكنهم يقعون ضحية النصابين فيُتركون في غابات
رومانيا وتكون النتيجة أشدّ من الفقر الذي كانوا يعانون منه. اشترك
بشارة في كتابة جميع سناريوهات أفلامه كي يضمن تحقيق الواقعية
الجديدة التي ينتمي إليها كموجة فنية جديدة آنذاك.
ربما يختلف داوود عبد السيد عن أقرانه في كونه يحب التصوير داخل
الأستوديو كما تنحو بعض أفلامه إلى تجسيد فكرة النهايات المتعددة
كما فعل في فيلم "الكيت كات". أنجز السيد عدداً من الأفلام
الوثائقية قبل أن يبدأ بإخراج الأفلام الروائية وأولها "الصعاليك"
الذي تناول فيه رحلة صعود الصعاليك من قاع المجتمع إلى قمة النشاط
الاقتصادي والسياسي كاشفاً من خلالهما الواقع المصري على حقيقته من
دون رتوش. أما في "أرض الأحلام" 1993فيتناول السيد قصة نرجس علي
ريحان التي تستعد للسفر إلى أميركا لكنها تفقد جوازها وتذكرة السفر
فتنهمك في البحث عنهما طوال الليل وحينما تجدهما تلغي فكرة السفر
وتقرر البقاء. يركز السيد في "أرض الخوف" 2000 على تجارة المخدرات
حيث يُجنّد أحمد زكي من قبل المخابرات ليكشف تجار المخدرات من خلال
العمل معهم.
لا يخرج شريف عرفة عن الأنساق الواقعية الجديدة في مختلف أفلامه
ولكن اسمه يكاد يقترن بموضوع الإرهاب الذي ركز عليه في العديد من
أفلامه مثل "الأقزام قادمون" 1987، و "الملائكة لا تسكن الأرض"
الذي يعتبر أول فيلم مصري يتناول ظاهرة الإرهاب والتطرف الديني
بشكل مباشر. و "اللعب مع الكبار" 1991 الذي يتناول فيه شخصية حسن
بهلول "عادل إمام" الذي يبلغ مباحث أمن الدولة عن قضايا إرهابية
سوف تحدث ويدّعي أنه يعرف بها من خلال الأحلام بينما يشير واقع
الحال إلى أن صديقاً له يعمل في بدالة الاتصالات التي يتنصت من
خلالها على جهاز المخابرات فيحيطه علماً بها. يغوض في موضوع
الإرهاب من خلال فيلمي "الإرهاب والكباب" 1992، و "طيور الظلام"
1995 موضحاً أن الإرهاب هو الوجه الآخر للفساد. أما "اضحك الصورة
تطلع حلوة" 1998 فيتمحور على التفاوت الطبقي في المجتمع المصري حيث
تقع فتاة من القرية في حب ابن رجل أعمال.
اكتفى الباحث محمد حسن بالإشارة إلى أفلام رأفت الميهي وهي "عيون
لا تنام"، "السادة الرجال"، "ميت فل وتفاحة"، "سمك لبن تمر هندي"،
"سيداتي آنساتي" و "قليل من الحب كثير من العنف"، وذكر بأن الميهي
مخرج واقعي جاد ويُعنى بقضايا المجتمع المصري السياسية والاجتماعية
والاقتصادية. ثم توقف عند البيان الذي أصدرته جماعة السينما
الجديدة نقتطف منه المقطع الآتي: "إن الذي نريده سينما مصرية، أي
سينما تتعمق في حركة المجتمع المصري، وتحلل علاقاته الجديدة، وتكشف
عن معنى حياة الفرد وسط هذه العلاقات".
يحلل الباحث محمد حسن ثلاثة أفلام وهي "الكيت كات" لداوود عبد
السيد و "الإرهاب والكباب" لشريف عرفة و "ليلة ساخنة" لعاطف الطيب
متوصلاً في تحليلاته إلى ثمانية مؤشرات وهي: "طرح موضوعات اجتماعية
واقتصادية وسياسية والتركيز على الناس العاديين في لحظات بطولية.
والتصوير خارج الأستوديو وفي الأماكن الحقيقية والضوء السائد.
وتفضيل اللقطات العامة والطويلة والمحافظة على الاستمرارية
الزمكانية في اللقطة الطويلة. واستعمال الكاميرا الخفية في بعض
الأحيان. واستعمال الطريقة التوثيقية في تصوير الأحداث. واستخدام
الممثل غير المحترف. واستعمال الحوار البسيط والعفوي بين الناس.
وأخيراً اجتناب الحيل السينمائية في المونتاج والإضاءة وحركة
الكاميرا".
يتوصل الباحث محمد حسن في ختام كتابه إلى مجموعة من النتائج المهمة
من بينها أن جميع الأفلام الواقعية تطرح مشكلات اقتصادية يعاني
منها المجتمع المصري. كما تركز على تفشي البطالة وندرة فرص العمل
الأمر الذي يدفع الشباب إلى التفكير بالهجرة. نوّه الباحث إلى
تأثير دي سيكا على المخرج عاطف الطيب في عدة نواحي مثل اختيار
الموضوع، والنهايات المفتوحة، واستعمال الأسلوب البسيط في سرد
الموضوع. كما أشار إلى تأثير بازوليني في داوود عبد السيد وخاصة في
نظرته للمرأة. لفتَ الباحث الانتباه إلى التعبيرَين الجديدَين
اللذين شاعا في السينما الإيطالية وهما "سينما المافيا" و "السينما
السياسية".
وفي السياق ذاته ركزّت السينما المصرية على موضوع المخدرات
والقضايا السياسية. استنتج الباحث بأنّ جيل الثمانينات أو جيل
المرحلة الثانية قد اعتمد على ممثلين محترفين بعكس أقرانهم من جيل
الخمسينات حيث قدموا عادل إمام، أحمد زكي، نور الشريف، محمود عبد
العزيز وغيرهم من النجوم المحترفين الذين وصلت شهرتهم كل الآفاق
العربية. وكان مخرجو هذا الجيل أكثر جرأة من جيل الخمسينات في طرح
هموم الإنسان المصري ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
أما الخلاصة الأخيرة التي لا تقل أهمية عن سابقاتها فهي أن غالبية
المخرجين الواقعيين قد عملوا في بداية حياتهم في إخراج الأفلام
الوثائقية الأمر الذي جعلهم يكرسون الاتجاه الواقعي بروحية عالية
وحرفية قلّ نظيرها.
ملاحقة لصوص المعابد
قيس قاسم
يصطحبنا الألماني "ولفغانغ لوك" معه في مغامرة وثائقية مهمة يلاحق
فيها نُهّاب الحضارات ولصوص الآثار، الأشد نفوذاً في العالم إلى
أقاصي الأرض لنكتشف سوية ومن خلالها التعارض التاريخي والحضاري مع
الاستغلال الاستعماري، والتنافر الشديد بين حقوق ملكية الشعوب وبين
أطماع مافيات الآثار العالمية.
فاتحاً المجال، بما يوفرّه من صورة بانورامية عن الظاهرة، لإسقاط
مادته التسجيلية على تجارب شعوب وحضارت، غير حضارة شعب الخمير
الكمبودية التي يُكرِّس موضوع فيلمه عن السرقات وعمليات التدمير
الفظيعة التي تعرضت لها، إلى أخرى عداها لأن مسوغات اللصوص
القانونية والأخلاقية واحدة، تقريباً، يتعكّزون عليها في كل مكان
ينهبونه وفي أي زمان يحلّون فيه كأسياد عنوة، ومن هنا تأتي قابلية
نص "ملاحقة لصوص المعابد" على التأويل وإسقاط فكرته على تخوم
مساحات كبيرة يمكن تخيُّلها من وحيّ رحلة البحث الشاقة عن نُهاب
"محاربي" معبد كو كير الكمبودي وعودة بعضهم سالمين، رغم الجراح،
إلى معابدهم التي كُلِّفوا قبل حوالي ألف عام بحمايتها.
حكاية المحاربين المَنْهوبين بدأت مع إعلان مزاد "سوتَبيز"
النيويوركي الشهير عن قائمته السنوية المعروضة للمزايدة ومن بينها
تمثال قديم من الحجر الرملي قُدِّرت قيمته بعدة ملايين من الدولارت.
ظهور
التمثال حفّز المحامية الأمريكية "تيس ديفيز"، الناشطة في إعادة
الآثار المسروقة إلى أصحابها ومستشارة الحكومة الكمبودية، لكشف
الحقيقة وتجريم المزاد على أساس معرفتها الدقيقة بتاريخ التمثال
وظروف اختفاء تماثيل مشابهة له من كمبوديا خلال السبعينيات.
على خط بحثها عن خيوط تربط عرض التمثال بسرقة معبد "كو كير" تَدخَل
المخرج "فولغانغ لوك" وقرّر مشاركتها المغامرة حتى نهايتها وعلى
وقع الصيحات التي تعالت في وسائل الإعلام الأمريكية تدخّلت الشرطة
الفيدرالية لمعرفة عائدية "المحارب" وكشف الغموض الذي يحيط بأصله
وكيف وصل إلى نيويوك.
واحدة من محفزات البحث عن أصل التمثال يعود إلى قوة نفوذ الجهة
المالكة له: "مزاد "سوتَبيز". فهو من بين أكثر المزادات العالمية
غنى ونفوذاً ولهذا فمهمة مواجهته قضائياً تتطلّب قوة موازية لقوته
وهذا ما لا يتوفر عند أصحاب التمثال: كمبوديا، الفقيرة والمنشغلة
بمشكلات أكبر من البحث عن تماثيل حجرية سُرقت منها قبل عقود!
في القسم الأول يقدم الوثائقي موقفاً إيجابياً للشرطة الأمريكية،
التي تتعامل بجدية مع جرائم سرقة الآثار وتضعها بنفس مستوى جرائم
تهريب المخدرات والبشر، وهذا ما يُفسِّر سرعة تدخلهم وإيقافهم
عملية عرض وبيع التمثال في المزاد كإجراء احترازي أولِّي، اعتمدوا
فيه على مسوِّغات قانونية وشكوك قوية بوجود تلاعب وتسهيل لعمليات
سرقة آثار يُحرِّمها القانون الدولي ثبتتها المحامية في مقال نشرته
في إحدى الصحف الأمريكية بعد فشل المزاد بإيقاف نشره، وعزّزته
بأدلة قوية أثبتت فيها بيع المزاد وخلال ثلاثة عشر عاماً أكثر من
300 قطعة أثرية مسروقة لا تُقدَّر بثمن. كما أعطى قرار التجميد
بدوره لصانع الوثائقي متسعَّاً من الوقت للتحرُّك على مساحات أكبر
من نيويورك ومجالاً أرحب لتعميق بحثه في موضوع اعتبره حضارياً،
ثقافياً، بالمقام الأول وعلى هذا الأساس خاض فيلمه مغامرة البحث عن
التماثيل المسروقة.
إلى "فنوم بنه" العاصمة جاء الوثائقي، ومنها ذهب إلى أقاصي غرب
البلاد حيث المعابد القديمة تتوسّط الغابات المطرية الكثيفة،
ليطلِّع بنفسه على روائع فن نحت التماثيل في المعابد الكمبودية
وعلى شواهد حضارة شعب الخمير وليتأكد بنفسه من حجم الخراب الذي لحق
بها. لقد صوّر "مجازر" شنيعة ارتُكبت بحق حضارة إنسانية من قبل
لصوص محليين ودوليين تعاونوا على إزالة جزء مهم من الموروث الفني
والحضاري لشعب يشعر بالفخر بما أنجزه مبدعو حضارته الأوائل ومصدر
من مصادر رزقهم اليوم.
دخل بصحبة علماء آثار إلى المعبد الذي كان فيه التمثال قائماً
وتوضحّت له أهميته النابعة من أهمية بقية الأجزاء، فالتمثال الصغير
هو جزء من نصب ملحمي يُعدّ أول عمل "ثلاثي الأبعاد" في التاريخ
يصور تسعة محاربين ورد ذكرهم في ملحمة "مهابهارتا" الشهيرة ومن هنا
جاءت أهمية التماثيل واكتسبت قيمتها التاريخية والحضارية.
لقد قطع اللصوص أوصال المحاربين كما تُقطع الأشجار ونقلوها إلى
الخارج فيما ظلّت بعض بقايا السيقان والأقدام ثابتة في مكانها
والتي ستتحول لاحقاً إلى دليل على عودة التماثيل المسروقة إلى
المعبد الكمبودي الهمجور الآن كلياً من زواره.
سيربط الوثائقي سرقة التماثيل بحقبة السبعينيات وبالحرب الأمريكية
الفيتنامية حيث جرت خلالها عمليات نهب واسعة من قبل المحتلين أو
السكان المحليين الجائعين، الذين وجدوا في الآثار مصدراً وحيداً
لعيشهم في زمن المجاعة، كما وجد ثوار الخمير الحمر والفيتناميون
الشماليون في بيعها مصدراً لتأمين السلاح لهم في مواجهة الأمريكان،
إلى جانب ما وفرّه سقوط الحكومة الكمبودية الموالية للأمريكان من
حرية التحرك دون مراقبة على طول الحدود النهرية والبرية التي باتت
مفتوحة للمهربين واللصوص. يعرض الوثائقي الألماني الفرنسي المشترك
تسجيلات قديمة لعمليات قصف مدينة "فنوم بنه" وأدغالها ويتوصل من
خلالها إلى حقيقة أن التماثيل التسعة قد سُرقت عام 1972 بالتحديد،
أي قبل أكثر من أربعة عقود على تاريخ ظهورها الحالي، وأن أحد
البريطانيين من جامعي التحف والذي أسّس لنفسه اسماً نظيفاً في
كمبوديا كانت له صلة مباشرة في عمليات تهريب "المحاربين" إلى
بريطانيا أولاً. يتوقف "ولفغانغ" عند بقية الآثار المدمرة لسرقة
آثار شعب الخمير ومن بينها خسارة أبنائه لموروثهم الثقافي وأيضاً
للسياحة المعتاشين عليها. فمنذ أن جُرِّدت المعابد من تحفها
النادرة توقف السياح عن زيارتها فازداد فقر سكانها على ما هم عليه
من فقر.
كما أن بعض المعابد نفسها قد انهارت بالكامل وتساقط حجرها لأن
اللصوص كانوا يحفرون دوائر واسعة حول التماثيل التي ينوون سرقتها
ما يؤدي في أحيان كثيرة إلى أضعاف حاملات بناء المعبد فتسقط كلها.
خسارات وأضرار لا يعبأ بها اللصوص وفوق كل ذلك لا يُقَدمون إلى
المحاكم ولا يُدانون فيها لأن المحتلّ الفرنسي قد أصدر قوانين
مسبقة تحميهم. مفارقة ستصطدم بها المحامية "ديفيز" حين سيواجهها
محامو دفاع المزاد النيويوركي بدساتير المحتلّ الفرنسي لكمبوديا
والتي تنصّ على أن المعابد وسط الغابات لا تعود ملكيتها لأحد ولا
حتى للدولة نفسها فهي ملك مشاع. نص يفتح باب السرقة على سعته
ويفتح الشهية على نهب الآثار، وتكشف عن استهتار المحتل بحقوق
الشعوب الخاضعة له. هنا يُدخل الوثائقي الرائع قصة مثيرة لها صلة
بفكرته الأساسية عن الكاتب الفرنسي الشهير "أندريه مالرو" وزوجته
اللذان دخلا كمبوديا في بداية العشرينيات و"أخذا" تماثيل منها
بطريقة تعكس العقلية الاستعمارية والنظرة الدونية لأملاك الغير
بوصفها أملاكاً مشرعة لهم. "لقد أراد مالرو سرقة تماثيل من المعابد
وبيعها وقد كان له ما أراد" على حد تعبير زوجته التي لم تجد غضاضة
في فعلتهما مثل الحكومة الفرنسية التي ستتوج فعلة كاتبها وبعد عقود
بتعيينه وزيراً لثقافتها رغم إدانة الحكومة الكمبودية وسجنها له
ثلاث سنوات بعد أن ألقت عليه القبض متلبساً بسرقته!
يَنْضم الوثائقي إلى صفوف المدافعين عن الإرث الإنساني ويسجل
تفاصيل نشاطهم الذي اشتدّ بعد بروز قضية التمثال على نطاق واسع
وسيدعم جهودهم، بوسيلته كفن سينمائي مسؤول أخلاقياً عن تقديم
الحقيقة، حين يكشف بعض خفايا سرقة "المحاربين" عبر مقابلات أجراها
مع البريطاني الملقب بـ "جامع التحف" والذي سيعترف بعلمه بالعملية
التي جرت عام 1972 ووصول التماثيل إلى احدى العوائل الغنية في
بريطانيا عن طريق بانكوك وبيعها فيما بعد إلى عوائل أوروبية أخرى
حتى تصل إلى مزاد نيويورك.
بدورهم سيُثبت علماء آثار تعاطفوا مع المنهوبين الصلة القوية بين
التماثيل والأجزاء الناقصة منها والباقية في موطنها ما سيدفع "سوتَبيز"
للتراجع عن بيع التمثال بعد أن شعر بخطورة وضعه واحتمال كشف بقية
سرقاته كما فعل الوثائقي حين راح يتابع بقية المحاربين في متحف "متروبوليتان"
الأمريكي للفنون وإجبار إدراته على إرجاعها إلى موطنها الأصلي
وبهذا، وبقوة حججه البصرية، فتح الوثائقي ممراً للراغبين السير فيه
لاسترجاع كنوزهم الثقافية والحضارية من سُرّاقها. |