تشهد السينما المغربية في بعض تجلياتها الفيلمية، إشعاعاً قوياً
سواء على مستوى الشكل الفني السينمائي الذي تنبني به هذه الأفلام
السينمائية أو على مستوى التيمات الإنسانية الكبرى التي تقدَّم
فيها. ذلك أن بعض هذه الأفلام يسعى الى تقديم عمل إبداعي فني
متكامل، وهو ما يجعل منه أفلاماً سينمائية قوية تحظى بالإعجاب سواء
من جانب النقاد السينمائيين وعشاق السينما والمهتمين بالأعمال
السينمائية أو من الجمهور المتعطّش لرؤية سينما حقيقية تقدّم له
منتوجاً فنياً يحترم ذوقه ويرقى به، كما يحترم عقله ومستواه
الفكري.
هذه الأفلام السينمائية المغربية على قلتها إن هي تحققت، ستكون لها
دائماً شروط التوزيع المناسبة، وسرعان ما تحظى بالتقدير والإعجاب
وبالمتابعة النقدية على اختلاف مستوياتها، وهو أمر إيجابي ومطلوب.
ومن بين هذه الأفلام السينمائية المغربية الجديدة، نجد «إطار
الليل» للمخرجة طالا حديد، والذي نال الجائزة الكبرى في مهرجان
الفيلم الوطني بمدينة طنجة هذه السنة (2015)، وكذلك جائزة النقد
السينمائي في المهرجان نفسه، وهي جائزة تمنحها الجمعية المغربية
لنقاد السينما. وهاتان الجائزتان معاً تثبتان قوة هذا الفيلم
وقدرته على تحقيق الفرجة السينمائية، مع الحفاظ على المستوى الفكري
الرفيع والشكل الفني المركب في الوقت نفسه.
يطرح هذا الفيلم علاقات إنسانية متشابكة يجد الإنسان فيها نفسه
محاصراً بمشاكل متعددة لا يد له فيها. فهناك البطل زكريا (جسّد
دوره الممثل البريطاني/ المصري خالد عبدالله)، المهاجر الذي يعود
من بريطانيا الى المغرب، البلد الذي ترعرع فيه، حيث ما أن يستقر به
الأمر فيه حتى يبدأ في عملية بحث مُضن عن مصير أخيه المجهول. هذا
الأخ الذي ترك المغرب في رحلة غامضة إلى العراق في ظل الحروب
المشتعلة هناك، ولا يدري أحد له مصيراً محدداً ومعلوماً، فتتم
«استعادته» حين كان صغيراً عبر الذاكرة، حيث يتذكر زكريا كيف كانا
يلعبان معاً والأيام الجميلة التي جمعتهما في فترة الطفولة، خصوصاً
حين كانا يذهبان إلى البحر ويسبحان فيه أو يلعبان بالقرب منه. هذه
الاستعادة للأخ وهو في مرحلة الطفولة، ما هي إلا وسيلة لاستعادة
زمن ضائع ورغبة قوية في الانطلاق منه لبناء حاضر قوي متشبّث
بالجذور، ولكنه يستشرف المستقبل الآتي. وما يزيد في لوعة البطل
زكريا، هو كون زوجة هذا الأخ تصرّ هي الأخرى على دفعه الى معرفة
مصير زوجها الذي ترك وراءه طفلين صغيرين، وانطلق إلى وجهة مجهولة.
هكذا، سيأخذ منها زكريا صورة وحيدة لأخيه، ويرحل باحثاً عنه لا
سيما بعد أن أمدّته أيضاً بورقة دُوّن فيها رقم هاتف أحد أصدقائه
الذي يعيش في مدينة الدار البيضاء.
ومن الواضح أن عملية البحث هذه، هي محور الفيلم بحيث تتحول في حدّ
ذاتها إلى وسيلة لمعرفة العالم في وجهه الآخر، الوجه المرعب. في
طريق البحث، وكما هي العادة، ستنبثق شخصيات جديدة تؤثث فضاء حكاية
الفيلم الأساسية: حكاية سارق الطفلة الصغيرة عايشة، التي جسدت
دورها ببراعة الممثلة الطفلة فدوى بوجوان، وحكاية الصديقة التي
جسّدت دورها الممثلة المغربية ماجدولين الإدريسي، حيث تنفتح
الحكاية الأساسية للفيلم على حكايات جانبية تعضدها وتمنحها أفقاً
جديداً للتعبير. فنرى سارق الطفلة المحترف الذي أدى دوره الممثل
الفرنسي/ الجزائري حسين شطري، حاملاً هذه الطفلة على متن سيارته
بصحبة صديقته متظاهراً بأنها ابنته، لندرك أن الغرض من الاختطاف
كان بيع الصغيرة الى مهووس جنسي في الغرب، كان وعد الســـارق بمبلغ
مالي كبير (100 ألف يورو).
وسنتعرف الى شخصية الطفلة عبر عملية رجوع إلى الوراء ( الفلاش
باك)، حيث نرى كيف كانت تعيش في البادية وتختلي بنفسها في الطبيعة،
تاركةً العنان لخيالها الطفولي الجامح. إنها طفلة ذكية مشبعة
بالرغبة في الحياة، ما سيساعدها في التخلّص من سارقها هذا، تارة
حين تلتقي بطل الفيلم زكريا الذي سيحملها في سيارته العتيقة هي
وسارقها وصديقته معتقداً أنهم عائلة واحدة، فما يكون منها إلا أن
تنفرد به وتخبره بأنها ليست ابنتهما، وترجوه أن يأخذها معه. وهو ما
سيقوم به حيث سيهرب بها ليتركها عند صديقته الفرنسية جوديث، التي
جسّدت دورها الممثلة الكندية ماري - جوزيه كروز، قبل أن يذهب إلى
العراق باحثاً عن أخيه المختفي. وتارة أخرى، حين تهرب من السارق
مرة ثانية، الذي وجدها وصديقته مجدداً وخطفاها من مكان صديقة
البطل. وسينفتح الفيلم هنا على حكاية جديدة، هي حكاية السارق عباس
مع صديقته التي رأت في هذه الطفلة صورتها هي أيضاً حين كانت طفلة
في مثل سنّها، فتشفق عليها وتتركها تفر، ما يجعل صديقها يذيقها
عذاباً مبرحاً.
دمار العراق
وهنا ننتقل الى الجانب الآخر لنلتقي زكريا وهو يتابع بحثه عن أخيه
في تركيا ثم في العراق. وفي العراق، ينفتح الفيلم على الدمار
وتتشابك الأقدار حيناً وتتباعد حيناً آخر، وإذا كان الأمل يتجلى في
كون الطفلة عايشة (للإسم هنا رمزيته الدالة على الحياة) قد وجدت
حريتها حيث فرت من خاطفيها، وعادت إلى حيث كانت تعيش مع صديقة
البطل جوديث (التي يبدو أنها قد فقدت هي الأخرى صغيرها/ صغيرتها في
حادث معين)، وعادت تلعب بصحبة أطفال في مثل سنها في أحضان الطبيعة،
فإن البطل زكريا وهو هناك يظلّ مأخوذاً بما يرى من أحداث دامية.
وفي ظلّ هذه الأحداث الدامية، لا تنسى المخرجة أن تفتح المجال لبطل
الفيلم زكريا وهو يبحث عن أخيه، كي يزور بائع الكتب في إحدى
المكتبات الكبيرة والذي قام بدوره المخرج/ الممثل السوري نبيل
المالح. وهي إشارة إلى أهمية الكتب في الحياة ورمزيتها.
لقد اعتمدت المخرجة وهي تقدّم فيلمها الروائي هذا، على تأطيره
بفضاءات سينمائية جمالية قوية حيث اتخذت الصورة كامل شاعريتها،
وعبرت عن خصوصية الحكايات المقدمة في الفيلم بشكل فني بديع. كما أن
الممثلين وُفقوا بل تفوقوا بشكل واضح في تجسيد الشخصيات، بحيث
عبروا عن دواخلها باحترافية كبيرة، بل حتى أن الممثلة الصغيرة
الطفلة فدوى بوجوان منحت الدور الذي قامت به سحراً سينمائياً
فاتناً، وهو ما يجعل من هذا الفيلم السينمائي المغربي تحفة
سينمائية محكمة الصنع جديرة بالإعجاب والتقدير.
«لا نصنع أفلامنا للنقاد وحدهم!»
القاهرة - مؤمن سعد
حقّق المخرج والمؤلف أمير رمسيس نجاحاً كبيراً بفيلمه «بتوقيت
القاهرة» من بطولة نور الشريف وشريف رمزي، والذي شارك في العديد من
المهرجانات الدولية خلال الفترة الأخيرة، ويعرض حالياً في عدد كبير
من دور العرض المصرية.
بدأ أمير رمسيس حديثه مع «الحياة» عن الرسائل التي يتضمنها الفيلم،
قائلاً: «يتحدث «بتوقيت القاهرة» عن مدى القهر الذي يصيب المجتمع
في وقتنا الحالي بمختلف الأنواع والأشكال سواء كان قهر العواطف أو
قهر إنسانية الفرد وحتى قهر التطرف الديني على حياة الإنسان
الوسطي». ويقول رمسيس أنه كتب سيناريو الفيلم في عامين تقريباً
«وخلال تلك الفترة كنت أضيف عليه بعض التعديلات حتى وصل إلى شكله
النهائي الذي ظهر به على الشاشة. ومنذ بداية كتابتي للسيناريو كنت
أرى أن الفنان نور الشريف هو في خيالي الأنسب والأقرب إلى شخصية
يحيى شكري الذي قام بتجسيدها خلال أحداث العمل، وكذلك شريف رمزي في
شخصية الديلر.
ورغم أنني لم أعرض السيناريو عليهما إلا بعد الإنتهاء من كتابته
نهائياً من دون أن أعرف إمكان قبولهما للعمل فيه، إلا أنني كنت
أشعر أن الفيلم مصنوع لهما. وعندما عرضت السيناريو على نور الشريف
لم يأخذ وقتاً في الموافقة على المشاركة بالعمل بل إنه قرأ
السيناريو ووافق عليه في أقل من أربعة أيام ولم يبدِ أية ملاحظات
أو تعديلات عليه. وأنا أرى أن كتابتي لسيناريو الفيلم سهّلت عليّ
وضع رؤية إخراجية متكاملة له، وتوصيل الصورة بشكل متوازن بين كل
خطوطه الدرامية، فضلاً عن أنني لمست كل نقاط القوة وحاولت إبرازها
على الشاشة من دون بذل مجهود مضاعف في عمل ذلك».
صورة مختلفة!
واستكمل أمير رمسيس حديثه قائلاً: «حاولت إخراج شكل صورة مختلفة
للفيلم رغم أنه تم تصويره بكاميرات تستخدم في معظم الأفلام
السينمائية المنتجة حالياً، لكن الإختلاف جاء في مرحلة تصحيح
الألوان من خلال إختيار شكل لوني موحد للفيلم بأكمله لوضع خطة
بصرية معينة تجعل المشاهد يشعر أن هناك شيئاً جديداً لم يشاهده في
أي عمل فني آخر. وفي الوقت نفسه لم يؤثر في تركيزه أو إندماجه مع
قصة الفيلم وتتابع الأحداث». وعن أصعب المشاهد التي تم تصويرها،
يقول: «المشاهد التي تجمع بين نور الشريف وشريف رمزي في رحلتهما
لأنها كانت مشاهد خارجية تصور داخل سيارة على طريق القاهرة -
الإسكندرية الصحراوي، وكانت الصعوبة من النواحي الإخراجية في ضبط
شكل الصورة والإضاءة في مكان مفتوح وسيارة تسير على الطريق، ورغم
استمتاعي بفترة تصوير الفيلم لكنني عشت حالة من الإرهاق الشديد مع
فريق العمل أثناء تصوير تلك المشاهد، وكان يمكن أن ألجأ إلى
الديكورات في تصوير تلك المشاهد، لكنني أصررت أن أصورها على
الطبيعة حتى لا يشعر الجمهور بأنها مشاهد مفتعلة تمت باستخدام
الغرافيك». وعن ردود الأفعال حول الفيلم، أكد المخرج أنه كان يتوقع
نجاح العمل لكنه لم يكن يتخيل هذا الحماس الشديد من الجمهور
وإرتباطه مع شخصيات الفيلم كافة، معبّراً عن سعادته الغامرة بردود
الأفعال الإيجابية من الجمهور منذ اليوم الأول من العرض.
وأوضح أن تفاعل المشاهد العادي مع الفيلم أهم بالنسبة له من أن
يحصد العمل جوائز دولية، ورغم ذلك لم ينكر سعادته بالإستقبال
الحافل للفيلم في مهرجان دبي السينمائي، وأيضاً بالجائزة التي
حصدها نور الشريف عن دوره بالفيلم في مهرجان الأقصر للفيلم
الأوروبي، رافضاً وصف فيلمه بأنه فيلم للمهرجانات لأن هذا المصطلح
لا يوجد في أي مكان في العالم حيث إن المخرج عندما يرغب في تقديم
فيلم فإنه يبحث في المقام الأول عن الجودة والهدف من وراء هذا
العمل الذي سيقدمه للجمهور وليس للنقاد فقط، وأشار إلى أن الإقبال
الجماهيري على فيلمه كان أحد أهدافه التي يسعى لها.
نور لم يتدخل
وعن رأيه في ما تردد حول تدخل نور الشريف في النواحي الإخراجية
للعمل، يقول: «لم يكن هناك تدخل منه على الإطلاق بل أنه كان حريصاً
بشكل زائد على عدم إبداء رأيه في أي شيء يتعلق بالنواحي الإخراجية.
وأرى أن عمله كمخرج من قبل جعله على دراية كاملة بحدود عمله
وإحترامه للتخصص لكل شخص من فريق العمل. هناك بعض الأقاويل التي
يصدرها بعضهم ويحاول تضخيمها ومنها على سبيل المثال الحديث عن مرض
نور الشريف، فهو كان يصور الفيلم أثناء مرضه لكننا لم نشعر بذلك
على الإطلاق، وأيضاً الجمهور الذي شاهد الفيلم لم يتوقع أنه كان
مريضاً في ذلك الوقت».
وعن مشاريعه السينمائية المقبلة، يقول رمسيس: «أضع حالياً المعالجة
الدرامية لفيلمي الجديد والذي سأقوم أيضاً بكتابة السيناريو الخاص
به، وحتى الآن لم أستقر بشكل نهائي على اسمه أو أسماء الممثلين
المشاركين فيه لكنني أعد الجمهور أنه سيكون على نفس مستوى جودة
وتميز فيلم «بتوقيت القاهرة» ومن المفترض أن أنتهي من كتابة
السيناريو مع نهاية هذا العام».
«حرب الفنون»: ضمير المبدعين يقاوم
مونتريال - «الحياة»
خلافاً للسنوات الثلاث الماضية التي عرض خلالها على الشاشات
العربية وغير العربية عدد من الافلام حول الانتفاضة المصرية، يقدم
المهرجان العالمي لأفلام الفنون (فيفا) في كيبيك الكندية، والذي
تنتهي فعالياته في 29 الجاري ويشارك فيه 29 بلداً تعرض 260 فيلماً،
أول عمل سينمائي فني عن ثورة «يناير» بعنوان «حرب الفنون-
Art War
«. وهذا الفيلم لا يزال يعرض في أكثر من صالة في مونتريال.
الفيلم وثائقي من إخراج الالماني ماركو يلمز. ويحكي قصة الشباب
المصريين الذين انطلقوا بين عامي 2011 و 2013 من الفن والتنوير ومن
وهج الربيع العربي، في حركة شعبية استقطبت بآمالها وآلامها جماهير
الشعب المصري والعالم العربي تأريخاً لإعلان أول ثورة فنية عن طريق
الجداريات والموسيقى والاغاني الوطنية.
الفن في خدمة الثورة
يتابع الفيلم حراك الشباب الثوريين على مدى عامين. ويتحدث عن
انتشار حركة للإبداع تجلت بعد سقوط مبارك، تتم عبر نشر أطروحة
للتعليم والتثقيف الشعبيين، وفي التمسك بسلاح سلمي ديموقراطي من
أجل ثورة لم يقدر لها ان تكتمل. كما يسلط الفيلم كاميرات التصوير
على كل اشكال الغرافيتي من تشكيلات وزخارف فنية ورسوم وكتابات
وشعارات مستوحاة من ادبيات الثورة لدرجة اصبحت فيها جدران القاهرة
صحفاً شعبية وشوارعها المتواضعة متاحف مفتوحة واستديوات في الهواء
الطلق ولسان حال الثوار وذاكرة حراكهم الدراماتيكي المتمثل بموقعة
الجمل وقناصي النظام ومطاردة الجنود لشباب الميدان وتعديات
البلطجية جنسياً على ناشطات الثورة.
أما ميدان التحريرعلى اتساعه فقد تحول، كما يقول لنا الفيلم، الى
ساحة لكل أشكال التعبير والاحتجاج الصامت حيناً والهادر حيناً آخر.
ثوار من مختلف الشرائح المصرية المتفاوتة في خلفياتها الاجتماعية
والاقتصادية والثقافية والفنية والفكرية، يهتفون للتغيير والحرية
والعدالة والكرامة. ويفرغون ما في دواخلهم من مشاعر التمرد والغضب
والاحباط، ويطلقون على وقع الموسيقى الكهربائية الصاخبة أغنيات
وأناشيد حماسية ووطنية. ويسلط الفيلم الضوء على دوافع ودور مجموعات
من الناشطين امثال الملقب بـ»غنزير الغرافيتي» (اعتقل عام 2011
لانتقاده حكم العسكر القمعي) وكان الاكثرجرأة وشهرة في مصر والذي
حول جدران الميدان الى ريبورتاجات مصورة ومبسطة، ورامي عصام مطرب
الثورة، وحامد الكاتب المناهض للإسلاميين وجماعة الاخوان، وبثينة
مغنية البوب، ورامي وعلاء من نشطاء الاتصالات والمعلومات المولجين
بتسويق الوجه المشرق للثورة داخل مصر وخارجها.
وعلى وقع هذه الأنشطة الثورية ينتهي الفيلم بمشاهد مؤثرة تجلت
بنزول ملايين المصريين الى الشوراع للإطاحة بحكم محمد مرسي
والاخوان، ويؤشر لبداية صعود الجيش الى السلطة مع خشية من عودة
النزعة الدكتاتورية العسكرية. اما من الناحية الفنية فالفيلم كما
يراه الناقد الكندي اوديل ترامبلي جيد الصنع، غنيّ بالصور «المثيرة
للإعجاب»، والتلاويين الموسيقية التصويرية الجذابة، والبنية
المحكمة في سرد الوقائع التاريخية ومنهجيته الفنية الدقيقة. في حين
يثني تاندوم احد مشاهير فن الغرافيتي في كيبك على وفرة الابداعات
الفنية التي زينت الشارع المصري.
أما الناقد في صحيفة «لوسولاي» باتريك هود فيعتقد ان الفيلم «يجسد
ثورة الشوارع صورة وصوتاًُ وحركة وفكراً وثقافة».
كيف الحديث عن بلد يسكنك ولا تسكنه؟
ندى الأزهري
كيف يمكن الحديث عن وطن لم يعد وطنك، وبات غريباً عنك... لا يربطك
به من بعيد سوى تلك الشعلة المتوقدة المتوغلة بعيداً في الأعماق
والتي لا تنطفئ، وتلك اللغة التي تحب، وتنطق ولكن لا تتقن؟.
ساناز آذري لا تكتب ولا تقرأ الفارسية، تقرر تعلم لغتها الأم في
قاعة درس في مكان ما في بلجيكا، مسلّحة بكتاب مدرسي من مقررات
مدارس الجمهورية الإسلامية في إيران، وبصحبة أستاذ ليس ككل
الأساتذة.
كانت بدأت البحث عن أستاذ للغة الفارسية في بلجيكا حيث تقيم منذ
صغرها، بيد أن الأمر لم يكن بالسهولة التي قد نتخيلها، فتعلم اللغة
الأم مرتبط في ذهن هذه المخرجة الشابة (1981) بمشروع سينمائي، وهي
تنشد في بحثها أستاذاً يجسد سيناريو شبه متكامل في ذهنها. كانت
تخطّ هذا السيناريو في كل مرة كانت تداوم فيها على دروس سابقة
لتعلم الفارسية، بحيث بات شبه جاهز ولم يبق سوى الأستاذ!
المخرجة في فيلمها «أي مثل إيران»، تبحث عن الطريق نحو مسقط رأسها
بطريقتها الخاصة الشديدة الذاتية، تتساءل عن الثورة الإسلامية التي
حدثت هناك، انعكاساتها على أسلوب الحياة وطريقة التفكير. لإنجاز
شريطها الوثائقي عمدت ساناز إلى اختيار مقرر دراسي إيراني وأستاذ
من بلدها «اختار» العيش منفياً، وتجهيزات سينمائية بسيطة وديكور لا
يتعدى غرفة صف وسبورة وكتاب ودفتر وقلم.
هاجس التاريخ
الأستاذ يعطي الدرس محمّلاً بكل هذا التاريخ الذي عايشه وبكل هذه
الذكريات التي تعاوده، يربط الكلمات ومعانيها بالسياق التاريخي
والسياسي والاجتماعي في إيران. تجلس التلميذة ساناز على مقعدها
مقابل أستاذها منتبهة. يدرك المشاهد هذا الانتباه مع أن العدسة لا
تركّز سوى على يدها التي تخطّ الأحرف بارتباك، ولا يُسمع غير صوتها
الذي يردد الكلمات الجديدة. صوت يستفسر بل يحثّ الأستاذ على تجاوز
الكلمة المقروءة والذهاب نحو وجهة معينة. لكن ليس دائماً. فالأستاذ
كان جاهزاً في الأصل للعب بالكلمات وقد سبق وحدد وجهته من البداية،
وهو لا يوفر فرصة لفرض رؤيته الخاصة على ما جرى ويجري في إيران.
فتمسي جملة مثل «بابا يعطينا خبزاً» في الكتاب، مبرراً للحديث عن
النفي في اللغة وفي الوطن كذلك لتتحول إلى «بابا لا يعطينا خبزاً،
لأن لا عمل لديه». فمن المسؤول عن ذلك؟ المعنى مضمر هنا، لكنه في
مواقف أخرى واضح ومباشر إلى درجة مزعجة، مباشرة تُفرض على المشاهد
ولا تترك له مساحة للاختيار وللتفكير ولا حتى للتساؤل.
ومع أن الخطوط العامة للسيناريو تبدو مقررة ومحاور الفيلم مرسومة،
فإن الحوار المكتوب بخطوط عريضة كان يأتي عفوياً حين يستلزم الأمر.
كما حدث في المشهد الأول، إذ في حوار حول صورة الخميني في المقرر،
ثم صورة امرأة بالتشادور وهما صورتان رغبت المخرجة بإبرازهما،
اقترح عليها الأستاذ البحث عن صور أخرى حتى لا تبدو وكأنها «مع
النظام». تدخّل كهذا لم يكن وارداً في السيناريو (وفق آذري).
لقد سعت المخرجة ليكون للطبيعة دور في دروسها فالعلاقة معها تبقى
مهما تغيرت الأنظمة. ولم ترَ أفضل من الجبال المتواجدة بكثرة في
إيران لتجسيد هذا التعلق. ينساق الأستاذ لرغبتها ويذكر حادثة
الصراخ في الجبال التي كان البعض يقوم بها هناك للتخلص من أسر
الضغوط، وتلك لم تكن سوى ضغوط السلطة الجديدة بعد الثورة.
معنى الثورة
ومع تتابع الدروس تدريجياً تتحول صور الكتاب المرفقة بشعرية
التعابير وسيلة للتساؤل عن معنى الثورة وعن مفهوم الحرية، وكل كلمة
كانت وسيلة لتُربط بنظام «لا علاقة للأستاذ به»... مع حرف النون
لابد من كلمة «نور»، نور الأمل والولادة الجديدة... لكن لاشيء
سيتغير! يقارن الأستاذ بانفعال واضح وتأثر بين فرحة الناس بعد
انتخاب روحاني وفرحتهم بعد الثورة مباشرة «مع بدايات الثورة
الإسلامية وأغنية الثورة المشهورة التي انتشرت بعدها (لم يستطع
متابعة غنائها لشدة تأثره)، كم كان الناس فرحين! كان خطأ كبيراً
ولكن الناس كانوا مسرورين!». «أي خطأ ارتكبناه» يتابع بندم، «كطفل
قلب طاولة كانت مرتبة»!
تقرأ التلميذة كلماتها «ظلم استغلال حرية جمهورية...» ويحكي
أستاذها عن «طعم الانقلاب(الثورة بالفارسية) المزّ مع فرار الشاه
وقدوم الخميني، لقد جاء الخراب فالأمور أسوأ فأسوأ». الأستاذ خشي
من أن يكون الفيلم سياسياً ولكنه بعد مشاهدته «وجد نفسه فيه» كما
صرحت المخرجة في مهرجان «سينما المرأة في آسيا»( نيودلهي). ساناز
آذري تبحث عن الطريق نحو هذا البلد الذي لا تعرفه، وتبدو في الفيلم
وكأنها اختارت ما تريد معرفته وما تريد إثباته لنفسها أولاً ثم
للمشاهد عبر أستاذ ينقل إليها أساسيات اللغة ومعها مفاتيح فهمه
الخاص للتاريخ وللثقافة الإيرانية. لا مواجهة بين الاثنين أو خلاف
ما، بل لا محاولة منها للاستفسار... تنفي المخرجة نيتها إعطاء
الدروس عبر فيلمها ولكن الدرس كان حاضراً وبإلحاح.
شون بن حيث يجب ألا يكون
بيروت – فجر يعقوب
لا يخرج فيلم «المسلّح» الذي يعرض هذه الأيام في الصالات اللبنانية
للمخرج الفرنسي بيار موريل، عن نمط أفلام الأكشن المعروفة حتى في
اتكائه على خط درامي «معوّج» أساسه تبني حكاية المنظمات غير
الحكومية العاملة في الدول النامية وشركات الحماية الأمنية التي
تتعهد حماية موظفي هذه المنظمات في الأماكن المضطربة التي تدور
فيها حروب أهلية، ويعمّها فقر وجوع ونهب ثروات كما سيبين لنا موريل
في اتكائه على قصة من هذا النوع مستوحاة من رواية للكاتب الفرنسي
جان باتريك مانشيت (كتب السيناريو بيت ترافيس بالتعاون مع شون بن
نفسه). وقد سبق لآلان دولون وكاترين دونوف أن عملاً في فيلم مستوحى
منها أيضاً عام 1982.
إغراء ما...
ليس في «المسلّح» ما يعد بجديد على صعيد هذه الأفلام. بالتأكيد
الإغراء الوحيد في الفيلم عبّر عنه موريل نفسه حين قال: «إن العمل
مع شون بن وخافيير بارديم في فيلم من هذا النوع يشكل اغراء كبيراً
لي لأني أتوقعهما في مستويات عالية من الأداء». من المؤكد أن
المخرج الفرنسي الذي عرف عنه ولعه بأفلام الأكشن كان محقاً للغاية،
اذ نقع هنا على دورين كبيرين لأتهم فيهما مساحة دور بارديم
(فيليكس)، وهو دور قصير بالمقارنة مع دور جيمي تيريه (شون بن) الذي
يغطي الفيلم كاملاً.
فيلم «المسلّح» الذي يبدأ في حانة في الكونغو، البلد الأفريقي الذي
تنتهبه المجاعة والحرب الأهلية والفاقة يجمعنا بأفراد الشركة
الأمنية المكلفة حماية أعضاء المنظمة الانسانية التي تقوم بأعمال
خيرية بحتة، وعلى رأسهم الحسناء آني (جاسمين ترينك) التي ترتبط
بعلاقة عاطفية مع جيمي.
وهذه العلاقة تشكل خطاً درامياً تصاعدياً في احماء الأحداث التي
ستدور بين هذا البلد الأفريقي المعذب، ولندن، وبرشلونة، وتزيد في
«نوع الإثم» الذي سيعذبهما بناره طوال مدة الفيلم، كما سنشاهد على
مدى ساعة وخمس عشرة دقيقة. فيما تقدم الشركة الأمنية الخاصة خدمات
مختلفة بعضها معلن، وبعضها سري لا يعرفه حتى بعض أفرادها، أو
بعبارة أدق لا يعرفون آلية سيرها وإنجازها على أرض الواقع.
جيمي المجند السابق في القوات الخاصة سيقدم على اغتيال وزير
التعدين الكونغولي بطلب من شركة دولية تخوض مفاوضات حول كميات
هائلة من النحاس والكوبالت والألماس، وهي معادن تزيد شهية الشركات
المنافسة التي تسبح في محيط هائل من الفساد الاداري والسياسي،
وتزيد من توسعة الأرض، وفرض حروب جديدة من أجل ابتلاعها ونهبها كما
سنكتشف مع سير الأحداث المتواترة بايقاع سريع وعنيف مصدره جيمي
بعضلاته المفتولة التي قد لا تتناسب مع سنه، ولكن حرفة المخرج في
اخراج نزالاته مع الجميع في سياق الفيلم، في اسبانيا خاصة، لم تترك
امكانية لتوجيه ملاحظات.
ويمكن القول إن التركيب الفيلمي « الخلاٌق « كان سببا رئيسا في
تأجيج هذه المعارك التي قدمت صورة مختلفة لممثل من طينة شون بن
تجاوز نفسه على هذا الصعيد. لكنها لم تقدم له شيئاً على صعيد عالمه
الجواني الذي عرفناه في أفلام سابقة. ربما لا تتيح افلام الحركة
فرصة لعكس هذا العالم، من خلال العضلات والجسم المتسق الذي لا
يعترف بترهل في بروزاته. بيار موريل كسب الرهان على نجمي الفيلم،
إضافة الى جاسمين ترينك والآخرين: مارك ريلنس، راي وينستون، ادريس
ألبا. في ما لم يقدم «المسلّح» شيئاً لنجميه. مع شون بن وخافيير
بارديم بدا الأمر مختلفاً. الشريك الشرير الذي يغار من شريكه بسبب
حب حسناء له. لا يعترف بهذا النوع من الحب كمقدمة لرسم صورة نمطية
للشرير الذي يعرف كيف يشتغل على مراوغة عالمه مهما بدا الدور
ضئيلاً في فيلم لا يتسع لموهبته.
العقد واضح مع الشركة الدولية. من يقتل الوزير عليه أن يغادر
القارة الأفريقية، وليس الكونغو فقط. يضطر جيمي لذلك. عالمه
الاجرامي المخفي لا يسمح له بالبقاء الى جانب حبيبته في المنظمة
غير الحكومية. فيغادرها من دون أن يودعها بكلمة واحدة. بعد ثماني
سنوات يعود الى الكونغو للعمل في شركة خاصة في حفر الآبار.
هناك من يشي به لبعض السكان المحليين -العاملين سابقاً مع شركات
«نهب» أخرى حول الوزير المقتول- بغية التخلص منه حتى يُدفن مع
أسراره. يتمكن من الإفلات بعد معركة شرسة وعنيفة، ويهرب في أول
طائرة الى لندن. كان أراد أن يطوي ماضيه، لكن هذا الماضي يأبى أن
يدعه وشأنه. لا بل أن مقطعاً من رنين مغناطيسي لدماغه يكشف عن وجود
كتل فيه قد تسبب ألزهايمر له وعليه من الآن فصاعداً أن يتوقف عن
ممارسة الحركات العنيفة. هذه الإشارة التي يسميها الطبيب واقع ما
بعد الصدمة الناتج من توغل في ماضٍ قاسٍ، لم تقدم شيئاً على صعيد
اكمال الصورة التي يريدها المخرج لممثله. لم تقدم حلاً نفسياً لبطل
هارب من ماضٍ ثقيل. ولا هي ساعدت في انتاج حالة متردية توقع به
أثناء حفل المطاردات العنيفة التي لا تنتهي. بدت الاشارة مفرغة من
معناها الفيزيائي والنفسي وقريبة من مكملات حالة لانتاج تفسيرات في
عالم الأكشن الثقيل، وتصبح تفصيلاً غير مهم في سياق متصل مع أحداث
يجب أن تنتهي في وجهة محددة. في لندن سيبحث في دفاتره القديمة عن
أرقام هواتف. فمن له غير كوكس مرشده الروحي في غابات الكونغو (مارك
ريلنس). ويشي اللقاء مع هذا في شركته اللندنية، منذ الوهلة الأولى
أنه هو من سرّب اسمه، وأن تصفية زميليه المشاركين في عملية
الاغتيال انما جاءت بتدبير منه، لكن بيار موريل يختار وجهة مختلفة.
يشاء أن يوسع دائرة الإثارة ليدخل جيمي في متاهة عنف اضافية. يدله
كوكس الى فليكس (خافيير بارديم) الذي انتقل للعيش والعمل في شركته
الخاصة أيضاً في برشلونة بعد أن تزوج من حبيبته آني.
سرعة الذئب
بالطبع هنا لن يتركه كوكس وشأنه. سيرسل قتلة آخرين في أثره. لكن
جيمي لا يزال في نباهة وسرعة الذئب في قنص مطارديه على رغم الألم
الذي يضغط دماغه أحياناً، ولا يساعد في نسيان ماضيه. يصبح هاجس
القاتل الخطر أن يحمي آني لأنها تصبح هدفاً للمطاردين بعد أن يُقتل
فليكس وهو يؤدي وصلته الشريرة بأداء لافت وجميل برصاص المطاردين
الذين يقودهم بيتر فرانزين. سينجح جيمي بالطبع في تفادي مطبات
القتلة المأجورين. هو نفسه قاتل مأجور وخطير وذائع الصيت. يبلغه
بذلك فرانزين أثناء تربصهما ببعضهما بعضاً. لا يسقط في الفخاخ التي
ينثرها ذئاب العالم المتشكل من الشركات الأمنية الخاصة التي تتاجر
بالسلاح وتمول الحروب الأهلية في البلدان النامية وهي تقع في مكاتب
ضخمة في أبنية زجاجية عملاقة في العواصم الكبيرة. هذه خلطة معروفة
في أفلام الأكشن التي «تنحاز» لقضايا ظاهرها انساني، لكن الغوص في
أعماقها قد يكشف هشاشتها الدرامية التي تفتقر الى نويات صلبة في
تعميم وتركيب عوالم الأبطال الداخلية.
فيلم «المسلّح» لا يدّعي الإنتصار لمثل هذه القضايا المعقدة.
فالمنظمات غير الحكومية وأدوارها الغامضة في المجتمعات النامية لا
تشكل حيزاً كبيراً من اهتمامه على حساب شركات الحماية الأمنية
المتوغلة في قضايا شائكة تبدأ في انشاء مدرجات وحفر آبار في
البلدان الفقيرة، ولا تنتهي بتمويل حروب أهلية مدمرة فيها.
ليست هذه المنظمات بمنأى عن إشارات حول تورطها في أعمال غير مشروعة
تحت ستار الأعمال الانسانية. لكن هذه الاشارات حتى لو جرى تفريغها
من الفيلم لن تؤثر في سياقاته الدرامية اطلاقاً، اذ يظل «المسلّح»
موغلاً في نسق لا يحتاج لدفق درامي في عالم جواني مشتعل عوّدنا
عليه شون بن في بعض أفلامه، أما ما يبقى منه فهو ذلك التقطيع
البديع في حفل مصارعة الثيران الاسبانية التي ستسدل الستار على
كوكس جماعته وتفسح المجال لجيمي ليحمي آني التي لم تتورط بشيء، في
ما يسلم هو نفسه للأنتربول الدولي ممثلاً ببارنز (ادريس ألبا)
ليحكي عما يدور في الكونغو من ويلات وتقتيل ونهب وتدمير.
فن الإخراج السينمائي بين الألم والمتعة
القاهرة – هيام الدهبي
صدر عن المركز القومي للترجمة كتاب «فن الإخراج السينمائي»، من
تأليف المخرج الأميركي سيدني لوميت، وترجمة الناقد السينمائي أحمد
يوسف الذي يعتبر لوميت (1924 - 2011) واحداً من أهم المخرجين ليس
في أميركا بل في العالم، كما أنه يعتبر من أغزرهم صناعة للأفلام
وأكثرهم إجادة لإدارة الممثلين، «فهو يجمع بين الفن والحرفة والميل
إلى النزعة الواقعية الاجتماعية في معظم أفلامه. وقد رُشح لجائزة
الأوسكار لأفضل مخرج سبع مرات، وفاز بجائزة تكريم عن مجمل أعماله
في عام 2005».
أما عن أسلوب إخراج لوميت للأفلام، فإنه يرى بنفسه أنه «ليست هناك
طريقة صحيحة أو خاطئة في إخراج الأفلام لأنها عملية تقنية
ووجدانية، إنها فن واقتصاد، إنها مؤلمة وممتعة، إنها طريقة عظيمة
في الحياة»، هكذا يلخّص لوميت تجربته التي امتدت عبر خمسين عاماً
من العمل السينمائي، ويعترف بـ «أن لكل من يعمل في السينما ما
يُعرف في لغة الصناعة بالفترة الساخنة، وهي الفترة التي يتزايد
فيها الطلب عليك لأن فيلمك الأخير قد نجح، وإذا نجح لك فيلمان على
التوالي فأنت تعيش فترة ملتهبة».
ويكمل لوميت: «أي فيلم هو بالتحديد خلق فني مصنوع بواسطة أناس
تجمعوا لاكتشاف قصة. والقصص تأخذ أشكالاً مختلفة، فهناك أربعة
أشكال رئيسية لحكاية القصص: التراجيديا والدراما والكوميديا
والفارس، وليس هناك شكل مطلق منها. والمخرج يتخذ قراره لإخراج قصة
ما في شكل غريزي تماماً، وعادة ما يكون من قراءة واحدة فقط».
ويرى لوميت أن سحر الكاميرا وعشقها لهما أسبابهما، «فالكاميرا أفضل
صديق لأنها أولاً وقبل كل شيء، لا تستطيع أن ترد عليك بأنه لا
يمكنها أن تسأل أسئلة غبية ولا أسئلة ذكية، إنها مجرد كاميرا لكن
يمكنها أن تعوّض أداء ضعيفاً، وأن تجعل أداء جيداً أداء أفضل، وأن
تخلق مزاجاً عاطفياً، وأيضاً أن تخلق القبح والجمال، وأن تقدّم
الإثارة. ويمكنها اقتناص جوهر اللحظة وإيقاف الزمن وتغيير المكان
وتحديد الشخصية وتقديم المعلومات، وأن تصنع النكتة والمعجزة، وأن
تحكي قصة، فإذا كان في فيلم نجمان فإنني أعرف أنه يوجد لدي في
الحقيقة ثلاثة نجوم، فالنجم الثالث هو الكاميرا».
ويؤمن لوميت بأن الأفلام، وبخاصة منها الأكثر حصداً للإيرادات،
أصبحت جزءاً حيوياً ومهماً في إمبراطوريات المال الضخمة حيث يبدو
أن هذه النزعة ستستمر في التزايد والأهمية. جمع لوميت بين الفن
والحرفة، ففي الوقت الذي يجيد فيه صناعة الأفلام بشكل تقني وأسلوب
رفيع، من الواضح أن اهتماماته الإنسانية العميقة جعلت أفلامه
متفرّدة في أبعادها الفنية الخاصة بها، حيث يمثل كل فيلم بالنسبة
إليه رحلة جديدة ورؤية ناضجة في أعماق النفس البشرية. ومن هنا،
تبدو غالبية أعماله فيها دائماً مشكلة إنسانية أو اجتماعية سواء
مأخوذة من أحداث حقيقية أو مقتبسة عن أعمال روائية أو مسرحية، إلا
أن أسلوبه دائماً ما يكون في خدمة الفكرة الجوهرية في كل فيلم من
أفلامه التي بلغت 45 فيلماً خلال مسيرته الفنية من 1957 وحتى 2011.
وما كتاب «فن الإخراج السينمائي» في نهاية الأمر، سوى خلاصة رحلة
المخرج السينمائي الأميركي سيدني لوميت عبر خمسين عاماً. إنه ليس
كتاباً عن الحرفة فقط، لكنه أيضاً عن الفن والإبداع بدءاً
بالسيناريو المكتوب وانتهاء بعرض الفيلم للجمهور. ويجيب الكتاب بين
سطوره عن أهم سؤال في الفن السينمائي: كيف تحكي القصة؟ بدءاً من
اختيار الفيلم الخام وأسلوب الإضاءة والعدسات والألوان والمونتاج
والموسيقى والصوت وغيرها. |