ظلّت أنظار العالم ولسنوات طويلة بعد انتهاء الحرب العالمية
الثانية متجهة إلى هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، فيما كانت تجرى
في مناطق أخرى من العالم تجارب على قنابل ذرية أشدّ قوة من تلك
التي أسقطها الأمريكان هناك بمئات المرات. ولكن بفارق؛ أنها كانت
تجرى بصمت قاتل متعمَّد وتطبَّق عملياً على شعوب مسكينة معزولة في
جزر المحيط الهادىء وهنا يتقدم الوثائقي السويدي "عاشت فرنسا" Vive
La France 2014 ليكشف
بشجاعة جزءاً بسيطاً عما كان يجري بالفعل في جزر وأرخبيلات "بولينزيا"
الفرنسية في عمل سينمائي لافت يعرض جوانب من التخريب المتعمَّد
والإبادة الواعية لشعوبها.
لم
يتوقف العالم عنده طويلاً لأسباب كثيرة ذات صلة مباشرة بسياسة
الهيمنة والسيطرة الاستعمارية فيما يحاول المخرج هيلي فيلكسون
ومساعدته تيتي جوهانسون في عملهما التنبيه إليه، ووضع أصابعهم على
بعض جروح تلك الجزر النائية الغارقة في سكينة دائمة لم تفسدها سوى
أصوات القنابل النووية التي انتظم الجيش الفرنسي على إجرائها طيلة
سنوات، كانت خلالها الإشعاعات النووية تتسرّب بصمت إلى أجساد
سكانها فيما ظلّت قوة التفجيرات المتتالية تُحدث في سطحها شروخاً
عميقة قد تتسبّب في غرقها وزوالها من على وجه الأرض.
هذه الصورة المكثفة لمضمون "عاشت فرنسا!"، والتي ترد على لسان
الزوجان كوا وتيريكي من سكان جزيرة توريا في المحيط الهادىء، يصرّ
صانع الوثائقي على تثبيتها في مفتتح فيلمه رغم تهديدها المحتمل
بتضييع عناصره التشويقية، لأنه ببساطة اعتمد في تأسيسه على قوة
الفكرة لا الحدث، وهاجسه الأول كان التحرِّي عن الحقائق وترتيب
الأحداث وفق تسلسل تطورها التاريخي والسياسي لا الارتكان على
العنصر الدرامي فيها، لهذا نراه يعود بسرعة إلى الوراء، إلى العام
الذي قرّرت فيه الحكومة الفرنسية منع إجراء تجاربها النووية فوق
جزر المحيط دون ذكر للآثار التدميرية التي تركتها هناك. من هنا
يبدأ كشفه، من المفارقة السياسية التي سبقت القرار بعام واحد حين
أعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عام 1995 استمرار الجيش في تجاربه
النووية في جزر بولينزيا وعدم توقّفها، ما أثار موجة من الاحتجاجات
أجبرته بعد عام على وقفها.
لا يلعب شكلياً فيلكسون على تلك المفارقة الصارخة بل يذهب بعيداً
في التاريخ، فيرجع إلى اللحظة التي أعلن فيها شارل ديغول وبعد
سنوات قليلة على نهاية الحرب العالمية الثانية، بأن التجارب
والتفجيرات التي تجرى في جزر المحيط الهادىء ستعود بالخير والنجاح
على سكانها.
يُثبت
الوثائقي عبر تسجيلات من الأرشيف خطابات الرئيس الفرنسي المتفوه
والمتحدِّث اللبق أثناء زيارته لتاهيتي أكبر تلك الجزر، وهو يقدم
فيها المزيد من التطمينات والوعود لشعوبها؛ بوفرة الخير القادم
إليهم مع جيشه ومع تجاربهم وتفجيراتهم "البسيطة". سيصدق الناس
كلامه وسيقبلون بموتهم!. ينقل "عاشت فرنسا!" بأسى كلام الناس اليوم
وهم يشعرون بخيبة الأمل الكبيرة، وباكتشافهم لسذاجة آبائهم الذين
صدّقوا الأكاذيب ورحبّوا بها، فيكرر عرض التسجيلات القديمة المصورة
وهم يهتفون فيها مرات ومرات "عاشت فرنسا!".
عاشت فرنسا ماتت جزر بولينزيا! وبالتحديد جزيرتهم "توريا" كما
سيهتف الوثائقي مرات ومرات. يربط الشريط الوثائقي المثير للشجن من
خلال شخصيات فرنسية أدخلها على خطه لصلتها المباشرة بالحدث مثل؛
الباحث والمعارض الفرنسي "برونو بارلو" الذي كرّس حياته للدفاع عن
سكان الجزر، بين فقر الجزر واعتماد اقتصادها بالكامل تقريباً على
المساعدات المالية الفرنسية، وبين قبول قادتها المحليين بما تمليه
عليهم الإدارة الفرنسية المُتمثّلة بالمندوب السامي الفرنسي، الذي
يزور الجزيرة مرة واحدة في العام يُقرّ خلالها الميزانية السنوية
ويذهب. لقد باع الناس جزرهم ولكنهم لم يدركوا حتماً أنهم يهبون
أجسادهم ويخاطرون بأرضهم مقابل سماحهم بوجود الجيش الفرنسي على
أرضهم وقيامه بتجاربه النووية، التي لا يعرفون شيئاً عنها، سوى
أنها تضيء الليل وتجعله مثل النهار وأن الأرض تهتزّ تحت أقدامهم
يوم تفجيرها بالقرب من سواحلهم إلى جانب وجود الغيوم الدائم فوق
رؤوسهم. استغلال الفقر والجهل وقوة المال أدّت إلى تدمير أجمل
مناطق الأرض على الإطلاق.
يثير
الوثائقي الحسرة على جمال وضياع تلك المناطق الساحرة من خلال ترك
كاميرته تُصوِّر تفاصيل الحياة فيها دون تبريز متعمّد لمفاتنها،
بطريقة حذقة تولِّد إحساساً عميقاً بالضياع وببشاعة استغلال بشر
يُمثِّل وجودهم أعلى درجات التقارب المثالي بين الطيبة الفطرية
وبين جمال الطبيعة اللامحدود، وفي لحظة تراجيدية نادرة صورت بشراً
أغلبيتهم أصيب بالسرطان، لدرجة تبدو الجزيرة وقد تحولت إلى مستوطنة
سرطانية، ما يثير فزع الزوجين الشابين كوا وتيريكي وخوفهما الشديد
على مستقبل طفلهما، ومن احتمال إصابتهم بالسرطان الناتج عن
التفجيرات "النظيفة" كما يصرّ الفرنسيون على وصفها، على الرغم من
كل المعطيات التي يقدمها الوثائقي من خلال الخبراء والعلماء الذين
قُدِّمت مداخلاتهم في الشريط عبر رسومات توضيحية تُكذِّب ما يدّعيه
المحتل.
يكرس الوثائقي وقتاً لسماع الخبراء وتثبيت وجهات نظرهم في الجوانب
العلمية المتعلقة بتأثيرات أشعة اليورانيوم على أجساد الناس
والطبيعة، وعلى قوة التفجيرات التي تمت تحت سطح الأرض وفي أعماق
المياه الساحلية القريبة، وأحدثت شقوقاً عميقة في الجزر تهدد
بإغراقها وزوالها بالكامل.
أكثر ما يؤلم في كلامهم وتوقعاتهم هو عجز الناس عن عمل شيء يمنع
حدوثها في الواقع، فتراهم يبدون مستسلمين لأقدارهم غارقين في حيرة
متناهية، لدرجة يظهر فيها الوثائقي وبقية من يريدون إسماع صوتهم
وكشف الحقائق المتعلقة بتجربتهم إلى العالم، وكأنهم يقومون بهذا
نيابة عنهم.
واحدة من الحقائق المؤثرة في المعادلة "البولينزية" هي قلة عددهم
بالنسبة إلى مساحة جزرهم، والذي سيكتشف النشطاء والمطالبون بتعويض
سكان الجزر عما لحق بهم من أذى، أن السياسية الغربية وبعد الحرب
العالمية الثانية تعمدّت اختيار تلك المناطق لهذا السبب، فموت آلاف
قليلة من البشر في جزر نائية لن يثير حفيظة العالم وعلى خلفية هذه
الحقيقة سيدرك سكانها، متأخراً، أكاذيب فرنسا وقادتها حين ادّعوا
أنهم قد جاؤوا من أجلهم ومن أجل مستقبلهم، ولهذا السبب سيثير
الوثائقي الاقتحامي سؤالاً إشكالياً: لماذا لم يجرِ الفرنسيون نفس
التجارب بالقرب من برج إيفل أو في مدن أوروبية أخرى؟ ولماذا لم
يختاروا جزرا كبيرة العدد؟
يقع تحت يد المخرج السويدي شريطاً مسجلاً يظهر فيه المندوب الفرنسي
أثناء إحدى زياراته السنوية للجزيرة، وحضوره حفلاً أقيم على شرفه
وهو يتحدث إلى المسؤول المحلي الذي يطلب منه تخصيص طبيب مقيم نتيجة
الأمراض الكثيرة المنتشرة فيها، وحالات الموت بسبب السرطان، فكان
جوابه بأن هذا غير ممكن التحقيق لأنهم لم يُخصصوا في ميزانية
الجزيرة السنوية راتباً لطبيب مقيم!. يأخذ "هيلي فيلكسون" هذا
المقطع ويبني عليه مخططه للطبيعة العلاقة المختلة بين فرنسا
ومستعمراتها.
يذهب إلى باريس ويتابع النقاشات الخاصة بالجزر وحقوقها ليكتشف
بنفسه أكاذيب ولا مبالاة الأحزاب السياسية الفرنسية بهذا الجانب
واكتفاءهم باللعب عليها أثناء الانتخابات فقط، إلى جانب تعاملهم
الفوقي مع مجموعة يشعرون بأنهم يتفضلون عليها بالمساعدة الاقتصادية
دون ذكر منهم للثمن الغالي الذي يدفعه سكانها، وجزيرتهم، التي راح
يعرض الوثائقي بذكاء قضية غرقها المحتمل عبر صيغة سؤال علمي مجرد.
بعد ملاحقة مكثفّة سيبرهن العلماء أن الجزيرة في طريقها للغرق وأن
غرقها سيتسبب بـ"تسونامي" جديد يدمر بقية الجزر القريبة. فانهيار
ملايين الأطنان من الأرض في قعر البحر سيؤدي إلى ارتفاع منسوب
الأمواج في المحيط ليصل لأكثر من عشرين متراً تكفي لإغراق الجزر
المرجانية القريبة والتأثير على الحياة البحرية بأكملها.
يترك "تعيش فرنسا!" باريس، بعد أن يأِس من حصوله على أجوبة شافية
أو حماسة مرتجاة عند سياسيها لمتابعة مصير شعوب صغيرة وجزر ساحرة
تموت بسببهم، ويعود إلى العائلة الشابة في جزيرة توريا وهي تتابع
بقلق ما يجري في الجزيرة بعد تأكدها بأنها على شفى الانهيار.
يُسجِّل بروية مشاعرهم ومخاوفهم من المستقبل، وتفكيرهم بطفلهم
والبحث عن طرق ممكنة تنقذه من مصير أسود محتوم رسمه المحتلّ وتركهم
يواجهونه بمفردهم وبدون قوة ولا أدوات تعينهم، وحسب قول الأم "حتى
قوارب نجاة صغيرة لا نملك" فيُعلِّق زوجها ساخراً والمرارة تملأ
فمه: "عاشت فرنسا!". فيما يظلّ الوثائقي السويدي يهتف بطريقته
السينمائية الخاصة والمؤثرة: "عاشت فرنسا.. ماتت جزر بولينزيا
الساحرة!".
حوار: مهرجان المآسي البشرية
محمد موسى
بدلا من صور النجمات والنجوم، التي تُزيِّن بالعادة شوارع وساحات
المدن أثناء المهرجانات السينمائية في الدول الأوروبية، لجذب
الجمهور الى أفلام هذه المهرجانات، على اعتبار أن "النجم" هو
البوابة البديهية والمُغريِّة للفيلم السينمائي، قام مهرجان
"Movies that Matter "
الهولندي لحقوق الإنسان والذي عُقد بين 20 إلى 28 من شهر مارس في
مدينة لاهاي الهولندية، بتعليق صور ناشطين سياسيين واجتماعيين من
ضيوف دورته هذا العام في الباحات المؤدية إلى الصالات السينمائية
للمهرجان، من الذين مرّوا بشكل أو بآخر في أفلام عُرضت في
المهرجان. فهؤلاء الناشطون هم نجوم المهرجان الحقيقيين، إذ أن
التظاهرة السنوية معنيّة بشكل رئيسي بالحراك الذي تُحدثه السينما
بين الجمهور، الذي يُقبل منذ سنوات على أفلام صعبة كثيراً في
مواضيعها ومناخاتها للتعرُّف على ما يجري في العالم من مآسي
وانتهاكات مُتواصلة، وربما المساهمة يوما ما في البحث عن حلول لبعض
من المشاكل التي تنقلها هذه الأفلام.
ليس بعيداً كثيراً عن بناية محكمة العدل الدولية في المدينة
الهولندية، يُنظَّم هذا المهرجان سنوياً، جامعاً كل عام بين أساليب
ومدارس سينمائية مُختلفة، تشترك في تقديم الهَمَّ الإنساني بمُختلف
تجلياته. هناك إلى جانب الأفلام الأولى لمخرجيها، أعمال لسينمائيين
مكرسين، بعضها خطف أهم الجوائز العالمية في الأشهر الأخيرة.
عن المهرجان وطبيعيته وأهدافه كان هذا اللقاء مع مديره الهولندي
تاكو راوخهافر
:
•
مهرجانكم من أوائل مهرجانات حقوق الإنسان السينمائية في العالم. في
العقد الأخير شهدنا تصاعد في أعداد المهرجانات التي تعرض أفلاماً
بنفس التيمات التي تقدمونها، في أوروبا على وجه الخصوص، وبشكل أقل
في مناطق جغرافية أخرى، كيف ترون هذه الزيادة اللافتة في عدد هذه
النوعية من المهرجانات، هل تترجم حاجة للجمهور، أم أن العدد الكبير
من الأفلام التي تتناول موضوعات سياسية واجتماعية والتي تنتج
سنوياً تحتاج إلى منصات أكثر للعرض؟
صحيح نحن من أوائل مهرجانات سينما حقوق الإنسان في العالم. أعمل
منذ حوالي 16 عاماً في هذا المهرجان. عدما بدأت كان هناك حوالي 15
مبادرة من هذا النوع في العالم، بعدها انضمت إليها مجموعة أخرى في
أوروبا. الشيء المُثير الذي بدأ في الأعوام العشر الأخيرة، أننا
بدأنا نشاهد مبادرات من هذا النوع، تنطلق من دول تعاني من ضعف حقوق
الإنسان والحريات الشخصية والإعلامية. الذين يقفون خلف هذه
المهرجانات هم ناس أذكياء، فهم لجأوا إلى الأفلام، وهي خيار أمين
نسبياً، لتقديم قصص من مواقع مختلفة من العالم، ثم تقوم هذه
المهرجانات في حلقات النقاش التي تنظمها بطرح أسئلة على غرار: ولكن
كيف الوضع هنا...؟
تنظيم مهرجان مثل مهرجاننا هو أمر بسيط، لأنه يجري في دولة غربية،
لكن تنظيم المهرجان نفسه في دولة مازالت تصارع لنيل حقوقها هو أمر
مُعقد كثيراً،. مثلاً تنظيم مهرجان عن حقوق المثليين في سان
بطرسبورغ، أو مهرجان عن الحريات في بورما، هذه أمور صعبة جداً.
الحال إن زيادة أعداد مهرجانات حقوق الإنسان السينمائية له علاقه
بتزايد الجهات التي بدأت بتنظيم هذه الفعاليات، مثل: الجامعات، أو
الناشطون الاجتماعيون أو حتى صناع السينما أنفسهم. الآن في العالم،
هناك ما يقارب الـ 41 مهرجاناً لسينما حقوق الإنسان. هؤلاء فقط من
المُسجلّين في مؤسسة "مراقبة حقوق الإنسان". هناك أيضاً مهرجانات
غير دورية، وهذه ليست مُسجّلة في المؤسسة المذكورة. نحن في مؤسسة
"Movies that Matter "،
نقوم بتنظيم هذا المهرجان، ونقوم أيضاً بمساعدة مُبادرات لتنظيم
عروض أفلام في دول مختلفة حول العالم، من خلال الفرع الدولي
لمؤسستنا.
•
أين تكمن أهمية مهرجانات حقوق الإنسان السينمائية، إذا كنا نستطيع
مشاهدة الأفلام ذاتها التي تعرضها هذه المهرجانات في الصالات
السينمائية العادية أو على شاشات التلفزيون، لماذا اخترتم إطار
المهرجان السينمائي تحديداً؟
الشيء الرائع الذي يُميِّز المهرجان السينمائي هو النقاش الذي يجري
بعد عرض الفيلم وفي كواليس المهرجان، نحن نطلق على ما نقوم به
"مهرجان للفيلم والحوار". الحوار يجري بالعادة مع المُخرج، أو
الشخصيات التي يدور عنها الفيلم، وأحياناً مع ناشطين من الدول التي
صوِّرت فيها الأفلام، وحتى مع سياسيين أو صحفيين. هؤلاء يقومون مع
الجمهور بتحليل ما تُقدّمه الأفلام. ليطرح سؤال: ما الذي شاهدناه
الآن؟ كيف يمكن تغيير هذا الوضع؟ وما هو دور الدول أو المؤسسات في
التغيير؟ ودورك أنت أو أنا كجمهور، وكيف نعثر على ضوء ما في نهاية
النفق. لهذه الأسباب، مهرجاننا هو مُناسبة سعيدة. من المؤكد أن
كثيراً من الناس عندما يسمعون أن هناك مهرجاناً لأفلام حقوق
الإنسان يعتقدون مباشرة، أنه سيكون مناسبة ثقيلة، تعرض فيها أفلام
تحمل هموماً كثيرة، لكن المهرجان هو في الحقيقة مُناسبة سعيدة، لأن
المشاهد لا يكتفي بمشاهدة المشاكل التي تقدمها الأفلام، ولكنه
أيضاً سيفكر بالحلول والبحث عن الأمل. وهذه أهمية المهرجان التي
سألتني عنها. كما أن إقامة المهرجان في مدينة لاهاي الهولندية له
أهمية خاصة، لأنه يسهل الاتصال مع الشخصات صاحبة النفوذ، من
سياسيين وغيرهم، من التي تعمل في المجالات الإنسانية والمجتمعية
والتي اتخذت من مدينة لاهاي مقراً لها.
• هل
لك أن تُحدثنا عن عملية اختيار الأفلام كل عام، كيف تجري، هل
تختارون التيمات وبعدها الأفلام التي تناسب تلك التيمات. هل لكم
موضوعات ثابتة كل سنة مثلاً؟
نحن لا نختار مُسبقاً التيمات الخاصة بكل دورة، نحن نتابع ما يقوم
به المخرجون حول العالم. هؤلاء لهم أنف يشم القصص المُثيرة التي
تحتاج أن تصل إلى الجمهور. يعرفون ما هي القصص الجديدة الراهنة، أو
القصص المنسيّة، نحن نختار أفضل المُتوفِّر، وهذه ستشكل تيمات
مهرجاننا.
•
في يوم واحد من أيام المهرجان، شاهدت فيلماً تسجيلياً أعتبره سيء
التنفيذ وبدائي، بعدها فيلم تسجيلي متميز ومُبتكر. هذا أمر مُحير،
فنحن نتوقع بالعادة مستوى معين للأفلام التي تُعرض في المهرجانات
السينمائية. كيف ترى ذلك؟
أي أفلام تقصدها؟
•
الفيلم السيء كان "في ظلال الحرب"، والآخر "المطلوبون الـ 18".
لا أتفق معك بخصوص الفيلم الأول، فلا أجده فيلماً سيئاً، هو الفيلم
الأول للمخرج، وهذا يمكن الاستدلال عليه بسهوله. تم اختيار هذا
الفيلم لأنه ينسجم مع خططنا للمهرجان وما نعرضه. في هذا العام
نظمنا برنامجاً خاصاً بعنوان: "الماضي والحاضر"، وهو عن حروب
ونزاعات سابقة بمفاعيل متواصلة حتى الساعة، بعضها انقضت سنوات
طويلة على نهايتها، لكن آثارها مُستمرة لليوم. بعد عامين ستحلّ
الذكرى المئوية للمذابح الأرمنية، رغم ذلك لازالت هذه القضية محل
نقاش حاميّ وحتى هذه الساعة. ولازال الخلاف حول تعريفات المذبحة
بين القوميين من كلا الطرفين. وقبل خمسين عاماً حدثت مذبحة أخرى في
إندونيسيا، وهي أيضاً من المذابح التي يتم نكرانها بالكامل داخل
الحكومة والإعلام والمدارس هناك. فيلم "في ظلال الحرب" يدور في هذا
الفلك. هو عن شاب وُلد بعد حرب البلقان، رغم ذلك، هو يعاني من
تبعات تلك الحرب. من آثار نفسية وغيرها. الفيلم عن جيل الأبناء
الذي يدفع ثمن ما فعله الآباء في تلك الحرب. هذا الجانب نريد أن
نعرضه للجمهور. هو يُمكن أن يكون تقليدياً في مقاربته لكننا لا
نراه فيلماً سيئاً.
•
هل الموضوع يأتي قبل المستوى الفنيّ في مهرجانكم؟
لا، الموضوع ليس أهم من الجودة الفنيّة، ربما نختلف على هذا الفيلم
أو ذاك، لكننا بشكل عام نحرص على تقديم الأفلام التي تتميز بمستوى
فنيّ عالٍ. عودة إلى الفيلم الذي قصدته، هو بالطبع يحمل سمات
الفيلم الأول، وفيه مقاربة تقليدية، لكننا نريد أيضاً أن نشجع
المخرجين والمخرجات الشباب عبر منحهم منصة يعرضون عليها أفلامهم.
نحن مهتمون أيضاً بالنقاش على نوعية الأفلام بنفس القدر الذي يخص
موضوعات الأفلام.
•
عُرضت في مهرجانكم في السنوات الاخيرة أفلام عديدة عن منطقة الشرق
الأوسط، بعضها بتوقيع مخرجين من تلك المنطقة. كيف ترى هذه الأفلام
بشكل عام، هل هناك تغييرات في المُقاربات والمُعالجات؟
نحن هنا في أوروبا نتلقى المعلومات التي تخص مناطق العالم عن طريق
الإعلام الغربي بشكل عام. وهي تُحدِّد نظرتنا لما يحدث في العالم
من أحداث و تحولات. هذا ربما ليس بالأمر السيء دائماً، لكننا جميعا
سنزداد ثراءاً وستكتسب نظرتنا للعالم أبعاداً إضافية، إذا قام
مخرجون من تلك المناطق بعمل أفلام عن بلادهم. مثلاً مُخرج من
رواندا يُنجز فيلماً عن بلده والمذابح هناك. على سبيل المثال،
الفيلم الأمريكي الشهير "فندق رواندا"، والذي عُرض قبل أعوام، قام
بجذب الانتباه لما حدث ويحدث في ذلك البلد الأفريقي. لكني قابلت
بعدها مُخرجين من رواندا، وقالوا لي إن الفيلم الروائي الأمريكي
جيد، لكننا نريد أن ننقل رؤيتنا الخاصة عن بلدنا. ما يحدث غالباً
أن الجمهور الغربي يبحث عن شخصية رئيسية، ويفضل أن تكون غربية، حتى
يستطيع التفاعل أو أن يضع نفسه في محلها. لذلك من المُهم عرض أفلام
من مناطق مختلفة، ليس فقط من الشرق الأوسط، ولكن من أمكنة أخرى.
نجد هذا مُهماً جداً.
وعن الشرق الأوسط تحديداً، كما تعرف هناك الكثير يحدث هناك. نوعية
الأفلام عن المنطقة تتحسن، هناك تقاليد عريقة في بعض البلدان هناك،
كما أن التطورات التكنولوجية التي تحدث في عالم السينما، ساهمت في
تقليل الفروقات بين الشرق والغرب إن صح التعبير، وهو أمر مُفرح
كثيراً. هذه الأفلام تُكمل ما يُقدمه الإعلام الهولندي من تغطيات
إعلامية عن المنطقة.
•
أريد أن أسألك عن الجمهور. يبدو لي وأنا أشاهد الجمهور الذي كان
يحضر أفلام المهرجان، ويساهم بعدها في جلسات الحوار، جمهور واعي لا
تنقصه المعرفة بأحوال العالم. هل يمكن أن تصف لنا جمهور مهرجانكم،
وكيف تصلون إلى جماهير جديدة ومتنوعة؟
هناك جمهوراً أصبح مُعتاداً على هذا النوع من السينما، وله فضول
واهتمام بما يُعرض، ويُحب أن يفكر بالأسئلة والمُعضلات التي تقدمها
الأفلام. هو ما يمكن أن نطلق عليه وصف "النخبة المُثقفة"، نحن نعمل
على جذب جمهور جديد، لكن يجب ألا ننسى أنه بدون الطبقات الأخرى لن
توجد الطبقة المثقفة، وأن هذا التقسيم بين الطقبات الاجتماعية هو
أمر طبيعي. نحن نتعاون أيضاً مع التلفزيون الهولندي لعرض بعض
أفلامنا هناك. وهذا يوسِّع من دائرة جمهورنا، ونصل للذين لا
يستطيعون الحضور إلى مدينة "لاهاي" لمشاهدة الأفلام في الصالات
السينمائية.
هناك أيضاً في هولندا ما يعرف بالتعليم الإلزامي، أي أن المدارس
تُجبر طلابها على الذهاب إلى فعاليات مثل مهرجاننا، حيث إن الثقافة
تشكل إحدى مفردات التعليم، وكما يجب على الطالب تعلُّم القراءة
والكتابة، عليه أن يتعرف على جوانب أخرى من العملية الثقافية. وأن
يتعلَّم النقاش. نحن نصل مع مهرجاننا إلى سبعة آلاف طالب في كل
دورة، والذين لم يختاروا الذهاب إلى هذه الفعالية، لكنهم، وكما
بيَّن بحث أجريناه مؤخراً، تأثر الكثير منهم بموضوعات الأفلام.
وأصبحوا يعرفون على نحو أفضل ما يجري في المناطق التي تقدمها
الأفلام. البحث بيَّن أن نظام المدارس هذا حقق أهدافه ومحصلاته
مُهمة وجيدة. منذ فترة قابلت شاباً كان من ضمن الطلاب الذين حضروا
الأفلام قبل سنوات، وبعدها تحول إلى مُخرج وعرض فيلمه في المهرجان.
وأيضاً نحاول جذب جمهوراً جديداً عن طريق عرض أفلام سهلة في
أساليبها نحرص على اختيارها ضمن برمجتنا السنوية. |