الفيلم محاولة للقبض على الحياة...
الأفلام الوثائقية تفقد أحد روَّادها مايزلز عن 88 عاماً
الوسط - جعفر الجمري
هو رائد من رواد الأفلام الوثائقية، ألبرت مايزلز، مشروع عالم
النفس الذي ترك تخصُّصه بعد أن سحرته الكاميرا. سحرته الموضوعات
التي يلتقطها من تفاصيل الحياة، وما بعد تلك التفاصيل أيضاً.
وصف المخرج العالمي مارتن سكورسيزي كاميرا مايزلز بأنها «وجودٌ
فضولي؛ ولكنه أيضاً وجود المُحبِّ... وجود الأحاسيس، وقدرتها على
ضبط الاهتزازات العاطفية الأكثر حساسية».
نعت وكالات الأنباء، والوسط الفني رحيل مايزلز عن ثمانية وثمانين
عاماً. هو نفسه صرَّح ذات لقاء مع صحيفة «نيويورك تايمز» في العام
1994، بأن «صنع فيلم لا يبحث عن الجواب على سؤال. إنه محاولة للقبض
على الحياة كما هي». قبضَ على الحياة في الكثير من أفلامه التي
أنجزها، أو تلك التي كانت على خريطة مشروعاته. المشروعات التي
أنجزها ظلت من الروائع في هذا الحقل، بكمِّ الفكر والقيَم التي سعى
إلى أن تكون العمود الفقري لها.
أنيتا غايتس من «نيويورك تايمز»، كتبت تقريراً مطوَّلاً عن سيرة
مايزلز يوم الجمعة (6 مارس/ آذار 2015)، نورد أهم ما جاء فيه.
توفي ليلة الخميس (4 مارس/ آذار 2015) ألبرت مايزلز، المصور
والمخرج الوثائقي الحائز على عديد الجوائز العالمية، في منزله
بمانهاتن عن عمر ناهز الثامنة والثمانين عاماً.
وأكد خبر وفاة مايزلز، صديق العائلة، كيه. أيه. ديلادي.
القبض على الحياة
وفي مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» في العام 1994 قال مايزلز:
«صنع فيلم لا يبحث عن الجواب على سؤال، إنه محاولة للقبض على
الحياة كما هي».
قبل ذلك تحدث بشكل مكثف معيَّة أخيه ديفيد عن الأفلام التي تم
إنجازها، بما في ذلك «الحدائق الرمادية» و «مأوى غيمي».
أحْجمَ مايزلس عن إجراء مقابلات تتناول موضوعات أفلامه. كما أوضح
في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» في العام 1994 بأن «صُنْع فيلم
لا يبحث عن الجواب على سؤال، إنه محاولة للقبض على الحياة كما هي».
تلك الفورية... تلك البديهة التي عُرف بها في ردوده وتناولاته،
سِمَة مميَّزة لأفلام الأخويْن مايزلز «بدءاً من ستينيات القرن
الماضي، عندما قدَّما عدّة أفلام وثائقية تعتبر جيدة، ولاقت
احتراماً في الأوساط المعنيَّة. ولكن فيلمه «مأوى غيمي» الذي تم
إنجازه في العام 1970، وتناول جولة فرقة «رولنغ ستون» في الولايات
المتحدة الأميركية في العام 1969، هو ما جلب لهما اهتماماً واسع
النطاق. وتضمَّن الفيلم مشهدَ تعرُّضِ أحد المعجبين للطعن حتى
الموت في حفل المجموعة في منطقة ألتامونت بولاية كاليفورنيا، وكان
الإعجاب النقدي بالفيلم لم يوفِّر التصدِّي ولو جزئياً للمخاوف من
أن الفيلم استغل ذلك العنف.
الحدائق الرمادية
الإعراب عن المخاوف من نوع مختلف تم التعبير عنه في فيلم «الحدائق
الرمادية»، الذي تم إنجازه في العام 1975، وهو صورة مزدوجة لإديث
بوفيير وابنتها، إديث بوفيير بيل؛ وكلتاهما من عمومة جاكلين كينيدي
أوناسيس، التي عاشت في بؤس، يرافق ذلك ما اعتبره البعض نوعاً من
الارتباك الذهني في واحد من المنازل الكبرى شرق هامبتون، بولاية
نيويورك. تدور أحداث الفيلم حول عمة جاكلين كينيدي، إيديث بوفير،
وابنتها التي تحمل الاسم نفسه؛ ما دفع الناس في الحفلات للتمييز
بينهما إلى مناداتهما بـ «إيدي الكبيرة»، و «إيدي الصغيرة»، لكن
بعد فترة قررت «إيدي الكبيرة» وابنتها الابتعاد عن مجتمع مدينة
نيويورك والعودة إلى منزلهما الكبير والذي يحمل اسم «الحدائق
الرمادية».
لكن الفيلم حظيَ بمتابعة واهتمام الجمهور على مدى عقود، ربما لأن
الجمهور لمس بعمق ما كتبه المخرج العالمي مارتن سكورسيزي بعد عقود
من الزمن في مقدمة «سجلّ قُصاصات مايزلز « ونصه: «عندما يكون ألبرت
وراء الكاميرا، هناك حساسية تُحيط بالجو، امتداداً إلى الفضاء
والضوء، إلى الطاقة التي تغمر الناس في الغرفة».
الوجود الفضولي للكاميرا
ووصف سكورسيزي كاميرا مايزلز بأنها «وجود فضولي، ولكنه أيضاً وجود
المُحبِّ، وجود الأحاسيس، وقدرتها على ضبط الاهتزازات العاطفية
الأكثر حساسية».
فيلم «الحدائق الرمادية»، كان الأساس الموسيقي الذي يحمل العنوان
نفسه، لكل من كريستين إيبرسول وماري لويز ويلسون الفائزين بجوائز
توني في العام 2007، بعد أن تم نقلها إلى برودواى. وفي العام 2009
فازت نسخة فيلمه الذي أنتجته شبكة
«HBO»،
بست جوائز إيمي، بما في ذلك الحصول على جائزة أفضل فيلم تلفزيوني،
وأفضل ممثلة رئيسية التي ذهبت إلى جيسيكا لانغ.
أفلام الأخويْن مايزلز؛ سواء المقدمة لدور السينما أو التلفزيون،
شوهدت في الغالب على شاشة التلفزيون، وفاز اثنان منها بجوائز إيمي:
«فلاديمير هورويتز... الرومانسي الأخير»، وأنجز في العام 1985. و
«جنود الموسيقى»، وأنجز في العام 1991، حول عودة مستيسلاف
روستروبوفيتش إلى روسيا. تم إنجاز ذلك الفيلم، بثلاثة مخرجين
مساعدين، بعد وفاة شقيقه ديفيد مايزلز إثر سكتة دماغية في العام
1987. وكان ألبرت مايزلز أيضاً مخرجاً مساعداً لديبورا ديكسون
وسوزان فرويمك في فيلم «الإجهاض: خيارات يائسة»، والذي حصل على
جائزة إيمي في العام 1992.
قدَّم مايزلز خمسة أفلام حول أعمال الفنان التركيبي كريستو وزوجته،
جين كلود. كان الأول «ستار وادي كريستو» في العام 1974، والذي رُشح
للأوسكار ضمن الأفلام الوثائقية القصيرة، والآخر «البوابات» في
العام 2005، عن تحوُّل الفنانين المؤقت من سنترال بارك.
الميدالية الوطنية للفنون
تلقَّى مايزلز الميدالية الوطنية للفنون من الرئيس باراك أوباما في
يوليو/ تموز 2014. أما فيلمه الوثائقي الأخير «أيريس» (2014)،
فتناول فيه سيرة صاحبة الأعمال الأميركية، المصممة الداخلية
الشهيرة أيريس آفل، وتم عرضه في مهرجان نيويورك السينمائي في
أكتوبر/ تشرين الأول 2014. وأعلن مهرجان تريبيكا السينمائي مؤخراً
أن عمله «في العبور» سيكون فيلم العرض العالمي الأول، وهو الفيلم
الذي أخرجه مع نيلسون ووكر، لين ترو، ديفيد أوسوي وبن وو.
ولد ألبرت مايزلز في بوسطن يوم 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1926. عمل
والده موظفاً في البريد، بينما عملت والدته كمدرِّسة، وعاش في
دورتشستر، وانتقل بعد ذلك إلى ضواحي بروكلين، حيث ترعرع ألبرت
وشقيقه الأصغر. عانى ألبرت صعوبات في التعلُّم؛ ما دفعه، كما قال،
إلى تطوير مهارات الاستماع المكثَّف التي ساعدته بشكل جيد في صناعة
الأفلام الوثائقية.
درس علم النفس في جامعة سيراكيوز، وحصل على درجة الماجستير من
جامعة بوسطن، وقام بتدريس علم النفس هناك لمدة ثلاث سنوات قبل
إنجاز أول فيلم له، وهو «الطب النفسي في روسيا» في العام 1955، وهو
فيلم وثائقي صامت قام بتصويره أثناء رحلة إلى الاتحاد السوفياتي.
ظروف الفيلم المذكور، تتلخَّص في ما ذكره في إحدى مقابلاته، ونُشر
في كتاب «صنَّاع الأفلام الوثائقية يتحدَّثون»، بأنه عمل كباحث
مساعد في مستشفى للأمراض العقلية في العام 1955. وقتها كان مازال
طالباً في الجامعة، مستغلاً الإجازة الصيفية. في تلك الفترة مضى
عامان على موت ستالين، فوجد من الممتع والمثير أن يذهب إلى هناك
لتسجيل انطباعاته، والحصول على خبرات جديدة، فكان الفيلم.
أتبع ذلك بفيلم «الشباب في بولندا» في العام 1957، حيث تولَّى
شقيقه الذي كان يعمل كمساعد إنتاج في هوليوود، مهمَّة المخرج
المساعد في الفيلم.
واستُدعي ألبرت بعد ذلك بوقت قصير ليكون جزءاً من طاقم الفيلم، بما
في ذلك الفيلم الوثائقي
«DA Pennebaker»،
والذي تم إنجازه من قبل روبرت درو. كانوا يعملون بكاميرات تعمل
بالبطارية ومسجِّلات صوت أتاحت لهم حرية أكبر ليكونوا قريبين بشكل
غير معاين من الموضوعات التي يقومون بمعالجتها، مع نسيان وجود
الكاميرا وطاقم التصوير.
السينما المباشرة
وفي العام 1962، أنشأ الأخوان شركتهما «أفلام مايزلز»، حيث أدخلا
تقنيات جديدة في العمل. ومن أجل تغطية نفقاتهما، قاما بتنفيذ
وإخراج إعلانات تلفزيونية لشركات كبرى مثل
«IBM»،
و «ميريل لينش»، وسرعان ما بنيا سمعتهما مع إنجاز فيلم «البائع» في
العام 1968.
يظل هو من أطلق مصطلح «السينما المباشرة على بعض أفلامه مطلع
ستينيات القرن الماضي.
في تلك الفترة أنجز مايزلز الكثير من الأعمال ليكون مثاراً
للإعجاب؛ إذ كان العمل في بعض الأحيان يحمل طابعاً خفيفاً، بطبيعة
الموضوعات التي يتم تناولها، بما في ذلك «ماذا يحدث! البيتلز في
الولايات المتحدة الأميركية» في العام 1964، وفيه يتعقَّب فريق
الروك البريطاني في جولاته إلى ثلاث مدن أميركية.
كما تم استقبال فيلميه «مع الحب من ترومان» و «لقاء مارلون
براندو»، وأنجزهما في العام 1966، استقبالاً حسناً.
وعلى مر سنوات عمل ألبرت مايزلز، في كثير من الأحيان مع مخرجين
مساعدين على مجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك «متحف غيتي»،
«موسيقى الغجر»، و «الفقر في دلتا المسيسيبي». وفي العام 2006
أسَّس مركز مايزلز الوثائقي في هارلم.
وفي مقابلة مع مجلة «التايمز» في العام 2005، سئل عن مفتاح نجاح
مسيرته العملية، فأجاب: «هو أن أصنع الأفلام تماماً بالطريقة التي
أعتقد أنها يجب أن تكون عليه». وأضاف في المقابلة «واحدة من
الأشياء التي تجعل الأمر سهلاً، أنه لديَّ حب حقيقي للناس؛ ولذلك
ليست لدي أي صعوبة في الحصول والحفاظ على النجاح في مسيرتي». |