ناميبيا ونظرات وثائقية
شريف عوض
من بين الأفلام الوثائقية الهامة التي عُرضت في الدورة الرابعة من
مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية في مارس الماضي، فيلمان وثائقيان
من إنتاج وإخراج مخرجين يعيشان ويعملان في ناميبيا. الفيلم الأول
هو وثائقي طويل يحمل عنوان "طريق الحرية"
Paths To Freedom
قام بإخراجه "ريتشارد باكليبا" الذي يعرض فيه المسيرة التاريخية
الطويلة التي مشت فيها أجيال ناميبيا المتوالية حتى حققت بلدهم
الاستقلال عام 1990.
فمن المعروف تاريخياً أن ناميبيا صارت مستعمرة ألمانية عام 1884
حين كانت تعرف باسم الدولة الألمانية في جنوب غرب إفريقيا. لكن في
الفترة من عام 1904 إلى 1907، رفعت القبائل المحلية مثل الهيريرو
والناماكا السلاح ضد الجيش الألماني لكنهم، نظراً لفروق العدة
والعتاد، تعرضا لإبادة جماعية عنيفة من قبل المحتلِّين الألمان.
أما من نجى وتبقى، فقد تعرض للسجن والتعذيب حتى أفرج عنه ليعاني
مما هو أسوأ: الطرد والترحيل من البلاد أو العمل القسري في أبشع
صور التمييز العنصري.
احتلّت دولة "جنوب إفريقيا" ناميبيا وجعلتها إحدى مستعمراتها عام
1915 بعد هزيمتها للقوات الألمانية أثناء الحرب العالمية الأولى،
فأصبح يُشار إلى ناميبيا باسم دولة جنوب غرب إفريقيا.
وخلال ستينييات القرن العشرين الماضي، منحت القوى الأوروبية
الاستقلال لمستعمراتها في إفريقيا، فبدأت الضغوط على دولة جنوب
إفريقيا للقيام بالمثل ومنح الاستقلال لناميبيا. ورداً على الحكم
الصادر عام 1966 من قبل محكمة العدل الدولية، بدأت كل من منظمة
(سوابو) الجناح العسكري لمجموعة جنوب غرب إفريقيا الشعبية، ومجموعة
الجيش الشعبي لتحرير ناميبيا، الكفاح المسلح من أجل الاستقلال. ومن
هذه النقطة التاريخية يبدأ فيلم "طريق الحرية" الذي يستخدم فيه
مخرجه ريتشارد باكليبا الصور الأرشيفية القوية واللقطات المصورة
والمقابلات مع من بقى على قيد الحياة من أبطال النضال ضد التفرقة
العنصرية في دولة "جنوب إفريقيا" حينئذ.
قال المخرج بعد عرض الفيلم: "حاولت أن أتتبع أصول وظهور الحركات
القومية في ناميبيا من خلال الفلاحين والعمال الذين نظموا أنفسهم
وتمردوا ضد كل مظاهر الاحتلال والاستعباد". كما أوضح أن الفيلم
يجاري السياقات التاريخية وتاريخ الاستعمار الألماني ثم استعمار
دولة جنوب أفريقيا لدولة ناميبيا التي كافحت لعرض قضيتها أمام
منظمة "الأمم المتحدة" حتى ظهرت حركة التحرر الوطني المعروفة باسم
سوابو التي كانت قوات الشرطة في دولة جنوب إفريقيا تتابع أنشطتها
.
يكشف "باكليبا" في فيلمه عن وثائق رُفعت عنها السرية مؤخراً فتبين
كيف جندّت دولة جنوب إفريقيا أحد رموز "سوابو" للوشي بخطط رفاقه.
كما يُظهر الفيلم أيضاً اندلاع النزاع المسلح في أغسطس 1966 عندما
شنّت دولة جنوب إفريقيا هجوماً جوياً على مخيم المقاتلين من
ناميبيا.ثم ما تبع ذلك من فترة شهدت اعتقالات ومطاردات كبيرة لهم
تعرضوا بعدها لتعذيب لا يوصف، وحوكموا بالسجن مدى الحياة في جزيرة
روبن بجوار سواحل إفريقيا، لكن النضال لم يتوقف ضد دولة جنوب
أفريقيا حتى تحقّق الاستقلال عام 1990. استطاع المخرج "باكليبا" أن
يحاور من تبقّى على قيد الحياة من المناضلات مثل اهيا ليامبو،
جوستينا أمالوا والمناضلين أعضاء سوابو مثل تويفو يا تويفو
والرئيسان نجوما وبوهامبا اللذين ترأسا دولة ناميبيا بعد استقلالها.
في ليلة اختتام مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، فاز "الطريق إلى
الحرية" عن جدارة بجائزة أفضل إنجاز فني من لجنة تحكيم مسابقة
الأفلام الوثائقية التي تشكلّت من المنتجة التونسية "درة بوشوشة"
مدير مهرجان قرطاج والمخرج المصري "مجدي أحمد علي" ومدير التصوير
المصري "محمد شفيق" والمخرج "سيدي فاسارا دياباتيه" من مالي
والكاتب "مدحت العدل". فلقد نجح المخرج في أن يمزج اللقطات
الأرشيفية والسرد الشعري، كما أنه أضاف المؤثرات الصوتية على لقطات
الفوتوغرافيا القديمة فبعث فيها الحياة. وبرز ذلك في أصوات التعدين
على صور عمال المناجم، أصوات إطلاق النار على صور المعارك وغيرها.
كان المخرج "ريتشارد باكليبا" قد أخرج وأنتج العديد من الأفلام
الوثائقية والروائية في منطقة الجنوب الإفريقي منذ عام 1990. وقد
تم عرض أعماله في مختلف المهرجانات السينمائية الدولية كما عرضت
على قنوات دولية. قبل العمل كمخرج سينمائي عمل "باكليبا" كمساعد
تصوير، ودرس الفلسفة وعلم النفس، كما كان ناشطاً سياسيا في شبابه
بين عامي 1983 و 1986. أما من عام 1987 إلى عام 1990 كان يعمل
بدوام كامل في نقابة ناميبيا العمالية.
أما الفيلم الثاني فقد حمل عنوان "وتربيرج إلى وتربيرج"
Waterberg To Waterbergوقام
بإخراجه "أندرو بوتيل" الذي قرر التركيز في فيلمه على "صموئيل
ماهاريرو" (1856-1923) أحد رموز ناميبيا والذي كان زعيم طائفة
الهيريرو في ناميبيا وقائد نضالهم السري والمعلن ضد الاحتلال
الألماني حتى تمت المواجهة بين مقاتليه وبين الجيش الألماني.
ويستعيد "بوتيل" التاريخ في مشاهد فيلمه الأولى مبيناً كيف مني
أتباع ماهاريرو بهزيمة كبرى في معركة وتربيرج يوم 11 أغسطس 1904 و
كان من نتائجها المباشرة احتلال وسيطرة الألمان على وسط ناميبيا.
وعندئذ، اضطر "ماهاريرو" ومن تبقى من أتباعه إلى الفرار من البلاد
تاركين ورائهم كل ممتلاكهم. وكان الاختيار الوحيد لهم هو الاتجاه
إلى الشرق عبر صحراء كالاهاري هرباً من مطاردة الألمان.
يستكمل "بوتيل" في هذا الفيلم الوثائقي الذي لا تتعدى مدته الساعة
الواحدة مدته ساعة واحدة تقفي خطى ماهاريرو ومقاتليه مشاهد تمثيلية
بسيطة تحاكي الأفعال واللحظات التاريخية، تصاحبها قراءة تعليق
تؤديه شابة تدعى إسي تشيمينغ- تشيس، وهي حفيدة ماهاريرو، والتي
يصاحبنا صوتها منذ اللحظات الأولى في الفيلم حتى النهاية. أحد هذه
المشاهد القوية لسيدة تؤدي دور أم إفريقية تحاول الهروب مع طفلها
من المستعمرين. لكن بسبب الظروف المروعة، تضطر هذه الأم إلى التخلي
عن طفلها في وسط حقل السافانا المقفر. ويرمز المشهد إلى ما أجبر
عليه الكثير من رجال ونساء طائفة الهيريرو من أجل البقاء على قيد
الحياة بعد التخلي عن منازلهم وأراضيهم. كما يكشف الفيلم أيضا كيف
مات ماهاريرو من الإرهاق وقصور القلب وفقا لشهادة وفاته التي وقعت
في 14 مارس 1923 وكيف تم جلب رفاته إلى ناميبيا بعد أيام قليلة من
وفاته.
وراء صناعة فيلم "وتربيرج إلى وتربيرج" قصة مثيرة للاهتمام أيضاً.
ففي عام 2012، أثناء تسلقه جبال وتربيرج في دولة جنوب إفريقيا،
التقى "بوتيل" بشخص يدعى "ريتشارد أدلي " وهو أحد ملاك الأراضي
المحليين الذي شرح إلى مخرج الفيلم كيف عاش "صموئيل ماهاريرو" لمدة
20 عاماً في مزرعة مجاورة لمزرعته منذ أكثر من 100 سنة بعد فراره
من ناميبيا. ليس ذلك فقط، بل أخرج "أدلي" بعض الصور المهمة التي
يظهر فيها "صموئيل ماهاريرو" في الفترة بين 1906 إلى 1907 على
جبال وتربيرج، بجنوب إفريقيا.
اعتقد "بوتيل" في أول الأمر أن هذا المزارع يعاني من تشويش في
ذاكرته حيث أن المخرج كان يعرف من قراءته الخاصة أن صموئيل
ماهاريرو قد هرب بعد معركة وتربيرج في عام 1904، إلى بوتسوانا حيث
توفي. لكن بعد رؤيته للصور الفوتوغرافية التي أظهرت ماهاريرو
وأتباعه بعد أن استقروا كمزارعين في وتربيرج جنوب إفريقيا، لم
يتغلب المخرج على إحساسه بالدهشة إلا عندما قرر صناعة هذا الفيلم
الذي يروي كيف أنه بعد أربعة أشهر من معركة وتربيرج، وصل ماهاريرو
إلى قرية تساو في بوتسوانا اليوم.
وبعد أسبوع آخر، منحه المفوض السامي البريطاني موافقته على
الاستقرار فكانت أرضاً قريبة بما فيه الكفاية إلى الوطن الأم ولكن
بعيدة عن متناول الألمان. لذلك اضطر ماهاريرو إلى العيش كشخص عادي
بدون امتيازات خاصة داخل كوخ بسيط، في ظل ظروف صعبة مثل كل
الهيريرو أتباعه الذين نزع منهم السلاح تماماً وبدأوا العمل كرعاة
للأغنام... ضمن مشاهد الفيلم، يروي لنا المؤرخ الإفريقي الناميبي
كيف كان رجال الهيريرو يستطيعون رعاية الأبقار دون الحاجة لحبال أو
أدوات وكيف أن الأحفاد يعيدون السير في الطريق الذي سار فيه
الهيريرو مع "صموئيل ماهاريرو من منطقة وتربيرج بناميبيا إلى جبال
وتربيرج بجنوب إفريقيا منذ أكثر من 100 سنة، وكأنهم يحيون ذاكرته
بهذه الطريقة الخاصة.
"لورنا
"..امرأة ضد الحرب
طاهر علوان
"يجب
أن أعترف أنني لم أكن أعرف بلدا اسمه العراق، ولا أعلم أين يقع على
الخارطة، تماما كما لم يكن يعرف عنه الكثير من الأميركيين."
نحن الآن في شهر شباط فبراير 2003، العالم يحبس أنفاسه، طبول الحرب
تُقرع وصخبها يعلو على كل الأصوات الداعية لنزع الفتيل والداعية
إلى السلام، الإدارة الأمريكية ممن عُرف طاقمها آنذاك بالمحافظين
والصهاينة الجدد، يعدّون الرأي العام للانطلاق نحو الحرب، الماكنة
الإعلامية الجبارة هيأت الأمريكان إلى تقبُّل حقيقة أن النظام
العراقي هو غول هائل وامبراطورية شرّ مدججة بأسلحة الدمار الشامل،
ويجب دحره في عقر داره، وتدميره لكي لا يُلحق ضررا بأمن الولايات
المتحدة وأصدقائها، كل هذه التفاصيل تتدفّق في فيض صوري هائل يكتظّ
به هذا الفيلم - من إخراج تريش دالتون - في مشاهده الأولى والذي
شارك في العديد من المهرجانات، وعُرض في الدورة الأخيرة للمهرجان
الدولي للسينما التسجيلية في أمستردام.
على وقع قُرب انطلاق شرارة الحرب، تعالت أصوات ملايين البشر في
جميع أنحاء العالم، كان هنالك دعاة سلام وناشطون مدنيون ومناوئون
للحروب، ومناوئون للسياسات الأمريكية الاحتوائية والتوسعية ، ومن
بين هؤلاء المصورة الصحافية الأمريكية ( لورنا تيشوستاب) التي
تُقرِّر في تلك الدقائق الفاصلة، قبل انطلاق قطار الموت والخراب
باتجاه العراقيين، أن تذهب إلى هناك، إلى بغداد، لتعايش الناس
أياما معدودات قبل اندلاع شرارة الحرب الطاحنة أو ما عُرف بالصدمة
والرعب، وكان مجرد إعلان نيتها السفر إلى العراق سببا للتهجُّم
عليها من جهة اليمين المتطرف، لكن ها هي تجتاز الحدود البرية
الأردنية العراقية، في سيارة أجرة عادية، وتقطع الطريق الصحراوي
باتجاه بغداد.
لقطات وثائقية استرجاعية لردود أفعال أقرب الناس إليها، ابنها (18
عاما) وابنتها (21 عاما) اللذان يؤمنان بها تماما ويقولان: "نعم
نحن نقلق من أجل سلامتها لكننا نريد أن نعرف الحقيقة من الجانب
الآخر."
يتحدث أيضا رئيس تحرير مجلة (كرونوغرام) حيث تعمل "لورنا" محررة
للقسم السياسي فضلا عن التصوير الصحافي ويشيد بشجاعتها وأنها ستقوم
بعمل يستحق المجازفة.
بغداد في غروب وجِلٌ آخر، تمرّ لورنا على أحد الجسور التي تربط
ضفتيّ نهر دجلة، وهي ستتجّه مباشرة لملاقاة الناس في حياتهم
اليومية، وهكذا تمضي وقتها في وسط عائلة عراقية بسيطة تتجاذب معهم
أطراف الحديث، إنهم أناس طبيعيون طيبون وأطفالهم يمرحون أمامها
وتحملهم بين أحضانها وتداعبهم، ولكن عدستها لا تتوقف لحظة عن
التقاط صور وجوه العراقيين، نساءا وأطفالا وكهولا، في مهن شتى
وأماكن متعددة.
تخرج إلى شوارع بغداد وسط تصريحات بوش الهادرة "إن الولايات
المتحدة ستردع ذلك النظام الأخطر على أمنها بما يمتلكه من أسلحة
محظورة ونزعات عدوانية"، لكن لورنا تسير وسط مسيرة في وسط بغداد
لناشطين مدنيين ودعاة سلام من أنحاء العالم، بضعة نفر تجمعوا تحت
اسم "جسر إلى بغداد" وفي مشاهد موازية تتدفق حشود مليونية من أنحاء
العالم تنادي بعدم الاندفاع إلى الحرب وتذكّر كم من الضحايا
سيسقطون، مظاهرات تظهر على الشاشات في العديد من مدن الولايات
المتحدة وفي لندن وبرلين وروما ومدريد وبروكسل وكوالامبور ونيودلهي
وجنوب إفريقيا والبرازيل وكندا وغيرها.
لم يبق للحرب إلا ساعات، تعود لورنا إلى الولايات المتحدة محمّلة
بخزين هائل من الصور والذكريات والأصوات والبراءة والأوقات الجميلة
التي قضتها مع العراقيين العاديين في أكثر من مدينة، لكن بلادها،
الولايات المتحدة لن تستقبلها بالأحضان، فها هي قناة فوكس الشهيرة
تشنّ حملة إعلامية شرسة عليها، إنها تذهب لملاقاة أعداء الولايات
المتحدة، وإن تصرفها لم يكن فيه احترام للمشاعر الوطنية بما فيه
الكفاية وصولا لاتهامها بالخيانة والتعاون مع العدو والمطالبة
بتطبيق القانون عليها، وحتى تغريمها وسجنها، ومهما قدّمت دلائل على
مهمتها السلمية والإنسانية، وأنها ذهبت لملاقاة الناس البسطاء، إلا
أن ذلك لن يجدي نفعا، كل ذلك السجال يظهر على الشاشات الأمريكية
والناس تراقب عن كثب.
تنقل لورنا ما جمعتّه من مشاهدات وانطباعات لتعرضها أمام الرأي
العام، كثافة من الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود لأطفال ونساء
وكهول وهي تصرخ في جمهورها: "انظروا،
ألا ترون الهلع في عيون هؤلاء البسطاء، ألا ترون أنهم يعانون خوفا
لا يستحقونه وهم على وشك الدخول قسرا في حرب ليسوا طرفا فيها؟!
"
وفيما لورنا تواصل جولاتها في الأوساط الجامعية وتجمعات الناشطين
المدنيين ودعاة السلام، يطلّ الرئيس الأمريكي جورج بوش يوم 19 مارس
آذار 2003 معلنا أن الحرب قد بدأت بالفعل. يخيم الوجوم والترقُّب
والعالم يشاهد القاصفات الأمريكية تلقي قنابلها على بغداد فيما
تصرخ لورنا:
"يريدونني
أن أسكت، أن أنسى ما أراه، فهل تستطيعون إقناعي بأن الحرب ستنتهي
قريبا؟!
"
يمرّ عام على بداية الحرب، وها هي لورنا مجددا في بغداد في شباط
فبراير 2004، ها هي هذه المرة في وسط عرس شعبي في إحدى القرى
العراقية تشارك نساء القرية الفرحة والغناء وتحتضن العروس وتذهب
معهم في حفل الزفاف، بعد ذلك بوقت قصير يقيم الرئيس بوش أفراحه
بمناسبة انتخابه لولاية ثانية وتظهر على الشاشات الامريكية مقولة:
" تمرّ الولايات المتحدة بوقت صعب وخطير، وبوش وطاقمه وحدهم يملكون
حماية الشعب الأمريكي."
وفي المقابل تتدفق حشود المتظاهرين ضده وضد سياساته، وبموازاة ذلك
تتفقد لورنا كوارث القصف والحرب، صور لدمار الهائل لحق بكل ما
حولها، أناس عرفتهم قبل الحرب اختفوا كليا وسويت بيوتهم بالأرض من
جراء القصف الذي طال كل شيء.
يمرّ عام آخر، وتعود لورنا في مطلع العام 2005 لتشهد تغيرا ملحوظا
في حياة العراقيين، انتشار السلاح وسهولة إشهاره في وجه أي أحد،
أصبح ظاهرة ملفتة أكثر من ذي قبل، تُصوِّر من النافذة شبابا يافعين
وهو يعبثون بالسلاح، تحضر أول انتخابات نيابية في ذلك العام لكن
الغريب هو مطالبتها بأن ترتدي الحجاب إجباريا لدى دخول مراكز
الاقتراع فضلا عن منعها من التصوير.
تُعلِّق على ما شاهدته: "أهذه
هي الحرب التي ذهبنا إليها؟ كل شيء يتشوه، ولغة الحرب وآثارها في
سلوك الناس لا تكاد تُخطئها العين، هنالك خوف عارم وشرارة صراعات
من الممكن أن تشتعل في أية لحظة بين المكونات العراقية التي كانت
متآخية بالأمس وتعيش في سلام."
تعود إلى الولايات المتحدة وتُنظِّم العديد من معارض الصور
الفوتوغرافية، حصيلة ما صوّرته في رحلتها الأخيرة لتعلن أنه وضع
معقد، إنه تداخل غريب وحالة عراقية تخرج من جوف الحرب وتُنذر
بالمزيد من الآلام، وأن حرب بوش لم تجلب للعراقيين الراحة والأمل
كما قيل.
مشاهد تأبين الجنود الأمريكان، الذين قتلوا في العراق، أحذيتهم
العسكرية ذات الأعناق الطويلة يحمل كل منها اسم جندي أو ضابط، فيما
تضع لورنا في موازاة اسم الجندي "جون" اسم الطفل خالد الشهيد،
وهكذا تنشر أسماء الضحايا العراقيين في موازاة الأمريكان وتنشر صور
الضحايا علاوة على ذلك.
يحتشد الفيلم بكم من الوثائق والصور منحته قوة تعبيرية عميقة، إذ
واكب قضية إشكالية كبرى وخاصة أن الفيلم قد أُنجز العام الماضي، أي
بعد مرور قرابة 12 عاما على اندلاع تلك الحرب ، إلا أن جراحا غائرة
لم تندمل لاسيما مع استرجاع صورة وزير الخارجية "باول" ووزير
الدفاع "رامسفيلد" وهما يسوّقان مزاعم أسلحة الدمار الشامل
العراقية، لنشاهد ظهورهما في تسجيلات ولقاءات لاحقة وهما لا يجدان
الأعذار ولا المبررات لذلك السيل من الأكاذيب التي رافقت تلك الحرب
المجنونة.
لورنا ..الإنسانة والمناضلة ضد الحرب، التي قاومت بمبادئها وثباتها
ماكنة الحرب ولم تتزعزع، حاولوا تخويفها أو ابتزازها لثنيها عما
تقوم به، ولكن من دون جدوى، فها هي في العراق مرة أخرى في العام
2012 تقوم بتدريب العراقيين على إدارة المؤسسات في إطار مؤسسة
استشارية لدعم العراقيين وتطوير قدراتهم. |